-
المقدمة
-
الكلام على الآية إعرابًا
-
الكلام على الآية صرفًا
-
الكلام على الآية من جهة علم الاشتقاق
-
الكلام على الآية من جهة علم المعاني
-
الكلام على الآية من جهة علم البيان
-
الكلام على الآية من جهة علم البديع
-
الكلام على الآية من جهة علم المنطق
-
الكلام على الآية من جهة علم الأصول
-
الكلام على الآية من جهة علم القراءات
-
الكلام على الآية من جهة علم التفسير
الرابع: علم المعاني:
{ونضع}: هذا خبر، وليس بإنشاء؛ لكون نسبته المفهومة منه لها نسبة خارجيَّة واقعة في المستقبل، مطابقة لها، والكلام إذا كان لنسبته نسبة خارجيَّة، واقعة في أحد الأزمنة الثلاثة، تطابقه أو لا تطابقه؛ فهو خبر، وإلَّا فهو إنشاء، والإنشاء شامل للطلب والتنبيه، وأتى بالمسند فعلًا؛ لتغيير الحدث الذي يدلُّ عليه بالزمن المستقبل على أخصر وجه، مع إفادة التجرُّد، وهذا يفيد أنَّ الوضع المذكور إنَّما يكون يوم القيامة.
والإسناد فيه حقيقةٌ عقليَّةٌ، وهي إسناد الفعل أو ما في معناه إلى ما هو له عند المتكلِّم، فيما يفهم من ظاهر حاله؛ لأنَّ ظاهر هذا الكلام أنَّ الحقَّ تعالى يتولَّى وضعها ونصبها بقدرته، بلا واسطة أحد من المخلوقين، ويحتمل أن يكون مجازًا عقليًّا، ويسمَّى بمجاز الإسناد، وهو إسناد الفعل أو ما هو في معناه إلى مُلابِس له غير ما هو له بتأوُّل، إن كان المراد منه أنَّه تعالى يأمر جبريل أو غيره من الملائكة بمباشرة وضعه؛ لأنَّ الفعل حينئذٍ أسند إلى الله في الظاهر، وهو لغيره من الملائكة؛ للملابسة التي بينهما، وهي تعلُّق الفعل بكلٍّ منهما، وإن كانت جهة التعلُّق مختلفة؛ فيتعلَّق به تعالى من جهة أنَّه آمر به، وخالق له، وبالملَك من جهة أنَّه متسبِّب فيه، ومباشر له، وربَّما / يؤيِّد هذا الاحتمال ما في بعض الأخبار من أنَّه يؤتى بالميزان يوم القيامة، فينصب بين يدي الله تعالى، وما نقله الفخر في «تفسيره»، عن عبد الله بن سلام، من أنَّ جبريل ◙ هو الذي يكون آخذًا بعموده، ينظر إلى لسانه.
ولمَّا لم يكن الغرض ههنا إفادة مجرَّد الوضع، بل تعلَّق بذكر كلٍّ من فاعله _وهو الله تعالى، للتنبيه على أنَّه ذو عظمة ينبغي أن تخاف سطوته، وتتَّقى عقوبته؛ ولذا أتى بالنون الدالَّة على عظمة المتكلِّم_ ومفعوله؛ وهو الموازين؛ لتهويل شأن الميزان، وتفظيع أمره، وبيان ما له؛ ولذلك أتى به بلفظ الجمع، مع أنَّه واحد على ما هو الصحيح المشهور؛ كما يأتي.
صُرِّح بكلٍّ منهما، ولم يحذفا وإن كان حذف المفعول كثيرًا شائعًا، وكذلك الفاعل قد يحذف لغرض من الأغراض، فينوب عنه المفعول به أو غيره؛ كما هو مقرَّر.
وقوله: {القسط}: إطناب بزيادة الصفة، وهو من جملة أنواع الإطناب بزيادة، وترد زيادتها لأسباب؛ منها: التوضيح في المعرفة؛ أي: زيادة الشأن، كما وقع هنا، وكما في قوله: {وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ} [الأعراف:158]، ويقابل الإطناب بزيادة الإطناب بالبسط؛ وهو الإطناب بتكثير الجمل، وله أمثلة كثيرة، وهو أيضًا _أعني: قوله: _ {القسط} تكميل، ويقال له: احتراس، وهو أيضًا من أنواع الإطناب بزيادة؛ وهو ما يؤتى به لدفع توهُّم خلاف المقصود من الكلام، سواءٌ أتى به في أوَّله، أو وسطه، أو آخره، وسواءٌ كان جملة أو مفردًا؛ كما في قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} [المائدة:54]، فإنَّه لمَّا كان يوهم أن يكون ذلك لضعفهم؛ دفعه بقوله: {أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة:54]، وكما في قول الشاعر:
فسَقَى دِيَارَك غَيْرَ مُفْسِدِهَا صَوْبُ الرَّبِيعِ وَدِيمَةٌ تَهْمِي
فإنَّه لمَّا كان المطر قد يؤول إلى خراب الديار وفسادها؛ أتى بقوله: (غير مفسدها)؛ دفعًا لذلك، وكذلك هنا لمَّا كانت الموازين في الدنيا قد تكون غير عادلة؛ أي: غير مستقيمة، وخيف أن يتوهَّم أنَّ موازين يوم القيامة كذلك؛ أتى بقوله: {القسط}؛ دفعًا لذلك.
ثمَّ إن قلنا: إنَّه وما بعده من قوله: {ليوم القيامة}، وقوله: {بها} على حذف مضاف؛ كان فيه إيجاز، وهو عندهم ضربان: إيجاز القصر؛ وهو ما ليس بحذف؛ كقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ} [البقرة:179]، فإنَّ معناه كثير، ولفظه يسير، ولا حذف فيه، وإيجاز الحذف: والمحذوف إمَّا جزء جملةٍ مضافٌ، أو موصوفٌ، أو صفةٌ، أو غيرُ ذلك، وإمَّا جملةٌ أو أكثر، وما هنا من قبيل الثاني، وهو إيجاز الحذف، والمحذوف جزء جملة، وهو المضاف؛ كما في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف:82]؛ أي: أهلها.
وجملة قوله: {فلا تظلم} خبريَّة أيضًا؛ لما قدَّمناه، فيكون من عطف الخبر على مثله.
و{نفس}: نكرة في سياق النفي، فتعمُّ، و(أتى) في سياق الإثبات، فعمومها قليل.
وقوله: {وإن كان مثقال}: شرط، وقد عدَّه في «الإتقان» من أقسام الإنشاء.
وفي قوله: {بنا} من قوله: {وكفى بنا}: إطناب بزيادة الباء، وهو من جملة أنواع الإطناب بزيادة، وذلك قائم مقام تكرير الجملة، قال ابن جنِّي: كلُّ حرف زيد في كلام العرب، فهو قائم مقام إعادة الجملة مرَّة أخرى، وقال ابن الشجريِّ: زيدت الباء ههنا إيذانًا بأنَّ الكفاية من الله، ليست كالكفاية من غيره في عظم المنزلة، فضوعف لفظها؛ لتضاعف معناها، وفي هذه الجملة بتمامها إيغال؛ بناء على القول: بأنَّه لا يختص بالشعر، وكلام«الإتقان» يفيد أنَّه الراجح؛ لوقوعه في الشعر، وهو أيضًا من أنواع الإطناب بزيادة.
وهو في هذا القول ختم الكلام مطلقًا، شعرًا كان أو نثرًا، بما يفيد نكتة يتمُّ المعنى بدونها، جملة كان أو مفردًا، نحو قوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ. اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [يس:20-21]، فإنَّ قوله: {اتبعوا من} [يس: 20] ممَّا يتمُّ المعنى بدونه؛ لأنَّ الرسول لا يكون إلَّا غير سائل الأجر، وإلَّا مهتديًا، / ولكن أتى به لنكتة؛ وهي زيادة الحثِّ على اتِّباعهم والترغيب فيهم، وكذلك قوله هنا: {وكفى بنا حاسبين} مما يتمُّ المعنى بدونه، لكن أتى به لنكتتين:
إحداهما: التنبيه على كمال العدل وتحقيقه حينئذٍ، حيث كان الحقُّ تعالى _وهو الحكم العدل الذي لا أعدل منه سبحانه_ يتولَّى وضع الموازين، وحساب الخلائق بنفسه.
ثانيتهما: زيادة التحذير؛ لأنَّ المحاسب بالكسب إذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء؛ فحقيق بالعاقل أن يكون على أشدِّ الخوف من سطوته، والاتِّقاء لعقوبته، والله أعلم.