الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: احبس أبا سفيان عند حطم الخيل حتى ينظر إلى المسلمين

          4280- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا): بالجمع لغيرِ أبي ذَرٍّ (عُبَيْدُ): تصغيرُ: عبد، من غيرِ إضافةٍ (ابْنُ إِسْمَاعِيلَ): هو: أبو محمَّدٍ القرشيُّ الكوفيُّ، قال: (حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ): هو: حمَّاد بن أسامةَ (عَنْ هِشَامٍ): بكسرِ الهاء (عَنْ أَبِيهِ): أي: عروةَ بن الزُّبير.
          (قَالَ: لَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ / صلعم): أي: من المدِينةِ (عَامَ الْفَتْحِ): أي: في اليوم العاشِرِ عام فتحِ مكَّةَ (فَبَلَغَ ذَلِكَ): أي: المسيرَ (قُرَيْشاً).
          وجملة: (خَرَجَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ): جوابُ: ((لمَّا))، قال في ((الفتح)): هكذا أوردَهُ مُرسلاً، ولم أرَهُ في شيءٍ من الطُّرُقِ عن عروةَ موصولاً، ومقصودُ البخاريِّ منه ما ترجَمَ به مما هو في آخرِ الحدِيثِ، فإنَّه موصُولٌ عن عروةَ عن نافعِ بن جبيرٍ عن العبَّاس، ثمَّ قال: وظاهرُهُ أنَّهم بلغهم مسيرُهُ قبل خروجِ أبي سفيان وحكيمِ بن حزامٍ، قال: والذي عند ابنِ إسحاقَ وابن عائذٍ من مغازِي عروةَ: ثمَّ خرجوا وقادوا الخُيُولَ حتَّى نزلوا بمرِّ الظهران، ولم تعلَمْ بهم قريشٌ، وقد أنكرَ الواقِديُّ: أنَّ أبا سفيانَ إنَّما توجَّهَ قبلَ أن يبلغ الخبرَ.
          قال: وفي روايةِ أبي سلمةَ عند ابن أبي شيبةَ: فقال أبو سفيان لحكيمِ بن حزامٍ: هل لك أن تركَبَ إلى أمرٍ، لعلنا أن نلقَى خَيراً، فقال له بديلُ بن ورقاءَ: وأنا معكم؟ قالا: وأنتَ إن شئتَ، فركِبُوا، قال: وفي روايةِ ابن عائذٍ من حديثِ ابن عمرَ، قال: لم يَغزُ رسُولُ اللهِ صلعم قريشاً حتى بعثَ إليهم ضمرة يخيِّرُهم بين إحدى ثلاثٍ: أن يدُوا قتيلَ خزاعَةَ، وبينَ أن يبرؤوا عن حِلْفِ بني بكرٍ، أو ننبذ إليهم على سواءٍ، فأتاهُم ضمرةُ فخيَّرَهم، فقال قرظةُ بن عَمرو: لا ندِي ولا نبرَأُ، ولكنا ننبُذُ إليه على سواء، فانصرَفَ ضمرَةُ بذلك، فأرسلَتْ قرَيشٌ أبا سفيانَ يسألُ رسُولَ اللهِ صلعم في تجديدِ العَهدِ؛ أي: فانطلَقَ إلى المدينةِ، كما عندَ ابنِ إسحاقَ وابن عائِذٍ، فقال لأبي بكرٍ: جدِّدْ لنا الحِلْفَ، قال: ليس الأمرُ إليَّ، ثمَّ أتى عمرُ فأغلَظَ له عمرُ، ثمَّ أتى فاطمَةَ، فقالت له: ليس الأمرُ إليَّ، فأتى عليًّا فقال: ليس الأمرُ إليَّ، وقال: أنت كبيرُ النَّاس فجدد الحلْفَ، فضرَبَ أبو سفيانَ إحدى يدَيهِ على الأخرى، ورجِعَ إلى مكَّةَ، فقالوا له: ما جئتنا بحربٍ فنحذَرَ، ولا بصُلحٍ فنأْمَنْ، وفي روايةٍ: فقالوا له لعبَ بك عليٌّ، وإنَّ إخفَارَ عهدك لهيِّنٌ عليهم، قال: فيحتملُ أنَّ قوله: فبلغ قريشاً؛ أي: غلبَ على ظنِّهِم ذلك لا أنَّ مبلغاً بلغهم ذلك حقيقةً.
          (وَحَكِيمُ): بفتحِ الحاء المهملةِ (ابْنُ حِزَامٍ): بكسرِ الحاء المهملةِ وبالزاي (وَبُدَيْلُ): بموحَّدة ودال مهملة ولام، مصغَّراً (ابْنُ وَرْقَاءَ): بفتحِ الواو وسكونِ الراء والقافِ ممدوداً؛ أي: الخزاعيُّ (يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلعم).
          قال في ((الفتح)): وفي روايَةِ ابن عائذٍ: فبعَثُوا أبا سفيانَ وحكِيمَ بن حزامٍ، فلقيا بديلَ بن ورقاءَ فاستصحبَاهُ فخرَجَ معهما.
          (فَأَقْبَلُوا): أي: الثَّلاثةُ (يَسِيرُونَ حَتَّى أَتَوْا مَرَّ الظَّهْرَانِ): بفتح ميم: ((مَرَّ)) وتشديد رائِهِ، مكانٌ معرُوفٌ قرب مكَّةَ، بينه وبين مكَّةَ ستَّةَ عشَرَ ميلاً.
          قال في ((الفتح)): والعامَّةُ تقولُ: مَرْو _بسكون الراء وزيادة واو_، و((الظهران)) بلفظِ تثنيةِ: ظَهر _بفتح الظاء_، حكايةٌ للمرفُوعِ، وفي مرسلِ أبي سلمَةَ: حتى إذا دَنَوا من ثنيَّةِ مرِّ الظَّهران أظلَمُوا؛ أي: دخلوا في اللَّيلِ فأشرفوا على الثَّنيَّةِ، فإذا النِّيرانُ قد أخذَتِ الوادي كلَّهُ، / وهو كنايةٌ عن كثرَتِها كقوله: (فَإِذَا هُمْ بِنِيرَانٍ كَأَنَّهَا نِيرَانُ): بكسر النون فتحتيةٌ ساكنةٌ مقلوبة عن واو (عَرَفَةَ): أي: التي كانوا يوقدُونَهَا فيها ليلةَ الوقُوفِ ويكثرُونَ منها، وعندَ ابن سعدٍ أنَّ النَّبيَّ صلعم أمرَ أصحابَهُ فأوقَدُوا عشرَةَ آلاف نارٍ.
          (فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ مَا هَذِهِ): أي: النِّيرانُ الكثيرةُ (لَكَأَنَّهَا): بفتح اللامِ الموطِّئةِ وتشديد النون (نِيرَانُ عَرَفَةَ): أي: نيرَانُ ليلةِ عرفَةَ؛ أي: في كثرَتِها (فَقَالَ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ) أي: مُجِيباً لأبي سفيانَ (نِيرَانُ): خبرٌ لمحذوف (بَنِي عَمْرٍو): بفتحِ العين المهملةِ؛ يعنِي: خزاعَةَ، و((عَمرو)) هو: ابنُ لحيٍّ (فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: عَمْرٌو): أي: هذه القبيلةُ (أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ).
          قال في ((الفتح)): وفي ((مغازِي)) عروةَ عند ابن عائذٍ عكسَ ذلك، وأنَّهم لمَّا رأوا الفساطِيطَ، وسمعوا صهِيلَ الخيلِ راعَهُم ذلك، فقالوا: هؤلاء بنو كعبٍ؛ يعنِي: خزاعَةَ، وكعبٌ أكبرُ بطُونِ خزاعة جاشَتْ بهم الحربُ، فقال بديلٌ: هؤلاء أكبَرُ من بني كعبٍ ما بلغ تاليها هذا، قالوا: فانتجعَتْ هوازنُ أرضَنَا، واللهِ ما نعرِفُ هذا إنَّ هذا لمثلُ حاجِّ الناس.
          (فَرَآهُمْ): أي: فرأى هؤلاءِ الثَّلاثةُ (نَاسٌ مِنْ حَرَسِ): بفتحِ الحاء المهملةِ والراء (رَسُولِ اللَّهِ صلعم، فَأَدْرَكُوهُمْ فَأَخَذُوهُمْ، فَأَتَوْا): بفتح الفوقيَّة (بِهِمْ رَسُولَ اللَّهِ صلعم، فَأَسْلَمَ أَبُو سُفْيَانَ): وفي روايةِ ابن عائذٍ: وكانَ رسُولُ اللهِ صلعم بَعثَ بين يديْهِ خَيلاً تقتصُّ العُيونَ، وخزاعة على الطَّريقِ لا يتركُونَ أحداً يمضِي، فلمَّا دخَلَ أبو سفيانَ وأصحابُهُ عسكَرَ المسلمينَ أخذَتْهُم الخيلُ تحت اللَّيلِ، قال: وفي مرسلِ أبي سلمةَ: وكان حرَسُ رسُولِ الله نفراً من الأنصارِ، وكان عمرُ بن الخطَّابِ عليهم تلكَ الليلةَ، فجاؤوا بهم إليه، فقالوا: جِئنَاك بنَفرٍ أخذناهُم من أهلِ مكَّةَ، فقال عمرُ: والله لو جئتمُونِي بأبي سفيانَ ما زدْتُم، قالوا: قد جئناكَ به.
          قال: وعندَ ابنِ إسحاقَ: أنَّ العبَّاسَ خرَجَ ليلاً فلقِيَ أبا سفيانَ وبديلاً، فحمَلَ أبا سفيانَ معه على البَغلةِ، ورجعَ صاحبَاهُ، قال: ويمكنُ الجمعُ بأنَّ الحرسَ لما أخذُوهُم استَنقذَ العباسُ أبا سفيانَ؛ أي: وأخذَهُ وأركبَهُ معه على بغلةِ رسُولِ الله حتى أتاهُ به، فاستأمنَهُ له، وفي روايةِ ابن إسحاقَ: فلمَّا نزلَ رسُولُ الله مرَّ الظَّهران قال العبَّاسُ: واللهِ لئن دخَلَ رسُولُ الله مكَّةَ عنوةً قبل أن يأتُوهُ فيستأمِنوهُ إنَّه لهلاكُ قريشٍ، وفي ((مغازِي)) موسَى بن عقبةَ: فلقيِهُم العباسُ، فأجارَهُم وأدخلَهُم إلى رسولِ الله صلعم فأسلَمَ بديلٌ وحكيمٌ وتأخَّرَ أبو سفيانَ حتَّى أصبحَ.
          قال في ((الفتح)): وفي روايةِ عكرمَةَ فذهَبَ به العبَّاسُ إلى رسُولِ الله صلعم، ورسُولُ الله ◙ في قبَّةٍ له، فقال: ((يا أبا سُفيانَ، أسلِمْ تسلَمْ)) قال: كيف أصنَعُ باللات والعزَّى، فسمِعَه عمرُ / فقال: لو كنتَ خارِجَ القبَّةِ ما قلتَهَا أبداً، فأسلَمَ أبو سفيانَ، فذهَبَ به العبَّاسُ إلى منزله، فلمَّا أصبحَ ورأى مبادرَةَ النَّاس إلى الصَّلاةِ أسلَمَ، انتهى فتأمَّله.
          (فَلَمَّا سَارَ): أي: النَّبيُّ صلعم إلى مكَّةَ ليدخُلَها (قَالَ لِلْعَبَّاسِ: احْبِسْ أَبَا سُفْيَانَ عِنْدَ حَطْمِ الْخَيْلِ): بفتحِ حاء ((حطْمِ)) وسكون طائِهِ المهملين؛ أي: ازدِحامِ الخَيْل: بفتح الخاء المعجمة وسكون التحتيَّة، وللأصيليِّ وأبي ذَرٍّ عن المستمليِّ، وقال في ((الفتح)): للقابِسيِّ والنَّسفيِّ: <خَطم> بفتح الخاء المعجمةِ؛ أي: أنف، <الجبل> بفتحِ الجيمِ والموحَّدة؛ أي: لأنَّهُ ضيِّقٌ فيرى الجيشَ ولا يفوتَهُ رؤيةُ أحدٍ منهم.
          (حَتَّى يَنْظُرَ): أي: أبو سفيان (إِلَى الْمُسْلِمِينَ): قال في ((الفتح)): وفي روايةِ موسى بن عقبةَ: أنَّ العبَّاسَ، قال لرسُولِ الله: لا آمَنُ أن يرجِعَ أبو سفيان فيكفُرَ، فاحبسْهُ حتى تريَهُ جنودَ اللهِ، ففعل، فقال أبو سفيانَ: أغدْراً يا بني هاشمٍ؟ قال العبَّاسُ: لا، ولكن لي إليكَ حاجَةٌ، فتصبِحَ وتنظُرَ جنودَ اللهِ وما أعدَّ اللهُ للمشركِينَ، فحبسَهُم بالمضِيقِ دونَ الأراكِ حتى أسلَمُوا.
          (فَحَبَسَهُ العَبَّاسُ فَجَعَلَتِ الْقَبَائِلُ): أي: من المسلمينَ (تَمُرُّ): بتشديد الراء (مَعَ النَّبِيِّ): وللأصيليِّ: <مع رسولِ الله> (صلعم تَمُرُّ كَتِيبَةً كَتِيبَةً): بفتح الكافِ وكسر الفوقيَّة فموحَّدة في اللَّفظينِ، وحذفهمَا مما يأتي، وبالمثلثة: القِطعةُ من العَسكرِ، من الكتْبِ وهو الجَمعُ، حالٌ من القبائِلِ، وفي روايَةِ مُوسَى بن عقبةَ: وأمرَ النَّبيُّ منادياً يُنادي لتُظهِرَ كلُّ قبيلةٍ ما معها من الأداةِ والعدَّةِ، وقدم النَّبيُّ صلعم الكتائِبَ، فمرَّتْ كتيبةٌ، فقال أبو سفيانَ: يا عبَّاس في هذه محمَّدٌ؟ قال: لا، قال: فمن هؤلاء؟ قال: قُضَاعَةُ، ثمَّ مرَّتْ القبائِلُ فرأى أمراً عظِيماً أرعبَهُ.
          (فَمَرَّتْ كَتِيبَةٌ): على أبي سفيانَ (قَالَ): ولأبي ذَرٍّ والأصيليِّ وابنِ عساكرَ: <فقال> (يَا عَبَّاسُ مَنْ هَذِهِ): أي: الكتيبةُ (قَالَ): ولأبي ذَرٍّ والأصيليِّ وابنِ عساكرَ: <فقال> (هَذِهِ غِفَارُ): بكسرِ الغين المعجمةِ.
          (قَالَ): أي: أبو سفيانَ (مَا لِي وَلِغِفَارَ): بالصَّرف لأبي ذَرٍّ، وبعدمِهِ لغيره؛ أي: ما كان بينِي وبينهم حَربٌ ولا عداوَةٌ (ثُمَّ مَرَّتْ جُهَيْنَةُ، قَالَ): أي: أبو سفيانَ، وللأصِيليِّ: <فقال> (مِثْلَ ذَلِكَ): أي: ما لِي ولجهينَةَ، قال في ((الفتح)): وفي مرسَلِ أبي سلمةَ: مرَّتْ جهينةُ، فقال: أيْ عبَّاس، من هؤلاء؟ قال: هذه جهينَةُ، قال: ما لِي ولجهينَةَ، واللهِ ما كان بيني وبينهم حربٌ قطُّ.
          (ثُمَّ مَرَّتْ سَعْدُ): بفتحِ السين وسكونِ العين المهملتين، اسمُ قبيلةٍ بدليلِ: ((مرَّت)) (ابْنُ هُذَيْمٍ): بالهاء والذالِ المعجمة، مصغَّر، قال في ((الفتح)): والمعرُوفُ فيها سعدُ هذيمٍ، بالإضافَةِ، قال: ويصِحُّ الآخرُ على المجازِ، قال: وهو سعدُ بن زيد بن ليثِ بن سُود _بضم المهملة_ ابن أسلُم _بضم اللام_ ابن إلحاف _بحاء مهملةٍ وفاءٍ_ ابن قضاعَةَ، قال: وفي سعدِ هذيمٍ طوائِف من العربِ، منهم بنو صِنَّة _بكسر الصَّاد المهملة فنون مشدَّدة_، وبنو عذرةَ قبيلةٌ كبيرَةٌ مشهورَةٌ، وهذيم الذي نُسِب إليه سعدٌ / ، عبدٌ كان ربَّاهُ فنُسِبَ إليه.
          (فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ مَرَّتْ): ولغير أبي ذَرٍّ: <ومرَّتْ> بالواو (سُلَيْمُ): بسين مهملةٍ مصغَّر (فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ، حَتَّى أَقْبَلَتْ كَتِيبَةٌ لَمْ يَرَ): بفتحتين وحذف الألف؛ أي: أبو سفيانَ (مِثْلَهَا): وفي بعضِ الأصُولِ ضُبط: <لم يُرَ مثلُها> بالبناء للمفعولِ (فَقَالَ: مَنْ هَذِهِ): أي: القبيلةِ.
          (قَالَ): أي: العبَّاسُ (هَؤُلاَءِ الأَنْصَارُ عَلَيْهِمْ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ): بضمِّ العين (مَعَهُ الرَّايَةُ): أي: رايةُ الأنصارِ (فَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: يَا أَبَا سُفْيَانَ الْيَوْمُ يَوْمُ الْمَلْحَمَةِ): بفتح الميمِ والحاء المهملةِ بينهما لامٌ ساكنةٌ؛ أي: الحربُ الذي لا خلاصَ فيهِ، و((اليوم)) فيهما بالرَّفعِ للأكثرِ مبتدأٌ وخبر، ولأبوَي ذَرٍّ والوقتِ: بنصب ((اليوم)) على الظَّرفيَّةِ خبر ما بعدَهُ، فتأمَّل.
          (الْيَوْمَ تُسْتَحَلُّ): بالبناءِ للمفعولِ، متعلِّقٌ به ((اليوم)) (الْكَعْبَةُ): نائبُ فاعل: ((تستحل)) أي: يُحِلُّ البيتَ، ويحتملُ أنَّ المرادَ مكَّةَ من تسميَةِ الكلِّ باسم البعضِ.
          (فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ: يَا عَبَّاسُ، حَبَّذَا يَوْمُ الذِّمَارِ): بكسرِ الذال المعجمةِ وتخفيفِ الميم؛ أي: الهلاكِ، وقال الكرمانيُّ: الملحَمةُ الوقعةُ العظيمةُ في الفتنةِ، ويقالُ لها: المعركَةُ أيضاً، ويريدُ بالذِّمارِ _بكسرِ الذال المعجِمة_ يومَ الحديبيةِ، وقال الخطابيُّ: الملحمَةُ: المقتلَةُ، ويومُ الذِّمَار: يومُ القِتالِ، تمنَّى أبو سفيانَ أن يكونَ له يدٌ فيَحمِي بها قومَهُ ويدفَعُ عنهم.
          وقال في ((الفتح)): اليومُ يوم القَتلِ، يقال: لحمَ فُلانٌ فلاناً إذا قتلَهُ، ومرادُ سعدٍ بيومِ الملحَمةِ: يوم المقتلةِ العُظْمى، ومرادُ أبي سفيان بيومِ الذِّمار: الهلاك، وقيل: المرادُ: هذا يومُ الغَضبِ للحريمِ والأهلِ والانتصارُ لهم لمن قَدَرَ عليه، وقيل: المرادُ هذا يومٌ يلزمُكَ فيه حِفظِي وحمايَتِي من أن ينالَنِي مكرُوهٌ.
          قال ابنُ إسحاقَ: زعمَ بعضُ أهل العِلمِ أنَّ سعداً لما قال: اليوم يومُ الملحمةِ اليوم تستحَلُّ الحرمةُ، سمعَهَا رجلٌ من المهاجرينَ، فقال: يا رسُولَ الله، ما آمنَ أن يكون لسَعدٍ في قريشٍ صولةٌ، فقال لعَليٍّ: ((أدركْهُ، فخُذِ الرَّايةَ منه، فكُن أنت تدخُلُ بها)) قال ابنُ هشامٍ: الرَّجلُ المذكورُ عُمر، واستبعدَهُ في ((الفتح)): بأنَّ عمرَ كان معرُوفاً بشدَّةِ البأس عليهم.
          وقد روى الأمويُّ في ((المغازي)): أنَّ أبا سفيانَ قال للنَّبيِّ ◙ لما حاذاهُ: أمرْتَ بقتل قومِكَ؟ قال: ((لا))، فذكَرَ له ما قالَهُ سعدُ بن عبادَةَ، ثمَّ ناشدَهُ اللهَ والرَّحِمَ، فقال: ((يا أبا سُفيانَ، اليومَ يومُ المرحمَةِ، اليومَ يُعِزُّ الله قُرَيشاً)) وأرسَلَ إلى سعدٍ فأخَذَ الرَّايةَ منه، فدفَعَها إلى ابنهِ قيس، قال: وعند ابنِ عساكِرَ بسندهِ إلى جابرٍ قال: لما قال سعدُ بن عبَادةَ ذلك، عارضَتِ امرَأةٌ من قريشَ رسُولَ الله صلعم فقالت:
يا نَبِيَّ الهُدَى إليكَ لَجَا حَيُّ                     قُرَيشٍ وَلاتَ حين لجَاءِ
ضاقَتْ عليهم سِعةُ الأرضِ                     وعادَاهُم إلهُ السَّماءِ
إنَّ سَعْداً يُرِيدُ قَاصِمةَ                     الظَّهرِ بأَهْلِ الحُجُونِ والبَطحَاءِ /
          إلى غيرِ ذلك من الأبياتِ، فلمَّا سمِعَ النَّبيُّ ◙ هذا الشِّعرَ دخلتْهُ رأفَةٌ لهم ورحمةٌ، فأمَرَ بالرَّايةِ فأُخِذَتْ من سعدٍ ودُفِعت إلى ابنه قيسٍ، فدخل مكَّةَ بلواءَينِ، لكن سندُهُ ضعيفٌ، وجزمَ موسى بن عُقبةَ عن الزُّهريِّ أنَّهُ دفعها إلى الزُّبيرِ بن العوَّامِ، قال: والذي يظهَرُ أنَّ عليًّا أُرسِلَ بنزعِهَا وأن يدخلَ بها، ثمَّ خَشيَ ◙ تغيُّرَ خاطرِ سعدٍ فأمَرَ بدفعها لابنِهِ، ثمَّ إنَّ سعداً خشيَ أن يقعَ من ابنه شيءٌ يُنكره النبيُّ، فسألَ النَّبيَّ أن يأخُذَها منه، فحينئذٍ أخذها الزُّبيرُ.
          (ثُمَّ جَاءَتْ كَتِيبَةٌ وَهْيَ أَقَلُّ الْكَتَائِبِ): ((أقَل)) بفتحِ القاف؛ أي: من حيثُ العَددِ (فِيهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلعم وَأَصْحَابُهُ): أي: من المهاجرينَ، وقال الكَرمانيُّ: قد ذَكَروا أنَّ كتيبَةَ رسُولِ الله صلعم كانت في خاصَّةِ المهاجرينَ.
          قال في ((التنقيح)) و((الفتح)) وغيرِهِما: قال عياضٌ: كذا وقَعَ للجميعِ بالقاف، ووقَعَ في ((الجمْع)) للحميديِّ: أجَلُّ، بالجيم بدل القافِ من الجلالَةِ.
          قال في ((المشارق)): وهي أظهَرُ، ولا يبعدُ صحَّة الأولى؛ لأنَّ عدد المهاجرينَ كان أقلَّ من عددِ غيرِهِم من القبائِلِ، ولذا قالَ في ((المصابيح)): لا رَيبَ أنَّ المرادَ قلَّةُ العدَدِ لا الاحتقار، هذا لا يظنُّ بمسلمٍ اعتقادُهُ ولا توهَّمهُ، فهذا وَجهٌ لا محيدَ عنه، ولا خيرَ فيه بهذا الاعتبارِ.
          قال: والتَّصرِيحُ بأنَّ النَّبيَّ ◙ كان في هذه الكتيبةِ التي هي أقَلُّ عدداً مما سواها من الكتائِبِ قاضٍ بجلالَةِ قدْرِها وعِظَمِ شأنِهَا، ورجحانِهَا على كلِّ شيءٍ سواها، ولو كان ملءَ الأرضِ بل أضعافَ ذلك، فما هذا الذي يُشَمُّ من نفس القاضِي في هذا المحلِّ، انتهى.
          وجملة: (وَرَايَةُ النَّبِيِّ) وللأصِيليِّ: <رسول الله> (صلعم مَعَ الزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ): حاليَّةٌ (فَلَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلعم بِأَبِي سُفْيَانَ، قَالَ): أي: أبو سفيانَ لرسُولِ الله (أَلَمْ تَعْلَمْ مَا قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ؟ قَالَ): أي: رسُولُ الله (مَا قَالَ؟): أي: سعدٌ.
          (قَالَ) أي: أبو سُفيانَ (قَالَ: كَذَا وَكَذَا): أي: اليوم يومُ الملحمَةِ، اليوم تستحَلُّ الكعبةُ، فـ((كذا وكذا)) كنايةٌ عن هاتينِ الجملتين (فَقَالَ): أي: رسُولُ اللهِ صلعم (كَذَبَ سَعْدٌ): قال العينيُّ: ((كذب)) أي: أخطَأَ سعدٌ، وقال في ((الفتح)): فيه إطلاقُ الكذِبِ على الإخبارِ بغيرِ ما سيَقعُ، ولو بناهُ قائلُهُ على غلبَةِ الظَّنِّ وقوَّةِ القرينَةِ.
          (وَلَكِنْ هَذَا يَوْمٌ يُعَظِّمُ): بكسر الظاء المشالةِ المشدَّدة (اللَّهُ فِيهِ الْكَعْبَةَ): أي: بإظهَارِ الإسلام والأذانِ على ظهرِهَا من بلالٍ، وإزالَةِ ما كان فيها من الأصنامِ، ومحوِ الصُّورِ المحرَّمةِ التي فيها، وغيرِ ذلك (وَيَوْمٌ تُكْسَى فِيهِ الْكَعْبَةُ): قال في ((الفتح)): قيل: إنَّ قريشاً كانت تكسُو الكَعبةَ في رمضانَ فصادفَ ذلك اليومَ، أو المرادُ بالـ((يوم)) الزَّمان كما قال: يوم الفتحِ، فأشارَ النَّبيُّ صلعم / إلى أنَّهُ هو الذي يكسُوهَا في ذلك العامِ، وهكذا وقعَ.
          (قَالَ): أي: عروةُ مُرسلاً (وَأَمَرَ): بالواو، وفي بعضها: بالفاء (رَسُولُ اللَّهِ صلعم أَنْ تُرْكَزَ): بالبناءِ للمفعولِ؛ أي: تغرَزَ (رَايَتُهُ بِالْحَجُونِ): بفتحِ الحاء المهملة وضمِّ الجيم الخفيفة فواو ساكنة فنون، موضِعٌ معروفٌ قريبٌ من مَقبَرَةِ مكَّةَ، وقال في ((التنقيح)): موضِعٌ بمكَّة قرِيبٌ إلى الصَّفا، فليتأمَّل، والمأمُورُ بغُرز الرَّايةِ في الحَجُون هو الزُّبيرُ بن العوَّام كما سيأتِي.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): المذكورُ في مرسلِ عروةَ هذا من القبائِلِ: غِفار وجُهينةُ وسعدُ بن هُذيم وسُليمٌ، وفي مرسلِ أبي سلمَةَ من الزِّيادةِ: أسلمُ ومزينةُ، ولم يذكرْ: سعدَ بن هُذيم، وهُمْ من قضاعَةَ، ثم قال: وذكرَ الواقِديُّ في القبائِلِ أيضاً: أشجع وأسلم وتمِيماً وفزارة، انتهى.
          فجُملتها تسعُ قبائِلَ، وبقيَ من الكتائِبِ الأنصَارُ والمهاجِرُون.
          (قَالَ): ولأبي ذَرٍّ: <وقال> (عُرْوَةُ): أي: ابنُ الزُّبيرِ بن العوَّام؛ أي: بالسَّندِ السَّابق، كما قالَ القسطلَّانيُّ (وَأَخْبَرَنِي): بالإفرادِ، والواو في ((اليونينية))، وبالفاء في غيرها (نَافِعُ): بفتحِ النون وكسرِ الفاء (ابْنُ جُبَيْرِ): مصغَّر: جبر، بالجيم (ابْنِ مُطْعِمٍ): اسم فاعلٍ، من أطعَمَ.
          (قَالَ: سَمِعْتُ الْعَبَّاسَ): أي: عمَّ رسُولِ الله (يَقُولُ لِلزُّبَيْرِ بْنِ الْعَوَّامِ): بفتح العين وتشديد الواو؛ أي: بعدَ فتح مكَّةَ في خلافَةِ عمرَ أو غيرِهِ كما يأتِي (يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ) كنَّاهُ بابنِهِ عبد الله بن أسماء الصِّدِّيقيَّة (هَاهُنَا): بتقديرِ همزَةِ الاستفهام (أَمَرَكَ): بتخفيف الميم وفتحات (رَسُولُ اللَّهِ صلعم أَنْ تَرْكُزَ): بفتح الفوقيَّة وضمِّ الكاف، وفي بعضِ الأصولِ: <تُركِز> بضمِّ الفوقيَّة وكسر الكاف (الرَّايَةَ): أي: رايتَهُ ◙ يوم فتحِ مكَّةَ.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): هذا السَّياق يُوهِمُ أنَّ نافِعاً حضَرَ المقالةَ المذكُورةَ يوم الفتحِ، وليس كذلك فإنَّه لا صحبَةَ له، ولكنَّه محمُولٌ على أنَّه سمِعَ العبَّاس يقول للزُّبيرِ ذلك بعْدُ في حجَّةٍ اجتمعوا فيها في خلافَةِ عمرُ أو عثمان، ويحتملُ أن التقديرَ: سمعتُ العباسَ يقول: قلتُ للزبير... إلخ، فحذف: قلت.
          (قَالَ): أي: عروةُ بن الزُّبيرِ، وعبارةُ ((الجمع بين الصحيحين)) معزيًّا للبُخاريِّ: فقال العبَّاسُ للزُّبيرِ: يا أبا عبدِ الله، أهاهنا أمركَ رسُولُ اللهِ صلعم أن تركزَ الرَّايةَ؟ قال: نعم، انتهى.
          وبه يُعلمُ أنَّ فيما هنا حذْفُ: قال نعم، فاعرفْهُ.
          قال في ((الفتح)): ظاهرُهُ الإرسالُ في الجمِيعِ، إلا في القَدْرِ الذي صرَّحَ عروةُ بسماعِهِ من نافعِ بن جبيرٍ، وأمَّا باقِيهِ فيحتمَلُ أنَّ عروةَ تلقَّاهُ عن أبيه، أو عن العبَّاسِ فإنَّه أدركَهُ صغيراً، أو جمعَهُ من نقلِ جماعَةٍ بأسانيدَ مختلفَةٍ وهو الرَّاجِحُ، انتهى فتأمَّلهُ.
          (وَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلعم يَوْمَئِذٍ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ): الواوُ في: ((وأمَرَ)) للعطف على: أمرنِي مقدَّراً بعد: ((قال))؛ أي: نعم أمرَنِي أن أركزَ الرَّايَةَ، وأمرَ خالدَ بن الوليد (أَنْ يَدْخُلَ): بضمِّ الخاء / المعجمة (مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ مِنْ كَدَاءٍ): بفتحِ الكافِ والدال المهملةِ والمدِّ، بيانٌ لسابقِهِ.
          (وَدَخَلَ النَّبِيُّ صلعم مِنْ كُدَا): بضمِّ الكافِ والقصر؛ أي: من أسفلِ مكَّةَ، قال صاحب ((الفتح)) وغيرُهُ: هذا مخالِفٌ للأحادِيثِ الصَّحيحةِ الآتيةِ إن شاءَ اللهُ تعالى، أنَّ خالدَ بن الوليد دخلَ من أسفل مكَّةَ، ودخل النَّبيُّ صلعم من أعلاها، وجزمَ ابنُ إسحاقٍ به، وساقه مُوسَى بن عقبةَ سياقاً واضِحاً، فقال: وبعَثَ رسُولُ اللهِ صلعم الزُّبيرَ بن العوَّامِ على المهاجرِينَ وخيلِهِم، وأمرَهُ أن يدخُلَ من كُدَا من أعلى مكَّةَ، وأمرَهُ أن يغرزَ رايتَهُ بالحَجونِ، ولا يبرحَ حتى يأتيه، وبعثَ خالدَ بن الوليد في قبائل قُضاعَة وسليم وغيرِهِم، وأمرَهُ أن يدخُلَ من أسفلِ مكَّةَ، وأن يغرزَ رايتَهُ عند أدنى البُيُوتِ، وبعثَ سعدَ بن عبادةَ في كتيبَةِ الأنصارِ في مقدمَةِ رسُولِ اللهِ صلعم وأمرَهُم أن يكفُّوا أيديهم ولا يقاتلوا إلا مَنْ قاتلَهُم.
          قال في ((الفتح)): روى البَيهقيُّ بإسنادٍ حسنٍ من حديثِ ابن عُمرَ قال: لما دخَلَ رسُولُ اللهِ صلعم مكَّةَ عام الفتحِ رأى النِّساءَ يلطمْنَ وجُوهَ الخيلِ بالخُمُرِ، فتبسَّمَ إلى أبي بكرٍ، فقال: ((يا أبا بكرٍ، كيف قال حسَّانُ؟)) فأنشدَهُ قولَهُ:
عدمْتُ بُنيَّتِي إِنْ لم يرَوْها                     تُثِيرُ النَّقعَ مَوعِدُها كَداءٌ
ينازِعْنَ الأسنَّة مُسرَجاتٍ                     يُلَطِّمُهُنَّ بالخُمُرِ النِّسَاءُ
          فقال: ((أدخِلُوها من حيثُ قال حسَّانُ)).
          (فَقُتِلَ): بالبناءِ للمَفعولِ (مِنْ خَيْلِ خَالِدٍ): أي: من ركابِ خيلِهِ؛ لقولِهِ: ((رجلان)) ولأبي ذَرٍّ والأصيليِّ وابنِ عساكِرَ: <خالد بن الوليد> ☺ (يَوْمَئِذٍ): أي: يومَ فتح مكَّةَ (رَجُلاَنِ): نائبُ فاعلِ: ((قُتِلَ))، وما بعدهما بدلٌ مفصَّلٌ من مجمَلٍ أو عطفُ بيانٍ.
          وقال الدَّمامينيُّ: وقع في بعضِ النُّسخِ بنصبِ: ((رجلين))، وهو يتخرَّجُ على رأي الكوفيِّين في إقامةِ غير المفعولِ به مقامَ الفاعِلِ مع وجُودِ المفعولِ به.
          (حُبَيْشُ بْنُ الأَشْعَرِ): بالحاءِ المهملةِ والموحَّدة فتحتيَّة ساكنة فشين معجمة، تصغيرُ: حبش، قال في ((الفتح)): وعندَ ابنِ إسحاقَ: ((خُنيس)) بخاء معجمةٍ فنون فتحتيَّة فسين مهملة، ابنُ الأشعَرِ، وهو لقبٌ لخالِدِ بن سعد بنِ منقذِ بن ربيعَةَ الخزاعيِّ، قال: وهو أخو أمِّ معبدٍ التي مرَّ النَّبيُّ صلعم بها مهاجراً.
          وقال في ((التنقيح)): والأوَّلُ أصحُّ، ثمَّ قال: والأشعَرُ عند ابن الكلبيِّ: حبيش، وعند ابنِ سعدٍ وغيرِهِ: هو خالدٌ أبوهُ، وهو المقتول مع كرز لا ابنه حبيش، انتهى فتدبَّر.
          (وَكُرْزُ): بضمِّ الكافِ وسكونِ الراء وبالزاي (ابْنُ جَابِرٍ): أي: ابن حِسْل: بحاء فسين، بمهملتين أُولاهما مكسُورةٌ وثانيتهما ساكنةٌ (الْفِهْرِيُّ): بكسرِ الفاء وسكونِ الهاء، وكانَ من رؤساءِ المشركينَ، وهو الذي أغارَ على سرحِ النَّبيِّ صلعم في غزوةِ بدرٍ الأولى، ثمَّ أسلَمَ قديماً وبعثَهُ النَّبيُّ صلعم في طلبِ العُرنيين.
          قال في ((الفتح)): وذكرَ ابن إسحاقَ: أنَّ هذينِ الرَّجلين سلَكَا طريقاً فشذَّا عن عسكَرِ خالدٍ، فقتلهما المشركُونَ يومئذٍ، وذَكَرَ أيضاً: أنَّ أصحابَ خالدٍ لقُوا ناساً من قريشٍ منهم سُهيلُ بن عمرو، وصفوانُ / بن أميَّة كانوا تجمَّعُوا بالخَنْدمةِ بالخاء المعجمة والنون، مكانٌ أسفل مكَّةَ ليقاتلوا المسلمينَ فتناوشُوهُم شيئاً من القتالِ، فقُتِلَ من خيلِ خالدٍ مسلمةُ بن الميلاءِ الجهنيِّ، وقُتِلَ من المشركينَ اثنا عشر رجلاً، أو ثلاثَةَ عشرَ وانهزَمُوا، وفي ذلك يقُولُ قائِلهُم يخاطِبُ امرأتَهُ حين لامتْهُ على الفَرارِ من المسلمينَ:
إنَّكِ لو شَهدْتِ يومَ الخَنْدَمَةِ                     إذْ فرَّ صَفْوانُ وفرَّ عِكْرِمهْ
واستَقْبَلتْنا بالسُّيوفِ المُسلِمَهْ                     يقطَعْنَ كلَّ سَاعدٍ وجُمجُمَهْ
ضَرْباً فلا تُسمَعُ إلَّا غمغَمَهْ                     لم تنْطِقِي في اللُّوَّمِ أَدْنى كلمَهْ
          وروى موسى بن عقبةَ: أنَّ خالدَ بن الوليدِ دخَلَ من أسفلِ مكَّةَ، وقد تجمَّعَ بها بنو بكرٍ وبنو الحارثِ بن عبدِ مناةٍ، وناسٌ من هذيلٍ والأحابيشِ الذين استنصرَتْ بهم قريشٌ، فقاتلوا خالداً فقاتَلَهُم فانهزَمُوا، وقُتِلَ من بني بكرٍ نحو عشرينَ رجلاً، ومن هذيل ثلاثةٌ أو أربعةٌ حتَّى انتهى بهم القَتلُ إلى باب المسجِدِ، ودخلوا الدُّورَ وارتفعت طائفةٌ منهم على الجِبالِ، ونظَرَ رسُولُ اللهِ صلعم إلى البارقَةِ، فقال: ((ما هذا، وقد نهيْتُ عن القِتالِ)) فقال: نظنُّ أنَّ خالداً بُدِئَ بالقتالِ، فلم يكن له بدٌّ من القتالِ، ثمَّ قال رسُولُ الله لخالدٍ: ((لِمَ قاتلْتَ، وقد نهيتُكَ عن القتالِ)) فقال: هم بدؤونا بالقتالِ ووضعوا فينا السِّلاحَ، وقد كففْتُ يدي ما استطعْتُ، فقال ◙: ((قضَاءُ اللهِ خَيرٌ)).
          وذكر ابنُ سعدٍ: أنَّ عدَّةَ من قُتِلَ من الكفَّار أربعةٌ وعشرون رجلاً من هذيلٍ أربعةٌ، وقيل: ثلاثة عشَرَ، وروى الطَّبرانيُّ من حديثِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّه قال: خطَبَ رسُولُ اللهِ صلعم فقال: ((إنَّ اللهَ حرَّمَ مكَّةَ...)) الحديث، فقيلَ له: هذا خالِدُ بن الوليدِ يقتُلُ، فقال: ((قمْ يا فلانُ، فقل له فليرفِعِ القتْلَ)) فأتاه الرَّجلُ فقال له: إنَّ نبيَّ الله يقولُ لك: ((اقتُلْ من قدرْتَ عليه)) فقتلَ خالِدٌ سبعين، ثمَّ اعتذرَ الرَّجلُ إليه فسكَتَ، وأهدرَ يومئذٍ ◙ دمَ تسعَةٍ، كذا في ((الفتح)) وأطالَ.
          ومنه أن مكَّةَ فُتِحتْ عنوةً عند الأكثرِ، وروي عن الشَّافعيِّ وأحمدَ: أنَّها فتحتْ صُلحاً، وذهبت طائفَةٌ منهم الماورديُّ إلى أنَّ بعضَها فُتِحَ عنوة لمَا وقع من قصَّةِ خالدٍ، والبعضُ الآخر فُتِحَ صلحاً، وعلى كلِّ حالٍ لم يقَعْ فيها سبيٌ لأهلها ولا غنيمةٌ لتُقسَم، ومن ثمَّ بقيَتْ دورها على مِلْكِ أهلها.