الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري

حديث: قاتلهم الله لقد علموا ما استقسما بها قط

          4288- وبالسند قال: (حَدَّثَنَا): بالجمع للأصيليِّ وابن عساكرَ (إِسْحَاقُ): أي: ابن منصورٍ الكوسجِ، قال: (حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ): أي: ابن عبد الوارِثِ بن سعيدٍ التَّنوريُّ (قَالَ: حَدَّثَنِي): بالإفرادِ (أَبِي): بكسرِ الموحدة، قال في ((الفتح)): سقَطَ من روايةِ الأصيليِّ، ولا بدَّ منه، قال: (حَدَّثَنَا): بالجمع لغيرِ أبي ذَرٍّ (أَيُّوبُ): أي: السَّختيانيُّ (عَنْ عِكْرِمَةَ): بكسرِ العين.
          (عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ أَنَّ النَّبِيَّ): وفي أكثرِ الأصُولِ: <أن رسول> (صلعم لَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ): أي: وقتَ الفتحِ (أَبَى): بفتحِ الموحَّدة؛ أي: امتنعَ (أَنْ يَدْخُلَ الْبَيْتَ): أي: الكعبَةَ، وجملةُ: (وَفِيهِ الآلِهَةُ): حاليَّةٌ، والمرادُ: الأصنَامُ التي تسمِّيهَا المشركونَ: آلهةً.
          (فَأَمَرَ): بفتحات (بِهَا): أي: بالآلهة (فَأُخْرِجَتْ): بالبناء للمفعولِ؛ أي: من البيتِ (وَأَخْرَجَ): بالواو، وفي بعض الأصُولِ: بالفاء؛ أي: النَّبيُّ صلعم، بفتح الهمزة والراء في الفرعِ، وفي أصلِهِ: بضم الهمزة وكسر الراء.
          (صُورَةَ): بالصَّاد المهملة؛ أي: مثالَ (إِبْرَاهِيمَ): أي: الخليل (وَإِسْمَاعِيلَ): أي: ولده ♂، فإنَّ المشركينَ صوَّرُوا صورتَهُما، وجعلوها في الكعبَةِ (فِي أَيْدِيهِمَا مِنَ الأَزْلاَمِ): بفتحِ الهمزةِ وسكونِ الزاي، جمع: زَلَم، كسَبَب، وهي السِّهامُ التي كان المشركون يستَقسِمونَ بها الخيرَ والشَّرَّ، وتسمَّى القداح مكتوبٌ على بعضها: افعَلْ، وعلى بعضٍ آخرَ: لا تفعَلْ، فإذا أرادَ أحدُهُم فعلَ شيءٍ، أدخَلَ يده فأخرَجَ منها واحداً، فإن خرَجَ: افعَلْ، مضَى لشأنِهِ، وإن خرجَ: لا تفعَلْ، ترك الفعلِ.
          وقال ابنُ الأثيرِ: كان على بعضِهَا مكتُوبٌ: أمرَنِي ربِّي، وعلى الآخرِ: نهانِي ربِّي، وعلى الآخَرِ: غفل، فإن خرَجَ: أمرَنِي ربِّي مضَى لشأنِهِ، وإن خرجَ: نهانِي أمسَكَ، وإن خرج: الغفل أعادَ وضرَبَ بها آخرُ إلى أن يخرجَ الأمرُ، أو النَّهي.
          تنبيه: قال في ((الفتح)): وقَعَ في حديثِ جابرٍ عند ابنِ سعدٍ وأبي داودَ: أنَّ النَّبيَّ صلعم أمرَ عمر بن الخطَّاب وهو بالبطحاءِ أن يأتي الكَعبةَ فيمحُو كلَّ صورةٍ فيها، فلم يدخلها ◙ حتى مُحِيتِ الصُّورُ، قال: وكان عمرُ هو الذي أخرجَهَا، قال: والذي يظهرُ أنَّه محا ما كان من الصُّورِ مدهوناً، وأخرَجَ ما كان مخرُوطاً، قال: وأما حديثُ أسامَةَ المتقدِّم في الحجِّ: أنَّ النَّبيَّ صلعم دخل الكعبةَ فرأى صورةَ إبراهيم فدعا بماءٍ فجعَلَ يمحوها، فهو محمُولٌ على أنه بقيَتْ بقيَّةٌ خفيَتْ على من محاها أولاً.
          وحكى ابن عائذٍ في ((المغازي)): أنَّ صورةَ عيسى / وأمَّهُ بقيتا حتى رآهُمَا بعضُ من أسلمَ من نصارى غسَّان، فقال: إنَّكما لببلاد غربة، فلمَّا هدمَ ابنُ الزُّبير البيتَ ذهَبَتا فلم يبقَ لهما أثرٌ.
          وأطنبَ ابنُ شبَّة في كتاب ((مكة)) في تخريجِ طُرُقِ هذا الحديثِ، وذكر فيه أنَّ عطاءَ قال: أدركْتُ في الكعبةِ تماثيل مريمَ في حجرها ابنها عيسى مزوقاً، وكان ذلك في العمودِ الأوسَطِ الذي يلِي البابَ، وذهبَ ذلك في الحريقِ، وأخرجَ فيه عن أسامةَ أنَّ النَّبيَّ صلعم دخلَ الكعبَةَ فأمرني فأتيتُهُ بماءٍ في دلوٍ، فجعل يبلُّ الثَّوب ويضربُ به على الصُّورِ، ويقولُ: ((قاتَلَ اللهُ قَوماً يُصوِّرُون ما لا يخلقُونَ)).
          (فَقَالَ): أي: النَّبيُّ ◙ (قَاتَلَهُمُ اللَّهُ): أي: لعنَ الله المشركِينَ وطرَدَهم عن رحمتِهِ (لَقَدْ عَلِمُوا مَا اسْتَقْسَمَا): أي: إبراهيمُ وولدُهُ إسماعيلُ ♂ (بِهَا): أي: بالأزلامِ (قَطُّ): أي: في الزَّمانِ الماضِي؛ أي: لم يفعلا بها الاستقسامَ، وهو طلبُ ما قدِّرَ منها مما لم يقدَّرْ كما كانت الجاهليَّةُ؛ لأنَّهما معصُومانِ من فعل المحرَّماتِ التي هذا منها.
          (ثُمَّ دَخَلَ): أي: النَّبيُّ ◙ بعد إخراجِ التَّماثيلِ (الْبَيْتَ): أي: الكعبةَ، بعد إخراجِ الصُّورِ منها (فَكَبَّرَ): أي: فقالَ: الله أكبرُ؛ لأنَّه لائِقٌ بالحالِ (فِي نَوَاحِي الْبَيْتِ): أي: في جوانبِهِ الأربعِ، جمعُ: ناحيةٍ (خَرَجَ): أي: منه، وفي أكثرِ الأصُولِ: <وخرج> بالواو.
          (وَلَمْ يُصَلِّ فِيهِ): سيأتي في الباب بعدَهُ أنَّ بلالاً أثبت صلاةَ النَّبيِّ ◙ في البيتِ، والمثبِتُ مقدَّمٌ على النافي، ويحتمل تعدُّدُ الدُّخولِ، فلا منافاة، فليتأمَّل.
          وسبق الحديثُ في الحجِّ وغيره.
          (تَابَعَهُ): أي: تابع عبدَ الصَّمد (مَعْمَرٌ): أي: ابنُ راشِدٍ، وصلها أحمدُ (عَنْ أَيُّوبَ): أي: السَّختيانيِّ (وَقَالَ): سقطَتْ الواوُ لأبي ذَرٍّ (وُهَيْبٌ): مصغَّر: وَهب؛ أي: ابن خالدٍ (حَدَّثَنَا أَيُّوبُ): أي: المذكورُ.
          (عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلعم): يعني: أنَّ عكرمَةَ أرسلَهُ لإسقاطِهِ ابنَ عبَّاس، ووقَعَ في نسخةِ الصَّغاني إثباتُهُ فيكون موصُولاً، وهو أرجحُ من المرسَلِ؛ لاتِّفاقِ عبد الوارثِ ومعمر على ذلك عن أيُّوب، قالَهُ في ((الفتح)).