إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: أريت النار فإذا أكثر أهلها النساء يكفرن

          29- وبالسَّند إلى المؤلِّف قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْلَمَةَ) القعنبيُّ المدنيُّ (عَنْ مَالِكٍ) يعني: ابن أنسٍ إمام الأئمَّة (عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ) مولى عمر ☺ المُكنَّى بأبي أسامةَ، المُتوفَّى سنة ثلاثٍ وثلاثين ومئةٍ (عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ) بمُثنَّاةٍ تحتيَّةٍ ومُهمَلَةٍ مُخفَّفةٍ، القاصِّ المدنيِّ الهلاليِّ، مولى أُمِّ المؤمنين ميمونة، المُتوفَّى سنة ثلاثٍ أو أربعٍ ومئةٍ، وقِيلَ: أربعٍ وتسعين (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ) ☻ (قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ) وفي رواية الأَصيليِّ وابن عساكرَ في نسخةٍ وأبي ذَرٍّ: ”عن النَّبيِّ“ ( صلعم : أُرِيتُ النَّارَ) بضمِّ الهمزة مبنيًّا للمفعول من الرُّؤية؛ بمعنى: أُبْصِرْتُ، وتاء المتكلِّم هو المفعول الأوَّل أُقِيمَ مقام الفاعل، و«النَّارَ» هو المفعول الثَّاني، أي: أراني الله النَّارَ، ولأبي ذَرٍّ: ”ورَأَيت“؛ بالواو، ثمَّ راءٍ وهمزةٍ مفتوحتين، وللأَصيليِّ: ”فرأيت“ بالفاء (فَإِذَا أَكْثَرُ أَهْلِهَا النِّسَاءُ) برفع «أكثرُ» و«النِّساء»: مبتدأٌ وخبرٌ، وفي روايةٍ: ”رأيت النَّار، فرأيت أكثرَ أهلها النِّساءَ“ بنصب «أكثرَ» و«النِّساءَ»: مفعولَي «رأيت» ولأبوي ذَرٍّ والوقت وابن عساكرَ: ”رأيت(1) النَّارَ“ بالنَّصب ”أكثرُ“ بالرَّفع، وفي روايةٍ أخرى: ”أُرِيتُ النَّارَ أكثرَ أهلها النِّساءَ“ بحذف ”فرأيتُ“ وحينئذٍ فقوله: «أُرِيتُ» بمعنى: أُعْلِمْتُ، و«التَّاء» و«النَّارَ» و«النِّساءَ» مفاعيله الثَّلاثة، و«أكثرَ» بدلٌ من «النَّارَ» (يَكْفُرْنَ) بمُثنَّاةٍ تحتيَّةٍ مفتوحةٍ أوَّله، وهي جملةٌ مستأنَفَةٌ تدلُّ على السُّؤال والجواب، كأنَّه جواب سؤال سائلٍ: يا رسول الله، لِمَ؟ وللأربعة: ”بكفرهنَّ؟“ أي: بسبب كفرهنَّ (قِيلَ): يا رسول الله (أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ؟ قَالَ) صلعم : (يَكْفُرْنَ العَشِيرَ) أي: الزَّوج، فـ «ال» للعهد كما سبق، أو المعاشِر مُطلَقًا، فتكون للجنس (وَيَكْفُرْنَ الإِحْسَانَ) ليس كفران العشير لذاته، بل كفران إحسانه(2)، فهذه الجملة كالبيان للسَّابقة، وتوعُّده على كفران العشير وكفران الإحسان بالنَّار، قال النَّوويُّ: يدلُّ على أنَّهما من الكبائر (لَوْ) وفي رواية الحَمُّويي والكُشْمِيهَنيِّ: ”إن“ (أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ) أي: مدَّةَ عمرك، أو الدَّهر مُطلَقًا على سبيل الفَرَض مبالغةً في كفرهنَّ، وهو نصبٌ على الظَّرفيَّة، والخطاب في «أحسنت» غير خاصٍّ، بل هو عامٌّ لكلِّ مَنْ يتأتَّى منه أن يكون مُخاطبًا، فهو على سبيل المجاز؛ لأنَّ الحقيقة أن يكون المُخاطَب خاصًّا، لكنَّه جاء على نحو: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُؤُوسِهِمْ }[السجدة:12] فإن قلت: «لو» لامتناع الشَّيء لامتناع غيره، فكيف صحَّ جعل «إنْ» في الرِّواية الثَّانية موضعها؟ أُجِيب: بأنَّ «لو» هنا بمعنى: «إنْ» في مجرَّد الشَّرطيَّة فقط، لا بمعناها الأصليِّ، ومِثْلُهُ كثيرٌ، أو هو من قبيل: «نِعْمَ العبدُ صُهَيْبٌ، لو لم يَخَف الله لم يَعْصِهِ» فالحكم ثابتٌ على النَّقيضين، والطَّرف المسكوت عنه أَوْلى من المذكور، ويسمِّيه البيانيُّون: ترك المعيَّن إلى غير المعيَّن لِيعمَّ كلَّ مُخاطَبٍ (ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا) قليلًا لا يوافق مزاجها أو شيئًا حقيرًا لا يعجبها (قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ) بفتح القاف وتشديد الطَّاء مضمومةً على الأشهر؛ ظرفُ زمانٍ لاستغراق ما مضى.
          وفي هذا الحديث: وَعْظُ الرَّئيس المرؤوسَ، وتحريضه على الطَّاعة، ومراجعة المتعلِّمِ العالِمِ والتَّابعِ المتبوعَ فيما قاله إذا لم يظهر له معناه، وجواز إطلاق الكفر على كفر النِّعمة وجحد الحقِّ، وأنَّ المعاصيَ تَنْقص الإيمانَ لأنَّه جعله كفرًا، ولا تُخرِجُ(3) إلى الكفر الموجب للخلود في النَّار، وأنَّ إيمانهنَّ يزيد بشكر(4) نعمة العشير، فثبت أنَّ الأعمال من الإيمان.
          ورواة هذا / الحديث كلُّهم مدنيُّون إلَّا ابن عبَّاسٍ، مع أنَّه أقام بالمدينة، وفيه التَّحديث والعنعنة، وهو طرفٌ من حديثٍ ساقه في «صلاة الكسوف» [خ¦1052] تامًّا، وكذا أخرجه في «باب من صلَّى وقُدَّامه نارٌ» [خ¦431] وفي «بدء الخلق» في «ذكر الشَّمس والقمر» [خ¦3202] وفي «عِشْرة النِّساء» [خ¦5197] وفي «العلم» [خ¦98]، وأخرجه مسلمٌ في «العيدين».


[1] في (م): «أريت».
[2] في (م): «بل لإحسانه».
[3] في (ب) و(س): «يخرج».
[4] في (م): «لشكر».