الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: أن النبي دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه المغفر

          4286- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ): بفتحِ القاف والزاي والعينِ المهملة، هو المؤذِّن المكِّي، قال: (حَدَّثَنَا مَالِكٌ): أي: المجتهدُ (عَنِ ابْنِ شِهَابٍ): أي: الزُّهريِّ (عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ): أي: خادمِ رسولِ الله (☺ أَنَّ النَّبِيَّ صلعم دَخَلَ مَكَّةَ يَوْمَ الْفَتْحِ): أي: يوم فتحها كما مرَّ.
          وجملةُ: (وَعَلَى رَأْسِهِ الْمِغْفَرُ): حاليَّةٌ، و((المغفر)) بكسرِ الميم وسكونِ الغين المعجمةِ وفتح الفاء فراء، زردٌ من الدُّروعِ يعملُ على قدْرِ الرأس ليُلْبَسَ تحت القلنسوةِ، وفي روايةٍ لمالكٍ: مغفرٌ من حديد.
          (فَلَمَّا نَزَعَهُ): أي: المغفرَ (جَاءَ رَجُلٌ): لم يسمَّ، ولأبي ذَرٍّ: <جاءه رجل> (فَقَالَ ابْنُ خَطَلٍ): مبتدأ ومضاف إليه، وفي بعض الأصولِ: <أن ابن خطل>، واسمه: عبدُ الله، وخَطَل بفتح الخاء المعجمة والطاء المهملة واللام في الأصل كما في ((القاموس)): الخفَّةُ والسُّرعةُ والكلامُ الفَاسِدُ الكثيرُ، انتهى.
          وكان ابن خطل قد أسلمَ ثم ارتَدَّ، وقتلَ قتلى بغير حقٍّ، وكانت له قينتان تغنِّيانِ بهجاءِ النَّبيِّ صلعم، وكان هو أيضاً يهجو رسُولَ الله صلعم بالشِّعرِ.
          (مُتَعَلِّقٌ): اسم فاعلٍ من: تعلَّقَ، بتشديدِ اللَّام، خبر المبتدأ، والجملةُ مقولُ: ((قال)) (بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ): بفتحِ الهمزةِ، جمع: سِتْر؛ أي: بما يسترُهَا من خارجٍ، أرادَ بذلك الحمايَةَ من القتلِ (فَقَالَ): أي: رسُولُ اللهِ صلعم للرَّجلِ (اقْتُلْهُ): وتقدَّمَ في الحجِّ بلفظِ: ((اقتلُوهُ)) بالجمع، وعند الدَّارقطنيِّ: ((من رأى منكُم ابنَ خطل فليقتلْهُ))، وتقدَّمَ في الحجِّ أنَّ النَّبيَّ ◙ أهدَرَ يومئذٍ دمَ جماعَةٍ هذا منهم.
          قال في ((الفتح)): وعند ابن شبَّةَ في كتاب ((مكة)) من حديث السَّائبِ بن يزيد قال: رأيتُ رسُولَ اللهِ صلعم استخرجَ من تحت أستارِ الكعبةِ عبدَ الله بن خطلٍ، فضربَ عنقَهُ صبراً بين زمزمَ ومقامِ إبراهيمَ، وقال: ((لا يُقتَلَنَّ قرشِيٌّ بعدَ هذا صَبراً)) ورجالُهُ ثقاتٌ، إلا أنَّ في أبي معشر مقالاً، انتهى.
          وقال أيضاً: واختلَفَ في قاتلِهِ، فجزم ابنُ إسحاقَ بأنَّ سعيدَ بن حريثٍ، وأبا برزةَ الأسلمي اشتركا في قتلِهِ، وحكى الواقِديُّ فيه أقوالاً: منها أنَّ قاتلَهُ شريك بن عبدةَ العجلاني، ورجَّحَ أنَّه أبو برزةَ، انتهى.
          واستُدِلَّ بقتل ابن خطلٍ وهو متعلِّقٌ بأستارِ الكَعبةِ على أنَّها لا تعِيذُ من / وجبَ عليه القتل، وأنَّه يجوزُ قتلُ من وجبَ عليه القتل في الحرَمِ، ونظرَ فيه في ((الفتح)): بأنَّ المخالفين تمسَّكُوا بأنَّ ذلك إنَّما وقع في الساعةِ التي أُحِلَّ فيها للنَّبيِّ ◙ القتالُ بمكَّةَ، وقد صرَّحَ ◙ بأن حرمتَها عادَتْ كما كانت، والسَّاعةُ المذكورةُ وقَعَ عند أحمدَ أنَّها من صبيحةِ يوم الفتحِ إلى العصرِ.
          (قَالَ مَالِكٌ): أي: بالسَّندِ المذكورِ (وَلَمْ يَكُنِ النَّبِيُّ صلعم فِيمَا نُرَى): بالبناء للمفعولِ، ويحتملُ بناؤه للفاعِلِ، وعليهما فالمرَادُ: فيما نظنُّ (وَاللَّهُ أَعْلَمُ يَوْمَئِذٍ): أي: يوم فتحِ مكة (مُحْرِماً): بالنَّصب خبرُ: ((لم يكن)) المتعلِّقُ به بالظَّرفِ، والأولى تعلُّقُهُ بـ((لم يكن))، والجملةُ المصدَّرةُ بلفظ الجلالةِ: معترضَةٌ، واستدلوا على كونِهِ لم يكُنْ ◙ محْرِماً بأنه لم ينقل أحد أنه ◙ محلل من إحرام يومئذٍ، ولا يجري فيه القولُ الضعيفُ بأن من دخلَ مكَّةَ غير مريدٍ للنُّسُك يجبُ عليه الإحرام بأحدِ النُّسكين؛ لأنَّ محلَّ جريانِهِ إذا لم يكُنْ دخلَها لقتالٍ مباحٍ، ولم يكن يتكرَّرُ دخولُهُ كحطَّابٍ وصيَّادٍ، كما صرَّحَ بذلك الفقهاءُ.