♫
░░12▒▒ (صلاةُ الخوف)
(وَقَوْلِ اللهِ ╡: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا. وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ...} [النساء:101-102] إلى قوله: {إِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا} [النساء:102])
قولُهُ تعالى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا} [النساء:101]. قد ذكر طائفة مِنَ السَّلف أنَّها نزلتْ في صلاةٍ في السَّفر، لا في صلاة السَّفر بمجرَّده ولهذا ذكر عَقِيبَها قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء:102]، ثمَّ ذكر صفة صلاة الخَوْف، فكان ذلك تفسيرًا للقصر المذكور في الآية الأولى. وهذا هو الَّذِي يشير إليه البخاريُّ، وهو مَرْوِيٌّ عن مجاهدٍ والسُّدِّيِّ والضَّحَّاك وغيرهم، واختاره ابن جَرير وغيره.
وتقدير ذلك مِنْ وجهين:
أحدهما: أنَّ المراد بقَصْر الصَّلاة قصرُ أركانها بالإيماء ونحوه، وقَصر عدَد الصَّلاة إلى ركعة.
فأمَّا صلاة السَّفر فإنَّها ركعتان، وهي تمامٌ غير قَصْرٍ، كما قاله عمر ☺.
وروى سِمَاكٌ الحَنَفِيُّ قال: سمعت ابنَ عُمَرَ يقول: الرَّكعتان في السَّفر تمامٌ غير قَصْرٍ، إنَّما القَصر صلاة المخافة. خرَّجه ابن جَرير وغيره.
وروى ابن المبارك عن المَسْعوديِّ، عن يَزِيد الفَقِير، قال: سمعْتُ جابرَ بن عبد الله / يُسأَلُ عن الرَّكعتين في السَّفر: أقَصرٌ هما؟ قالَ: إنَّما القَصر ركعةٌ عندَ القتال، وإنَّ الركعتين في السَّفر ليستا بقَصْرٍ.
وخرَّج الجُوزَجانيُّ مِنْ طريق زائدة بن عُمير الطَّائيِّ أنَّه سأل ابن عبَّاس عن تقصير الصَّلاة في السَّفر قال: إنَّها ليست بِتَقْصِيرٍ، هما ركعتان مِنْ حين تخرج مِنْ أهلك إلى أن تَرجِع إليهم.
وخرَّج الإمام أحمد بإسناد منقطع عن ابن عبَّاس قال: ((صلَّى رسولُ الله صلعم ركعتين ركعتين، وحين أقام أربعًا أربعًا)).
وقال ابن عَبَّاس: فمَنْ صلَّى في السَّفر أربعًا كمن صلَّى في الحَضَر ركعتين.
وقال ابن عبَّاس: لم تُقصَر الصَّلاة إلَّا مرَّة واحدة حيث صلَّى رسول الله صلعم ركعتين، وصلَّى النَّاس ركعة واحدة، يعني: في الخوف.
وروى وكيعٌ عن سفيان عن سالم الأفطَس عن سعيد بن جُبَير قال: ((صلَّى رسول الله صلعم صلاة الخوف ركعةً ركعة)). قال سعيد: كيف تكون مقصورةً، وهما ركعتان؟
والوجه الثَّاني: أنَّ القَصْر المذكور في هذه الآية مُطلَقٌ، يدخل فيه قَصْر العدد، وقَصْر الأركان، ومجموع ذلك يختص بحالة الخوف في السَّفر، فأمَّا إذا انفرد أحد الأمرين وهو السَّفر أو الخَوْف فإنَّه يختصُّ بأحد نَوْعَي القَصْر، فانفراد السَّفر يختصُّ بقَصْر العدد، وانفراد الخَوْف يختصُّ بقَصْر الأركان. لكنَّ هذا ممَّا لم يُفْهَم مِنْ ظاهر القرآن، وإنَّما بَيَّن دلالةً عليه رسولُ الله صلعم والآيةُ لا تُنافِيه وإن كان ظاهرُها لا يدلُّ عليه. والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقيل: إنَّ قَولَه: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء:101]، نزلَتْ بسبب القَصْر في السَّفر مِنْ غير خوف، وإنَّ بقيَّة الآية مع الآيتين بعدها نزلت بسبب صلاة الخوف. رُوِي ذلك عن عَلِيٍّ ☺.
خرَّجه ابن جَرير عنه بإسناد ضعيفٍ جدًّا لا يصحُّ، والله سبحانه وتعالى أعلم.
وقد رُوِيَ ما يدلُّ على أنَّ(4298) الآية الأولى المذكور فيها قَصْر الصَّلاة، إنَّما نزلت في صلاة الخَوْف.
فروى منصور عن مُجاهد، عن أبي عَيَّاشٍ(4299) الزُّرَقِيِّ، قال: ((كنَّا مع رسول الله صلعم / بعُسْفان، وعلى المشركين خالد بن الوليد، فصلَّينا الظُّهر، فقال المشركونَ: لقد أصبْنا غِرَّةً، لقد أصبنا غفلةً لو كنَّا حملنا عليهم وهم في الصَّلاة، فنزلت آية القَصْر بين الظُّهر والعَصْر، فلمَّا حضرَت العَصرُ قام رسول الله صلعم مُستقبِلَ القِبلة والمشركون أمامه، فصفَّ خلف رسول الله صلعم صفٌّ، وصفَّ بعد ذلك الصَّفِّ صفٌّ آخرُ، فركع رسول الله صلعم وركعوا جميعًا، ثمَّ سجدوا وسجد الصَّفُّ الَّذِين يَلونه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلمَّا صلَّى هؤلاء سجدتين وقاموا سجد الآخرون الَّذِين كانوا خلفه، ثمَّ تأخَّر الصَّفُّ الَّذِي يليه إلى مقام الآخرين، وتقدَّم الصَّفُّ الآخر إلى مَقام الصَّفِّ الأوَّل، ثمَّ ركعَ رسول الله صلعم وركعوا جميعًا، ثمَّ سجد، وسجد الصَّفُّ الَّذِي يليه، وقام الآخرون يحرسونهم، فلمَّا جلس رسوُل الله صلعم والصَّفُّ الَّذِي يليه سجد الآخرون، ثمَّ جلسوا جميعًا فسلَّم عليهم جميعًا، فصلَّاها بعُسْفان، وصلَّاها يوم بني سُلَيم)) خرَّجه الإمام أحمد(4300)، وأبو داود وهذا لفظه، والنَّسائيُّ وابنُ حبَّان في «صحيحه»، والحاكمُ وقال: على شرطهما.
وفي رواية للنَّسائيِّ وابنِ حبَّان عن مجاهدٍ حدَّثنا أبو عَيَّاش الزُّرَقِيُّ، قال: ((كنَّا مع رسول الله صلعم...)) فذكره.
وردَّ ابنُ حبَّان بذلك على مَنْ زعم أنَّ مجاهدًا لم يسمَعْه مِنْ أبي عَيَّاش، وأنَّ أبا عَيَّاش لا صُحبة له، كأنَّه يشير إلى ما نقله التِّرمذيُّ في «علله» عن البخاريِّ أنَّه قال: كلُّ الرِّوايات عندي صحيحٌ في صلاة الخَوْف، إلَّا حديثَ مجاهدٍ عن أبي عَيَّاش الزُّرَقِيِّ، فإنِّي أُراه مرسلًا.
وابن حبَّان لم يفهم ما أراده البخاريُّ، فإنَّ البخاريَّ لم ينكر أن يكون أبو عَيَّاش له صحبةٌ، وقد عدَّه في «تاريخه» مِنَ الصَّحابة، ولا أنكر سماع مجاهدٍ مِنْ أبي عَيَّاش، وإنَّما مرادُه أنَّ هذا الحديثَ الصَّوابُ عن مجاهدٍ إرسالُه عن النَّبيِّ صلعم مِنْ غير ذكرِ أبي عَيَّاشٍ، كذلك رواه أصحابُ مجاهدٍ عنه بخلاف رواية منصور عنه.
فرواه عِكْرِمَة بن خالد وعمر بن ذرٍّ وأيُّوب بن / موسى ثلاثتهم عن مجاهد عن النَّبيِّ صلعم مُرسَلًا مِنْ غير ذكر أبي عَيَّاشٍ. وهذا أصحُّ عند البخاريِّ.
وكذلك صحَّح إرسالَه عبدُ العزيز النَّخْشَبِيُّ وغيرُه مِنَ الحفَّاظ.
وأما أبو حاتمٍ الرَّازيُّ فإنَّه قال في حديث منصورٍ عن مجاهدٍ عن أبي عَيَّاش: إنَّه صحيح، قيل له: فهذه الزِّيادة ((فنزلت آية القصر بين الظُّهر والعصر)) محفوظةٌ هي؟ قال: نعم.
وقال الإمام أحمد: كلُّ حديث رُوِي في صلاة الخوف، فهو صحيح.
وقد جاء في رواية: فنزلت {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ} [النساء:102] وهذا لا ينافي رواية: ((فنزلت آيةُ القَصْر))، بل تبيَّن أنَّه لم تنزل آية القَصر بانفرادها في هذا اليوم، بل نزل معها الآيتان بعدها في صلاة الخوف. وهذا كلُّه ممَّا يشهد لأنَّ آية القَصر أريدَ بها قصرُ الخوف في السَّفر، وإنْ دلَّت على قَصر السَّفر بغير خوفٍ بوجهٍ مِنَ الدِّلالة. والله سبحانه وتعالى أعلم.