قال(1) (بَابُ كَيْفَ كَانَ). أقول (بابُ) مرفوعٌ مضافٌ إلى ما بعده على أنَّه خبرُ مبتدأ محذوف؛ تقديره: هذا باب كيف كان، واحتمالُ الوقف والتنوين لا يتحمَّلهما(2) المقام؛ بعدم الاستقلال في باب الكلام.
(كيف) للاستفهام عن الأحوال، فإذا قلت: كيف زيد؟ كان معناه: على أيِّ حالٍ هو؟ وقد يكون اسمًا للحال من غير معنى السؤال، وهو المراد ههنا، ومنه ما حكى قُطرب عن بعض العرب: انظر إلى كيف يصنع؛ أي: إلى حال صنيعِه(3).
قال (بَدْؤ الوَحْيِ). أقول (البَدْوُ) ناقصٌ مِن (البُدوِّ) بمعنى الظهور، ويحتمل أن يكون مهموزًا مِنَ (البدء) بمعنى الأوَّل، والأوَّل أولى؛ لأنَّ الأحاديثَ على نوعين: أحدهما كاشفٌ عن حال ظهور الوحي، وثانيهما كاشفٌ عن حال ابتداء الوحي، وثاني النوعينِ ينتظم تحت العنوان على المعنى الأول، بخلاف أوَّل النوعين، فإنَّه لا ينتظم تحت العنوان على المعنى الثاني.
و(الوحي) في اصطلاح أهل الشرع غيرُ مخصوص بكلام الله تعالى كما تُوُهِّم، نعم ينقسم الوحيُ على اصطلاحهم إلى المتلوِّ وغير المتلوِّ، والأوَّل هو القرآن.
اعلم أنَّ الوحيَ الظاهرَ ثلاثة:
الأوَّل: ما ثبت بلسان المَلَك فوقع في سمعه بعد ما علمه بالمبلَّغ بآية قاطعة، والقرآن مِن هذا القَبِيل.
والثاني: ما وضح له بإشارة المَلَك مِن غير بيانٍ بالكلام؛ كما قال رسول الله صلعم: «إنَّ روح القدس نفَثَ(4) [في] رُوعي(5) أنَّ نفسًا لن تموت...» الحديث، وهذا يسمَّى خاطر المَلَك.
والثالث: ما يُبَدَّى لقلبه بلا شبهةٍ بإلهامِ الله تعالى، بأن أراد بنورٍ مِن عنده، كما قال: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ}(6) [النساء:105]، وكلُّ ذلك حجَّةٌ مطلقًا على ما صرَّح به صاحب «التوضيح».
قال: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ}(7) [النساء:163]. أقول: (الوحي) في القرآن لمعانٍ: للإرسال إلى الأنبياء كما في هذه الآية، ولإنزال القرآن كما في قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ}(8) [الأنعام:19]، وللإلهام كما في قوله تعالى(9): {وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى} [القصص:7]، ولإلقاء المعنى المراد كما في قوله تعالى: { فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [مريم:11]، وللوسوسة كما في قوله تعالى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} [الأنعام:121]، وأصلُ ذلك كلِّه الإعلامُ في خفاءٍ.
قال: ({كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء: 163]). أقول: مقتضى تخصيص نوحٍ والذين مِن بعده بالذِّكْر ألَّا يكونَ الوحيُ إلى الذين مِن قبله مِن قَبِيل الوحي إلى نبيِّنا ◙، ولا يلزم ألَّا يكونوا موحًى إليهم أصلًا؛ إذ يجوز أن يكون الوحيُ إليهم بكيفيَّةٍ(10) أخرى، ولا بُعدَ فيه، وما قيل: (إنَّما ذَكَر نوحًا لأنَّه أوَّلُ مشرِّع عند بعض العلماء) مردودٌ بما ذكره صاحب «الكشف» شارح «الكشَّاف» في تفسير قوله تعالى(11): {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة:213]، وأمَّا الاتِّفاق على ملَّة الإسلام في زمن آدم(12) قبل أن يُحدِث قابيلُ ما أحدثه؛ محقَّقٌ مِن غير شبهةٍ.
[1] يعني البخاريَّ، وفي (ب): (هذه رسالة على).
[2] في (ب): (يتحملها).
[3] في (ب): (صنعه).
[4] في (ب): (بعث).
[5] في النسختين: (روحي).
[6] زيد في (ب): (تعالى).
[7] في (أ) تصحيفًا: (أوحيناك)، والمثبت موافق للتلاوة.
[8] في (أ) تصحيفًا: (فأوحى إليهم)، والمثبت موافق للتلاوة.
[9] (تعالى): ليس في (ب).
[10] في (ب): (بكفية).
[11] في (ب): (ما).
[12] زيد في (ب): (◙).