الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أن معاذ بن جبل يصلي مع النبي ثم يرجع فيؤم قومه

          700- 701- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ) بسكون اللام، وللأصيلي زيادة: <ابن إبراهيم> (قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو) بفتح العين؛ أي: ابن دينارَ (عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ) ☺ (كَانَ يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلعم) أي: عشاءَ الآخرة، كما لمسلمٍ، فلعلها هي التي كان يواظبُ على فعلها مرَّتين.
          (ثُمَّ يَرْجِعُ) أي: من عند النَّبيِّ صلعم (فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ) لمسلم: ((فيصلي بهم تلك الصلاة))، وللمصنف في الأدب: ((فيصلي بهم الصَّلاة)) أي: المذكورة، وفي روايةٍ للشَّافعي: ((ثم يرجعُ فيصليها بقومهِ في بني سلمة))، وللحميديِّ: ((ثم يرجع إلى بني سلمة فيصليها بهم))، وفي رواية ابن عيينة: ((فصلى ليلة مع النَّبي صلعم العشاء، ثم أتى قومه فأمَّهم)).
          وفي هذه الأحاديث ردٌّ على من زعم أنَّ الصلاة التي كان يصليها بقومهِ غير التي كان يصليها مع النَّبيِّ صلعم لإطلاقها في روايةٍ لأحمد: ((ثم يرجع فيؤمُّنا))، كرواية الباب. وبنو سلمة هم قومُهُ، فلا منافاةَ بين روايتي الشَّافعي والحميدي.
          وقال العينيُّ: الجوابُ عن الردِّ من وجوه:
          الأوَّل: الاحتجاجُ به من باب ترك الإنكار من النَّبيِّ صلعم وشرطه: علمهُ بالواقعة، وجاز أن لا يكون عَلِم بها.
          الثاني: النِّيَّة أمرٌ باطنٌ لا يطَّلع عليه / إلا بإخبار النَّاوي، ومن الجائز أنَّ معاذاً كان يصلِّي مع النَّبي صلعم نافلةً ليتعلَّم سُنَّة القراءة وأفعال الصَّلاة، ثم يصلِّي بقومه فرضاً.
          الثالث: أن هذا كان قبل أُحُد، وقت عدم القرَّاء، فكانت حالة ضرورةٍ، فلا يُقاس عليها.
          الرابع: يحتمل أنَّ معاذاً كان يصلِّي مع النَّبيِّ صلعم صلاة النَّهار، ومع قومه صلاة اللَّيل؛ لأنَّهم كانوا لا يحضرون صلاة النهار في منازلهم لاشتغالهم، فأخبرَ الرَّاوي عن حال معاذٍ في وقتين لا في وقتٍ.
          الخامس: أنَّه منسوخ لاحتمال.
          وأقول: يقال على الأول: إن تجويز كون النَّبيِّ صلعم لم يعلم بها في غايةِ البُعد.
          وأمَّا الثاني فيدفعه ما رواهُ الشَّافعي والطحاوي وغيرهما كما يأتي من الزِّيادة في حديثِ الباب، وهي له تطوُّعٌ ولهم فريضةٌ.
          وأما الثَّالث فضعيفٌ إذ جعله إماماً ليس بضروريٍّ، إذ من يحسن الفاتحةَ تصحُّ إمامته، ومعلومٌ أنَّهم أو أكثرهم يحسنونها وما زادَ لا يكون سبباً لارتكاب أمرٍ ممنوعٍ شرعاً، نقله في ((الفتح)) عن ابن دقيق العيد.
          وأما الرَّابع فبعيدٌ جداً، لا سيَّما مع ما تقدَّم من قوله: هي له تطوَّعٌ ولهم فريضةٌ.
          وأما الخامس من أنَّه منسوخٌ فتعقَّبه ابن دقيق العيدِ _وإن قاله الطَّحاوي_ بأنَّه يتضمَّن إثبات النسخ بالاحتمالِ.
           (قَالَ) أي: البخاريُّ، وسقطت: <قال> لغير أبوي ذرٍّ والوقت (وَحَدَّثَنِي) بالواو والإفراد، وسقطت الواو لأبي ذرٍّ والأصيلي (مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ) بفتح الموحدة وتشديد المعجمة (قَالَ: حَدَّثَنَا غُنْدَرٌ قَالَ: حَدَّثَنَا شُعْبَةُ، عَنْ عَمْرٍو) أي: ابن دينار (قَالَ: سَمِعْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ) واستفادَ بهذه الطريق التصريح بسماع عَمرو من جابر، كما استفاد بالأولى علوَّ الإسناد.
          (قَالَ) أي: جابرٌ (كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) سقط: <ابن جبل> لابن عساكر (يُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صلعم ثُمَّ يَرْجِعُ فَيَؤُمُّ قَوْمَهُ) أي: بني سلمةَ بتلك الصَّلاة، كما مرَّ (فَصَلَّى) أي: معاذٌ (العِشَاءَ) أي: ثانياً إماماً بهم، ولأبي عوانة والطَّحاوي من طريق محارب عن جابر: ((صلَّى بأصْحَابه المغرب))، وكذا لعبدِ الرَّزاق من روايةِ أبي الزبير عنه، وحمل على تعدُّد القصة كما يأتي، أو على أنَّ المرادَ بالمغرب: العشاء مجازاً، وإلَّا فما في ((الصحيح)) أصحُّ، قاله في ((الفتح)).
          ورده العيني فقال: رجالُ الطَّحاوي في روايته رجال ((الصحيح))، فمن أين تأتي الأصحيَّةُ في رواية العشاء؟ انتهى.
          وأقول: قال في ((الانتقاض)): سند الطحاوي هو هذا: قال: حدَّثنا وبيض له، وظاهرُ إيرادهِ يقتضي: أنَّ فيهم من ليس من رجال ((الصحيح))، فليراجع سندَ الطَّحاوي.
          وقال البرماويُّ تبعاً للكرماني في قوله: ((فصلَّى العشاء...)) إلى آخر الحديث الظَّاهر: أنَّ الجميع داخلٌ في الطريق الأوَّل أيضاً، لا المذكور قبل التَّحويل فقط.
          قال في ((الفتح)): كأنَّ الحامل له على ذلك أنَّها لو خلت عن ذلك لم تطابق التَّرجمة ظاهراً، لكن لقائلٍ أن يقول: مرادُ البخاري بذلك: الإشارةُ إلى أصل الحديثِ على عادته.
          (فَقَرَأَ) أي: / معاذٌ (بِالبَقَرَةِ) وفي نسخة بحذف الباء؛ أي: شرع في قراءتها بعد الفاتحة، ويدلُّ له ما في مسلم: ((فافتتح سورة البقرة)).
          قال ابن رجب: وفيه دليلٌ على أنَّ الصَّحابة لم يكن من عادتهم قراءة بعض سورةِ في الفرض، فإنَّ معاذاً لما افتتح البقرةَ علم الرجل أنَّه يكملها، فانصرف.
          قيل: في حديث الباب ردٌّ على من كره أن يقال: البقرة، بدون: سورة.
          وأجيب: باحتمال أنَّهُ من تصرُّف الرواة، وإلا فقد رواه مسلمٌ _كما مرَّ_ بلفظ: فافتتح سورةَ البقرة، وبروايةِ الإسماعيلي: فقرأ سورة البقرة، وقيل: إنَّ الاختلاف لتعدُّدِ القصة.
          قال في ((الفتح)): في رواية محارب: فقرأ بسورةِ البقرة أو النساء، على الشَّكِّ وللسراج من رواية مسعر عن محارب: فقرأَ بالبقرة والنساء، فإن ثبت احتملَ أنَّه قرأ في الأولى: بالبقرة، وفي الثانية: بالنساء، ولأحمد بسندٍ قويٍّ: فقرأ: اقتربت السَّاعة، لكنها شاذَّةٌ إلا إن حُمِل على التَّعدد.
          (فَانْصَرَفَ الرَّجُلُ) أل فيه للجنس لما في رواية الإسماعيليِّ: <فقام رجلٌ فانصرفَ>، وفي رواية النَّسائي: ((فانصرفَ الرجلُ فصلَّى في ناحيَةِ المسجدِ))، وفي روايةِ سليم: ((فتجوَّز رجلٌ فصلَّى صَلاة خفيفةً))، ولابن عيينة عند مسلمٍ: ((فانحرفَ رجلٌ فسلَّم، ثمَّ صلى وحدهُ)).
          قال في ((الفتح)): وهذا ظاهرهُ في أنه قطع الصلاة، بخلاف باقي الرِّوايات، فإنَّها قد تدلُّ على أنه قطع القدوة فقط، لكن ذكر البيهقيُّ أن قوله: ثمَّ سلم، شاذَّةٌ انفرد بها محمد بن عباد عن الحفاظ في روايتهِ لها عن ابن عيينة.
          وقال الرافعيُّ في ((شرح المسند)): في الكلام على رواية الشَّافعيِّ عن ابن عيينة في هذا الحديث: فتنحَّى رجلٌ من خلفه فصلَّى وحده: هذا يحتملُ من جهةِ اللفظ: أنَّه قطع الصَّلاة وتنحَّى فاستأنفها لنفسه، لكنه ليس بمحمولٍ عليه؛ لأنَّ الفرض لا يجوزُ قطعه بعد الشُّروع، انتهى.
          قال في ((الفتح)): ولهذا استدلَّ به الشَّافعيَّة على أن للمأموم أن يقطع القدوة ويتمَّ صلاته منفرداً، ونازع النَّووي فيه فقال: لا دلالةَ فيه لما ذكروا، بل في روايةٍ: أنَّه سلم، دليلٌ على أنَّه قطع الصَّلاة من أصلها ثمَّ استأنفها، فيدلُّ على جواز إبطال الصَّلاة لعذرٍ، انتهى.
          وقال في ((شرح المهذب)): له أن يقطع القدوة ويتمَّ صلاته منفرداً، ثمَّ قال فيه: وفي المسألة ثلاثةُ أوجه:
          أحدها: يجوز لعذرٍ ولغيره.
          الثاني: لا يجوزُ مطلقاً.
          والثالث: يجوز لعذرٍ، ولا يجوز لغيره، وتطويل القراءة عذرٌ على الأصحِّ، انتهى.
          فما في ((شرح المهذب)) في قطع القدوةِ بنيَّة المفارقة، بخلاف ما نقلهُ عنه في ((الفتح))، فكأنَّه في قطع الصلاة بالكليَّة، والصَّحيح عندنا: جواز نية المفارقة مطلقاً، لكنها من غير عذرٍ مفوتةٌ لفضيلة الجماعة.
          وقال الحنفية والمالكيَّة في المشهور عنهم: لا يجوز ذلك، لما فيه من إبطال العملِ قال تعالى: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد:33].
          وقال ابن رجبٍ: ولو فارق المأموم بغير عذرٍ لم يجزْ في أصحِّ الروايتين عن أحمد، وهو قولُ أبي حنيفة ومالك، والثانية: يجوز، وهو قولُ أبي يوسف ومحمد / وللشَّافعي فيه قولان، انتهى.
          وأقول: بل ثلاثةٌ، كما علمتَ مما نقلناه عن النَّووي.
          واختلف في اسمِ الرجل، فقيل: هو حَزْم _بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي_ ابن أبيِّ بن كعبٍ، لما رواهُ أبو داود الطيالسي والبزَّار عن جابر أنَّه قال: مر حَزْم بن أبيِّ بن كعبٍ بمعاذ بن جبل وهو يصلِّي بقومه صلاة العتمة، فافتتح بسورةٍ طويلة، ومع حَزْم ناضحٌ له، الحديث.
          ورواهُ ابن لهيعة عن جابر، فسمَّاه حازماً، وكأنه تصحيفٌ، قاله في ((الفتح)).
          وقال ابن الأثير: هو حَرَام _بفتح الحاء والراء المهملتين_ ابن ملحان، خال أنسٍ، وبه جزمَ الخطيبُ في ((المبهمات)).
          قال في ((الفتح)): لكن لم أرهُ منسوباً في الرواية، ويحتملُ أن يكون تصحَّف من حزمٍ فتجتمع الروايات كما يومئُ إليه صنيعُ ابن عبد البرِّ، لكن روى أحمد والنسائي وأبو يعلى وابن السَّكن بإسنادٍ صحيحٍ عن أنس قال: كان معاذٌ يؤمُّ قومه فدخل حرامٌ وهو يريدُ أن يسقيَ نخله، الحديث.
          والظَّاهرُ: أنَّه ابن ملحان، وقال: هو سُلَيم _مصغَّراً_ ابن الحارث، واستدلَّ له بما أخرجه أحمد من رواية معاذِ بن رفاعة عن رجلٍ من بني سلمة يقال له: سُلَيم، أنَّه أتى النَّبيَّ صلعم فقال: يا نبيَّ الله إنا نظلُّ في أعمالنا فنأتي حين نمسي فنصلِّي فيأتي معاذٌ فينادي بالصلاة فنأتيه فيطوِّلُ علينا، الحديث.
          لكن رد: بأن هذا استشهد بأحدٍ، وهذا مرسلٌ؛ لأنَّ معاذ بن رفاعة لم يدركهُ، ووقع عند ابن حزمٍ أنَّ اسمه سَلْم، بفتح السين وسكون اللام.
          قال في ((الفتح)): وكأنه تصحيفٌ وجمع بعضهم: بأنَّهما واقعتان، وأيَّد بالاختلاف في الصَّلاة هل هي العشاءُ أو المغرب، وبالاختلاف في السُّورة هل هي البقرة أو اقتربَتْ؟ وبالاختلاف في عذرِ الرجل، هل هو التَّطويل فقط أو لكونه أيضاً أرادَ أن يسقيَ نخله؟ أو لكونهِ خافَ على الماءِ في النَّخل؟
          واستشكلَ هذا الجمع: بأنَّه لا يظن بمعاذ أنَّ النَّبيَّ صلعم يأمره بالتخفيف ثمَّ يعود إلى التَّطويل.
          وأجيب: باحتمال أنَّه قرأ أولاً بالبقرة فلما نهاه قرأ: اقتربت، وهي طويلةٌ بالنسبة إلى السُّور التي أمره بقراءتها.
          وجمعَ النَّووي باحتمال أن يكون قرأ في الأولى بالبقرة فانصرف رجلٌ ثمَّ قرأ في الثانية: اقتربت، فانصرف آخر.
          قال في ((الفتح)): ووقع عند مسلم: فانطلق رجلٌ منا، وهو يدلُّ على أنَّه كان من بني سلمة، ويقوي رواية من سمَّاه سُليماً، انتهى، وفيه تأمُّلٌ.
          وقال ابن رجب: وأخرج البزَّار عن جابر بن عبد الله قال: كان معاذٌ تخلَّف عند رسول الله صلعم فكان إذا جاء أمَّ بقومه، وكان رجلٌ من بني سلمة يقال له: سُليم، يصلِّي مع معاذ، فاحتبس معاذ عنهم ليلةً فصلى سُلَيم ثم انصرف، وذكر الحديث.
          وفيه: أنَّ النَّبيَّ صلعم سأل سُليماً: ((كيف صلَّيت؟)) فقال: قرأتُ بفاتحة الكتاب وسورةً، ثمَّ قعدت وتشهَّدت وسألت الجنَّة وتعوَّذتُ من النار، وصليت على النَّبي صلعم ثمَّ انصرفت، وليس أحسن دندنتكَ ولا دندنةَ معاذٍ، فضحك النَّبيُّ صلعم ثمَّ قال: ((هل أدندن أنا ومعاذٌ إلا لندخُلَ الجنَّةَ ونعاذَ من النار؟))، ثم أرسل إلى معاذٍ: ((لا تكن فتَّاناً تفتنُ النَّاس، ارجعْ إليهم فصلِّ بهم قبل أن يناموا)). انتهى، ثمَّ قال: وهذا يستدلُّ به على أنَّها وقائع متعدِّدة.
          (فَكَأَنَّ) بتشديد النون ولعلها للتخفيف (مُعَاذَاً) ☺ (يَنَالُ مِنْهُ) أي: من الرَّجل، وهذه رواية الكُشميهني، وللمستملي: <وكان معاذ تناول منه> بالفعل الماضي في ((كأن)) أيضاً، ولغيرهما: / <وكان معاذ ينال منه> بالماضي في الأول، والمضارع في الثاني، بتحتية أوله وحذف الواو.
          وعزا هذه القسطلاني للأربعة وهي تدلُّ على كثرة ذلك منه، وفي نسخةٍ صحيحةٍ: <نال منه> ومعنى الجميع: أنَّه ذكره بسوءٍ وأعابهُ، ففي رواية المصنِّف في الأدب [عن] سُليم بن حيَّان بلفظ: فبلغ ذلك معاذاً فقال: إنَّه منافقٌ، ولأبي الزبير وابن عُيينة: فقالوا له: أنافقت يا فلانُ؟ قال: لا والله ولآتينَّ رسول الله صلعم فلأخبرنَّه، وكأنَّ معاذاً قال ذلك أولاً ثمَّ قاله أصحاب معاذٍ للرَّجل.
          (فَبَلَغَ) أي: ذلك المذكور التَّناول والانصراف وتطويل معاذٍ الصَّلاة (النَّبِيَّ صلعم) بين ابن عُيينة وأبو الزبير أن الرَّجل هو الذي جاء واشتكى من معاذ، وفي روايةِ النَّسائي ما يفيدُ أنَّه معاذ، ففيها: فقال معاذ: لئن أصبحتُ لأذكرنَّ ذلك لرسول الله صلعم، فذكر ذلك له، فأرسل إلى الرَّجل فقال: ما حملكَ على الذي صنعتَ؟ فقال: يا رسول الله عملتُ على ناضحٍ لي بالنَّهار، فجئت وقد أقيمت الصلاة، فدخلتُ المسجد فدخلت معه في الصَّلاة فقرأ بسورةِ كذا وكذا فانصرفت فصلَّيت في ناحية المسجد. ولعلَّ معاذاً سبقَه بالشَّكوى فلما أرسلَ إليه جاء فاشتكى من معاذٍ.
          (فَقَالَ) أي: النَّبيُّ صلعم (فَتَّانٌ، فَتَّانٌ، فَتَّانٌ) بفتح الفاء وتشديد الفوقية، خبر مبتدأ محذوف؛ أي: أنت، والجملة خبرية، ويحتمل الإنشائية بتقدير الاستفهام، ويدلُّ له رواية ابن عُيينة: ((أفتَّانٌ أنت؟)) بهمزة الاستفهام الإنكاري، فأنت: فاعل ((فتان)) سد مسد الخبر لاعتماده، أو مبتدأ مؤخر، و((فتان)) خبر مقدم. ولم أرَ في شيءٍ من نسخ البخاري: ((أفتان)) بالهمزة.
          ثمَّ رأيتُ ابن الملقِّن قال: وفي رواية ((أفتان)) بالهمزة، انتهى.
          وهي محتملةٌ لأن تكون في البخاريِّ أو في غيره.
          (ثَلَاثَ مِرَارٍ) ولابن عساكر في نسخة: <ثلاث مرات> بفوقية آخره، وفائدةُ التَّكرار: التأكيد (أَو قَالَ) أي: النَّبيُّ صلعم، وهو شكٌّ من الراوي، وجعلهُ الكرماني ومن تبعه من جابر، ولا يتعيَّن (فَاتِنَاً، فَاتِنَاً، فَاتِنَاً) بنصب الثلاثة على الخبرية لتكون مقدَّرة لما في رواية أبي الزبير: ((أتريدُ أن تكون فاتِناً؟))، ولأحمد: ((يا معاذُ لا تكن فاتناً)).
          ووقع لغير الأربعة بالرفع في: <فاتن> الأخيرة بتقدير: أنت. والغرض منه: النَّهي عن التَّطويل، ففي حديث أنسٍ من رواية أحمد: ((لا تطول بهم))، والمعْنِيُّ من الفِتنةِ هنا: أن تطويلك يكون سبباً لخروجهم من الصَّلاة وللتكره للصلاة جماعة، ففي ((الشعب)) للبيهقيِّ بسندٍ صحيحٍ: عن عمر أنَّه قال: لا تبغضوا إلى الله عباده، يكون أحدُكُم إماماً فيطول على القوم الصَّلاة حتى يبغضَ إليهم ما هم فيه.
          وقال الدَّاودي: يحتملُ أن يريد بقوله: ((فتان)) أي: معذِّب؛ لأنَّه عذبهم بالتَّطويل، ومنه _على ما قيل_ قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ} [البروج:10].
          (وَأَمَرَهُ) أي: وأمر النَّبيُّ صلعم معاذاً (بِسُورَتَيْنِ) أي: بقراءتهما في صلاته (مِنْ أَوْسَطِ المُفَصَّلِ) قال الكرمانيُّ: والمفصَّل: عبارةٌ عن السَّبع الأخير من القرآن، وهو من الحجرات، وقيل: من القتال، وقيل: من الفتح، وقيل: من قاف، سُمِّي مفَصَّلاً لكثرة الفُصُول التي تقع بينهما من التَّسمية، وهو ثلاثةُ أقسامٍ: طوالهُ وقصاره وأوساطهُ، فالطوال: من أحد السُّور المذكورةِ إلى عم، وأوساطه: منها إلى الضُّحى وقيل: من إحداها إلى الصَّفِّ، والأوساط: منها إلى: إذا السماء انشقت، / والقصار: إلى آخر القرآن.
          وقيل: سُمِّي مُفصَّلاً لكثرة الفُصُول فيه، وقيل: لقلَّة المنسوخِ فيه.
          وقال في ((فتح الباري)): أوسط المفصَّل: يحتملُ أن يريد به المتوسط والسُّور التي مثل بها من قصار المتوسِّط، ويحتملُ أن يريد به المعتدل؛ أي: المناسبَ للحال من المفصل.
          (قَالَ عَمْرٌو) أي: ابن دينارٍ الرَّاوي عن جابر (لَا أَحْفَظُهُمَا) أي: السُّورتين اللتين أمر بهما النَّبيُّ صلعم معاذاً، وقد يقال: فيه إشارةٌ إلى أن الشَّكَّ السابق أيضاً من عمرو.
          قال في ((الفتح)): وكأنَّه قال ذلك حال تحديثه لشُعبة، وإلَّا ففي رواية سليم بن حيَّان عن عمرو: اقرأ: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، و{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}، وعليها يحملُ أيضاً رواية مسلمٍ من طريق ابن عُيينة: ((اقرأ بكذا واقرأ بكذا)).
          قال ابن عيينة: فقلت لعمرو: إنَّ أبا الزبير حدَّثنا عن جابر أنَّه قال: ((اقرأ بـ{الشَّمْسِ وَضُحَاهَا}، و{اللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى}، و{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى}))، فقال عَمرو نحو هذا، وفي رواية اللَّيث عند مسلمٍ مع الثلاثة: (({اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}))، زاد ابن جريجٍ: ((والضُّحى)) وفي روايةِ الحميدي عن ابن عُيينة مع الثلاثة الأول: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ}.
          وقال ابن الملقِّن: وفي روايةٍ: و{إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}، ولا منافاةَ لجواز أمرهِ بالجميع بأن يقرأهُ سورتين سورتين في صلوات، والحديثُ أخرجهُ مسلمٌ والنسائي وابن ماجه.
          واستدلَّ به على صحة اقتداء المفترض بالمتنفِّل بناءً على أنَّ الأولى هي الفرض والثَّانية تطوُّعٌ، ويدلُّ له ما رواه عبد الرزاق والشافعي والطحاوي والدَّارقطني وغيرهم من طريقِ ابن جريجٍ _لا ابن عيينة_ عن عمرو بن دينار عن جابرٍ في حديث الباب بزيادة: ((هي له تطوُّعٌ ولهم فريضة))، وهو حديثٌ صحيحٌ ورجاله رجال ((الصحيح)) وهي زيادةٌ من ثقة حافظ، ليست منافية لروايةِ ابن عيينة، فلا معنى للتوقُّف في صحتها، وكذا رد الطَّحاوي لها باحتمال أنَّها مدرجةٌ؛ لأنَّ الأصل عدم الإدراجِ إلَّا أن يثبت.
          وقال الطَّحاوي أيضاً: إنه ظنٌّ من جابر، وتعقِّب: بأنَّ جابراً كان يصلِّي مع معاذ، فيحمل على أنَّه سمع ذلك، ولا يظنُّ بجابرٍ خلافه.
          وأطالَ في ((الفتح)) من الاستدلال لأصل المسألة، وناقشهُ العينيُّ بما لا يخلو أكثرهُ عن مناقشةٍ وقدَّمنا أول الباب دفع ما أجابَ به عن كون الأحاديث فيها ردٌّ على من زعمَ أنَّ الصلاة التي كان يصلِّيها بقومه غير التي كان يصلِّيها مع النَّبيِّ صلعم.
          وفي حديثِ الباب من الفوائد: استحباب تخفيف الصَّلاة، بل يكره التَّطويل مراعاةً لحال المأمومين، نعم لا يكرهُ عندنا التَّطويل لإمام محصُورين رضوا بالتَّطويل.
          وفيه: جوازُ الخروج من الصَّلاة أو القدوة لعذرٍ، وأن منه الحاجة الدُّنيوية، وجواز فعل الفرِيضةِ مرَّتين إذا كانت الثانية معادةً في جماعةٍ مطلوبةٍ.
          وفيه: أنَّ الإنكارَ في المكروهاتِ قد يكون بلطفٍ لوقوعهِ بصُورة الاستفهامِ وتعزيرِ كلِّ أحدٍ بما يليقُ به، والاكتفاءُ فيه بالقول.
          وفيه: اعتذارُ من وقع منه خطأ في الظَّاهرِ، وجواز الوقوع في حقِّ من وقع في محذورٍ ظاهراً، وإن كان له عذرٌ باطنٌ للتَّنفير عن فعل ذلك.
          وفيه: أنَّ التخلُّف عن الجماعة من صفة المنافق إذا لم يكن عذر، وجواز الصَّلاة منفرداً لعذرٍ في ناحيةٍ من المسجد مع وجود الجماعة، بخلافه / من غير عذرٍ، فيمنع لئلا يساء الظَّنُّ بالإمام.
          وقولُ العيني: يجوزُ مطلقاً، فيه ما فيه، فتأمَّل.