شرح صحيح البخاري

باب المناقب

          ░░61▒▒(بَاب المَنَاقِبِ)
          وفي بعض الشُّروح: <كتاب> فعَلَى الأوَّل: هو مِنْ جملة (كتاب الأنبياء) وعلى الثَّاني: هو كتابٌ مستقلٌّ، والأوَّل أَوْلى، فإنَّهُ يظهر مِنْ تصرُّفِهِ أنَّهُ قصد سياق التَّرجمة النَّبوِيَّة بجمْعِ أموره صلعم مِنَ المُبتَدَأ إلى المُنتَهى، فبدأ بالنَّسَب، ثمَّ ذكر أشياء تتعلَّق بالشُّعوب والقبائل، ثمَّ النَّهيُ عن دعوى الجاهليَّة لافتخارهم بالأنسَابِ، ثمَّ صِفَتَهُ صلعم وشمائله ومعجزاته، واستطرد مِنهَا لفضائل أصحابه، ثمَّ أتبَعَها بأحواله قبل الهجرة وما جرى له بمكَّة، فذَكَر المبعث، ثمَّ إسلامَ الصَّحابَةِ، وهجرة الحبَشَة، والمعراج، وَوُفُود الأنصار، ثمَّ الهجرة، ثمَّ المغازي، ثمَّ الوفاة، وهو مِنْ جملة تراجم الأنبياء ╫، وختمها بخاتم الأنبِيَاء صلعم.
          ░1▒ (وَقَولُِ اللهِ ╡: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى}) مِنْ آدَمَ وحوَّاء، وخلَقْنَا كلَّ واحدٍ مِنكُم مِنْ أبٍ وأُمٍّ، فالكلُّ سواءٌ في ذلك، فلا وجه للتَّفاخر بالنَّسَب، ويجوز أن يكونَ تقريرًا / للأُخوَّة المانعة مِنَ الاغتياب ({وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ}) الشَّعب: الجمع العظيم المُنتَسبونَ إلى أصلٍ واحدٍ، وهو يجمع (القبائل) والقبيلة تجمع العمائر، والعِمارة تجمع البطون، والبطن يجمع الأفخاذ، والفخذ يجمع الفصائل، فخزيمة شَعبٌ، وكنانةُ قبيلةٌ، وقُرَيشٌ عِمارَة، وقُصَيٌّ بطنٌ، وهاشم فخذٌ، وعبَّاس ☺ فَصيلةٌ، وقيل: الشُّعوبُ بطونُ العجم، والقَبائلُ بطونُ العَرَبِ ({لِتَعَارَفُوا}) ليعرِفَ بعضكم بعضًا، لا للتَّفاخر بالآباءِ والقبائل، وقُرِئَ: {لِتَّعَارَفُوا} بالإدغام، و{لِتَتَعَارَفُوا} و{لِتَعْرِفُوا} ({إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}) فإنَّ التَّقوى بها تكمل النُّفوس وتتفاضل الأشخاص، فمَنْ أراد شرَفًا فليَلتَمِسْ مِنهَا؛ كما قال ╕: «مَنْ سرَّهُ أن يكونَ أكرم النَّاس فليتَّقِ الله» وقال: «يا أيُّها النَّاس(1) إنَّما النَّاسُ رَجُلانِ: مُؤمِنٌ تقيٌّ كريمٌ على الله، وفاجرٌ شقيٌّ هيِّنٌ على الله» {إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ} بكم {خَبِيرٌ} [الحجرات:13] ببواطنكم، وأشار المُصنِّف بإيرادها إلى أنَّ المناقب عند الله إنَّما هي بالتَّقوى بأن يعمل بطاعته ويكُفَّ عن معصِيَتِه، ورُوِيَ: أنَّ النَّبيَّ صلعم خطب النَّاس يَومَ الفتح فقال: «أمَّا بعدُ أيُّها النَّاس، فإنَّ الله قد أذهَبَ عنكم عَيبَ الجاهليَّة وفخرَهَا، ثمَّ تلا الآيةَ» وفي خطبةٍ أُخرَى: وهو بمِنًى على بعيرٍ: «يا أيُّها النَّاس إنَّ ربَّكُم واحدٌ، وإنَّ أباكم واحدٌ، أَلَا لا فضل لعربيٍّ على عجميٍّ، ولا لأَسوَد على أحمر إلَّا بالتَّقوى، خَيرُكُم عند الله أتقاكم».
          (وَقَولُهُ) تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} يعمُّ بني آدم {اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} آدَمَ {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي: أُمَّكُم حَوَّاء مِنْ ضلعٍ مِنْ أضلاعها {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} بيانٌ لكَيفيَّة توَلُّدهم مِنهُما؛ أي: وتنشر مِنَ النَّفس والزَّوج بنينَ وبناتٍ كثيرةً، واكتفى بوَصفِ الرِّجال بالكثرة عن وصف النِّساء بها؛ إِذِ الحكمة تقتضي أكثر، وذكر {كَثِيرًا} حملًا على الجمع، وترتيب الأمر بالتَّقوى على هذه القصَّة؛ لِمَا فيها مِنَ الدَّلائل على القدرةِ القاهرةِ الَّتي مِنْ حقِّها أن تُخشَى، والنِّعمةِ الباهرةِ الَّتي توجِبُ طاعةَ مولِيها ({وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ}) أي: يسأل بعضكم بعضًا به فيقول: أسألك بالله، وأصله: تتساءلون، فأُدغِمَتِ التَّاء الثَّانية في السِّين، وقرأ الكوفيُّون(2) بطرحها ({وَالْأَرْحَامَ}) بالنَّصب، عَطْفٌ على محلِّ الجارِّ والمجرور؛ كقَولِكَ: (مررْتُ بزَيدٍ وعَمْرًا) أو على {الله} فَصِلُوها ولا تقطعوها، وحمزة بالجرِّ، عطف على الضَّمير المجرور وهو ضعيفٌ؛ لكَونِهِ كالعطف على بعض الكلمة، وقُرِئَ بالرَّفع على أنَّهُ مُبتدَأٌ محذوف الخبر؛ أي: مِمَّا يُتَّقى أو يُتساءَل به، ونبَّهَ سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه على أنَّ صِلَتَها بمكانٍ مِنهُ، وفي الحديث: «الرَّحِم مُعلَّقةٌ بالعرش تقول: أَلَا مَنْ وَصَلني وَصَلَهُ الله، ومَنْ قطعني قَطَعَهُ» ({إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء:1]) حافظًا مُطَّلعًا، والمُرادُ بذكر هذه الآية: الإشارة إلى الاحتياج إلى معرفة النَّسَبِ أيضًا؛ لأنَّهُ يُعرَف به ذوو الأرحام المأمور بصِلَتِهِم، وفي علم النَّسَب ما هو مفروضٌ عَينًا وكفايةً ومُسْتَحَبٌّ، فمِنهُ أن يعلم أنَّ مُحمَّدًا رسول الله صلعم هو ابنُ عبد الله الهاشميُّ، فمَنْ زعم أنَّهُ لم يَكُنْ هاشميًّا فهُوَ كافرٌ، وأن يعلم أنَّ الخليفة مِنْ قُرَيشٍ، وأن يَعْرف مَنْ يلقاه بنَسَبٍ في رحم مُحرَمِهِ؛ ليجتنبَ تزويج ما يحرم عليه مِنهُم، وأن يعرف مَنْ يتَّصل به مِمَّن يَرِثُهُ، أو يجب عليه بِرُّهُ مِنْ صِلَةٍ أو نفقةٍ أو معاونةٍ، وأن يعرفَ أُمَّهات المؤمنينَ والصَّحابةَ لحبِّهِم، والأنصارَ لإيصائِهِ صلعم بحبِّهم والإحسان إليهم، وأنَّ حبَّهُم إيمانٌ وبغضهم نفاقٌ، ومنَ الفُقَهاء مَنْ يُفرِّق في الجِزيَة والاسترقاق بَينَ العرب والعجم، فحاجته إلى علم النَّسَب آكدُ(3)، وكذا مَنْ يُفرِّق بَينَ نصارى بني تغلب وغيرهم في الجِزيَة وتضعيفِ الصَّدقة، وفرض عُمَرُ الدِّيوان على القبائل، ولولا علم النَّسَب ما تخلَّص له ذلك، وتبِعَهُ عليه عثمان وعليٌّ وغيرهما، ولم يُنصِف مَنْ زعم أنَّ عِلمَ النَّسَب عِلمٌ لا ينفع وجهلٌ لا يضرُّ، بل ورَدَ: «تعلمونَ مِنَ أنسابكم ما تَصِلونَ به أرحامكم» والَّذي يظهر حمل ما ورد مِنْ ذِمَّةٍ على التَّعمُّق فيه، حتَّى يشتغل عمَّا هو أهمُّ مِنهُ وما ينهى عن دعوى الجاهليَّة الشُّعوب النَّسَبُ البعيدُ، والقبائل دون ذلك.


[1] في الأصل: (يا أيُّها س).
[2] في الأصل: (لكوفيون).
[3] في هامش الأصل: (بلغ).