░░60▒▒ (كِتَابُ الْأَنْبِيَاءِ)
░1▒ (بَابُ خَلْقِ آدَمَ صلعم وَذُرِّيَّتِهِ)
{إِنَّ اللهَ اصْطَفَى آدَمَ...} الاية [آل عمران:33] بالرِّسالة والخصائص الرُّوحانيَّة، يتعدَّى بـ(من) إلَّا أنَّه ضُمِّنَ معنى (فضَّلَ) فعدَّاهُ بـ(على) حيثُ قيل: اصطفاهم على العالمين، والاصطفاءُ في اللُّغة: الاختيارُ، فمعنى (اصطفاهم) أي: صفَّاهم عنِ الصِّفات الذَّميمة وزيَّنَهم بالخصال الحميدة، وجعلَهم صفوةَ خلقِه، وقيل: إنَّ الأنبياءَ ╫ لا بدَّ وأن يكونوا مخالفين لغيرِهم في القوى الجسمانيَّة والقوى الرُّوحانيَّة؛ أمَّا القوى الجسمانيَّة إمَّا مدركةٌ وإمَّا محرِّكة؛ أمَّا المدركةُ فهي إمَّا الحواسُّ(1) الظَّاهرة، وإمَّا الحواسُّ الباطنة، فالأولى خمسة:
القوَّة الباصرة، وكان صلعم مخصوصًا بكمال هذه الصِّفة؛ لقولِه ╕: «زُوِيَتْ ليَ الأرضُ فرأيتُ مشارقَها ومغاربَها» ولقولِه صلعم: «أقيموا صفوفَكم وتراصُّوا، فإنِّي أراكم من وراء ظهري» ونظيرُ هذه القوَّةِ حصَلَ لإبراهيمَ ╕، فإنَّه تعالى قوَّى بصرَه حتَّى شاهدَ جميعَ الملكوت مِنَ الأعلى والأسفل، قيل: هذا غيرُ مُستَبعَدٍ؛ لأنَّ البُصراءَ يتفاوتون، فيُروَى: أنَّ زرقاءَ اليمامة كانتْ تُبصِرُ الشَّيءَ من مسيرة ثلاثة أيَّامٍ، فلا يبعد أن يكونَ بصرُ الأنبياء أقوى من بصرِها.
وثانيها: القوَّة السَّامعة، وكان صلعم أقوى النَّاسِ في هذه القوَّة؛ لقولِه صلعم: «أطَّت...» الحديث، وذُكِرَ أنَّه صلعم سمعَ دويًّا، وذُكِرَ أنَّه هويُّ صخرةٍ قُذِفَتْ في جهنَّمَ... الحديث، ومنه ما حصلَ لسليمانَ من سماعِه كلامَ النَّمل ووقوفه على معناهُ، وحصل ذلك لسيِّدِنا مُحمَّدٍ صلعم حين تكلَّمَ معَ الذِّئب والبعير والضَّبِّ.
وثالثُها: قوَّةُ الشَّمِّ؛ كما في حقِّ يعقوبَ عليه الصَّلاة / والسَّلام حين قال: {إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} [يوسف:94] فأَحَسَّ بها من مسيرة ثلاثة أيَّامٍ.
ورابعُها: قوَّةُ الذَّوقِ؛ كما وقعَ لنبيِّنا صلعم في قصَّة الذِّراع.
وخامسُها: قوَّة اللَّمس؛ كما وقعَ للخليل ╕ حيثُ جُعِلَتْ له النَّارُ بردًا وسلامًا، وكيف يُستَبعَد ويُشاهَد مثلُه في السَّمَنْدَل والنَّعامة(2)؟!.
وأمَّا الحواسُّ الباطنة فمنها قوَّةُ الحفظ، قال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى:6] وقوَّةُ الذَّكاء، قال عليٌّ ☺: علَّمني رسولُ الله صلعم ألفَ بابٍ مِنَ العلم، واستنبطْتُ من كلِّ بابٍ ألفَ بابٍ، فإذا كان حالُ الوليِّ هكذا فكيف حالُ النَّبيِّ؟!
وأمَّا القوَّة المحرِّكة فمثل عروجِه صلعم، وعروج عيسى ╕، ورفعِ إدريسَ وإلياسَ، وأمَّا القوَّةُ الرُّوحانيَّةُ العقليَّة فلا بدَّ وأن تكونَ في غاية الكمال ونهاية الصَّفاء، والحاصلُ أنَّ النَّفسَ القدسيَّةَ النَّبويَّة مخالفةٌ بماهيَّتِها لسائر النُّفوس، ومن لوازمِ تلك النَّفسِ الكمالُ في الذَّكاء والفطنة والحركة والتَّرفُّع مِنَ الكدورات الجسمانيَّة والشَّهوانيَّة، فإذا كانتِ الرُّوحُ في غاية الصَّفاء والشَّرف؛ كان البدنُ في غاية النَّقاء والطَّهارة، ونسبةُ الاصطفاءِ إلى الأبِ الأقربِ أَدَلُّ على تحقُّقِهِ في الآل، وهو الدَّاعي إلى إضافةٍ إلى (إبراهيمَ) دون (نوحٍ وآدمَ) ╨. وقيل: اصطفى آدمَ بأن خلقَه بيدِه أحسنَ تقويمٍ ونحوه، واصطفى نوحًا بكونِه أوَّلَ مَن نسخَ الشَّرائعَ، ولم يكنْ قبل ذلك تزويجُ المحارمِ حرامًا، وجعلَ ذرِّيَّتَهُ همُ الباقين، واستجابة دعوتِه في حقِّ الكَفَرة والمؤمنين، وحمله على متن الماء، والمُرادُ بـ(آل إبراهيمَ) إسماعيلُ وإسحاقُ والأنبياءُ من أولادِهما الذين من جملتِهمُ النَّبيُّ صلعم، وأمَّا اصطفاؤُهُ نفسَه فمعلومٌ بالطَّريق الأَوْلَى وبدعائِه؛ ولذلك قال نبيُّنا ╕: «أنا دعوةُ إبراهيمَ» وبـ(آل عمرانَ) عيسى وأمُّهُ مريمُ ابنة عمرانَ، وقيل: موسى وهارون، وبه استُدِلَّ على فضلِهم على الملائكة؛ لأنَّ الاصطفاءَ يدلُّ على مزيد الكرامة وعلوِّ الدَّرجة، فلمَّا بيَّنَ اللهُ تعالى أنَّه اصطفى آدمَ وأولادَه مِنَ الأنبياء على العالمين؛ وجبَ أن يكونوا أفضلَ مِنَ الملائكة، والمُرادُ بـ{الْعَالَمِينَ} أهلُ زمانِ كلِّ واحدٍ منهم؛ أيِ: اصطفاءُ كلِّ واحدٍ منهم على عالمي زمانِه دفعًا للتَّناقض؛ لأنَّ الجمعَ بما إذا وُصِفَ كلُّ واحدٍ منه بأنَّه أفضلُ من كلِّ العالمين يلزم مُفاضَلةُ كلِّ واحدٍ على الآخر، وهو مُحالٌ، فيُجابُ بأنَّه أفضلُ عالمي بلدتِه أو زمانِه أو جنسِه، وقال تعالى في صفة بني إسرائيلَ: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:47].
{ذُرِّيَّةً} أي: أنَّهم ذرِّيَّةٌ واحدةٌ متشعِّبةٌ {بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ} في الدِّين، والذُّرِّيَّة:ُ الولدُ، يقع على الواحد والجمع «فعليَّة» مِنَ الذَّرِّ، أو «فعولة» مِنَ الذَّرِّ {وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [آل عمران:34] رُوِيَ: (لمَّا نُفِخَ في آدمَ الرُّوحُ مارَتْ وطارَتْ، فصارَتْ في رأسِه، فعطسَ فقال: الحمدُ لله ربِّ العالمين، فقال اللهُ تعالى: يرحمُكَ اللهُ يا آدم) ورُوِيَ: (لمَّا صوَّرَ اللهُ آدمَ في الجنَّة تركَهُ ما شاءَ اللهُ أن يتركَه، فجعلَ إبليسُ يُطيفُ به ينظر إليه، فلمَّا رآه أجوفَ عرف أنَّه خلقٌ لا يتمالك)، (إنَّ اللهَ خلقَ آدمَ من قبضةٍ قبضَها من جميع أجزاء الأرض، فجاء بنو آدمَ على قدر الأرض، جاءَ منهمُ الأبيضُ والأحمرُ والأسودُ وبين ذلك، والسَّهلُ والحَزنُ، والخبيثُ والطَّيِّبُ) ورُوِيَ: (إنَّ اللهَ خلقَ أدمَ من طين الجابية، وعجنَهُ بماءٍ من ماء الجنَّة) ورُوِيَ: (خلقَ اللهُ آدمَ على صورتِه، وطولُه ستُّون ذراعًا، ثمَّ قال له: اذهبْ فسلِّمْ على أولئك النَّفرِ؛ وهم نفرٌ مِنَ الملائكة جلوسٌ، فاستمعْ ما يُحيُّونَكَ فإنَّها تحيَّتُكَ وتحيَّةُ ذرِّيَّتِكَ، فذهبَ فقال: السَّلام عليكم، فقالوا: السَّلام عليك ورحمةُ الله) فزادوهُ: (ورحمةُ الله) فكلُّ من يدخلُ الجنَّةَ على صورة آدمَ في طولِه ستُّون ذراعًا، فلم تَزَلِ الخلقُ تنقصُ بعدَهُ في الجمال حتَّى الآن، ورُوِيَ: (خلقَ اللهُ التُّربةَ يومَ السَّبت، وخلقَ فيها الجبالَ يومَ الأحد، وخلقَ الشَّجرَ يومَ الاثنين، وخلقَ المكروهَ يومَ الثُّلاثاء، وخلقَ النُّورَ يومَ الأربعاء، وبثَّ فيها الدَّوابَّ يومَ الخميس، وخلقَ آدمَ بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق، في آخر ساعةٍ من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى اللَّيل) ورُوِيَ: (خلقَ اللهُ آدمَ فضربَ كتفَهُ اليُمنى فأخرجَ ذرِّيَّةً بيضاءَ كأنَّهمُ اللَّبنُ، ثمَّ ضربَ كتفَهُ اليُسرى فأخرجَ ذرِّيَّةً سوداءَ كأنَّهمُ الحممُ، قال: هؤلاء في الجنَّة ولا أُبالي، وهؤلاء في النَّار ولا أُبالي).
(صَلْصَالٌ [الحجر:26]) إلى آخره، في موضعٍ خلقَهُ اللهُ {مِنْ تُرَابٍ} [آل عمران:59] وفي موضعٍ {مِنْ طِينٍ لَازِبٍ} [الصَّافَّات:11] وفي موضعٍ {مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ} [الحجر:26] وفي موضعٍ {مِنْ صَلْصَالٍ} [الحجر:26] وهذه الألفاظُ راجعةٌ إلى أصلٍ واحدٍ، وهو التُّرابُ الذي هو أصلُ الطِّين، فأَعْلَمَنا اللهُ ╡ أنَّه خلقَهُ من ترابٍ جُعِلَ طينًا، ثمَّ انتقلَ فصارَ كالحمأ المسنون، ثمَّ انتقلَ فصار صلصالًا كالفخَّار، قال الحكماء: أخطأَ عدوُّ الله في تفضيلِه / النَّارَ على الطِّين؛ لأنَّ الطِّينَ أفضلُ منها من أوجهٍ:
أحدها: أنَّ من جوهر الطِّين الرَّزانةَ والسُّكونَ والوقارَ والحِلمَ والأَناةَ والحياةَ والصَّبرَ؛ وذلك سببُ توبةِ آدمَ وتواضعِه وتضرُّعِه، فأورثَهُ المغفرةَ والاجتباءَ والهدايةَ، وجوهرُ النَّارِ الخفَّةُ والطَّيشُ والحدَّةُ والارتفاعُ والاضطرابُ؛ وذلك سببُ استكبارِ إبليسَ، فأورثَهُ اللَّعنةَ والهلاكَ.
والثَّاني: أنَّ الجنَّةَ موصوفةٌ بأنَّ ترابَها المسكُ، ولم يُنقَلْ أنَّ فيها نارًا.
الثَّالث: أنَّها سببُ العذاب، بخلاف الطِّين.
الرَّابع: أنَّ الطِّينَ مُستَغنٍ عنِ النَّار، وهي محتاجةٌ إلى مكانٍ، وهو التُّرابُ.
الخامس: أنَّ الطِّينَ سببُ جمعِ الأشياء، وهي سببُ تفريقِها، يُقال: صلَّ اللَّحمُ يصلُّ صلولًا؛ أي: أنتنَ، مطبوخًا كان أو نِيئًا(3).
و(الحمأُ) الطِّينُ الأسودُ، يُقال: حمأْتُ البئرَ؛ أي: كثَّرْتُ حَمَأَتَها، و(الحمأُ المسنونُ) المتغيِّرُ المُنْتِنُ، و(المسنونُ) المُصوَّرُ على صورةٍ ومثالٍ، وقد سَنَنْتُهُ: صوَّرتُه، وسنَنْتُ التُّرابَ: صببْتُهُ على وجه الأرض صبًّا سهلًا، عنِ ابن عبَّاسٍ ☻: أنَّه تعالى خلقَ آدمَ من أديم الأرض، فأُلقِيَ على وجه الأرض مسنونًا حتَّى صار طينًا لازبًا؛ وهو الطِّينُ الملتزق، ثمَّ تُرِكَ حتَّى صار حمأً مسنونًا؛ وهو المُنْتِنُ، ثمَّ خلقَهُ اللهُ تعالى بيدِه، وكان أربعين يومًا مُصوَّرًا حتَّى يبسَ وصارَ صلصالًا كالفخَّار إذا ضُرِبَ عليه صلصل، فخلقَ اللهُ آدمَ من طينٍ فصوَّرَهُ وتركَهُ في الشَّمس أربعين سنةً، فصار صلصالًا لا يدري أحدٌ ما يُراد منه، ولم يرَوا شيئًا مِنَ الصُّور يُشبِهُهُ إلى أن نُفِخَ فيه الرُّوحُ، فخُلِقَ آدمُ من طينٍ على صورة الإنسان فجفَّ، فكانتِ الرِّيحُ إذا مرَّتْ به سُمِعَ له صلصلةٌ؛ ولذلك سمَّاهُ اللهُ تعالى صلصالًا، وهو الطِّينُ اليابسُ الذي يُصلصَِلُ؛ أي: يُصوِّتُ وهو غير مطبوخٍ، وإذا طُبِخَ فهو فخَّارٌ.
[1] في الأصل: (الخواس).
[2] في الأصل: (السمند والنُّعمامة).
[3] في هامش الأصل: (بلغ).