إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: ما من مولود يولد إلا والشيطان يمسه حين يولد

          4548- وبه قال: (حَدَّثَنِي) بالإفراد (عَبْدُ اللهِ بْنُ مُحَمَّدٍ) المسنَديُّ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ) بن هَمَّامٍ قال: (أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ) بميمينِ بينهما عينٌ مهملةٌ ساكنةٌ، ابن راشدٍ الأزديُّ مولاهم البصريُّ (عَنِ الزُّهْرِيِّ) محمَّد بن مسلم ابن شهاب (عَنْ سَعِيدِ بْنِ المُسَيِّبِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ) تعالى (عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ صلعم قَالَ: مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلَّا وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ) ابتداءً للتسليط عليه، وفي «صفة إبليس وجنوده» من «بدء الخلق» [خ¦3286]: «كلُّ بني آدم يَطْعنُ الشَّيطان في جنبيه» (حِينَ يُولَدُ، فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ) «صارخًا»: نُصِب على المصدر؛ كقوله(1): قم قائمًا: (إِلَّا مَرْيَمَ وَابْنَهَا) عيسى(2)، فحفظهما الله تعالى ببركة دعوة أمِّها حيث قالت: {إِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[آل عمران:36] ولم يكن لمريم ذرِّيَّةٌ غير عيسى ╕ ، وزاد في: «باب صفة إبليس» [خ¦3286]: «ذهب يطعُن فطعن في الحجاب»، والمراد به: الجِلْدة التي يكون فيها الجنين؛ وهي المشيمة‼، ونقل العينيُّ: أنَّ القاضي عياضًا أشار إلى أنَّ جميع الأنبياء يُشاركون عيسى ╕ ، في ذلك، قال القرطبيُّ: وهو قول مجاهدٍ، وقد طعن الزَّمخشريُّ في معنى هذا الحديث، وتوقَّف في صحَّته، فقال: إن صحَّ فمعناه: أنَّ كل مولودٍ يطمع الشَّيطان في إغوائه إلا مريم وابنها، فإنَّهما معصومان(3)، وكذلك كلُّ من كان في صفتهما؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[الحجر:40] واستهلاله صارخًا من مسِّه تخييلٌ وتصويرٌ لطمعه فيه، كأنَّه يمسُّه ويضرب بيده عليه، ويقول: هذا ممَّن أُغويه، ونحوه من التخييل قولُ ابن الرُّوميِّ:
لِما تُؤذِنُ الدُّنيا به مِن صُروفها                     يكونُ بكاءُ الطِّفل سَاعةَ يُولَدُ
/
          وأمَّا حقيقة المسِّ والنَّخس _كما يتوهَّم أهل الحَشْو_ فكلَّا(4)، ولو سُلِّط إبليس على النَّاس ينخسُهم؛ لامتلأت الدُّنيا صُراخًا وعياطًا. انتهى. قال المولى سعد الدِّين: طَعَن أوَّلًا في الحديث بمجرَّد أنَّه لم يوافق هواه، وإلَّا فأيُّ امتناعٍ من أن يمسَّ الشَّيطان المولود حين يولد؛ بحيث يصرخ كما ترى وتسمع(5)؟ ولا يكون ذلك في جميع الأوقات حتى يلزم امتلاء الدُّنيا بالصُّراخ، ولا تلك المسَّة للإغواء، وكفى بصحَّة هذا الحديث رواية الثِّقات وتصحيح الشَّيخين له من غير قدحٍ من غيرهما، وقال غيره: الحمل على طمع الشَّيطان في الإغواء صرفٌ للكلام عن ظاهره، وتكذيبٌ لظاهر الخبر، مع أنَّه لا مانع في العقل منه، وكيف تكون المحافظة عنده على قول ابن الرُّوميِّ أولى من رعاية ظاهر(6) كتاب الله تعالى وسُنَّة رسوله صلعم ؟! وهو هَذَيانٌ ما أنزل الله به من سلطان! وقال في «الانتصاف»: الحديث مدوَّنٌ في الصِّحاح، فلا يعطِّله الميل إلى تُرَّهات(7) الفلاسفة، والانتصار بقول ابن الرُّوميِّ سوء أدبٍ يجب أن يُجتَنب عنه، وقال الطِّيبيُّ: قوله: «ما من مولودٍ إلا والشَّيطان يمسُّه» كقوله تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ}[الحجر:4] في أنَّ الواو داخلةٌ بين(8) الصِّفة والموصوف؛ لتأكيد اللُّصوق، فتُفيد الحصر مع التَّأكيد، فإذًا لا معنى لقوله: كلُّ من كان في صفتهما، ولا يبعُد اختصاصهما بهذه الفضيلة من دون الأنبياء، وأمَّا قوله تعالى: {إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ}[الحجر:40] فجوابه أي: بعد أن يُمكِّنه الله تعالى من المسِّ، مع أنَّ الله تعالى يَعْصِمهم من الإغواء، وأما الشِّعر؛ فهو من(9) باب حُسن التعليل، فلا يصلح للاستشهاد.
          (ثُمَّ يَقُولُ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَاقْرَؤُوْا) بالواو، ولأبي ذرٍّ: ”اقرؤوا“(10) (إِنْ شِئْتُمْ: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}[آل عمران:36]) وهذا فيه شيءٌ من حيث إنَّ سياق الآية يدلُّ على أنَّ دعاء حنَّة أمِّ مريم بإعاذتها وذُرِّيَّتها من الشَّيطان المفسَّر في الحديث بأن يُعْصَما(11) من مسِّ الشَّيطان عند ولادتهما متأخِّرٌ عن وضعها مريم، ولم أرَ من نبَّه(12) على هذا، والذي يظهر لي أن تكون‼ حنَّة علمت أنوثة مريم قبل تمام وضعها عند بروزها إلى ما يُعلَم منه ذلك، فقالت حينئذٍ: إنِّي وضعتها أنثى، وإنِّي أعيذها، فاستُجيب لها، ثم تكامل وضعُها، فأراد الشَّيطان التمكَّن من مريم، فمنعه الله تعالى منها ببركة دعاء أمِّها، والتعبير بالبعض عن الكلِّ سائغٌ شائعٌ، وليس في الآية دليلٌ على أنَّه تعالى استجاب دعاءها، بل الضَّمير في قوله تعالى: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا (13)}[آل عمران:37] لمريم، أي: فرضيَ بها ربُّها في النُّذر مكان الذَّكَر، نعم الحديث يدلُّ على الإجابة، فتأمَّل.
          وهذا الحديث قد سبق في «أحاديث الأنبياء» في «باب: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ}[مريم:16]»، [خ¦3431].


[1] في (م): «كقولهم».
[2] «عيسى»: مثبتٌ من (د) و(س).
[3] في (ج) و(د): «كانا معصومين».
[4] في (د): «فلا».
[5] في (د): «نرى ونسمع».
[6] «ظاهر»: ليس في (د) و(م).
[7] في (د): «الميل لتُرَّهات».
[8] في (ص): «في».
[9] في (د): «فمِن».
[10] في (د): «فاقرؤوا»، ولأبي ذرٍّ: بالواو «واقرؤوا»، والمثبت موافقٌ لما في «اليونينيَّة».
[11] في (د): «يعصمها».
[12] في (د): «نصَّ».
[13] {رَبُّهَا}: ليس في (ص) و(م).