إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران

          7352- وبه قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ يَزِيدَ) من الزِّيادة (المُقْرِئُ) بالهمز (المَكِّيُّ) وسقط «المقرئُ» و«المكِّيُّ» لغير أبي ذرٍّ، قال: (حَدَّثَنَا حَيْوَةُ) بفتح الحاء المهملة وبعد التَّحتيَّة السَّاكنة واوٌ مفتوحةٌ فهاءُ تأنيثٍ (بن شُرَيحٍ) بضمِّ المعجمة وفتح الرَّاء وبعد التَّحتيَّة السَّاكنة مهملةٌ، وثبت: ”ابن شريح“ لأبي ذرٍّ، وسقط لغيره، وابن شُريحٍ هذا هو التَّجيبيُّ فقيه مصر وزاهدها ومحدِّثها، له أحوالٌ وكراماتٌ، قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (يَزِيدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ ابْنِ الهَادِ) هو يزيد بن عبد الله بن أسامة بن الهاد اللَّيثيُّ (عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الحَارِثِ) التَّيميِّ المدنيِّ التَّابعيِّ ولأبيه صحبةٌ (عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ) بكسر العين، وبُسْر بضمِّ الموحَّدة وسكون السِّين المهملة المدنيِّ العابد مولى ابن الحضرميِّ (عَنْ أَبِي قَيْسٍ مَوْلَى عَمْرِو بْنِ العَاصِ) قال في «الفتح»: قال البخاريُّ: لا يُعرَف اسمُه، وتبعه الحاكم أبو أحمد، وجزم ابن يونس في «تاريخ مصر» بأنَّه عبد الرَّحمن بن ثابتٍ، وهو أعرفُ بالمصريّين من غيره، ونقل عن محمَّد بن سحنون أنَّه سمَّى أباه الحكم، وخطَّأه في ذلك، وحكى الدِّمياطيُّ أنَّ اسمه سعدٌ، وعزاه لمسلمٍ في «الكنى» قال الحافظ ابن حجرٍ: وقد راجعتُ نسخًا في «الكنى» لمسلمٍ‼ فلم أرَ ذلك فيها، وما لأبي قيسٍ في البخاريِّ إلَّا هذا الحديث (عَنْ عَمْرِو بْنِ العَاصِ) ☺ (أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلعم يَقُولُ: إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ) أي: إذا أراد الحاكم أن يحكم فعند ذلك يجتهد؛ لأنَّ / الحُكْمَ متأخِّرٌ عن الاجتهاد، فلا يجوز الحكم قبل الاجتهاد اتِّفاقًا، ويحتمل _كما في «الفتح»_ أن تكون الفاء في قوله: «فاجتهد» تفسيريَّةً لا تعقيبيَّةً (ثُمَّ أَصَابَ) بأن وافق ما في نفس الأمر من حكم الله (فَلَهُ أَجْرَانِ) أجر الاجتهاد وأجر الإصابة (وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ) أي: أراد أن يحكم فاجتهد (ثُمَّ أَخْطَأَ) بأن وقع(1) ذلك غير(2) حكم الله (فَلَهُ أَجْرٌ) واحدٌ، وهو أجر الاجتهاد فقط (قَالَ) يزيد بن عبد الله بن الهاد الرَّاوي: (فَحَدَّثْتُ بِهَذَا الحَدِيثِ أَبَا بَكْرِ ابْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ) بفتح العين والحاء المهملتين، ونسبه في هذه الرِّواية لجدِّه وهو أبو بكر بن محمَّد بن عمرو بن حزمٍ (فَقَالَ: هَكَذَا حَدَّثَنِي) بالإفراد (أَبُو سَلَمَةَ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ) بن عوفٍ (عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ) بمثل حديث عمرو بن العاص.
          (وَقَالَ عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ المُطَّلِبِ) بن عبد الله بن حَنْطبٍ المخزوميّ قاضي المدينة، وليس له في البخاريِّ سوى هذا الموضع المعلَّق (عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ) أي: ابن محمَّد بن عمرو بن حزمٍ قاضي المدينة أيضًا (عَنْ أَبِي سَلَمَةَ) بن عبد الرَّحمن (عَنِ النَّبِيِّ صلعم ... مِثْلَهُ) فخالف أباه في روايته عن أبي سلمة، وأرسل الحديث الذي وصله؛ لأنَّ أبا سلمة تابعيٌّ، قال في «الفتح»: وقد وجدتُ ليزيد ابن الهاد فيه متابعًا عند عبد الرزاق وأبي عَوانة من طريقه عن معمر، عن يحيى بن(3) سعيدٍ _هو الأنصاريُّ_ عن أبي بكر بن محمَّد عن أبي سلمة عن أبي هريرة، فذكر الحديث مثله بغير قصَّة(4)، وفيه «فله أجران اثنان».
          وفي الحديث دليلٌ على أنَّ الحقَّ عند الله واحدٌ، وكلَّ واقعةٍ لله تعالى فيها حكمٌ فمن وجده أصاب، ومن فقده أخطأ، وفيه أنَّ المجتهد يُخطِئ ويُصيب، والمسألة مقررَّةٌ في أصول الفقه، فقال أبو الحسن الأشعريِّ والقاضي أبو بكر الباقلانيُّ وأبو يوسف ومحمَّدٌ وابن سُريجٍ: المسألة التي لا قاطع فيها من مسائل الفقه كلُّ مجتهدٍ فيها مصيبٌ، وقال الأشعريُّ والقاضي أبو بكرٍ: حُكْمُ الله فيها تابعٌ لظنِّ المجتهد، فما ظنُّه فيها من الحكم فهو حكمُ الله في حقِّه وحقِّ مُقلِّده، وقال أبو يوسف ومحمَّد وابن سُريجٍ _في أصح الرِّوايات عنه_: مقالةً تُسمَّى بالأشبه، وهي أنَّ في كلِّ حادثةٍ ما لو حَكَم الله لم يحكم إلَّا به، وقال في «المنخول»: وهذا حكمٌ على الغيب، ثمَّ هؤلاء القائلون بالأشبه يُعبِّرون عنه بأنَّ المجتهد مصيبٌ في اجتهاده، مخطئٌ في الحكم، أي: إذا صادف خلاف ما لو حكم الله لم يحكم إلَّا به، وربَّما قالوا: يُخطئ انتهاءً لا ابتداءً، هذا آخر تفاريع القول بأنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ، وقال الجمهور _وهو الصحيحُ_ المصيبُ واحدٌ، وقال ابن السَّمعانيِّ‼ في «القواطع»: إنَّه ظاهر مذهب الشَّافعيِّ، ومن حكى عنه غيره فقد أخطأ، ولله تعالى في كلِّ واقعةٍ حكمٌ سابقٌ على اجتهاد المجتهدين، وفكر الناظرين، ثمَّ اختلفوا أعليه دليلٌ أم هو كدفينٍ يُصيبُه من شاء الله تعالى ويُخطئه من شاءه؟ والصَّحيح أنَّ عليه أمارةً، واختلف القائلون بأنَّ عليه أمارةً في أنَّ المجتهد هل هو مكلَّفٌ بإصابة الحقِّ أو لا؟ لأنَّ الإصابة ليست في وُسْعه، والصَّحيح الأوَّل لإمكانها، ثمَّ اختلفوا فيما إذا أخطأ الحقَّ هل يأثم؟ والصَّحيح: لا يأثم، بل له أجرٌ لبذله وُسْعه في طلبه، وقال النَّبيُّ صلعم : «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا أخطأ فله أجرٌ واحدٌ» وقيل: يأثم لعدم إصابته المكلَّف بها، وأمَّا المسألة التي يكون فيها قاطعٌ من نصٍّ أو إجماعٍ واختُلِف(5) فيها لعدم الوقوف عليه؛ فالمصيب فيها واحدٌ بالإجماع وإن دقَّ مسلك ذلك القاطع، وقيل: على الخلاف فيما لا قاطع فيها، وهو غريبٌ، ثمَّ إذا أخطأه نُظِرَ، فإن لم يُقصِّر وبذل المجهود في طلبه، ولكن تعذَّر عليه الوصول إليه فهل يأثم؟ فيه مذهبان: وأصحُّهما المنع، والثَّاني نعم، ومتى قصَّر المجتهد في اجتهاده أثِمَ وفاقًا؛ لتركه الواجب عليه من بذله وُسْعه فيه.


[1] في (ع): «وافق».
[2] في غير (د) و(ع): «بغير».
[3] زيد في (د): «أبي».
[4] في (د): «نصِّه»، ولعلَّه تحريفٌ.
[5] في (د): «واختلفوا».