اختَلَفَ الأُصُولُ في وُجُودِ لَفظِ (الباب)؛ إذْ سَقَطَ في رِوَايَةِ أَبي ذَرٍّ والأَصِيْلِيِّ مِن رُوَاةِ هذا الكِتَابِ.
ثمَّ على تَقدِيرِ(1) ثُبُوتِهِ جُوِّزَ تُنوينُهُ، وكذا إضافَتُهُ، وتَسكِينُهُ، إمَّا على إِسقاطِ (الباب) والاكتِفاءِ بالتَّرْجَمَةِ في أوَّلِ الكِتَابِ؛ على ما يُشهَدُ لَهُ أنَّ الكِتَابَ يَستَتبِعُ البَابَ، وكِتَابُ الإِيمانِ مُؤَخَّرٌ عن فَصلِ الخِطَابِ(2)، وإنَّما وَقَعَ هَذا البَابُ تَوطِئَةً وتَقدِمَةً لِلدُّخُولِ في الكِتَابِ على وَجهِ الصَّوابِ.
وعلى كُلِّ الحِسَابِ: فإِعرَابُ مَا بَعدَهُ هو أنَّ (كيف) في محلِّ الانتِصابِ على أَنَّهُ خَبَرُ (كانَ) إنْ كانت ناقِصةً، وعلى كَونِها حالًا إنْ كانت تَامَّةً، وتَقدِيمُها واجِبٌ في هذا المَقَامِ؛ لِأَنَّ الاستِفهَامَ له صَدرُ الكلامِ.
وأمَّا على تَقديرِ وُجُودِ (الباب) _وهو أَقرَبُ إِلَى الصَّوابِ، وعَلَيهِ أَكْثَرُ رُوَاةِ الكِتَابِ_ فهو مَرفُوعٌ على أَنَّهُ خَبَرُ مُبتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وهو بهذا مَشهُورٌ ومَعرُوفٌ، فإِنْ قُرِئَ بِلَا تَنوِينٍ _على إِضافَتِهِ إِلَى ما بَعدَهُ مِنَ الكَلامِ_ يُقَدَّرُ مُضافٌ؛ لِيَتِمَّ المَعنَى المَقصُودُ منَ المَبنَى المُرامِ، أَيْ: هذا (بَابُ جوابِ كيفَ كانَ)، أو (بابُ بَيَانِ كَيفَ كَانَ)، فإنَّ أَمرَهُ كَريمُ الشَّأنِ، عظيمُ البُرهَانِ.
وسَبَبُ التَّقديرِ: أنَّ لَفظَ / (الباب) لا يُضافُ إلى الجُملةِ على الصَّوابِ، ولَعلَّ هذا مُرادُ مَنْ قالَ في الاعتِذارِ عنِ الإِشكَالِ: إِنَّ الإِضافةَ إِلَى الجُملَةِ كَلَا إِضافَةٍ(3) في المَآلِ، واللهُ أَعلَمُ بِالحَالِ.
وإنْ قُرِئَ كَلِمَة (باب) مُنَوَّنةً تُقَرَّرُ الجُملَةُ بعدَهُ استِئنَافًا مُشْعرًا بِمَا يُرادُ مِنَ التَّرجَمةِ.
وأمَّا على تَقديرِ تَجويزِ التَّسكينِ فيهِ _لِمَا وَقَعَ في بعضِ النُّسَخِ عَلَيهِ مِنَ التَّنبيهِ_ فهُوَ بِصُورَةِ الوَقْفِ على جِهَةِ التَّعْدادِ للأَبوابِ، لكنْ لا يَخفَى بُعدُهُ على أُولِي الأَلبابِ؛ إِذْ لَيسَ بَعدَه بابٌ وراءَ (البابِ)، بل (كِتَاب) مُضافٌ إِلَى (الإِيمان) في جَميعِ نُسَخِ الكِتَابِ، وإِنَّما يُقَالُ التَّعدادُ فيما تكَرَّرَ مِنَ المَعنَى المُرَادِ، نحو: (ألفْ، باءْ، تاءْ، ثاءْ)، و: (زيدْ، بَكرْ، عَمرْو)؛ و(مَامَا، بابا).
ثمَّ اعْلَمْ أَنَّهُ رُوِيَ (بَدْء) بالهَمزِ بعدَ سُكُونِ الدَّال، مِنَ الابتِدَاءِ في الحُضُورِ، وبِلَا هَمزٍ معَ ضَمِّ المُوَحَّدَةِ وتَشديدِ الواوِ، بِمَعنَى الظُّهُور، ذكرَهُ القَاضِي عِيَاضٌ _جَعَلَ اللهُ مَثوَاهُ الرِّيَاضَ_.
وقالَ شَيخُ مَشَايِخِنَا الحافِظُ الحُجَّةُ العَالِمُ الرَّبَّانِيُّ شِهابُ الدِّينِ أَحمَدُ بنُ حَجَرٍ العَسْقَلانِيُّ: ويُرَجِّحُ الأَوَّلَ: أَنَّهُ وَقَعَ في بَعضِ الرِّوَايَاتِ (كَيْفَ كَانَ ابْتِدَاءُ الوَحْيِ). فهو بِالاعتِبَارِ أَكمَلُ، وبِالاختِيَارِ أَجمَلُ.
وقالَ الزَّرْكَشِيُّ: الأَحسَنُ الهَمزُ؛ لأَنَّهُ يَجمَعُ المَعْنَيَيْنِ.
قلتُ: وبِهِ يَحصُلُ الجَمعُ بينَ المَبْــنَـــيَيْنِ، وهو مَقصِدٌ حَسَنٌ، وله مَأْخَذٌ مُسْتَحسَنٌ؛ لِأَنَّهُ يَلزَمُ مِنَ الابْتِدَاءِ البُدُوُّ(4) بِلا خَفَاءٍ، بِخِلافِ عَكسِهِ، فإِنَّه لا يَلزَمُ مِنَ (البُدُوِّ) الابتِدَاءُ.
لكنْ قَد يُقَالُ: إِنَّ في (البُدُوِّ) أَيضًا _في الجُملَةِ_ يُعتَبَرُ مَعنَى (البَدَاءَةِ)، ويُؤَيِّدُهُ ما في (القَامُوس) في مُعتَلِّ المَادَّةِ: بَدَاوَةُ الشَّيءِ: أَوَّلُ ما يَبْدُو مِنهُ، ومِنهُ(5) قَولُه تَعالى: {وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ} [هود:27]، فإِنَّهُ قَرَأَهُ بِلَا هَمزٍ المَكِّيُّ والمَدَنِيُّ والشَّامِيُّ والكُوفِيُّ، وإِنَّما انفَرَدَ بِقِرَاءَةِ الهَمْزِ أبو عَمْرٍو البصْرِيُّ.
قال الجَعْبَرِيُّ: وَجْهُ هَمْزِ (بَادِئ) أَنَّه اسمُ فاعِلٍ مِن (بَدَأَ) المَهمُوز، أي: اتَّبَعُوكَ بِابتِدَاءِ رَأِيِهِمْ، ووَجهُ الياء أَنَّهُ: مِن (بَدَاَ) المُعتَلِّ، بِمَعنَى (ظَهَرَ)، أي: اتَّبَعُوكَ في ظَاهِرِ رَأيِهِم دُونَ بَاطِنِهِم، أو مُخَفَّفٌ منَ المَهمُوزِ، وهو مَعنَى قَولِ الفَرَّاءِ: إنْ شِئتَ قَلَبْتَ فَخَفَّفْتَ، وإِنْ شِئتَ جَعَلْتَهُ مِنْ (بَدَوْت) فَحَقَّقْتَ. وهَذانِ مُوَافِقَانِ يَعنِي في / المَعْنَى لا يَتَضَايِقَانِ، بلْ هُمَا مَرَادَفان.
ثمَّ قالَ الجَعْبَرِيُّ: واختِيَارُ (اليَاءِ)؛ لِعُمُومِه. يَعنِي: للبَدْءِ وغيرِهِ.
وبِهَذا يَتَبَيَّنُ أنَّ (البُدُوَّ) بالوَاوِ أَيضًا يَتَضَمَّنُ(6) المَعْنَيَيْنِ، ويَرتَفِعُ الشَّمْلُ بِجَمعِ المَبْنَيَيْنِ، مع جَوازِ أنْ يُقالَ في رِوَايَةِ (البُدُوِّ) _بِتَشدِيدِ الوَاوِ_ أنْ يكونَ أَصلُهُ (واوًا)، وهو ظاهِرٌ عندَ أَربَابِ الكَمَالِ، وأنْ يكُونَ أَصلُهُ هَمزَةً فَخُفَّفَتْ(7) بالإِبْدَالِ، ثمَّ كَمُلَ بإِدْغَامِهِ الإِعْلَالُ، فـــ(البُدُوُّ) أَيضًا يَجمَعُ المَعْنَيَيْنِ، فَلَا يَبْقَى تَرجيحٌ لإِحدَى الحُسْنَيَيْنِ.
ثُمَّ لا يَخفَى أنَّ الوَحْيَ لُغَةً: هو الإِعلامُ على طَريقِ الإِخفاءِ، وقِيلَ: أَصلُهُ التَّفهِيمُ على وَجْهِ الجَلَاءِ.
وشَرْعًا: هو الإِعْلامُ بالشَّرْعِ، سواءٌ فيه الأَصلُ والفَرْعُ، وقد يُطلَقُ ويُرادُ به اسمُ المَفعُولِ، فيَصِيرُ مَعنَاهُ: المُوحَى المَنقُولُ، وهو: الكَلامُ المُنَزَّلُ على النَّبِيِّ صلعم وشَرَّفَ وعظَّمَ وكَرَّمَ.
ثمَّ بَيَانُ أَنواعِ الوَحْيِ وكَيفِيَّاتِهِ لا يَتِمُّ إلَّا بالإِطَالةِ، فَتَرَكْنَاهُ مَخَافَةَ السَّآمَةِ والمَلَالَةِ.
وأَمَّا قَولُ البُخَارِيِّ بَعدَما ذُكِرَ مِنَ التَّرجَمَةِ: (وقولُِ اللهِ) فيَتَعَيَّنُ رَفعُهُ بالابتِدَاءِ، على تقديرِ عَدَمِ (الباب) _كَما في بَعضِ نُسَخِ الكِتَابِ_، وأمَّا على تَقديرِ ثُبُوتِهِ وتَنوِينِهِ فَيكونُ عَطفًا على الجُملَةِ؛ لِأَنَّها في مَحلِّ رَفعٍ في الجُملَةِ، وأمَّا على تقديرِ إِضافَتِهِ فيكونُ مَجرُورًا بالعَطفِ على المُضافِ إِلَيهِ، وهو: (كَيفَ)، فإِنَّها في مَوضِعِ خَفضٍ، ولا غُبَارَ عَلَيهِ، لكنْ لا بُدَّ مِن تَقديرِ مُضافٍ آخَرَ _كَمَا يَظهَرُ لِمَن يَتأَمَّلُ في المَعنَى ويَتدَبَّرُ_ أيْ: و (بابُ مَعنَى قَولِ اللهِ)، أو (بابُ ذِكْرِ قَولِ اللهِ)، ولا يُقدَّرُ هُنَا الكَيِفِيَّةُ؛ إِذْ لا يُكَيَّفُ كَلامُ اللهِ على ما قالَهُ القاضي عِيَاضٌ وغيرُه مِن أَربَابِ الرِّيَاضِ.
ثمَّ اعْلَمْ أَنَّ الكِتَاب كَـــ(كِتَاب البُخَارِيِّ) بمَنزِلَةِ الجِنسِ، وهو جِنسُ عِلْمِ الحَديثِ مَثَلًا، كَمَا لا يَخفَى على الفُضَلاءِ.
و(البَاب) بمَنزِلةِ النَّوعِ، وهو نَوعُ عِلمٍ مِنْ عُلومِ ذلكَ الجِنْسِ، كـــ(باب فضلِ العِلمِ وفضِيلةِ العُلَماءِ)، وقد يُعبَّرُ عنِ (الباب) بـــ(الكِتَابِ) إِذا كانَ هُنَاكَ / فُصُولٌ مِن فُصُولِ الخِطَابِ ويُرادُ أنْ يُعَبَّرَ عنها بِالأَبِوَابِ، كـــ(كِتَاب الإِيمان) و(الصَّلاة) و(الزَّكَاة) و(فَضائِل القُرآن).
وحاصِلُه: أَنَّ الكِتَاب لاشتِمَالِهِ على الاستِيعَابِ مُشَبَّهٌ بِدَارٍ مُحيطَةٍ على بُيُوتٍ لَهَا أَبْوابٌ _أيْ: مَدَاخِلُ_ ويُطلَقُ مَجَازًا على الأَخشَابِ؛ لأَنَّها حَلَّتْ مَحَلَّها في هَذا البَابِ.
ومِمَّا يَدُلُّ على ما ذَكَرْنَا: أَنَّ الكِتَابَ في الأَصلِ مَصدَرٌ بِمَعنَى المَفْعُولَ، فَمَعنَاه المَجْمُوع، كَمَا يَشهَدُ لهُ نُقُولُ أَربَابِ العُقُولِ.
ثمَّ في كُلِّ بَيتٍ مِن بُيُوتِ أَربَابِ الدُّنيا المُتَنَعِّمَةِ نَوعٌ منَ الأَمْتِعَةِ، وصنفٌ منَ الأَسبَابِ المُنْتَفَعَةِ منَ المَآكِلِ والمَشَارِبِ(8) وسائِرِ الأَطْعِمَةِ، ومنَ الجَواهِرِ والدَّرَاهِمِ والدَّنَانِيرِ وغيرِ ذلكَ منَ النَّفائِسِ المُخَزَّنَةِ، وجميعُها بابت بابت(9) مُتُفُنَّدَةٌ مُتَفَنَّنَةٌ(10)، فَكَذَلِكَ أَرْبَابُ العُلُومِ الدِّينيَّةِ لَهُم أَنْواعٌ منَ الفُهُومِ اللَّدُنِّيَّةِ، وكذلك أُصحابُ الأَحوَالِ البَهِيَّةِ والكَرَامَاتِ السَّنِيَّةِ لَهُم أَنواعٌ منَ المَقَامَاتِ العَلِيَّةِ والمُنَازَلاتِ الرَّضِيَّةِ(11).
وقدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُم، وكُلُّ طائِفَةٍ منْ كُلِّ صنفٍ مَذْهَبَهُم، وكُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِم فَرِحُونَ، وبِمَا أَعطَاهُمُ اللهُ منْ فَضْلِهِ مُستَبْشِرُونَ.
ومُجْمَلُ الكَلامِ: أَنَّ المَقصُودَ منَ التَّبوِيبِ إِنَّما هو وُقُوعُ الأَشياءِ على وَجهِ التَّرتِيبِ؛ لِيَسهُلَ تَحصيلُهُ على الطَّالِبِينَ منْ أَربابَ التَّرغيبِ والتَّرهيبِ.
[1] في (ح) و(ف): «تقدُّم».
[2] في (ح) و(ف): «الكتاب».
[3] في (ح) و(ف) خطأ: «كالإضافة»، والمثبت موافقٌ لِمَا في «التنقيح» للزركشي.
[4] في (ح) و(ف): «البدء».
[5] قوله «ومنه» سقط من (ح) و(ف).
[6] في (ح) و(ف): «يقتضي».
[7] في (ح) و(ف): «وأن يكون أصله همزًا فخُفِّف».
[8] في (ح) و(ف): «المأكل والمشرب».
[9] كذا في جميع الأصول، وهي فارسية بمعنى معتبرة.
[10] في (ح) و(ف): «متفندة متفندة»، مكررة.
[11] في (ح) و(ف): «الراضية».