♫
وَصَلَّى اللهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ
الْحَمْدُ للهِ وَكَفَى، وَسَلاَمٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى، أَمَّا بَعْدُ:
فَهَذِهِ كِتَابَةٌ حَوْلَ نُسْخَةِ «ابْنِ سَعَادَةَ» مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» الَّتِي اكْتُشِفَتْ أَخِيرًا، وَكَانَ عُلَمَاءُ الْبَحْثِ وَعُشَّاقُ الآثَارِ عَلَى يَأْسٍ مِنْ ظُهُورِهَا بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ مَكَتَبَةِ الْقُرَوِيِّينَ مِنْ نَحْوِ سِتِّينَ سَنَةً.
وَلاَ شَكَّ أَنَّ مِنَ الْمُنَاسِبِ التَّنْوِيهُ بِهَا الآنَ، حَيْثُ قَدْ مَثُلَتْ لِلطَّبْعِ بالتَّصْوِيرِ الْفُتُوغْرَافِيِّ بِبَارِيزَ(1)، فَنَقُولُ:
لاَ يَخْفَى عَلَى الْبَاحِثِ أَنَّ «صَحِيحَ الْبُخَارِيِّ» عِنْدَ جُمْهُورِ عُلَمَاءِ الإِسْلاَمِ أَصَحُّ الْكُتُبِ بَعْدَ الْقُرْآنِ، وَهُوَ عَلَى الْحَقِيقَةِ أَجْمَعُهَا لِنِظَامَاتِ الإِسْلاَمِ وَتَعَالِيمِهِ وَتَرَاتِيبِهِ، وَأَصَحُّ مَصَادِرِهِ وَأَقْرَبُهَا إِلَى زَمَنِ الْبِعْثَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ.
وَالْبُخَارِيُّ قَدْ حَمَلَ عَنْهُ كِتَابَهُ «الصَّحِيحَ» هَذَا نَحْوُ تِسْعِينَ أَلْفًا، وَلَكِنْ لَمْ يَشْتَهِرْ رَاوٍ عَنْهُ وَلاَ رِوَايَةٌ كَرِوَايَةِ أَبِي عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ يُوسُفَ بْنِ مَطَرٍ الْفِرَبْرِيِّ الْمُتَوَفَّى سَنَةَ عِشْرِينَ وَثَلاَثِ مِئَةٍ، وَكَانَ سَمَاعُهُ عَلَيْهِ لِـ «الصَّحِيحِ» مَرَّتَيْنِ، مَرَّةً بِفِرَبْرَ(2) سَنَةَ 248، وَمَرَّةً بِبُخَارَى سَنَةَ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ وَمِئَتَيْنِ(3)، فَإِنَّهُ أَتْقَنُ الرُّوَاةِ عَنِ الْبُخَارِيِّ، وَمِنْ آخِرِهِمْ سَمَاعًا عَنْهُ وَحَيَاةً بَعْدَهُ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي «الْمَشَارِقِ»: أَكْثَر الرُّوَاة عِنْدَنَا مِنْ طَرِيقِ الْفَرَبْرِيِّ وَالنَّسَفِيِّ، وَلَمْ يَصِلْ إِلَيْنَا مِنْ غَيْرِ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ / عَنْهُ، وَلاَ دَخَلَ الْمَغْرِبَ وَالأَنْدَلُسَ إِلَّا عَنْهُمَا عَلَى كَثْرَةِ رُوَاةِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ لِكِتَابِهِ. انْتَهَى.
وَقَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرِ فِي «هُدَى السَّارِي»: وَالرِّوَايَةُ الَّتِي اتَّصَلَتْ بالسَّمَاعِ فِي هَذِهِ الأَعْصَارِ وَمَا قَبْلَهَا هِيَ رِوَايَةُ الْفِرَبْرِيِّ. انْتَهَى.
وَقَدِ انْتَشَرَ الرُّوَاةُ عَنِ الْفِرَبْرِيِّ فِي الأَقْطَارِ، وَعَنْهُم الْعَدَدُ الْعَدِيدُ، وَلَكِنَّ أَشْهَرَ النُّسَخِ وَالرِّوَايَاتِ مِنْ طَرِيقِهِ رِوَايَةُ أَبِي ذَرٍّ.
قَالَ الْحَافِظُ فِي «الْفَتْحِ»: أَتْقَنُ الرِّوَايَاتِ عِنْدَنَا رِوَايَةُ أَبِي ذَرِّ لِضَبْطِهِ لَهَا وَتَمْييزِهِ لاخْتِلاَفِ سِيَاقِهَا، وَعَلَيْهِ نَقْتَصِرُ. انْتَهَى.
وَهُوَ أَبُو ذَرٍّ عَبْدُ بْنُ أَحْمَدَ الْهَرَوِيُّ الْمَكِّيُّ الْمَالِكِيُّ الْمَوْلُودُ سَنَةَ 355 وَالْمُتَوَفَّى سَنَةَ 434.
أَخَذَهَا أَبُو ذَرٍّ عَنْ شُيُوخِهِ الثَّلاَثَةِ: السَّرَخْسِيِّ وَأَبِي الْهَيْثَمِ الْكُشْمِيهَنِيِّ وَأَبِي إِسْحَاقَ الْمُسْتَمْلِي، وَهُمْ عَنِ الْفِـرَبْرِيِّ، عَنِ الْبُخَارِيِّ؛ وَعَنْهُ تَفَرَّقَتِ الطُّرُقُ وَتَشَعَّبَتْ، وَلَكِنَّ الرُّوَاةَ وَالرِّوَايَاتِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ وَإِنْ تَشَعَّبَتْ وَانْتَشَرَتْ فِي الْعَالَمِ الإِسْلاَمِيِّ، فَمُعْتَمَدُ الْمَغَارِبَةِ رِوَايَةُ ابْنِ سَعَادَةَ هَذِهِ.
أَخَذَهَا عَنِ الصَّدَفِيِّ(4)، عَنِ الْبَاجِيِّ(5)، عَنْ أَبِي ذَرٍّ؛ فَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبُخَارِيِّ خَمْسَةُ وَسَائِطَ، وَمُعْتَمَدُ رِوَايَةِ الْمَشَارِقَةِ رِوَايَةُ الْيُونِينِيِّ.
[1] عَامَ 1928م = 1347هـ، طُبِعَ فَقَطْ المُجَلَّدُ الأَوَّلُ المُوَافِقُ بالْخُمْسِ الثَّانِي مِنَ الأَصْلِ، ضِمْنَ مَطْبُوعَاتِ مَعْهَدِ المَبَاحِثِ العَالِيَةِ المَغْرِبِيَّةِ بِرِبَاطِ الفَتْحِ، وَاعْتَنَى بِنَشْرِهَا الأُسْتَاذُ لافِي برُوفِنْسَالُ مُدِيرُ مَعْهَدِ الرِّبَاطِ، وَجَاءَ العُنْوَانُ: «الجَامِعُ الصَّحِيحُ لِلإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللهِ البُخَارِيِّ، نُسْخَةٌ بِخَطِّ يَدِ أَبِي عِمْرَانَ مُوسَى بْنِ سَعَادَةَ الأَنْدَلُسِيِّ مَنْقُولَةٌ بالتَّصْوِيرِ الشَّمْسِيِّ».
[2] فربر بكسر الفاء، وقد تفتح. انظر معجم البلدان: 4/245.
[3] نقل الحافظ ابن نقطة في التقييد (1/132) عن الفربري أنه سمع «الجامع الصحيح» من أبي عبد الله بفربر في ثلاث سنين، في سنة ثلاث وخمسين وأربع وخمسين وخمس وخمسين، وكذا نقله ابن خير في فهرسه (ص83)، ولها شواهد ليس هذا موضع ذكرها، فيكون السماع في مرات ثلاث.
[4] هُوَ حُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ فِيرُّهْ بْنِ حَيُّونَ بْنِ سُكَّرَةَ الصَّدَفِيُّ، أَبُو عَلِيٍّ (446 - 514هـ = 1054 - 1120م) قَاضٍ، مُحَدِّثٌ، كَثِيرُ الرِّوَايَةِ. مِنْ أَهْلِ سَرَقُسْطَةَ. رَحَلَ إِلَى المَشْرِقِ رِحْلَةً وَاسِعَةً سَنَةَ 481 - 490هـ، وَأَقَامَ بِبَغْدَادَ خَمْسَ سِنِينَ، وَاسْتَقَرَّ بِمُرْسِيَةَ. وَاسْتُقْضِيَ بِهَا، ثُمَّ اسْتَعْفَى وَخَرَجَ مِنْهَا فَارًّا إِلَى المَرِيَّةَ، فَأَقَامَ بِهَا، وَقَبِلَ قَضَاءَهَا عَلَى كُرْهٍ. وَلَمَّا كَانَتْ وَقْعَةُ قَتَنْدَةَ، بِثَغْرِ سَرَقُسْطَة بالأَنْدَلُسِ، شَهِدَهَا غَازِيًا، وَاسْتُشْهِدَ فِيهَا. تَرْجَمَتُهُ فِي: «الصِّلَةِ» 1 / 144 - 146، «بُغْيَةِ المُلْتَمِسِ» 269، «الغُنْيَة» ص 192 - 201، «سِيَر أَعْلاَمِ النُّبَلاَءِ» 19 / 376، «الوَافِي بالْوَفَيَاتِ» 13 / 43، «عُيُون التَّوَارِيخِ» 13 / لوحة: 389 - 390.
[5] هُوَ سُلَيْمَانُ بْنُ خَلَفِ بْنِ سَعْدٍ التُّجِيبِيُّ القُرْطُبِيُّ، أَبُو الوَلِيدِ البَاجِيُّ (403 - 474هـ = 1012 - 1081م) فَقِيهٌ مَالِكِيٌّ كَبِيرٌ، مِنْ رِجَالِ الحَدِيثِ. تَرْجَمَتُهُ فِي: «الإِكْمَال» 1 / 468، «قَلاَئِد العِقْيَانِ» 215 - 216، «تَارِيخ دِمَشْقَ» 22 / 224 «الذَّخِيرَة» ق 2 / م 1 / 94 - 105، «تَرْتِيب المَدَارِكِ» 4 / 802 - 808، «الصِّلَة» 1 / 200 - 202، «سِيَر أَعْلاَمِ النُّبَلاَءِ» 18/ 535، «فَوَات الوَفَيَاتِ» 2 / 64 - 65.