إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: اذهبوا به فارجموه

          6815- 6816- وبه قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى ابْنُ بُكَيْرٍ) نسبه لجدِّه، واسم أبيه عبد الله قال: (حَدَّثَنَا اللَّيْثُ) بن سعدٍ الإمامُ (عَنْ عُقَيْلٍ) بضم العين، ابن خالد الأيليِّ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ) محمَّد بن مسلمٍ الزُّهريِّ (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بنِ عبدِ الرَّحمنِ بنِ عوف (وَسَعِيدِ بْنِ المُسَيَّبِ) بن حَزْن، الإمام أبي محمد المخزوميِّ، أحد الأعلام، وسيِّد التَّابعين (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ☺ ) أنَّه (قَالَ: أَتَى رَجُلٌ) هو ماعز ابن مالك (رَسُولَ اللهِ صلعم وَهْوَ فِي المَسْجِدِ) حالٌ من «رسول الله صلعم »، والجملة التَّالية معطوفةٌ على «أتى» (فَنَادَاهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّي زَنَيْتُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ) ╕ (حَتَّى رَدَّدَ عَلَيْهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ) بدالين أولاهما مشددة، ولأبي ذرٍّ عن الكُشمِيهنيِّ: ”حتَّى ردَّ“ بإسقاط الدَّال الثَّانية (فَلَمَّا شَهِدَ) أقرَّ (عَلَى نَفْسِهِ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ) ولأبي ذرٍّ: ”أربع مرَّات“ وجواب «لمَّا» قوله: (دَعَاهُ النَّبِيُّ صلعم فَقَالَ) له: (أَبِكَ جُنُونٌ؟) بهمزة الاستفهام، و«جنون» مبتدأ، والجارّ متعلق بالخبر، والمسوِّغ للابتداء بالنَّكرة تقدُّم الخبر في الظَّرف وهمزة الاستفهام (قَالَ: لَا) ليس بي جنونٌ (قَالَ‼) / صلعم : (فَهَلْ أَحْصَنْتَ؟) تزوَّجت (قَالَ: نَعَمْ) أحصنتُ (فَقَالَ النَّبِيُّ صلعم : اذْهَبُوا بِهِ) الباء للتعدية أو الحال، أي: اذهبُوا مصاحبين له (فَارْجُمُوهُ) وقد تمسَّك بهذا(1) الحنفيَّة والحنابلة في اشتراطِ الإقرار أربع مرَّات وأنَّه لا يكتفى بما دونها قياسًا على الشُّهود.
          وأُجيب عن المالكيَّة والشَّافعيَّة في عدمِ اشتراطِ ذلك بما في حديثِ العسيفِ من قولهِ صلعم : «واغْدُ يا أُنَيس إلى امرأةِ هذَا، فإن اعترفَتْ فارجُمْهَا» ولم يقلْ: فإنْ اعترفتْ أربع مرَّاتٍ، وبحديث رجمِ الغامِديَّة _بالغين المعجمة والميم المكسورة بعدها دال مهملة_ إذ لم ينقل أنَّه تكرَّر إقرارها، وأمَّا التِّكرار هنا فإنَّما(2) كان للاستثباتِ والتَّحقيق والاحتياط في درء الحدِّ بالشُّبهة(3) كقولهِ: «أبكَ جنون؟» فإنَّه من التَّثبُّت؛ ليتحقَّق حاله أيضًا، فإنَّ الإنسان غالبًا لا يصرُّ على إقرارِ ما يقتضي هلاكه من غير سؤالٍ مع أنَّ له طريقًا إلى سقوط الإثم بالتَّوبة، وفي حديث أبي سعيدٍ عند مسلم: ثمَّ سأل قومه، فقالوا: ما(4) نعلمُ به بأسًا إلَّا أنَّه أصابَ شيئًا يرى أنَّه(5) لا يخرجه منه إلَّا أن يقامَ فيه الحدُّ، وهذا مبالغةٌ في تحقيق حاله، وفي صيانةِ دم المسلم، فيُبنى الأمرُ عليه لا على مجرَّد إقرارهِ بعدمِ الجنون، فإنَّه لو كان مجنونًا لم يُفِدْ قوله إنَّه ليس به جنون؛ لأنَّ إقرار المجنونِ غيرُ معتبرٍ، فهذه هي الحكمة في سؤاله عنه قومه. وقال القرطبيُّ: إنَّ ذلك قالَه لما ظهرَ عليه من الحال الَّذي يشبهُ حال المجنون، وذلك أنَّه دخل منتفشَ الشَّعر ليس عليه رداءٌ يقول: زنيت فطهِّرني كما في «صحيح مسلم» من حديث جابرِ بن سَمُرة، واسمُ المرأة الَّتي زنى بها فاطمةُ فتاةُ هَزَّال، وقيل: مُنِيرة، وفي «طبقات ابن سعد»: مُهَيرة.
          (قَالَ ابْنُ شِهَابٍ) محمَّد بن مسلمٍ _بالسَّند السَّابق_: (فَأَخْبَرَنِي) بالإفراد (مَنْ سَمِعَ جَابِرَ ابْنَ عَبْدِ اللهِ) قال في «الفتح»: صرَّح يونس ومَعمر في روايتهما بأنَّه أبو سلمة بن عبد الرَّحمن، فكأنَّ الحديث كان عند أبي سلمة عن أبي هريرة، كما عند سعيد بن المسيَّب، وعنده زيادة عليه عن جابرٍ (قَالَ: فَكُنْتُ فِيمَنْ رَجَمَهُ، فَرَجَمْنَاهُ بِالمُصَلَّى) مكان صلاةِ العيد والجنائز، وخبرُ «كان» في المجرورِ، و«مَن» بمعنى «الَّذي»، وصلتُها جملة «رجمَه»(6)، والمعنى: في جماعةِ مَن رجمَه، وأعاد الضَّمير على لفظ «من»، ولو أعاده على معناها لقال: فيمن رجموه، وفي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، أي: فرجمنَاه بالمصلَّى، فكنتُ فيمَن رجمَه، أو يقدَّر: فكنت فيمن أراد حضور رجمهِ فرجمناهُ (فَلَمَّا أَذْلَقَتْهُ الحِجَارَةُ) بالذال المعجمة والقاف أصابته بحدِّها وبلغت منه الجهد حتَّى قلق، وجواب «لمَّا» قوله: (هَرَبَ، فَأَدْرَكْنَاهُ بِالحَرَّةِ) بالحاء المهملة المفتوحة والراء المشددة، موضعٌ ذو حجارةٍ سود ظاهر المدينة (فَرَجَمْنَاهُ) زاد‼ مَعمر في روايته الآتية قريبًا إن شاء الله تعالى(7) [خ¦6820]: «حتَّى مات». قال في «مقدِّمة الفتح»: والَّذي رجمهُ لمَّا هرب فقتله عبد الله بن أُنَيس(8)، وحكى الحاكم عن ابن جريج أنَّه عمر، وكان أبو بكر الصِّدِّيق رأس الَّذين رجموهُ ذكره ابن سعدٍ، وفي حديث نعيم بن هزَّال: «هلَّا تركتمُوه لعلَّه يتوبُ فيتوبَ الله عليه»، أخرجه أبو داود وصحَّحه الحاكم والتِّرمذيُّ، وهو حجَّة للشَّافعيِّ ومن وافقه أنَّ الهارب من الرَّجم إذا كان بالإقرارِ يُسقط عن نفسه الرَّجم، وعند المالكيَّة: لا يتركُ إذا هربَ بل يُتبع ويُرْجم؛ لأنَّ النَّبيَّ صلعم لم يلزمْهم ديتَه مع أنَّهم قتلوهُ بعد هربه. وأُجيب بأنَّه لم يصرِّح بالرُّجوع وقد ثبتَ عليه الحدُّ، وعند أبي داود من حديث بُرَيدة، قال: «كنَّا أصحابَ رسولِ الله صلعم نتحدَّث أنَّ ماعزًا والغامِديَّة لو رجعا لم يطلبْهما».
          وحديث الباب أخرجه مسلمٌ في «الحدود»، والنَّسائيُّ في «الرَّجم».


[1] في (د): «به».
[2] في (ص): «فإنه إنما».
[3] في (ب) و(س): «بالشبه».
[4] في (د): «لا».
[5] في (ع) و(ص): «أن».
[6] في (د): «رجم».
[7] في (ب) و(س): «إن شاء الله تعالى قريبًا».
[8] في (د): «قيس».