نجاح القاري لصحيح البخاري

باب فضل صلاة الجماعة

          ░30▒ (بابُ فَضْلِ صَلاَةِ الْجَمَاعَةِ) أي: على صلاة الفذِّ، وفي بعض النسخ: <باب فضل الجماعة> وكون الشَّيء متَّصفاً بالفضيلة لا ينافي كونه متَّصفاً بالوجوب؛ لأنَّ الشَّيء قد يكون واجباً ويكون ذا فضيلة في نفسه، فلا منافاة بين هذه التَّرجمة والتَّرجمة السَّابقة.
          (وَكَانَ الأَسْوَدُ) هو: ابن يزيد النَّخعي، أحد كبار التَّابعين، أدرك زمان النَّبي صلعم ولم يره، وقد مرَّ في باب «من ترك بعض الاختيار» [خ¦126] في كتاب العلم (إِذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ) في مسجد (ذَهَبَ إِلَى مَسْجِدٍ آخَرَ) وصله أبو بكر بن أبي شيبة بإسناد صحيحٍ، ولفظه: ((إذا فاتته الجماعة في مسجد قومه ذهب إلى مسجد آخر)).
          ومناسبته للتَّرجمة أنَّه لولا ثبوت فضيلة الجماعة عنده لما ترك فضيلة أوَّل الوقت، والمبادرة إلى خلاص الذِّمَّة، ولم يتوجَّه إلى مسجدٍ آخر، كذا أشار إليه ابن المُنيِّر.
          وقال الحافظ العسقلانيُّ: والَّذي يظهر لي أنَّ البخاري ☼ قصد بأثَري الأسود وأنس إلى أنَّ الفضل الوارد في أحاديث الباب مقصور على من جمع في المسجد دون من جمع في بيته مثلاً؛ لأنَّ التَّجميع لو لم يكن مختصًّا بالمسجد لجمع الأسود في مكانه ولم ينتقل إلى مسجد آخر لطلب الجماعة، ولَمَا جاء أنس إلى مسجد بني رفاعة، كما سيجيء.
          وقال صاحب «التَّوضيح»: وقد رُوِي ذلك عن حذيفة وسعيد بن جبير، وذكر الطَّحان عن الكوفيِّين ومالك: إن صلَّى في مسجده وحده، وإن شاء أتى مسجداً آخر يطلب فيه الجماعة إلَّا أنَّ مالكاً قال: إلَّا أن يكون / في المسجد الحرام أو مسجد رسول الله صلعم فلا يخرج منه ويصلِّي فيه وحده؛ لأنَّ الصَّلاة في هذين أعظم أجراً ممَّن صلَّى في جماعة في غيرهما.
          وقال الحسن البصريُّ: ما رأينا المهاجرين يتَّبعون المساجد، وفي «مختصر» ابن شعبان عن مالك: من صلَّى في جماعة فلا يعيد في جماعة إلَّا في مسجد مكَّة والمدينة.
          (وَجَاءَ أَنَسٌ) وفي رواية: الأَصيليِّ: <أنس بن مالك> (إِلَى المَسْجِدِ) مسجد بني ثعلبة، أو مسجد بني رفاعة، وفي بعض النسخ: <إلى مسجدٍ> (قَدْ صُلِّيَ فِيهِ) على صيغة البناء للمفعول (فَأَذَّنَ وَأَقَامَ وَصَلَّى جَمَاعَةً) وصله أبو يعلى في «مسنده» من طريق الجعد أبي عثمان، قال: مرَّ بنا أنس بن مالك في مسجد بني ثعلبة فذكر نحوه قال: وذلك في صلاة الصُّبح. وفيه: ((فأمر رجلاً فأذَّن وأقام ثمَّ صلَّى بأصحابه)).
          وأخرجه ابنُ أبي شيبة من طرق عن الجعد، وعند البيهقيِّ من طريق أبي عبد الصَّمد العمِّيِّ عن الجعد نحوه، وقال: مسجدُ بني رفاعة، وقال: ((فجاءَ أنسٌ في نحو عشرين من فتيانه)) وهو يؤيِّد ما مرَّ من إرادة التَّجميع في المسجد، كما قال الحافظ العسقلانيُّ.
          ثمَّ إنَّه اختلف العلماء في الجماعة بعد الجماعة في المسجد، فرُوِيَ عن ابن مسعود أنَّه صلَّى بعلقمة والأسود في مسجد قد جمع فيه، وهو قول عطاء والحسن في رواية، وإليه ذهب أحمد وإسحاق وأشهب عملاً بظاهر قوله صلعم : ((صلاةُ الجماعة تفضلُ على صلاة الفذِّ)) [خ¦657] الحديث.
          وقالتْ طائفة: لا يجمع في مسجد جُمِع فيه مرَّتين، رُوِيَ ذلك عن سالم والقاسم وأبي قِلابة، وهو قول مالك واللَّيث وابن المبارك والثَّوري والأوزاعي وأبي حنيفة والشَّافعي.
          وقال بعضهم: إنَّما كُرِه ذلك خشية افتراق الكلمة، وإنَّ أهل البدع يتطرَّقون إلى مخالفة الجماعة.
          وقال مالك والشَّافعي: إذا كان المسجد على طريقٍ يجوز أن يَجْمَع فيه قوم بعد قومٍ، وحاصله: أنَّه لا يكره في المسجد المطروق، وكذا المسجد الذي لا إمام له.