البابُ الأوَّلُ: في الاصطلاحاتِ التي يَحتاجُ إليها المحدِّثُ:
أقولُ من المسلَّماتِ / عند أهلِ الحديثِ أن لكلِّ حديثٍ من الأحَاديثِ المعتبرةِ متناً وسنداً وشرطاً ومُستنداً، فالحديثُ في اللُّغةِ هو الخبرُ يُقالُ على القليلِ والكثيرِ، ويُقالُ على نقيضِ القديمِ أيضاً، وهذا أعمُّ من الأوَّلِ لكن المناسبَ لما نحن بصَددِهِ هو الأوَّلُ.
والحديثُ في الاصطلاحِ هو خبرُ نُسِبَ إلى الرَّسولِ صلعم قولاً أو فعلاً أو سكوتاً منهُ عندَ أمرٍ يُعاينهِ، فبينَ الحديثِ اللُّغويِّ والحديثِ الاصطلاحيِّ عمومٌ وخُصُوصٌ من وَجِهٍ فيجتمعان صدقاً في قولِ النَّبيِّ صلعم: <إنَّما الأعمالُ بالنِّياتِ> ويصدُقُ الحديثُ الاصطلاحيُّ بدُون الحديثِ اللُّغويِّ في نحو: سَهَى / فَسَجَدَ، وَيَصدُقُ اللغويُّ بدون الاصطلاحيِّ في نحو:/ زيدٌ قائمٌ مثلاً.
وأمَّا علمُ الحديثِ فهو علمٌ يُقتدَرُ به على معرفةِ أحوالِ أقوالُ الرَّسولِ وأفعالِهِ على وجهٍ مخصوصٍ، كالاتصالِ والإرسالِ وغيرِهِما، ويُطْلَقُ أيضاً على معلوماتٍ وقواعدَ مخصوصةٍ كما تقولُ: (فلانٌ يعلمُ علمَ الحَدِيثِ) تُرِيْدُ به معلوُمَاتِهِ وقواعِدَهُ بشهادةِ فحوى الكلامِ، ويُطلق أيضاً على التَّصديقاتِ لقواعدِهِ، كما تقوُلُ: (فلانٌ يُتْقِنُ علمَ الحدِيثِ) تُريدُ بهِ التَّصديقاتِ المخصُوصَةِ عَلى سَبيل الاتِقانِ وَالإحكامِ.
هَذا وإنَّ المتنَ في اللُّغةِ هو المُرتَفَعُ الصَّلبُ، وَالجمعُ مُتونٌ، كفَنٍّ وَ فنوْنٍ، ثم نُقِلَ إلى مَتنِ الحَديثِ لأنه مُرتفعٌ عن وصمَةِ النُّقصَانِ وَمحكمٌ لا يكادُ يتطرَّقُ إليهِ اختلالٌ، وَالمتنُ / أعمُّ عرفاً من الحديثِ فيكونُ قولُكَ: متنُ الحديثِ من قِبَلِ إضافةِ العامِّ إلى الخاصِّ كخاتمِ فضَّةٍ وبَاب سَاجٍ.
وَأمَّا المتنُ في الاصطلاحِ فهو ما ينتهي إليهِ السَّندُ من الكلامُ، وإنَّ السَّندَ في اللُّغةِ هو ما ارتفعَ وعَلا عن سفحِ الجَّبلِ، ثم نُقِلَ إلى مَعنىً آخر يناسبُهُ وهو الإخبارُ عن طريقِ المتنِ؛ لأنَّ المُخْبِرَ يرفعُ الحديثَ بإخبارِهِ إلى قائلِهِ، ولهذا قالَ الجَّوهريُّ: (الإسنادُ في الحديثِ رفعُهُ إلى قائلِهِ) ويجوزُ أن يكونَ منقولاً من قولِهِم: فلانُ سندٌ أي مُعتمَدٌ؛ فإنَّ الحُفَّاظَ يعتمدونَ في صحَّةِ الحديثِ على الإخبارِ عن الطَّريقِ، والإخبارُ: هو الاتيانُ / بجملةٍ خبريَّةٍ، والجملَةُ ما تضمنُ كلمتين بالإسنادِ التَّامِّ، والخبرُ هو الكلامُ الذي يحتملُ الصِّدقَ والكذِبَ.
وأما طريقُ الحديثِ فسيجيئُ بيانُهُ في بحثِ المُسْنَدِ إن شاءَ اللهُ تعالى.
ثم إنَّ لقبولِ الحديثِ شروطاً يتعلَّقُ بعضُها بالحديثِ/ وبعضُها بالرَّاوي:
أمَّا الشَّرطُ المتعلِّقُ بالحديثِ فأمورٌ:
أحدُها: أن لا يكونَ مُخالفاً لما هو أقوى منهُ بحيثُ لا يمكِنُ الجمعُ بينَهُمَا، كما إذا خالفَ خبرَ الوَاحدِ المتواتِرَ والمشهورَ.
وثانيها: أن لا يُعْرِضَ عنهُ الأئمةُ من الصَّحابةِ، وهو شرطٌ عندَ بعضِ الفقهاءِ خلافاً لأهلِ الحديثِ، كحديثِ الطَّلاقِ بالرِّجالِ والعدَّةِ بالنِّساءِ فإن الصَّحابَةَ قد أعرَضُوْا عن الاحتجاجِ بهذا الحديثِ في هذه المسألَةِ، فاختلفوُا فيها / بآرائِهِم فذهبَ عمرُ وعثمانُ إلى أن الطَّلاقَ مُعتبرٌ بحالِ الرَّجلِ في الحريَّةِ والرِّقِّ، كما هو مذهبُ الشَّافعيِّ، وذهبَ عليٌّ وَعبدُ اللهِ بن مسعودٍ إلى أنَّهُ مُعتبرٌ بحالِ المرأةِ فيهما كما هو مذهبُ أبي حنيفَةَ، ثم إن هذا الاختلافَ مع ذلكَ الإعراضِ دليلٌ على أنَّهُ سهوٌ ممن بعدَهُم أو منسوخٌ أو مؤوَّلٌ بأنَّ على إيقاعِ الطَّلاقِ بالرِّجالِ، وأمَّا جوازُ الخفاء عَليهم وإطِّلاعُ من بعدَهُم على هذا الحديثِ فبعيدٌ جدَّاً.
وثالثها: أن لا يكونَ شاذَّاً فيما يعمُّ به البلوى عندَ البعضِ أيضاً كحديثِ الجهرِ بالبَسْملَةِ.
وأمَّا الشرطُ المتعلِّقُ برَاوي الحديثِ فأمُورٍ أيضاً:
أوَّلُها: العَقلُ؛ لأنَّ المرَادَ من الكلامِ المُعتبرِ أن يكونَ / له صورةٌ ومعنىً، وصورتُهُ تتقوَّمُ بمجرَّدِ الألفاظِ والحروفِ، ومعناهُ لا يعتبرُ إلا بالتَّمييزِ وإنَّمَا التَّمييزُ بالعقلِ والمرادُ منهُ ههنا هُوَ نورٌ يُبصرُ به القلبُ المطلوُبَ بعد انتهاءِ دَرْكِ الحَواسِ بتأمُّلِهِ بتوفيقِ اللهِ تعالى،
وعلامَةُ العقلِ في البشرِ تظهَرُ/ فيما يأتيهِ ويذرُ، وَالمرادُ من العَقلِ هَهُنا هو عقلُ البلوغِ لا عقلُ الصِّبَا والمعتوهِ، فإنَّ خبرَهُ ليس بحجَّةٍ، فإنَّ الشَّرعَ لم يجعلْهُ وَليَّاً في أمُورِ دُنياهُ ففي أمُورِ الدِّين أولى، وَلا يخفى عَليكَ أنَّ عقلَ البُلوغِ إنَّما هو شرطُ الأدَاءِ وَالإلزامِ لا شرطَ التَّحمُّلِ، وَالأخذُ الأثري أن الصَّبيَّ المميزَ إذا تحمَّلَ وَأخذَ الحَديثَ في صغرِهِ وأدَّاهُ بعد بُلوغِهِ يُعتبَرُ / لا سيَّما أنَّ المقصُودَ في هذا الزَّمَانِ هوَ إبقاءُ سلسلَةِ الإسْناِد المخصُوصِ بهذِهِ الأُمَّةِ شرفاً لهم، وَليسَ الاعتمادُ في هذا العَصرِ على الرُّواةِ بل على المحدِّثينَ الأقدمين الذين عُرِفَتْ عدَالَتُهُمْ وَضبطُهُم وَصِدْقُهُم وَحَالُهُم وَحَالُ تصانِيفهم.
وثانيها: ضبطُ رَاوي الحديثِ؛ لأنَّ إنَّما يكونُ حجَّةً إذا عُلِمَ صِدْقُهُ، ولا يحصُلُ الوقوفُ بالصِّدقِ إلا بالضَّبطِ.
وضبطُهُ منقسِمٌ إلى أقسامٍ:
أحدُها: بأن يكونَ يَقِظَاً ولم يكن مغفَّلاً إن كانَ يُحَدِّثُ عن حفظِهِ.
ثانيها: بأن يعلم مَعنى الحدَيثِ وَمَا يُغَيِّرُ مَعناهُ إنِ كان يروي بالمعنى.
ثالثُها: بأن يحتوي كتابَهُ ويحفظَهُ من التَّبديلِ / والتَّغييرِ إن كان يرويهِ من الكتابِ، وَأما قولُ من قالَ: الضَّبطُ هوَ سماعُ الكلامِ كما يحقُّ سماعُهُ، وفهمُ معناه ُوحفظُهُ ببذلِ مجهودِهِ وَالثَّباتِ عَليهِ إلى أن يؤدِّيهِ إلى غيرِهِ فحاصلُهُ يرجِعُ إلى مَا ذكرناهُ، وَلا يخفى عليكَ أنَّ الضَّبطَ بهذا المعنى إنما هوَ شرطُ إلزامِ الحجَّةِ لا شرطُ مجرَّدِ حفظِ الإسنادِ، فإنَّ المحَافِظَ على السَّندِ لا يحتاجُ إلى تحقيقِ هذا الشَّرطِ.
والشَّرطُ الثالِثُ لقبولِ الحديثِ: إسلامُ الرَّاوي؛ لأنَّ البابَ بابُ الدِّينِ، والكافرُ/ يعادِينَا في الدِّين وَالعدَاوةُ سَببٌ دَاعٍ إلى التّقوُّلِ، لا لأنَّ الكفرَ يُنافي الصِّدقَ، فإنَّ الصِّدقَ مقبولٌ في الأديَانِ كُلِّهَا وَلذلكَ لم تُقْبَلْ شهادَةُ الكافرِ على المسلمِ، / لكن الكافرَ إذا تحمَّلَ الخبرَ وَأدَّاهُ بعد إسْلامِهِ يُقْبَلُ خبرُهُ مَعَ تحقيقِ سَائرِ الشُّروطِ للقبوُلِ، وكذا خبرُ الفاسِقِ بعد توبتِهِ عن فسقِهِ وبعد ثبوتِ عدالَتِهِ.
ثم إنَّ الإسلامَ هو الإقرارُ والتَّصديقُ باللهِ تعالى وبصفاتِهِ وذلك نوعَان ظاهرٌ وَباطنٌ، فالظَّاهرُ منهُ مَا يُثْبَتُ بالميلاَد بينَ المسلمينَ وَنَشْئِهِ على طريقتِهِم، وبجريانِ كلمةِ الشَّهادةِ على اللِّسانِ، والباطنُ منه أن يصدِّقَ باللهِ وصفاتِهِ وبسائرِ ما ثبتَ من ضرورَاتِ الدِّينِ، وأن يصفَ اللهَ كما هو إلا أن الوَصفَ على سَبيلِ الإجمالِ كافٍ، إذ في اعتبارِ الوَصفِ التَّفصيليِّ حَرجٌ بَيِّنٌ وَلهذا قيلَ أنَّ الوَاجبَ أن يستوصِفَ المؤمنُ على سبيلِ التَّلقينِ لا َعَلىَ سَبيلِ الاستفسارِ وَطلبِ الكشفِ / عن حقيقَةِ الإيمانِ، فإنَّ ذلك صعبٌ عَجَزَ عنهُ أكثرُ النَّاسِ ألا ترى أنَّ النَّبيَّ صلعم استوصفَ الأعرابيَّ الذي شَهِدَ برؤيةِ الهلالِ حيثُ قالَ: <أَتَشْهَدُ أَنَّ لا إلهَ إلا اللهُ وأنَّ محمداً رسولُ اللهِ؟> فقالَ: نعم، فقالَ: <اللهُ أَكْبَرُ يَكْفِي المُسْلِمِيْنَ أَحَدُهُمْ>.
فالنَّوعُ الأوَّلُ كافٍ في الاشتراطِ إذ الاطِّلاعُ عَلى البَاطنِ مُتَعَذِّرٌ، ولهذا قالَ النَّبيُّ صلعم: <إِذَا رَأَيْتُمْ الرَّجُلَ يَعْتَادُ الجَّمَاعَةَ فَاشْهَدُوْا لَهُ بِالإِيْمَانِ>.
والشَّرطُ الرَّابِعُ لقبولِ الحديثِ: هو عدَالةُ الرَّاوِي ليحصُلَ الوُثوقُ بما رَوَاهُ، فالعدَالةُ: هي محَافظَةُ دِيْنِيَّةٌ تُحْمَلُ على ملازمَةِ التَّقوى والمروءة ليسَ معها بدعةٌ.
فقولُنا:/ دينيَّةٌ، ليخرُجَ الكافرُ، وقولُنَا: / تُحْمَلُ عَلى مُلازمَةِ التَّقوى والمروءةِ، ليخرُجَ الفاسقُ، وَقولُنا: ليس مَعَها بدعةٌ، ليخرجَ المُبتدِعُ، إذ هؤلاءِ ليسُوا عُدولاً، وتتحقَّقُ باجتنابِ الكبائِرِ وَتركِ الإصرَارِ عَلىَ الصَّغائرِ وَتركِ بَعض الصَّغائرِ وتركِ بعض المبْاحِ، كقتلِ النَّفسِ بغير حَقٍ وَكسرقَةِ لقمةٍ وكاللَّعبِ بالحَمَامِ والاجتماعِ مع الأندَالِ، وَأمَّا الإلمامُ بالصَّغائرِ فلا يُخِلُّ بالعدَالَةِ دَفْعَاً للحَرَجِ:
إِنْ تَغْفِرِ اللَّهُمَّ تَغْفِرْ جَمَّا وَأَيُّ عَبْدٍ لَكَ لَا أَلَمَّا
ثم إنِّها نوعَان أيضاً أحدُهُما ظاهرٌ وهو ما ثبتَ بظاهرِ العَقلِ والدِّينِ، والآخرُ بَاطنٌ وهو مالا يُدْرَكُ مداهُ لكونِهِ مُتفاوتاً، فاكتُفيَ في ذلكَ بما لا يُؤدي إلى الحرَجِ والمشقَّةِ، وَهوَ مَا به رجحانُ الدِّينِ والعَقلِ عَلى / طريقِ الهوَى وَالشَّهوَةِ بالاجتنابِ عمَّا ذُكِرَ، وَهذا القدرُ كافٍ في اشتراطِ عدَالَةِ الرَّاوي.
هذا ثمَّ إنَّ أظهرَ الأقوالِ في شرطِ البُخاريِّ لكون الحدَيثِ صحيحاً وَمقبولاً هُو القولُ بأنَّ المرادَ منهُ هو اتِّصالُ السَّندِ بنقل الثِّقةِ من مبتداهُ إلى مُنتهاه من غيرِ شذوذٍ ولا علَّةٍ.
ثم إن هذا الحديثَ مُتَّفَقٌ على صحَّتِهِ أخرجَهُ الأئمةُ المشهُورون.
فإن قلتَ: كيف يصحُّ هذا الحَديثُ وَكيف يُسْتدَلُّ به عَلى الأحكامِ فإنَّهُ حَديثٌ فردٌ من أقسَامِ الضَّعيفِ وَهوَ مَردودٌ، وَقد صَرَّحَ بعض المحدِّثينَ بأنَّهُ مَا روَاهُ عن النَّبيِّ صلعم إلا عمرُ بنُ الخطَّابِ ☺، وَمَا روَاهُ عنهُ إلا علقمَةُ، وَمَا روَاهُ عنهُ إلَّا محمَّدُ بن إبراهيمَ / التيميُّ، وَمَا روَاهُ عنهُ إلَّا يحيى بن سعيدٍ الأنصَاريُّ، وَأمَّا يحيى بن سَعيدٍ فقد رَوَاهُ عنهُ جمعٌ كبير!؟
قلتُ: أُجيبُ عنه بوجوهٍ:/
أمَّا أوَّلاً فلأنَّ شرطَ البخاريِّ قد تحقَّقَ فيه بناءً عَلى القولِ الأظهرِ فيهِ مَا ذكرنا آنفاً، وَأمَّا الفَرْدُ وَإن كانَ من أقسَامِ الضَّعيفِ في الجُّملةِ لكنَّ بَعضَ أقسَامِ الفردِ مقبولٌ، وَهذا الحَديثُ منهُ نصَّ المحدثونَ بذلكَ.
وأما ثانياً فلانَّ أئمَّةَ الحدِيثِ صَرَّحَ بأنَّ هذا الحديثَ قد روَاهُ عن النَّبيِّ صلعم من الصَّحابةِ غيرُ عُمرَ بن الخطَّابِ رَضى الله عنهم أجمعينَ نحو عشرون صحَابيَّاً؛ كعليِّ ابنِ أبي طالبٍ وَسَعدِ ابنِ أبي وقَّاصٍ وأبي سَعيدٍ الخُدريِّ وَعبدِ اللهِ بن / مسعودٍ وَعبدِ اللهِ بن عمرَ وابنِ عبَّاسٍ وأنسٍ وأبي هرُيرةَ وغيرِ ذلكَ، وَقد روَاهُ عن عمرَ غير علقمةَ ابنه عبدُ اللهِ وَجَابرٌ وَغيرُهما، ورَوَاهُ عن عَلقمَةَ غير التَّيميِّ سَعيد بن المسُيّبِ وَنافع مَولى ابن عُمر، وَأمَّا يحيى بن سَعيدٍ فقد تابعَ على روايتِهِ عن التَّيميِّ محمدَ بن محمدِ بن عَلقمةَ ومحمدَ بن إسحَاقَ بن يَسارٍ وَغيرهما، وقد تُوْبِعَ علقمةُ وَالتَّيميُّ على روَايتِهِمَا أيضاً.
فإن قلتَ: المتابعةُ لا تُخْرِجُ الحديثَ عن كونِهِ فرداً.
قلتُ: سلَّمنا ذلكَ لكن المتابَعةَ قد قَوَّتْهُ كتقويةِ انضمامِ القرنيةِ إلى خَبَرِ الوَاحدِ، وَقد عرفتَ أن الحَديثَ وَإن كان فرداً لكنهُ / فردٌ مقبولٌ، ولا يخفى عليكَ أنَّ كلَّ واحدٍ من رجَالِ هذا الحديثِ ثقةٌ.
وأمَّا يحيى وَمحمدُ وَعلقمةُ فهم من التَّابعينَ فيحيى من صِغارِهِم وَمحمدُ من أوسَاطِهم وَعلقمَةُ من كبارِهِم، وَقيل إنَّ علقمةَ صحَابيٌّ.
وأمَّا ثالثاً فلأنَّ هذا الحديثَ وإن لم يتواترْ لفظاً لكنه مُتواترٌ معنىً من حَيثُ القدرِ المشتركِ بينَهُ وبين أحَاديث أُخرَ، كحديثِ: <رُبَّ قَتِيلٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ اللهُ أَعْلَمُ بِنِيَّتِه>، وَكحديثِ: <لا هِجْرَةَ بَعْدَ الفَتْحِ وَلَكِنْ/ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ> وَكحديثِ: <يُبْعَثُوْنَ عَلَى نِيَّاتِهِمْ>، وغيْرِ ذلكَ، فيكونُ حَالُهُ كحالِ شجاعَةِ عليٍّ ☺ وسخاوةِ حاتِمٍ، فكيفَ لا وقد تَلَقَّتْهُ الأمُّةُ بالقَبُوْلِ / أيُّ قَبُوْلٍ، وقد خطبَ بهِ عمرُ على المنبرِ بحضرَةِ الصَّحابةِ فلولا أنَّهم يعرفونَهُ لأنكروهُ عَادةً، وقد تقرَّرَ في الشَّرْعِ أنَّ السكوتَ في محلِ الحاجَةِ تقريرٌ وَبيَانٌ ظاهرٌ، فلا يضرُّهُ الاحتمالُ فإن الاحتمالَ في الظَّواهرِ ليسَ بقادحٍ في كونِهَا حُجَجَاً بالإجَماعِ، وَإن كان مُنقدحاً في الأذهَانِ.
وَقالَ بعضُ أئمَةِ أهلِ الحَديثِ: الأحَاديثُ التي عليِهَا مدَارُ الإسْلامِ ثلاثةٌ: حَديثُ: <إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ> وَحديثُ: <مِنْ حُسْنِ إِسْلامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَالا يعنيهِ> وَحَديثُ: <الحَلالُ بَيِّنٌ وَالحَرَامُ بَيِّنٌ> كما قالَ الإمَامُ الشَّافعيُّ ☺، هَذا الحديثُ / يَدخُلُ في سَبعينَ بَاباً من الفقهِ، قيل مُرادُهُ الأبَوابَ الكليَّةَ وَأمَّا المسَائِلَ الجُّزئيَّةَ فلا تُحْصَى.
ثم الظَّاهرُ أنَّهُ أرَادَ بالسَبعينَ التَّحديدُ، وَيجوزُ أن يكونَ مُرَادُهُ منهُ هو المبَالغَةُ في التَّكثيرِ على مَا هو دأبُ العَربِ، وَكذا قالَ الإمَامُ أحمدُ وَغيرُهُ أن هذا الحَديثَ ثلثُ العلمِ، وَذلكَ أن عملَ العبدِ بقلبِهِ وَلسَانِهِ وَجَوارحِهِ، فَيُكَوِّنُ الأعمَالَ المتعلقَةَ بالعبدِ ثلاثةَ أقسَامٍ، فالنِّيةُ أرجحُها لأنَّها تكونُ عبَادةً بانفرادِهَا بخلافِ القسمينِ الآخرينِ، ولهَذا كانَتْ نيَّةُ المؤمنِ خيرٌ من عَمَلِهِ، وَلأنَّ القولَ والعملَ يدخلُهُمَا الفسَادُ / بالرِّياءِ وَنحوِهِ بخلافِ/ النِّيَّةِ.
هذا ثمَّ إنَّ مستندَ الحديثِ هو مَا يَصحُّ للرَّاوِي من أجلِهِ أن يروي الحدَيثَ وَيُقبلُ منهُ؛ كقراءةِ الشَّيخِ عَليهِ أو بالعَكسِ أو غيرِ ذلكَ من الإجَازَةِ وَالمناوَلَةِ وَالكتابَةِ وَالوِجَادَةِ.
ثمَّ الظَّاهرُ أنَّ المرادَ من طريقِ الحدَيثِ عندَهُم هوَ المستنَدُ، وَقد يُقالُ الطَّريقُ على السَّنَدِ وَرجَالِهِ أيضاً، وَأمَّا كونُ الطَّريق مَقولاً على التَّواترِ والآحَادِ فليس بمشهُورٍ عندَهُم، وَإن وَقعَ ذلك عند بَعضِ أهلِ الأصُولِ.