إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري

حديث: إن الله كتب الحسنات والسيئات

          6491- وبه قال: (حَدَّثَنَا أَبُو مَعْمَرٍ) بفتح الميمين بينهما عين مهملة ساكنة، عبد الله بن عمرِو بن الحجَّاح المِنْقَريُّ _بكسر الميم وفتح القاف بينهما نون ساكنة_ قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الوَارِثِ) ابن سعيدٍ قال: (حَدَّثَنَا جَعْدٌ) بفتح الجيم وسكون العين بعدها دال مهملتين، ولأبي ذرٍّ: ”جعد بن دينارٍ“ (أَبُو عُثْمَانَ) الرَّازيُّ التَّابعيُّ الصَّغير قال: (حَدَّثَنَا أَبُو رَجَاءٍ) عثمان بن تميمٍ (العُطَارِدِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ ╡) ممَّا تلقَّاه بلا واسطةٍ، أو بواسطةِ المَلَك، وهو الرَّاجح، أنَّه (قَالَ: قَالَ: إِنَّ اللهَ) ╡ (كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ) أي: قدَّرهما في علمهِ على وَفْق الواقع، أو أمر الحفظةَ أن تكتبَ ذلك (ثُمَّ بَيَّنَ) أي: فصَّل (ذَلِكَ) الَّذي أجمله في قوله: «كتب الحسناتِ والسَّيِّئاتِ» بقوله: (فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ) زاد خُريم بنُ فاتك في حديثه / المرفوع المرويِّ في «سنن أحمد»(1) وصحَّحه ابن حبَّان: «يعلمُ الله أنَّه قد أشعرَ بها قلبه وحرصَ عليها» (فَلَمْ يَعْمَلْهَا) بفتح الميم (كَتَبَهَا اللهُ) قدَّرها، أو أمرَ الملائكةَ(2) الحفظةَ بكتابتها (لَهُ) أي: للَّذي همَّ (عِنْدَهُ) تعالى (حَسَنَةً كَامِلَةً) لا نقصَ فيها، فلا يتوهَّم نقصها لكونها نشأت عن الهمِّ المجرَّد، ولا يقال: إنَّ التَّعبير بـ «كاملة» يدلُّ على أنَّها تضاعف إلى عشرٍ؛ لأنَّ ذلك هو الكمال؛ لأنَّه يلزم منه مساواة من نَوى الخير بمَن فعله، والتَّضعيفُ مختصٌّ بالعامل، قال تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}[الأنعام:160] والمجيءُ بها هو العمل بها، والعنديَّة هنا للشرف، ويُحتمل أن يكتبَها تعالى(3) بمجرَّد الهمِّ وإن لم يعزمْ عليها‼ زيادةً في الفضل، وقيل: إنَّما تُكتب(4) الحسنة بمجرَّد الإرادة؛ لأنَّ إرادةَ الخير سببٌ إلى العملِ وإرادة الخير خيرٌ؛ لأنَّ إرادةَ الخير من عمل القلب، وقوله: «فلم يعملها» ظاهره حصول الحسنة بمجرَّد التَّرك لمانع أو لا، ويتَّجه أن يتفاوتَ عظم الحسنةِ بحسبِ المانع(5)، فإنْ كان خارجيًّا وقَصْدُ الَّذي همَّ مستمرٌّ فهي عظيمة القدر، وإن كان التَّرك من قِبل الَّذي همَّ(6) فهي دون ذلك، فإن قَصَدَ الإعراضَ عنها جملةً، فالظَّاهر أن لا يُكتبَ له حسنةٌ أصلًا لا سيَّما إن عملَ بخلافها كأن همَّ أن يتصدَّق بدرهمٍ مثلًا فصرفه بعينه في معصيةٍ، فإن قلت: كيف اطَّلع(7) المَلَك على قلبِ الَّذي يهمُّ به العبد؟ أُجيب بأنَّ الله تعالى يُطلعه على ذلك أو يخلق له علمًا يُدرك به ذلك، ويدلُّ للأوَّل حديث أبي عمران الجونيِّ _عند ابن أبي الدُّنيا_ قال: «ينادي المَلَكَ: اكتب لفلانٍ كذا وكذا، فيقول: يا ربِّ إنَّه لم يعملْه، فيقول: إنَّه نواه» وقيل: بل يجدُ الملَكُ للهمِّ بالحسنة رائحة طيِّبةً، والسيِّئة رائحة خبيثةً (فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا) بالحسنة، وسقط لفظ «هو» لأبي ذرٍّ (فَعَمِلَهَا) بكسر الميم، ولأبي ذرٍّ: ”وعملها“ بالواو بدل الفاء (كَتَبَهَا اللهُ) قدَّرها، أو أمرَ الحفظة بكتابتها (لَهُ) للَّذي عملها(8) (عِنْدَهُ) تعالى اعتناءً بصاحبها وتشريفًا له (عَشْرَ حَسَنَاتٍ) قال تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا}[الأنعام:160] وهذا أقلُّ(9) ما وعدَ به من الأضعاف (إِلَى سَبْعِ مِئَةِ ضِعْفٍ) بكسر الضاد، مِثْلٍ (إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ) بحسب الزِّيادةِ في الإخلاصِ وصِدق العزمِ، وحضور القلب، وتعدِّي النَّفع. قال في «الكشَّاف»: ومضاعفةُ الحسناتِ فضلٌ، ومكافأة(10) السَّيِّئات(11) عدلٌ، ونقل صاحب «فتوح الغيب» عن الزَّجَّاج أنَّه قال: المعنى غامضٌ؛ لأنَّ المجازاةَ من الله تعالى على الحسنةِ بدخول الجنَّة شيءٌ لا يُبْلَغُ وصفُ مقداره، فإذا قال: عشر أمثالها، أو سبع مئة، أو أضعافًا كثيرةً، فمعناه: أنَّ جزاءَ الله تعالى على التَّضعيف للمِثل الواحد الَّذي هو النِّهاية في التَّقدير وفي النُّفوس. قال الطِّيبيُّ: فعلى هذا لا يتصوَّر في الحسنات إلَّا الفضل (وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا) بفتح الميم، خوفًا من الله تعالى، كما في حديثِ أبي هريرة من طريق الأعرج الآتي إن شاء الله تعالى في «التَّوحيد» [خ¦7501] (كَتَبَهَا اللهُ) ╡(12)، قدَّرها، أو أمر الحفظة بكتابتها (لَهُ) للَّذي همَّ بها (عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً) غير ناقصةٍ ولا مضاعفةٍ إلى العشر.
          وحديث ابن عبَّاسٍ هذا مُطلق قُيِّدَ(13) بحديثِ أبي هُريرة، أو يقال: حسنة مَن ترك بغير استحضار الخوف دون حسنة الآخر، أو يحمل كتابة الحسنة على التَّرك أن يكون التَّارك قد قدِرَ على الفعل ثمَّ تركه؛ لأنَّ الإنسانَ لا يسمَّى تاركًا إلَّا مع القدرة، فإن حالَ بينه وبين حرصهِ على الفعل مانعٌ فلا. وذهبَ القاضي الباقلانيُّ وغيره إلى أنَّ مَن عزمَ على المعصيةِ بقلبه ووطَّن عليها نفسه أنَّه(14) يأثم، وحمل الأحاديث الواردة في العفو عمَّن(15) همَّ بسيِّئةٍ ولم يعملْها على الخاطر الَّذي يمرُّ بالقلب ولا يستقرُّ. قال الماورديُّ(16): وخالفه كثيرٌ من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين، ونقل ذلك عن نصِّ الشَّافعي ويدلُّ له(17) حديثُ أبي هريرة عند مسلمٍ بلفظ: «فأنا أغفرها له ما لم يعملْها» فإنَّ الظَّاهر أنَّ المراد بالعمل هنا عملُ الجارحةِ(18) بالمعصية المهموم بها. وتعقَّبه القاضي عيَّاضٌ بأنَّ عامَّة السَّلف على ما قاله ابنُ الباقلانيِّ؛ لاتِّفاقهم على المؤاخذةِ بأعمال القلوبِ، لكنَّهم قالوا: إنَّ العزم على السَّيِّئة يكتب سيِّئةً مجرَّدةً لا السَّيِّئة الَّتي همَّ أن يعملَها كمَن(19) يأمرُ بتحصيلِ معصيةٍ، ثمَّ لا يفعلها بعد حصولها، فإنَّه يأثمُ / بالأمر المذكور لا بالمعصيةِ، وقد تظاهرتْ نصوص الشَّريعة بالمؤاخذةِ على عزمِ القلب المستقرِّ، كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[النور:19].
          والحاصل: أنَّ كثيرًا‼ من العلماء على المؤاخذةِ بالعزم المصمّم، وافترقَ هؤلاء فمنهم مَن قال: يُعاقب عليه في الدُّنيا بنحو الهمِّ والغمِّ، ومنهم مَن قال: يوم القيامة لكن بالعتابِ لا بالعقاب، واستثنى قومٌ ممَّن قال بعدم المؤاخذة(20) على الهمِّ بالمعصيةِ ما وقع بحرمِ مكَّة ولو لم يصمِّم؛ لقوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}[الحج:25] لأنَّ الحَرَمَ يجبُ اعتقاد تعظيمه، فمَن همَّ بالمعصية فيه فقد(21) خالفَ الواجب بانتهاك حرمتهِ، وانتهاك حرمة الحرمِ بالمعصية يستلزمُ انتهاكَ حرمة الله على ما لا يخفَى، فصارتِ المعصية في الحرم أشدَّ من المعصيةِ في غيره، ومَن همَّ بالمعصيةِ قاصدًا الاستخفافَ بالحرم عصى، ومَن همَّ بمعصيةِ الله قاصدًا الاستخفافَ بالله تعالى كفرَ، وإنَّما العفو عند الهمِّ بالمعصية مع الذُّهول عن قصدِ الاستخفافِ. انتهى مُلخَّصًا من «الفتح».
          (فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا) أي: بالسَّيِّئة، وثبت لفظ: ”هو“ لأبي ذرٍّ عن الحَمُّويي والمُستملي (فَعَمِلَهَا) بكسر الميم (كَتَبَهَا اللهُ لَهُ) للَّذي عملها (سَيِّئَةً وَاحِدَةً) من غير تضعيفٍ، ولمسلمٍ من حديث أبي ذرٍّ: «فجزاؤه بمثلها أو أغفر(22) له» وله في آخر حديث ابن عبَّاسٍ: «أو يمحها»، أي: يمحها بالفضل، أو(23) بالتَّوبة، أو بالاستغفار، أو بعمل الحسنةِ الَّتي تُكفِّر السَّيِّئة، واستثنى بعضُهم وقوعَ المعصيةِ في حرم مكَّة لتعظيمِها، والجمهورُ على التَّعميم في الأزمنةِ والأمكنة لكن قد تتفاوتُ بالعِظَم.
          وفي الحديث بيان سَعَة فضل الله على هذه الأمَّة؛ إذ لولا ذلك كاد أن لا يدخلَ أحدٌ الجنَّة؛ لأنَّ عمل(24) العبادِ للسَّيِّئات أكثر من عملِهم(25) للحسناتِ.
          والحديثُ أخرجه مسلمٌ في «الإيمان»، والنَّسائيُّ في «القنوت والرِّقاق».


[1] كذا والمقصود هنا «مسند أحمد»، والحديث فيه (19035).
[2] في (ص): «الله».
[3] قوله: «{مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ }... ويُحتمل أن يكتبَها تعالى»: ليس في (د).
[4] في (ع) و(ص): «كتب».
[5] في (ع): «الواقع».
[6] في (د): «يهم».
[7] في (ع) و(د): «يطلع».
[8] في (د): «للذي همَّ بها».
[9] في (ص): «أوَّل».
[10] في (ع): «مكافآت».
[11] في (ص): «السَّيِّئة».
[12] في (ص): زيادة: «عظم».
[13] في (ص): «مقيَّد».
[14] «أنَّه»: ليست في (ب).
[15] في (ع): «على من».
[16] في (ع): «المازري».
[17] في (ص): «عليه».
[18] في (ج): «على الجارحة».
[19] في (ع): «فمن».
[20] في (ص) و(د): «مؤاخذته».
[21] «فقد»: ليست في (س).
[22] في (س): «يغفر».
[23] في (ص) و(ع): «و».
[24] في (ص): «أعمال».
[25] في (ص): «عملها».