قال البخاري: باب ما جاء في قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء: 164]
ثم ساق حديث أبي هريرة[7515] أن رسول الله صلعم قال: «احتجَّ آدم وموسى فقال موسى: أنت آدم الذي أخرجت ذريتك من الجنَّة، قال: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه ثم تلومني على أمر قدر عليَّ قبل أن أُخلق، فحجَّ آدم موسى».
وحديث أنس[7516] قال النبي صلعم: «يُجمع / المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا فيريحنا من مكاننا هذا، فيأتون آدم فيقولون له: أنت أبو البشر خلقك الله بيده وأسجد لك ملائكته وعلَّمك أسماء كل شيء، فاشفع لنا إلى ربنا حتى يريحنا فيقول لهم: لست هناكم، فيذكر لهم خطيئته التي أصاب».
وحديثه ليلة أسري برسول الله صلعم من مسجد الكعبة[7517] أنه جاء ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في مسجد الحرام، فقال أولهم: أيهم هو؟ فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خَيرَهم. فكانت تلك الليلة، فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يَرى قلبه، وتنام عينه ولا ينام قلبه، وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم، فلم يكلموه حتى احتملوه فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشقَّ جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه، فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه، ثم أتى بطست من ذهب وبه تَور من ذهب محشو إيمانًا وحكمةً، فحشا به صدره ولغاديده _يعني: عروق حلقه_، ثم أطبقه، ثم عرج به إلى السماء، فضرب بابًا من أبوابها، فناداه أهل السماء: من هذا؟ فقال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: معي محمد، قالوا: وقد بعث؟ قالوا: نعم، قالوا: فمرحبًا به وأهلًا، فيستبشر به أهل السماء، لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم، فوجد في السماء آدم، فقال له جبريل: هذا أبوك فسلِّم عليه، فسلِّم عليه ورد عليه آدم، وقال: مرحبًا وأهلا بابني، نعم الابن أنت، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطَّردان، فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النيل والفرات عنصرهما، ثم مضى به في السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده فإذا مسكٌ أذفر، قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هو الكوثر الذي خبأ لك ربك، ثم عرج به إلى السماء الثانية، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الأولى من هذا، قال: جبريل، قالوا: ومن معك؟ قال: محمد، قالوا: وقد بعث إليه؟ قال: نعم، قال: مرحبًا به وأهلا، / ثم عرج به إلى السماء الثالثة، فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية، ثم عرج به إلى السماء الرابعة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء الخامسة، فقالوا مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء السادسة، فقالوا له مثل ذلك، ثم عرج به إلى السماء السابعة، فقالوا له مثل ذلك، كل سماء فيها أنبياء قد سماهم، منهم إدريس في الثانية، وهارون في الرابعة، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه، وإبراهيم في السادسة، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله، فقال موسى: رب لم أظن أن ترفَعَ عليَّ أحدًا، ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله، حتى جاء سدرة المنتهى، ودنا الجبار رب العزة، فتدلى حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى، فأوحى الله إليه فيما يوحي إليه: خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة، ثم هبط حتى بلغ موسى، فاحتبسه موسى، فقال: يا محمد، ماذا عهد إليك ربك؟ قال: عهد إليَّ خمسين صلاة كل يوم وليلة، قال: إن أمتك لا تستطيع ذلك، فارجع فليخفِّف عنك ربك وعنهم، فالتفت النبي صلعم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك، فأشار عليه جبريل: أَنْ نعم إن شئت، فعلا به إلى الجبار، فقال وهو مكانه: يا رب خَفِّف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا، فوضع عنه عشر صلوات ثم رجع إلى موسى، فاحتبسه فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات، ثم رجع إلى موسى فاحتبسه عند الخمس، فقال: يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا وتركوه، فأمتك أضعف أجسادًا وقلوبًا وأبدانًا وأبصارًا وأسماعًا فارجع فليخفِّف عنك ربك، كل ذلك يلتفت النبي صلعم إلى جبريل ليشير عليه، ولا يكره ذلك جبريل، فرفعه عند الخامسة، فقال: يا رب إن أمتي ضعفاء أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبدانهم فخفِّف عنا، قال الجبار جلَّ جلاله: يا محمد، قال: لبيك وسعديك، قال: إنه لا يبدل القول لديَّ، كما فرضته عليك في أم الكتاب، فكل حسنة بعشر أمثالها، فهي خمسون في أم الكتاب، / وهي خمس عليك، فرجع إلى موسى، فقال: كيف فعلت؟ فقال: خفَّف عنا، أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها، فقال موسى: قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه، ارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضًا، قال رسول الله صلعم: يا موسى، قد والله استحييت من ربي مما اختلفت إليه، قال: فاهبط باسم الله، فاستيقظ وهو في مسجد الحرام.
أقول: سبق في الكلام على قول البخاري[قبل7485] باب كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة، أن البخاري قسم المخاطب بالكلام إلى أربعة أقسام، وأن هذا الباب هو القسم الثالث، وسبق في الكلام على قول البخاري[قبل7379] باب قوله تعالى {أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ}[النساء: 166] قول الشافعي إمامنا في ذلك.
قال البيهقي في «مناقبه»: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، أخبرنا الحسن بن رشيق المصري إجازة، حدَّثنا محمد بن سفيان بن سعيد الخياط، حدَّثنا محمد بن إسماعيل الأصبهاني بمكة، سمعت الجارودي يقول: ذكر الشافعي إبراهيم بن إسماعيل بن علية فقال: أنا مخالف له في كل قول، وفي قوله: لا إله إلا الله، لست أقول كما يقول، أنا أقول: لا إله إلا الله الذي كلم موسى من وراء حجاب، وذاك يقول: لا إله إلا الله الذي خلق كلامًا أسمعه موسى من وراء حجاب، انتهى.
إذا تقرر ذلك فالكلام على ما ترجم به البخاري من الآية قوله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} هذا تشريف لموسى ◙ بهذه الصفة، ومن ثم يقال له: الكليم.
قال ابن مردويه: حدَّثنا أحمد بن محمد بن سليمان المالكي، حدَّثنا شيخ بن حاتم، حدَّثنا عبد الجبار بن عبد الله، قال: جاء رجل إلى أبي بكر بن عباس فقال: سمعت رجلًا يقرأ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}، فقال أبو بكر: ما هذا إلا كافر، قرأت على الأعمش، وقرأ الأعمش على يحيى بن دياب، وقرأ يحيى بن دياب على أبي عبد الرحمن السلمي، وقرأ أبو عبد الرحمن على علي بن أبي طالب، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله صلعم: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}، وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عباس ☼ على من قرأ كذلك؛ لأنه حرَّف لفظ القرآن / ومعناه، ولعل ذاك الرجل كان من المعتزلة الذين ينكرون أن الله كلم موسى أو يكلم أحدًا من خلقه، كما جاء عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}، فقال له: يا ابن اللخناء فكيف تصنع بقوله تعالى: {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ}؟ يعني: أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل.
وقال ابن مردويه: حدَّثنا محمد بن أحمد بن إبراهيم، حدَّثنا أحمد بن الحسين بن بهرام، حدَّثنا محمد بن مرزوق، حدَّثنا هانئ بن يحيى، عن الحسن بن أبي جعفر، عن قتادة، عن يحيى بن وثاب، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: «لما كلَّم الله موسى كان يبصر دبيبَ النمل على الصَّفا في الليلة الظلماء» وهذا حديث غريب وإسناده لا يصح، وإذا صح موقوفًا كان جيدا.
وقد روى الحاكم في «مستدركه» [1/35] وابن مردويه من حديث حميد بن قيس الأعرج، عن عبد الله بن الحارث، عن ابن مسعود قال: قال رسول الله صلعم: «كان على موسى ◙ لما كلمه ربه جبة صوف وكساء صوف، ونعلان من جلد حمار غير ذكي».
وقال ابن مردويه بإسناده عن جويبر عن الضحاك، عن ابن عباس قال: إن الله ناجى موسى بمائة ألف حلة وأربعين ألف حلة في ثلاثة أيام وصايا كلها، فلما سمع موسى كلام الآدميين مقتهم مما وقع في مسامعه من كلام الرب ╡، وهذا إسناد ضعيف، فإن جوبير ضعيف والضحاك لم يدرك ابن عباس.
وقال الغزالي في «الإحياء»[4/339]: الأنس بالله يلازمه التوحش من غير الله، بل كل ما يعوق عن الخلوة فيكون من أثقل الأشياء على القلب، كما روي أن موسى ◙ لما كلمه ربه فمكث دهرا لا يسمع كلام أحد من الناس إلا أخذه الغشيان؛ لأن الحب يوجب عذوبة كلام المحبوب وعذوبة ذكره، فيخرج من القلب عذوبة ما سواه.
وقال ابن الجوزي في كتابه «روح الروح في الوعظ»: كان موسى ◙ إذا أراد أن يذهب للمناجاة يطوف في السكك على المساكين، فيقول: من له حاجة إلى ربه فأنوب عنه، فيقال له: ما تريد بذلك، / فيقول: ليطول سماعي منه وكلامي له، هذا شأن المحبين، انتهى.
قلت: ويشهد لذلك قوله تعالى حكاية عنه ◙: {قَالَ هِيَ عَصَايَ}[طه: 18]، وقد مَثَّلَ به أهل المعاني لذكر المسند إليه من جهة بسط الكلام حيث الإصغاء مطلوب؛ أي: في مقام يكون إصغاء السامع مطلوبا للمتكلم لعظمته وشرفه، والله أعلم.
وقد روى ابن أبي حاتم(1) وابن مردويه وغيرهما من طريق الفضل بن عيسى الرقاشي، عن محمد بن المنكدر قال: لما كلم الله موسى يوم الطور كلمه بغير الكلام الذي كلمه يوم ناداه، فقال له موسى: يا رب هذا كلامك الذي كلمتني به؟ قال: لا يا موسى، إنما كلمتك بقوة عشرة آلاف لسان ولي قوة الألسنة كلها، وأنا أقوى من ذلك، فلما رجع موسى إلى بني إسرائيل قالوا: يا موسى صف لنا كلام الرحمن؟ قال: لا أستطيعه، قالوا: شَبِّه لنا، قال: ألم تروا إلى صوت الصواعق، فإنها قريب منه وليس به.
وقال عبد الرزاق(2): أخبرنا معمر، عن الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث، عن جزء بن جابر الخثعمي، عن كعب قال: إن الله لما كلم موسى بالألسنة كلها فقال له موسى: يا رب هذا كلامك؟ قال: لا، ولو كلمتك بكلامي لم تستقم له، فقال: يا رب، فهل من جليل شيء يشبه كلامك، قال: لا، قال: وأشد خلقي شبهًا بكلامي أشد ما تسمعون من الصواعق، وهذا موقوف على كعب الأحبار، وهو يحكى عن الكتب المتقدمة المشتملة على أخبار بني إسرائيل، وفيها: الغث والسمين.
قال الثعلبي في «العرائس»: قال العلماء: يشير الأنبياء ‰ لما ورد موسى أرضَ مَدْيَن وأتى عليه من يوم وروده تسع سنين، قال له شعيب: إني قد وهبت لك من أغنامي كل أبلق وبلقى من الحملان والجدايا التي رضعها أغنامي في هذه السنة، يعني: السنة العاشرة، أراد بذلك تبرئة موسى وصلة ابنته صفورا امرأة موسى، قالوا: فأوحى الله تعالى إلى موسى أن اضرب بعصاك الماء في سقي الأغنام، ففعل ذلك موسى، ثم سقى الأغنام، فما أخطأت واحدة من تلك الأغنام إلى أن / وضعت حملها من بين بلقى وأبلق، فعلم شعيب أن ذلك رزق ساقه الله إلى موسى وأهله، فوفى موسى بشرطه وسلم إليه الأغنام على ما وهبها منه، وقضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما، فلما قضى الأجل وسار بأهله منفصلا عن أهل مدين أيام الشتاء ومعه أغنامه وامرأته وهي في شهر وضعها لا تدري أليلًا تضع أم نهارًا، انطلق في برية الشام عادلًا عن المدائن والعمران مخافة الملوك الذين كانوا بالشام، وكان أكبر همه يومئذ طلبه أخاه هارون وإخراجه من مصر إن استطاع إليه سبيلًا، فسار موسى في البرية غير عارف بطرقها، فألجأه المسير إلى جانب الطور الغربي الأيمن في عشية شاتية شديدة البرد وأظلم عليه الليل وأخذت السماء ترعد وتبرق وتمطر، وأخذ امرأته الطلق، فعمد موسى إلى زَنده وقَدَحه مرات فلم ينور نارًا، فتَحيَّر وقام وقعد إذ لم يكن له عهد بمثل ذلك في الزَّند، وأخذ يتأمل ما قرب وما بعد تحيرًا وضجرًا، ثم تسمَّع طويلًا هل يسمع حسًا أو حركةً، فبينا هو كذلك إذ آنس من جانب الطور نورًا فحسبه نارًا {فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى}[طه: 10] يعني: من يدلني على الطريق، وكان قد ضل الطريق، فلما أتاها رأى نورًا عظيمًا ممتدًا من عنان السماء إلى شجرة عظيمة هناك، واختلفوا في تلك الشجرة ما كانت فقيل: العوسجة، وقيل: العناب فتَحيَّر موسى وارتعدت فرائصه حيث رأى نارًا عظيمة وليس لها دخان تلتهب وتشتعل من جوف شجرة خضراء، ولا تزداد الشجرة إلا خضرة ونضرة، فلما أتاها تأخرت عنه، فلما رأى تأخرها عنه رجع عنها وخاف، ثم ذكر حاجته إلى النار فرجع إليها، فدنت منه {نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى} فنظر فلم ير أحدًا فنودي: {إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}، فلما سمع ذلك علم أنه ربه، فناداه ربه أن ادنُ واقترب، فلما قرب وسمع النداء ورأى تلك الهيبة / خفق قلبه وكلَّ لسانه وضعفت بنيته وصار حيًا كميت إلا أن روح الحياة تردد فيه من غير حراك، فأرسل الله تعالى إليه ملكا يسند ظهره ويقوي لسانه وقلبه، فلما ثاب إليه عقله نودي: اخلع نعليك، إنك بالوادي المقدس طوى.
قالوا: والسبب في أمره بخلع نعليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد الأصفهاني، أخبرنا أحمد بن يحيى العبدي، حدَّثنا أحمد بن بجدة، حدَّثنا الجمالي، حدَّثنا عيسى بن يونس، عن حميد بن عبد الله، عن عبد الله بن الحارث القيسي، عن عبد الله بن مسعود، عن النبي صلعم في قوله ╡: {اخْلَعْ نَعْلَيْكَ} قال: «كانتا من جلد حمار ميت»، وفي بعض الأخبار: «غير مدبوغ».
وقال مجاهد وعكرمة: إنما قال له: {اخْلَعْ نَعْلَيْكَ} كي يمس راحة الأرض الطيبة وتناله بركتها؛ لأنها قدست مرتين.
قال سعيد بن جبير: إنما قال له ذلك؛ لأن الحفوة من أمارات التواضع والاحترام، فقيل له: طأ الأرض حافيًا كما تدخل الكعبة من بركة الوادي.
وقال أهل الإشارة: التنعل عبارة عن المرأة، وذلك تأويله في المنام، فقيل: فَرِّغ قلبك من شغل أهلك، ثم قال الله ╡ إيناسًا له بذلك وتسكينًا لقلبه وإذهابًا لرهبته: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى. قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا}الآية[طه: 17 - 18]، فقال له الله ╡: {أَلْقِهَا يَا مُوسَى. فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى} قد صارت شُعبتاها [فَمَها] ومحجنها عرفا لها في ظهرها تهتز لها أنياب، وهي كما شاء الله أن تكون، فرأى موسى أمرًا فظيعًا، فولى مدبرًا ولم يعقِّب، فناداه ربه أن {يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ}[القصص: 31] {سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى}[طه: 21] أي: نردها عصى كما كانت.
ويقال: إن الحكمة في أمر الله ╡ إياه بإلقاء العصا قبل أن يصل إلى فرعون؛ لكيلا يفزع منها إذا رآها على تلك الحالة عند فرعون، فلما أقبل موسى قال له: خذها إن كانت عصاك، ولا تخف؛ لأنه كان ادعى الملك، فنبه على ذلك، وكان على موسى جبة صوف فلفَّ كمه / على يده، ثم أدخل يده وهو هائب لها، فنودي أن احْسِرْ عن يدك، فحَسَر عن يده ثم أدخل يده بين لحييها، فلما أدخل قبض فإذا هي عصاه في يده ويده بين شعبتيها حيث كان يضعها، ثم قال له: {أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ}[النمل: 12]، وإنما قال: في جيبك؛ لأنه لم يكن لملبوسه كم واسع فضاق عنه، فأدخل يده في جيبه ثم أخرجها فإذا هي نور يلتهب يكل عنه البصر، ثم ردها، فخرجت كما كانت على لون بدنه، فقال الله تعالى: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ}[القصص: 32]، ثم قال له: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}[النازعات: 17] فقال موسى: رب {قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ. وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا} إلى قوله: {وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا} الآية[القصص: 33 - 35].
وقال له: يا موسى إني أوقفتك موقفًا لا أجعل لأحد عليك سلطانًا دوني، ولا ينبغي لمن بعدك أن يسمع كلامي، وأنت في أقرب الأماكن مني، وعلى موسى يومئذ مِدْرعَة قد جلّلها بجِلالٍ وجبة من صوف وثياب من صوف وقلنسوة من صوف، والله تعالى يكلمه ويعيد إليه ويقول له: يا موسى انطلق برسالتي وأنت بعيني وسمعي ومعك قوتي ونصرتي تعينك، إلى خلق ضعيف من خلقي بطر نعمتي وأمن مكري وعبد دوني وغرته الدنيا حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي وزعم أنه لا يعرفني، وإني أحلف وعزتي وجلالي لولا الحجة والعذر اللذان جعلتهما بيني وبين خلقي لبطشت به بطشة جبار يغضب لغضبه السماوات والأرض والبحار والجبال والشجر والدواب، فلو أذنت للسماء لحصبته، وللأرض لابتلعته، وللجبال لدكدكته، وللبحار لغرقته، ولكن سقط عن عيني وهان عليَّ وصغر ووسعه حلمي، وأنا الغني عنه وعن جميع خلقي، وحق ذلك لي وأنا خالق الغنى والفقر، لا غني إلا من أغنيته ولا فقير إلا من أفقرته، فبلغه رسالتي وادعه إلى عبادتي وتوحيدي والإخلاص لي، وحذِّره نقمتي وبأسي، وذكِّره آياتي وأعلمه أنه لا يقوم لغضبي شيء، وقل له فيما بين ذلك قولًا / لينًا؛ لعله يتذكر أو يخشى، وكَنِّهِ في خطابك إياه ولا يروعك ما ألبسته من لباس الدنيا، فإن ناصيته بيدي ولا يطرف ولا ينظر ولا يتنفس إلا بعلمي، وأخبره بأني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة، وقل له: أجِبْ ربك، فإنه واسع المغفرة قد بلغك طول المدة، وفي كلها تدعي الربوبية دونه، وتصد عن عبادته، وهو في كل ذلك يمطر عليك السماء ويُنبت لك الأرض ويُلبسك العافية حتى لم تسقم ولم تهرم ولم تقهر ولم تغلب، ولو شاء لعاجلك بالنقمة ولأسلبك ما كنت فيه، ولكنه ذو حلم عظيم، ثم أمسك عن موسى سبعة أيام بلياليها، ثم قيل له بعد سبع ليال: أجب ربك يا موسى فيما علمك {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} إلى قوله: {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا}[طه: 25 - 35]، فقال الله تعالى: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى}[طه: 36] فجاهد بنفسك وأخيك، وكان قد خطر ببال موسى أن فرعون في جند عظيم وخلق كثير وأنا وأخي فريدان وحيدان، فقال له الله تعالى: إنكما جندان عظيمان من جنودي، وأنا أسمع وأرى أبصركما وأكون معكما ولا تستضعفان ولا تستقلان، ولو شئت أن آتيه بجنود لا قبل له بها فعلت، ولكن ليعلم ذلك الشقي والضعيف الذي قد أعجبته نفسه وجنوده أن الفئة القليلة _ولا قليل معي_ تغلب الفئة الكبيرة بإذني، ولا تعجبنكما زينته ولا تهولنكما عدته، فلو شئت أن أزينكما من زينة الدنيا وبهجتها بما يبهت فرعون وملأه فعلت، ولا تأسفا على ما أزويه عنكما من متاع الدنيا وزينتها وإن ذلك دَأبي في أوليائي لكي يستكملوا نصيبهم من كرامتي في الآجل.
واعلم أنه لا يتزينن أحد من عبادي بزينة هي أبلغ من الزهد في الدنيا، وهي زينة الأبرار، ويقال: إن الله كلمه في تلك المدة بمائة ألف وأربعة آلاف كلمة يقول له مع كل كلمة: وقتلت نفسًا بغير حق.
ويروى أن موسى سئل: بم عرفت أن الذي يكلمك هو الله تعالى؟ فقال: لأن كلام المخلوق يسمع من جهة واحدة بحاسة واحدة وهي السمع، وإني كنت أسمع كلام الله عزَّ / وجَلَّ من جميع الجهات بجوارحي كلها، فعرفت أنه كلام الله ╡ قالوا: ولما صعد موسى ◙ الجبل لمناجاة ربه صار الجبل عقيقًا، فلما نزل موسى عنه عاد إلى حالته الأولى حجرًا، فلما رجع موسى شيَّعته الملائكة، انتهى مقصودنا من كلامه.
وفي «حقائق السلمي» ما نصه: قوله تعالى: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى. إِنِّي أَنَا رَبُّكَ}[طه: 11 - 12] قال جعفر: قيل لموسى ◙: كيف عرفت أن النداء هذا نداء الحق؟ فقال: لأنه اكْتَنَفني وشَمَلني، وكأنّ كل شعرة مني كانت مخاطبة بنداء من جميع الجهات، وكأنها تعبر من نفسها بجواب، فلما شملتني أنوار الهيبة وأحاطت بي أنوار العزة والجبروت، علمت أني مخاطب من جهة الحق، ولما كان أول الخطاب {إِنِّي} تم بعده، أما علمت أنه ليس لأحد أن يخبر عن نفسه باللفظتين جميعًا متتابعًا إلا الحق، فأدهشت وهو كان محل الفناء، فقلت: أنت أنتَ الذي لم تزل ولا تزال، ليس لموسى معك مقام ولا له جرأة الكلام إلا أن تبقيه ببقائك، وتَنعتَه بنعوتك فتكون أنت المخاطب والمخاطب جميعًا فقال: لا يحمل خطابي غيري، ولا يجيبني سواي، أنا المكلم وأنا المكلم وأنت في الوسط شبح يقع لك محل الخطاب، انتهى.
وقال ابن الجوزي: لما خرج موسى بأهله من مدينة مَدْيَن يقصد أرض مصر، انطلق طلق الطلق بزوجته، فما زال يكادح المَقادح فلم تُور؛ لأن عروس نار الطور لما همت بالتجلّي نوديت النيران بلسان الغيرة من المشاركة غُضَّي، فقام على أقدام التحيُّر، فهتف به أنيس أنس فأنس:
وما عرضَتْ لي نظرةٌ مذ عَرفتُه فأنظر إلا كانَ لي حيثُ أَنظُرُ
أَغارُ على طَرفي له وكأنني إذا رام طرفي غيره لستُ أُبصِرُ
فيا مُنتهى سِرّي وذُخري وغايتي ودادُكَ في قَلبي إلى يوم أُحشَرُ(3)
وكان لما أظلم الجو كالقار، وأبت الزناد أن تقدح النار، لاح لبصر بصير الاختبار / من جانب الطور نار، فأنس الإيناس في نور نارية تلك النار، رجع موسى إلى أهله تتحفه أسرار {إِنِّي آنَسْتُ نَارًا}[النمل: 7]، فشمرَّ موسى عن ساق القصد وساق، فأعمل بتَعِلَّةِ المطلب، فإذا هو بنار عظيمة تفور من فروع شجرة خضراء شديدة الخضرة، ولا تزداد النار فيما نرى إلا تنورًا وعظمًا، ولا تزداد الشجرة على شدة الحريق إلا خضرة وتنعمًا.
يا حارِ إن الركبَ قد حاروا اذهبْ تحسَّسْ لمن النارُ
تبدو وتخبو إن خَبت عرسوا وإن أضاءت لهمُ ساروا
ما نظرة إلا لها سَكرة كأنما طرفك خَمّارُ
وكشف عن بصره فرأى الملائكة صفوفًا فقال لهم: فيم اجتمعتم ولماذا جمعتم؟ قالوا: نزلنا عن سَمْك سِماك المطالع العُلوية؛ لنحضر في حضرة حضيرة اصطفاء الهيبة الموسوية كي نسمع التكليم ونشاهد التكريم، قال موسى: الاسم كالاسم والرسم كالرسم، ليتني كنت صاحب هذا التكليم، وأنال شرف سَرْمَدِ التكريم، مد موسى باع الطلب وسط نادي الطرب، ونار الأنوار قد تأججت على شجرة الأسرار، فلما أتى النادي نودي، ناداه عالم علمه فَهَّمه ترجمان فَهمه، قال: أليس من شأن النار عند مقابلة الأشجار الإحراق مع الإشراق، فما بال هذه النار تشرق ولا تأكل ولا تحرق؟ إنما هذه النار أسرار أنوار، فإذا بحضرتها قد صارت عمودا بين السماء والأرض، فاشتد خوفه وكاد يخالط في عقله من شدة الخوف، فنودي من الشجرة: يا موسى، فأجاب سريعا وما يدري من دعاه، فقال: لبيك أسمع كلامك ولا أرى مكانك، فأين أنت؟ قال: أنا فوقك ومعك وأقرب إليك منك، فحين ذاق لذة التكليم جرحَ قلبه نَصْلُ الشوق فلم يداوه إلا طبيب، وواعدنا:
ليالينا بذي الأَثَلات عودي ليورق في رُبَى الأثلات عودي
فإن نسيم ذاك الشِّيحِ أذكى لديَّ من انتشاقي عطر عود(4) /
وإن حديثكم في القلب أحلى وأطيبُ نغمةً من صوتِ عود
وسبق في الكلام على قول البخاري قول الله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} الآية[القيامة: 22] ما أنشده من الأبيات:
اسألوه ثم قالوا لا تبح
الأبيات حيث نقلنا على قوله تعالى {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً} الآية[الأعراف: 142].
وسبق في السؤال قِطعة مما ذكره أيضا ثم قال: فلما دارت في دائرة دار الحبِّ كؤوس للقُرب، العَرب، وسمع النِّداء وسط النادي بلا واسطة، وسيط له من وسط أمداح المنى في المناجاة بلا وسيط طاب له شراب الوصال من أوطاب الخطاب في أواني سماع الكلام فناداهُ تَوْقُ شَوقِهِ
أوانٌ أنت في هذا الأوانِ [ عن الرَّاحِ المزَوَّقِ في الأواني]
رأى على الفور وميضًا فاشتاق، فصاح لسان الوجد: أرِني فردَّ شارد شحذان الشوق على الطَّوى بطوق لن [تَراني] إلا أن جزع الفِطام سكن شعله [بتَعِلَّة] ولكن فلما تجلى جلَّ جلاله للجبل مر فخر موسى في بحر الصعق [فَرَقا] فرقي فرقه ذروة {سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ}[الأعراف: 143] ما انبسط موسى يقول: أرني إلا ببسط سَلْني ولو ملح عجينكن، ولو تركه مع رعيه الغنم في شِعْبِ شُعيب ما جال في ظنه ذلك الطمع ولكنه استدعاه بالنداء وآنسه بالتقريب وباسطه بالتكليم.
فلمَّا عاينَ الحيرةَ حادي جَمَلي حارا
كان موسى يطوف في بني إسرائيل ويقول: من يُحمِّلني رسالةً إلى ربي؟ ما كان مراده إلا أن يُطوِّلَ الحديثَ مع الحبيب:
فقلت له رُدَّ الحديث الذي انقضى وذكراك من ذاك الحديث أُريدُ
يجدد تذكار الحديث مَودَّتي فذكراك عندي والحديث جَديدُ
أناشده إلا أعاد حديثَه كأني بطيء الفهم حين يعيد(5)
وأما الكلام على ما ساقه البخاري من الأحاديث: فالحديث الأول حديث أبي هريرة احتجَّ آدم وموسى .. . الحديث،[خ¦ 3409] وفيه أمور:
الأمر الأول: هذه المحاجَّة كانت عند ربهما سبحانه وتعالى كما رواه مسلم[2652/15] من حديثه قال: قال رسول الله / صلعم: «احتجَّ آدمُ وموسى عند ربِّهما فحجَّ آدمُ موسى، قال موسى: أنتَ آدم الذي خلقكَ الله بيده، ونفخَ فيك من روحه، وأسجدَ لك ملائكته، وأسكنك في جنته، ثم أهبطتَ الناس بخطيئتك إلى الأرض؟ قال آدم: أنتَ موسى الذي اصطفاك الله برسالته وبكلامه، وأعطاكَ الألواح فيها تبيان كل شيء، وقرَّبكَ نجيًّا فبكم وجدت الله كتبَ التوراة قبل أن أُخلق؟ قال موسى: بأربعين عامًا، قال آدم: فهل وجدتَ فيها وعصى آدم ربه فغوى؟ قال نعم قال: أفتلومني على أن عملتُ عملًا كتبه الله عليَّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة».
الأمر الثاني: هذا الحديث حجة للجمهور القائلين بأن الجنَّة التي أسكنها آدم وأهبط منها جنة الخلد ووجه الدلالة متوقف على تفسير الآية قوله تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ}[البقرة: 35] أي لازم الإقامة واتخذها مسكنا وهي محل السكون وسكن إليه يسكن سكونًا والسكن الدار قال الشاعر:
قد قُوِّمَت بسَكَنٍ وأدْهان
والسَّكَنُ كلُّ ما يسكن إليه والسِّكّين معروفة سمي به لأنه يسكن حركة المذبوح، ومنه المسكين لقلة تصرفه وحركته، وسكان السفينة عربي لأنه يسكنها عن الاضطراب والمعتبر في السكنى البدن خاصة.
قال أصحابنا: حلف لا يسكنها فليَخرُج في الحال، فإن مكثَ بلا عذرٍ حنث طال مكثه أم لا أخرج أهله وأثاثه وبقي وحده أم لا.
قال الماوردي: لقوله تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي} الآية[إبراهيم: 37] فأخبر بإسكانهم مع خلوهم من مالهم ورَحلهم فدلَّ على أن المعتبر البدن ولأنه حلف على سكنى نفسه لا أهله ومتاعه، وقد قال تعالى: {بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ}[النور: 29] قوله تعالى: {أَنْتَ} كاليد للمضمر الذي في الفعل ومثله {اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ}[المائدة: 24] ولا يجوز اسكن وزوجك الجنَّة ولا اذهب وربك.
قال ابن مالك: ويضعف العطف على ضمير الرفع المتصل ما لم يفصل بتوكيد أو غيره أو يفصل العاطف بلا، انتهى.
وقد يعطف بلا فصل كقول جرير: /
ورَجا الأُخَيطِلُ من سَفاهةِ رأيه ما لمْ يكُن وأَبٌ له لِيَنالا
وقول عمر بن أبي ربيعة:
قلتُ إذ أقبلَت وزهرٌ تَهادَى كنعاجِ الفلا يُعسِّفنَ رَملا
وليس بمقصور على الشعر، حكى سيبوبه: مررتُ برجلٍ سَواءٍ والعَدَم، بعطف العدم على الضمير في سواء، لكنه قليل في الكلام ضعيف في القياس لما فيه من إيهام عطف الاسم على الفعل.
قوله تعالى: {وَزَوْجُكَ}[الأعراف: 19] مفرد الأزواج والمرأة زوج الرجل والرجل زوج المرأة قال الأصمعي لا تكاد العرب تقول: زوجة.
وحكى الفراء أنه يقال: زوجة وأنشد الفرزدق:
وإنَّ الذي يَسعى ليُفسِدَ زَوجتي كساعٍ إلى أُسدِ الشَّرى يَستبيلُها
وفي حديث عَمّار في البُخاري [3772]: والله إنّي لأعلم أنها زَوجته في الدنيا والآخرة.
وفي حديث أنس في مسلم يا فلان هذه زوجتي.
وسياق الآية يقتضي أن حواء خُلقت قبل دخول آدم إلى الجنَّة، وبه صرح ابن إسحاق فقال: لما فرغ الله من مُعاتبة إبليس أقبل على آدم وقد علَّمه الأسماء كلها فقال يا آدم أنبئهم بأسمائهم إلى قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ}[البقرة: 32] قال: ثم ألقيت السِّنَةَ على آدم في ما بلغنا عن أهل الكتاب من أهل التوراة وغيرهم من أهل العلم عن ابن عباس ثم أخذ ضلعًا من أضلاعه من شقِّه الأيسر ولأم مكانه لحمًا وآدم نائم لم يهب من نومه حتى خلق الله من ضلعه تلك زوجته حواء فسواها امرأة ليسكن إليها، فلما كشف عنه السِّنَةَ وهب من نومه رآها إلى جنبه فقال: كما يزعمون والله أعلم: لحمي ودمي وزوجتي فسكن إليها فلما زوجه الله وجعل له سكنًا من نفسه قال له قبلًا: {يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنَّة} إلى {الظَّالِمِينَ}[البقرة: 35].
وقال ابن الجوزي: وإنما جعل آدم آخر الخلق لأنه مَهَّد الدار قبل الساكن(6)، انتهى.
قال في «الروضة»[1/25]: في الكلام على بيان الخنثى المشكل: ومنها نبات اللِّحية ونُهود الثَّديين وتفاوت الأضلاع والصحيح أنه لا دلالة فيها، والثاني تدل اللحية أو نقصان ضلع من الجانب الأيسر للذكور، والنهود أو تساوي / الأضلاع للأنوثة انتهى.
قال الإمام: ولا تُعارض النهود ونبات اللحية شيئًا من العلامات المتفق عليها انتهى.
وقياس اللبن والأضلاع كذلك.
ويقال إن خَلق حواء كان بعد دخوله الجنَّة كما قال السدِّي في خبر ذكره عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة أُخرجَ إبليس من الجنَّة وأسكن آدم الجنَّة فكان يمشي فيها وَحِشًا ليس له زوج يسكن إليها فنام نومةً فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضِلعه، فسألها ما أنت؟ قالت: امرأة، قال: ولم خلقت؟ قالت: تسكن إليَّ، قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه ما اسمها يا آدم؟ قال: حواء، قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: إنها خلقت من شيء حي(7)، وسيأتي هذا في الصداق بأبسط من ذلك إن شاء الله.
قوله تعالى: {الجنَّة} هي البستان سُمِّي بها لأنها تجنُّ من فيها أي تَستره بشجرها ومنه المِجَنّ والجَنين والجِن والجنَّة.
وقد اختلف الناس أهي جَنَّة الخلد أم جَنَّة أخرى غيرها في موضع عال من الأرض؟
قال منذر بن سعيد في تفسيره: وأما قوله تعالى لآدم: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنَّة} فقالت طائفة أسكن الله آدم جنة الخلد التي يدخلها المؤمنون يوم القيامة، وقال آخرون هي جنة غيرها جعلها الله له وأسكنه إياها ليست جنة الخلد قال: وهذا قول تكثر الدلائل الشاهدة له والموجب للقول به.
وقال أبو الحسن الماوردي في تفسيره[1/104]: واختُلف في الجنَّة التي أُسكناها على قولين:
أحدهما: أنها جنة الخلد.
الثاني: أنها جنة أعدها الله لهما وجعلها دار ابتلاء، وليست جنة الخلد التي جعلها الله دار جزاء ومن قال بهذا اختلفوا فيه على قولين:
أحدهما: أنها في السماء لأنه أهبطهما منها وهذا قول الحسن.
الثاني: أنها في الأرض لأنه امتحنهما فيها بالنهي عن الشجرة التي نُهيا عنها دون غيرها من الثمار، وهذا قول ابن بحر وكان ذلك بعد أن أمر إبليس بالسجود لآدم ◙ والله أعلم بصواب ذلك، هذا كلامه.
وقال الإمام / فخر الدين الرازي في «تفسيره»[1/377]: واختلفوا في الجنَّة المذكورة في هذه الآية هل كانت في الأرض أو في السماء وبتقدير أنها كانت في السماء فهل هي الجنَّة التي هي دار الثواب وجنة الخلد أو جنة أخرى؟
فقال أبو القاسم البلخي وأبو مسلم الأصبهاني: هذه الجنَّة في الأرض وحملا الإهباط على الانتقال من بقعة إلى بقعة كما في قوله {ا اهْبِطُوا مِصْرًا}[البقرة: 61] واحتجا عليه بوجوه.
القول الثاني: وهو قول الجبائي: إن تلك الجنَّة كانت في السماء السابعة.
القول الثالث: وهو قول جمهور أصحابنا أن هذه الدار هي دار الثواب.
وقال أبو القاسم الراغب في «تفسيره»: واختلف في الجنَّة التي أسكنها آدم فقال بعض المتكلمين كان بستانًا جعله الله تعالى له امتحانًا ولم تكن جنة المأوى.
وذكر بعض الاستدلال على القولين وممن ذكر الخلاف أيضا أبو عيسى الرُّماني في تفسيره، واختار أنها جنة الخلد ثم قال: والمذهب الذي اخترناه قول الحسن وعمرو واصل وأكثر أصحابنا وهو قول أبي علي وشيخنا أبي بكر وعليه أهل التفسير.
واختار الإمام فخر الدين التوقف في المسألة وجعله قولًا رابعًا فقال: والقول الرابع أن الكل ممكن والأدلة متعارضة فوجب التوقف وترك القطع.
قال منذر بن سعيد: والقول أنها جنة في الأرض ليست جنة الخلد قول أبي حنيفة وأصحابه قال: وقد رأيتُ أقوامًا نهضوا لمخالفتنا في جنَّة آدم ◙ بتصويب مذهبهم من غير حجة إلا الدعاوى والأماني ما أتوا بحجة من كتاب ولا سنة ولا أثر عن صاحب ولا تابع ولا تابع التابع لا موصولًا ولا شاذًا مشهورًا، وقد أوجدناهم أن فقيه العراق وكل من قال بقوله قال: إن جنة آدم ليست جنة الخلد، وهذه الدواوين مشحونة من علومهم ليسوا عند أحد من الشاذين بل من رؤساء المخالفين، وإنما قلت هذا لتعلم أني [لا] أنصر مذهب أبي حنيفة ☼ تعالى، وإنما أنصر ما قام لي عليه دليل من القرآن والسنة هذا ابن زيد يقول في تفسيره: سألت ابن نافع عن الجنَّة أمخلوقة هي؟ فقال: السكوت عن الكلام في هذا أفضل، / وهذا ابن عيينة يقول في قوله ╡: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى}[طه: 118] قال: يعني في الأرض، وابن نافع إمام وابن عيينة إمام وهم لا يأتوننا بمثلهما ومن يضاد قوله قولهما، وهذا ابن قتيبة ذكر في كتاب «المعارف» بعد ذكره خلق الله لآدم وزوجه قال: ثم برَّكهما وقال: أثمروا وأكثروا واملؤوا الأرض وتسلطوا على أنوان البحور وطير السماء والأنعام وعشب الأرض وشجرها وثمرها، فأخبر أن في الأرض خلقه وفيها أمره ثم قال: ونصب الفردوس فانقسم على أربعة أنهار سيحون وجيحون ودجلة والفرات ثم ذكر الحية فقال: وكانت أعظم دواب البر فقالت للمرأة: إنكما لا تموتان إن أكلتما من هذه الشجرة ثم قال بعد كلام: ثم أخرجه من مشرق جنة عدن إلى الأرض التي منها أخذ، ثم قال: قال وهب: وكان مهبطه حين أهبط من جنة عدن في شرقي أرض الهند، قال واحتمل قابيل أخاه حتى أتى به واديا من أودية اليمن في شرقي عدن فدفن فيه.
وقال غيره فيما نقل أبو صالح عن ابن عباس في قوله: {اهْبِطُوا} فقال: هبط فلان أرض كذا وكذا.
قال منذر بن سعيد: فهذا وهب بن مُنبه يَحكي أن آدم خلق في الأرض وفيها سكن وفيها نصب له الفردوس، وأنه كان بعدن وأن الأربعة أنهار انقسمت من ذلك النهر الذي كان يسمى فردوس آدم وتلك الأنهار بقيت في الأرض لا اختلاف بين المسلمين في ذلك فاعتبروا يا أولي الأبصار.
وأخبر أن الحيَّة التي كلَّمت آدم كانت من أعظم دوابِّ البر ولم يقل من أعظم دواب السماء فلمَ تقولون أن الحية لم تكن في الأرض وإنما كانت فوق السماء السابعة؟ ثم قال: وأخرجه من مشرق جنة عدن وليس في جنة المأوى مشرق ولا مغرب لأنه لا شمس فيها، ثم قال: وأخرجه إلى الأرض التي أخذ منها يعني أخرجه من الفردوس الذي نصب له في عدن في شرقي أرض الهند وهذه الأخبار التي حكى ابن قتيبة إنما تنبئ عن أرض اليمن وعن عدن وهي من أرض اليمن، وأخبر أن الله نصب الفردوس لآدم بعدن ثم أكد ذلك بأن قال: الأربعة / الأنهار التي ذكرنا منقسمة من النهر الذي كان يسقي فردوس آدم ◙.
قال منذر: وقال ابن قتيبة عن ابن منبه عن أبي [هريرة] قال: واشتهى آدم عند موته قطفا من الجنَّة التي كان فيها بزعمهم على ظهر السماء السابعة وهو في الأرض، فخرج أولاده يطلبون ذلك له حتى بلغتهم الملائكة موته فأولاد آدم كانوا مجانين عندكم إن كان ما نقله ابن قتيبة حقا يطلبون لأبيهم ثمرة جَنَّة الخُلد في الأرض؟ قال ونحن لم نقل عُشرَ ما قال هؤلاء ولو كانت جنة الخُلد لخلد فيها ونحن استدللنا من القرآن وغيرنا قطع وادعى ما ليس له برهان انتهى(8).
حجة الجمهور القائلين بأنها جنة الخلد التي يدخلها الناس يوم القيامة:
قالوا: قولنا هذا هو الذي فطر عليه الناس صغيرهم وكبيرهم لا يخطر بقلوبهم سواه وأكثرهم لا يعلم في ذلك نزاعًا قالوا: وقد روى مسلم في «صحيحه»[195] من حديث أبي مالك عن أبي حازم عن أبي هريرة وأبي مالك عن ربعي عن حذيفة قالا: قال رسول الله صلعم: «يجمع الله تعالى الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنَّة فيأتون آدم فيقولون: يا أبانا استَفتِح لنا الجنَّة فيقول: وهل أخرجكم من الجنَّة إلا خطيئة أبيكم...» الحديث قالوا: وهذا يدل على أن الجنَّة التي أخرج منها هي بعينها التي يطلب منه أن يَستفتحها، ويدل عليه حديث أبي هريرة هذا الذي نحن بصدده إذ لو كانت غير جنة الخلد لكانوا قد خرجوا إلى بساتين فلم يخرجوا من الجنَّة، ويأتي لهذا مزيد تقرير من كلام القرطبي إن شاء الله.
وكذلك قول آدم: «وهل أخرجكم من الجنَّة إلا خطيئة أبيكم»، وخطيئته لم تخرجهم من جنان الدنيا.
قالوا: وقد قال تعالى: {وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنَّة} إلى قوله: {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[البقرة: 35 - 36] فهذا يدل على أن هبوطهم كان من الجنَّة إلى الأرض من وجهين:
أحدهما: من لفظة {اهْبِطُوا} فإنه من علو إلى سفل.
والثاني: قوله: {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ} عقيب قوله: {اهْبِطُوا} يدل على أنهم لم يكونوا قبل ذلك في الأرض، ثم أكد هذا بقوله في سورة الأعراف: {قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ}[الأعراف: 25] / ولو كانت الجنَّة في الأرض لكانت حياتهم فيها قبل الإخراج وبعده، قالوا: وقد وصف الله سبحانه جنة آدم بصفات لا تكون إلا في جنة الخلد فقال: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى. وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى}[طه: 118 - 119] وهذا لا يكون في الدنيا أصلًا، فإن الرجل ولو كان في أطيب منازلها فلا بد أن يعرض له شيء من ذلك، وقد قابل سبحانه بين الجوع والعُري والظمأ والضحي، وذلك أحسن من المقابلة بين الجوع والعطش والعُري والضحي، فإن الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر والظمأ حر الباطن والضحي حر الظاهر، فنفى عن ساكنها ذل الظاهر والباطن وحر الباطن والظاهر وهذا شأن ساكن الخلد، قالوا: وأيضا لو كانت تلك الجنَّة في الدنيا لعلم آدم كذب إبليس في قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى}[طه: 120] فإن آدم كان يعلم أن الدنيا منقضية فانية وأن ملكها يبلى قالوا: وأيضًا فهذه القصة في سورة البقرة ظاهرة جدًا في أن الجنَّة التي أخرج منها فوق السماء فإنه سبحانه قال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ. وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنَّة} إلى قوله: {إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فهذا إهباط آدم وحواء وإبليس من الجنَّة ولهذا أتى فيه بضمير الجمع.
وقد قيل: إن الخطاب لهما وللحيَّة وهذا ضعيف جدًا إذ لا ذكر للحيَّة في شيء من القصة ولا في السياق ما يدل عليها.
وقيل: الخطاب لآدم وحواء وأتى فيه بضمير الجمع كقوله: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ}[الأنبياء: 78] وهما داود وسليمان.
وقيل: لآدم وحواء وذريتهما وهذه الأقوال ضعيفة غير الأول بين قول لا دليل عليه وبين ما يدل اللفظ على خلافه، فثبت أن إبليس داخل في هذا الخطاب وأنه من المهبطين.
وقد كرر سبحانه الإهباط ثانيًا بقوله: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة: 38] وهذا الإهباط الثاني غير الأول فالأول إهباط من الجنَّة / إلى السماء والثاني إهباط من السماء إلى الأرض فتكون الجنَّة التي أعطوها أولا فوق السماء وهي جنة الخلد واختار الزمخشري أن قوله: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} لآدم وحواء خاصة وعبر عنهما بالجمع لاستتباعهما ذريتهما قال: والدليل عليه قوله تعالى: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} قال ويدل على ذلك قوله: {فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ. وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة: 38 - 39] وما هو إلا حكم يعم الناس كلهم ومعنى {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} ما عليه الناس من التعادي والتباغي وتضليل بعضهم بعضًا. انتهى(9).
وهذا أضعف الأقوال في الآية لأن العداوة التي ذكرها الله تعالى إنما هي بين آدم وإبليس وذريتهما كما قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}[فاطر: 6] وهو سبحانه قد أكد العداوة بين الشيطان والإنسان وأعاد وأبدى ذكرها في القرآن لشدة الحاجة إلى التحرُّز من هذا العدو، وأما آدم وزوجته فإنه إنما أخبر في كتابه أنه خلقها ليسكن إليها وجعل بينهما مودة ورحمة فالمودة والرحمة بين الرجل وامرأته والعداوة بين الإنسان والشيطان، وقد تقدم ذكر آدم وزوجته وإبليس وهم ثلاثة فلماذا يعود الضمير على بعض المذكور مع منافرته لطريق الكلام دون جميعه مع أن اللفظ والمعنى يقتضيه؟ وأما قوله في سورة طه: {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ}[طه: 123] فهذا خطاب لآدم وحواء وقد جعل بعضهم عدوًا لبعض والضمير في قوله: {اهْبِطَا} إما أن يرجع إلى آدم وزوجته أو إلى آدم وإبليس، ولم يذكر الزوجة لأنها تبع له، وعلى هذا فالعداوة المذكورة للمخاطبين بالإهباط وهما آدم وإبليس فالأمر ظاهر.
وأما على الأول فتكون الآية قد اشتملت على أمرين:
أحدهما: أمره تعالى لآدم وزوجته بالهبوط.
والثاني: إخباره بالعداوة بين آدم وإبليس ولهذا أتى بضمير الجمع في الثاني دون الأول، ولا بد أن يكون إبليس / داخلا في حكم هذه العداوة قطعًا كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ}[طه: 117] وقال للذرية: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}[فاطر:6] فاتفقت المواضع التي فيها ذكر العداوة على ضمير الجمع دون التثنية، وأما الإهباط فتارة يذكر بلفظ الجمع وتارة بلفظ التثنية وتارة بلفظ الإفراد كقوله في سورة الأعراف: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا}[الأعراف:13] وكذلك في سورة ص وهذا لإبليس وحده.
وحيث ورد بصيغة الجمع فهو لآدم وزوجه وإبليس إذ مدار القصة عليهم.
وحيث ورد بلفظ التثنية فإما أن يكون لآدم وزوجه إذ هما اللذان باشرا الأكل من الشجرة.
وإما أن يكون لآدم وإبليس إذ هما أبوا الثقلين وأصلا الذرية فذكر حالهما وما آل إليه أمرهما ليكون عظة وعبرة لأولادهما وقد حكيت القولين في ذلك ويُوضِّحُ أن الضمير في قوله: {اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا} لآدم وإبليس أنه سبحانه لما ذكر المعصية أفرد بها آدم دون زوجه فقال: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى. ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى. قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا}[طه: 121-123] وهذا يدل على أن المخاطب بالإهباط هو آدم ومن زين له المعصية ودخلت الزوجة تبعا، فإن المقصود إخبار الله سبحانه للثقلين بما جرى على أبويهما من سوء المعصية ومخالفة الأمر فذكر أبويهما أبلغ في حصول هذا المعنى من ذكر أبوي الإنس فقط فقد أخبر تعالى عن الزوجة أنها أكلت مع آدم وأخبر أنه أهبطه وأخرجه من الجنَّة بتلك الأدلة فعلم أن حكم الزوجة كذلك وأنها صارت إلى ما صار إليه آدم وكان تجريد العناية إلى ذكر حال أبوي الثقلين أولى من تجريده إلى ذكر أب الإنس وأمهم.
قال ابن الجوزي: أيها العاصي تفكَّر في حال أبيك وتذكَّر ما جرى له، ويكفيك أنَّه أُبْعد بعدَ القرب من ربه وأُهبط من الجنَّة بشؤم ذنبه، وأسره العدو بخديعته وحربه، وها هو يسعى في هلاكك، فاعتبر به رحم الله عبدًا تأهَّب لمحاربة عدوه في رواحه / وغُدوَه، لأنه راصد له في القول والعمل ومحسن له بالمكر والتسويف والأمل، ويذكره الهوى وينسيه الأجل ويلبس له أحسنَ الحلل والرامي يطلب موضع الخلل. انتهى.
قالوا: وأيضًا فالجنَّة معرفة بلام التعريف في جميع المواضع كقوله: {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنَّة}[البقرة: 35] ونظائره ولا جنة يعهدها المخاطبون ويعرفونها إلا جنة الخلد التي وعد الرحمن عباده بالغيب فقد صار هذا الاسم علما عليها بالغلبة كالمدينة والكتاب والبيت والنجم والعقبة ونحو ذلك، فحيث ورد لفظها معرفا انصرف إلى الجنَّة المعهودة المعلومة في قلوب المؤمنين.
وأما إذا أريد به جنة غيرها فإنها تجيء مُنكَّرة أو مقيدة بالإضافة أو السياق بما يدل على أنها جنة في الأرض.
فالأول كقوله: {جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ}[الكهف: 32].
والثاني كقوله: {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ}[الكهف: 39].
والثالث كقوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الجنَّة}[القلم: 17].
قالوا: ومما يدل على أن جنة آدم هي جنة المأوى ما روى هَوْذَةُ بن خليفة عن عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى الأشعري قال: «إن الله تعالى لما أخرج آدم من الجنَّة زوده من ثمار الجنَّة وعلَّمه صنعة كل شيء، فثماركم هذه من ثمار الجنَّة غير أن هذه تغير وتلك لا تَغيَّرُ».
قالوا: وقد ضمن الله تعالى له إن تاب إليه وأناب أن يعيده إليها كما روى المنهال عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} قال: «يا رب ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: أي ربِّ ألم تنفخ فيَّ من روحك؟ قال: بلى قال: أي ربِّ ألم تُسكنِّي جنتك؟ قال: بلى، قال: أي ربِّ ألم تسبق رحمتُك غضبك؟ قال: بلى، قال: أرأيت إن تُبت وأصلحت أراجعي أنت إلى الجنَّة؟ قال: بلى، قال: فهو قوله: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ}[البقرة:37](78») وله طرق عن ابن عباس.
وفي بعضها: «أنَّ آدم قال لربه إذ عصاه: ربِّ إن أنا تُبتُ وأصلحتُ فقال له ربه إني راجعك إلى الجنَّة»(10).
وقال القرطبي(11) في الكلام على الآية: ولا التفات إلى ما ذهبت إليه المُعتزلة والقَدَرية من / أنه لم يكن في جنَّة الخُلد وإنما كان في جنةٍ بأرض عَدَن واستدلوا على بدعتهم بأنها لو كانت جنة الخلد لما وصل إليه إبليس، فإن الله تعالى يقول: {لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ}[الطور: 23] وقال: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا}[النبأ: 35] وقال: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا. إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}[الواقعة: 25-26].
وأنه لا يخرج منها أهلها لقوله: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ}[الحجر: 48] وأيضا فإن جنة الخلد هي دار القدس قُدِّست عن الخطايا والمعاصي تطهيرًا لها وقد لغا فيها إبليس وكذب وأخرج منها آدم وحواء بمعصيتهما.
قالوا: وكيف يجوز على آدم مع مكانه من الله تعالى وكمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد والملك الذي لا يبلى؟.
فالجواب: أن الله تعالى عرَّف الجنَّة بالألف واللام ومن قال: أسأل الله الجنَّة لم يفهم منه في معارف الخلق إلا طلب جنة الخلد ولا يستحيل في العقل دخول إبليس الجنَّة لتغرير آدم، وقد لقي موسى آدم ♂ فقال له موسى: أنت أشقيتَ ذُريتك وأخرجتهم من الجنَّة فأدخل الألف واللام ليدل على أنها جنة الخلد المعروفة فلم ينكر ذلك آدم، ولو كانت غيرها لرد على موسى، فلما سكت آدم على ما قرر موسى صح أن الدار التي أخرجهم الله ╡ منها بخلاف الدار التي أُخرجوا إليها، وأما ما احتجوا به من الآي فذلك إنما جعله الله فيها بعد دخول أهلها فيها يوم القيامة ولا يمتنع أن تكون دار خلد لمن أراد الله تخليده فيها وقد يخرج منها من قضى عليه بالفناء.
وقد أجمع أهل التأويل على أن الملائكة يدخلون على أهل الجنَّة ويخرجون منها وقد كان مفاتيحها بيد إبليس ثم انتزعت منه بعد المعصية.
وقد دخلها النبي صلعم ليلة الإسراء ثم خرج منها وأخبر بما فيها وأنها هي جنة الخلد حقا.
وأما قولهم: إن الجنَّة دار القدس وقد طهَّرها الله تعالى من الخطايا فَجهلٌ منهم، وذلك أن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يدخلوا الأرض المقدسة وهي الشام، وأجمع أهل الشرائع على أن الله تعالى قدَّسها وقد شوهد فيها المعاصي والكفر / والكذب ولم يكن تقديسها مما يمنع فيها المعاصي فكذلك دار القدس.
قال أبو الحسن بن بطال: وقد حكى بعض المشايخ أن أهل السنة مجمعون على أن جنَّة الخُلد هي التي أهبط منها آدم ◙ فلا معنى لقول من خالفهم وقولهم: كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد وهو في دار الخلد؟ فيعكس عليهم ويقال كيف يجوز على آدم في كمال عقله أن يطلب شجرة الخلد في دار الفناء هذا ما لا يجوز على من له أدنى مُسكَة من عقل فكيف بآدم الذي هو أرجح الخلق عقلًا على ما قال أبو أمامة انتهى.
وللمخالف شُبهٌ أخرى لسنا بها.
وقد روى الحافظ أبو بكر بن مَردويه من حديث محمد بن عيسى الدامغاني: حدَّثنا سلمة بن الفضل عن ميكال عن ليث عن إبراهيم التيمي عن أبيه عن أبي ذر قال: قلت: يا رسول الله أرأيت آدم نبيا كان؟ قال نعم نبيًّا رسولًا كلَّمهُ الله قَبيلًا فقال: اسكن أنت وزوجك الجنَّة(12).
قوله تعالى: {وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا}[البقرة: 35] قراءة الجمهور رغدا بفتح الغين وقرأ النخعي وابن وَثّاب بسكونها، والرغد العيش الدارُّ الهني الذي لا عناء فيه قال:
بينما المرء تراه ناعمًا يَأمَنُ الأحداثَ في عيشٍ رَغد
ويقال: رغد عيشكم ورغد بضم الغين وكسرها وأرغد القوم أخصبوا وصاروا في رغد من العيش وهو منصوب على الصفة والمصدر محذوف تقديره أكلا رغدا وحيثُ وحيثَ وحيثِ وحوثُ وحوثَ وحوثِ وحاث كلها لغات ذكرها النحاس وغيره.
قوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} أي: لا تقرباها بأكلٍ لأن الإباحة فيه وقعت قال ابن العربي: سمعتُ الشاشي في مجلس النظر يقول: إذا قيل لا تقرب بفتح الراء كان معناه لا تلبس بالفعل وإذا كان بضم الراء كان معناه لا تدن منه.
وفي «الصحاح»: قرب الشيء بالضم يقرب قُربا أي: دنا وقربته بالكسر أقربه قربانًا أي: دنوت منه وقربت أقرب قرابة مثل كتبت أكتب / كتابة إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه ليلة والاسم القرب.
قال الأصمعي: قلت لأعرابي: ما القرب؟ فقال: سهر الليل لورد الغد وقال ابن عطية: قال بعض الحُذّاق: إن الله تعالى لما أراد النهي عن أكل الشجرة نهى عنه بلفظ يقتضي الأكل وما يدعو إليه وهو القرب قال ابن عطية: هذا مثال بين في سد الذرائع.
وقال أرباب المعاني قوله: {وَلَا تَقْرَبَا} إشعار بالوقوع في الخطيئة والخروج من الجنَّة وأن سكناه فيها لا يدوم لأن المخلد لا يحظر عليه شيء ولا يؤمر ولا ينهى والدليل على هذا قوله تعالى إني جاعل في الأرض خليفة فدل على خروجه منها.
وقد اختلف في هذه الشجرة ما هي:
فقال السُّدِّي عن من حدثه عن ابن عباس: الشجرة التي نهي عنها آدم الكرم، وكذا قال سعيد بن جبير والسُّدِّي والشعبي وجعدة بن هبيرة ومحمد بن قيس.
وقال السدي أيضًا في خبر ذكره عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس وعن مرة عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابة: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} هي الكرم وتزعم يهود أنها الحنطة.
وقال ابن جرير وابن أبي حاتم: حدَّثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة الأحمسي: حدَّثنا أبو يحيى الجماني: حدَّثنا النضر أبو عمر الخزار عن عكرمة عن ابن عباس قال: الشجرة التي نهى الله عنها آدم هي السنبلة.
وقال عبد الرزاق: حدَّثنا ابن عيينة وابن المبارك عن الحسن بن عمارة عن المنهال بن عمرو عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: هي السنبلة.
وقال محمد بن إسحاق عن رجل من أهل العلم عن مجاهد عن ابن عباس قال: هي البر.
وقال ابن جرير: حدثني المثنى بن إبراهيم: حدَّثنا مسلم بن إبراهيم، حدَّثنا القاسم حدثني رجل من بني تميم: أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم والشجرة التي تاب عندها آدم، فكتب إليه أبو الجلد: سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم وهي السنبلة وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة(13).
وكذلك فسره الحسن / البصري ووهب بن منبه وعطية العوفي وأبو مالك ومُحارب بن دثار وعبد الرحمن بن أبي ليلى. وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل اليمن عن وهب بن منبه أنه كان يقول: هي البُر ولكن الحبة منها في الجنَّة ككُلَى البقَر ألين من الزُّبدِ وأحلى من العسل.
وقال سفيان الثوري عن حُصين عن أبي مالك: ولا تقربا هذه الشجرة قال: النخلة.
وقال ابن جُريج عن مجاهد: ولا تقربا هذه الشجرة قال قتيبة: وبه قال قتادة وابن جُريج.
وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية: كانت الشجرة من أكل منها أحدث ولا ينبغي أن يكون في الجنَّة حَدَث.
وقال عبد الرزاق(14): حدَّثنا عمر بن عبد الرحمن بن مهذب قال: سمعت وهب بن منبه يقول: لما أسكن الله آدم وزوجته الجنَّة ونهاه عن أكل الشجرة وكانت شجرة غصونها متشعبٌ بعضُها في بعض وكان لها ثمر تأكله الملائكة لخلدهم وهي الثمرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته. فهذه ستة أقوال في تعيين هذه الشجرة.
قال ابن جرير(15): والصواب في ذلك أن يقال: إن الله جل ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنَّة دون سائر أشجارها فأكلا منها، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين؛ لأن الله تعالى لم يضع لعباده دليلًا على ذلك في القرآن ولا في السنة الصحيحة.
وقد قيل: كانت البُر، وقيل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التين، وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه وإن جهله جاهل لم يضره جهله به، والله أعلم.
واستأنس السُّهيلي للقول بأنها شجرة التين بأنه تعبر في الرؤيا بالندامة لأكلها من أجل ندم آدم على أكلها. قال ابن عطية: وليس في شيء من هذا التعين ما يعضده خبر، وإنما الصواب أن يعتقد أن الله تعالى نهى آدم عن شجرة فخالف هو إليها وعصى في الأكل منها.
وقال القشيري أبو نصر: وكان الإمام / والدي ☼ يقول: يُعلم على الجملة أنها كانت شجرة المحنة.
قال ابن الجوزي: واه كم غرس الأكل من الشجرة من شجرات، وكم أظهرت تلك الحبة من حبات.
قوله تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا}[البقرة: 36] يصح أن يكون الضمير في قوله: {عَنْهَا} عائدًا للجنَّة فيكون معنى الكلام كما قال عاصم بن بهدلة، وهو ابن أبي النجود: فأزالهما؛ أي: فنحاهما وهي قراءة حمزة، ويصح أن يكون عائدًا إلى أقرب المذكورين وهو الشجرة فيكون معنى الكلام كما قال الحسن وقتادة: فأزلهما أي: من قبل الزلل فيكون تقدير الكلام: فأزلهما الشيطان عنها أي: بسببها كما قال تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ}[الذاريات: 9] أي: يصرف بسببه من هو مأفوك.
وقال البخاري باب قول الله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}[الأعراف: 23] {فَأَزَلَّهُمَا} فاستزلهما انتهى. وهذه قراءة الباقين بغير ألف.
قال القرطبي(16): قراءة الجماعة أمكن في المعنى يقال منه: أزللته فزل، ودل على هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا}[آل عمران: 155] وقوله: {فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ}[الأعراف: 20] والوسوسة إنما هي إدخالهما في الزلل بالمعصية وليس للشيطان قدرة على زوال أحد من مكان إلى مكان إنما قدرته إدخاله في الزلل، فيكون ذلك سببًا إلى زواله من مكان إلى مكان يذنبه انتهى.
قال الثَّعْلَبي في «العرائس»[1/183]: وكان وصول عدو الله إبليس لهما وتزيينه لهما على ما ذكره أصحاب الأخبار: أن إبليس أراد أن يدخل الجنَّة ليوسوس لهما فمنعه الخزنة فأتى الحية، وكانت من أحسن الدواب خلقها الله تعالى ولها أربع قوائم كقوائم البعير، وكانت من خُزّان الجنَّة، وكانت لإبليس صديقًا فسألها أن يدخل في فيها فأدخلته في فيها ومرت به على الخزنة وهم لا يعلمون فأدخلته الجنَّة، وقد كان دخل مع آدم الجنَّة ورأى ما فيها من النعيم والكرامة قال: لإنْ خلدنا لكان يكون عيشًا رغدًا فاغتنم ذلك منهما الشيطان فأتاه من قبل الخُلْد، وقيل: إن إبليس لما سمع بدخول آدم الجنَّة / حسده وقال: يا ويلتاه أنا عند الله منذ كذا وكذا سنة فلم يُدخلني الجنَّة وهذا خلقٌ خلقه الله الآن، فاحتال في إخراج آدم من الجنَّة فوقف على باب الجنَّة وتعبَّد هناك ثلاث مئة سنة لا يأذن الله في إخراج خلق منها فبينما هو كذلك إذ خرج إليه الطاووس وكان سيد طيور الجنَّة فلما رآه إبليس قال له: أيها الخلق الكريم من أنت وما اسمك؟ ما رأيت من خلق الله تعالى أحسن منك، قال: أنا طائر من طيور الجنَّة اسمي طاووس، فبكى إبليس فقال له الطاووس: من أنت وما بكاؤك؟ فقال إبليس: أنا ملك من الكَروبيين وإنما بكيت على ما يفوتك من حسنك ومن جمالك وكمال خلقك، فقال له الطاووس: أيفوتني ما أنا فيه قال: بلى فإنك تفنى وتبيد وكل الخلائق يبيدون إلا من تناول من شجرة الخلد، فإنهم المخلدون من بين الخلائق.
قال الطاووس: وأين تلك الشجرة؟ قال إبليس: أنا أدلك عليها إن أدخلتني الجنَّة قال الطاووس: كيف لي بإدخالك الجنَّة ولا سبيل إلى ذلك لمكان رضوان فإنه لا يدخل أحد الجنَّة ولا يخرج منها إلا بإذنه، ولكني سأدلك على خلق الله تعالى يدخلها فإنه إن قدم على ذلك أحد فهو دون غيره فإنه خادم خليفة الله آدم ◙ قال: ومن هو؟ قال: الحية فبادر إبليس إليها هو والطاووس فجاء الطاووس إلى الحية فأخبرها بمكان إبليس وما سمع منه وقال: إني رأيت بباب الجنَّة ملكًا من الكروبيين ومن قصته كيتَ وكيت، فهل لك أن تدخليه الجنَّة ليَدُلَّنا على شجرة الخلد فأسرعت نحوه الحية، فلما جاءته قال لها إبليس نحوًا من مقالته للطاووس فقالت: وكيف لي بإدخالك الجنَّة ورضوان إذا رآك لم يمكنك من دخولها؟ فقال لها: أتحول ريحًا فتجعليني بين أنيابك قالت: نعم فتحول إبليس ريحًا ودخل فم الحية وأدخلته الجنَّة فلما دخل إبليس أراهما الشجرة التي نهى الله عنها آدم وجاء حتى وقف بين يدي آدم وحواء وهما يعلمان أنه إبليس فناح / عليهما نياحة أحزنتهما وبكى وهو أول من ناح فقالا له: ما يبكيك؟ قال: أبكي عليكما تموتان وتفارقان ما أنتما فيه من النعيم والكرامة، فوقع ذلك في أنفسهما واغتما ومضى إبليس، ثم أتاهما بعد ذلك وقد أثر قوله فيهما فقال: يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى قال: نعم قال: كل من هذه الشجرة المحنة قال آدم: نهاني ربي عنها فقال إبليس: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا من الخالدين، فأبى أن يقبل منه فقاسمهما إنه لهما من الناصحين فاغترا بذلك وما كانا يظنان أن أحدًا يحلف بالله كاذبًا، فبادرت حواء إلى أكل الشجرة ثم ناولت آدم حتى أكلها انتهى.
وهذا خبر إسرائيلي الله أعلم به.
قال القرطبي(17): يقال: إن أول من أكل من الشجرة حواء بإغواء إبليس إياها، وإن أول كلامه كان معها لأنها وسواس المخدة وهي أول فتنة دخلت على الرجال من النساء، فقال: ما منعتما هذه الشجرة إلا أنها شجرة الخلد، لأنه علم منهما أنهما كانا يحبان الخلد فأتاهما من حيث أحبا حبك الشيء يعمي ويصم، فلما قالت حواء لآدم أنكر عليها وذكر العهد فألحَّ على حواء وألحت حواء على آدم إلى أن قالت: أنا آكل قبلك حتى إن أصابني شيء سلمتَ أنتَ وأكلت فلم يضرها وأتت آدم فقالت: كل فإني قد أكلت فلم يضرني فأكل فبدت لهما سوآتهما وحصلا في حكم الذنب لقوله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} فجمعهما في النهي فلذلك لم تنزل بها العقوبة حتى وجد المنهي عنه منهما جميعًا وخفيت على آدم هذه المسألة.
ولهذا قال بعض العلماء: أن من قال لزوجتيه أو أمتيه: إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو حُرَّتان أن الطلاق والعتق لا يقع بدخول إحداهما، وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال:
قال ابن القاسم: لا تطلقان ولا تعتقان إلا باجتماعهما في الدخول حملًا على هذا الأصل وأخذًا بمقتضى مطلق اللفظ، قاله سحنون.
وقال / ابن القاسم مرة أخرى: تطلقان جميعًا وتعتقان جميعًا بوجود الدخول من إحداهما؛ لأن بعض الحنث حنث كما لو حلف أن لا يأكل هذين الرغيفين فإنه يحنث بأكل أحدهما بل بأكل لقمة منهما.
وقال أشهب: تعتق وتطلق التي دخلت لأن دخول كل واحدة منهما شرط في طلاقها أو عتقها، قال ابن العربي: وهذا بعيد لأن بعض الشروط لا يكون شرطًا إجماعًا.
قلت: الصحيح الأول وإن النهي إذا كان معلقًا على فعلين لا تتحقق المخالفة إلا بهما لأنك إذا قلت لا تدخلا الدار فدخل أحدهما ما وجدت المخالفة منهما لأن قول الله تعالى: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} نهي لهما {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} جوابه فلا تكونان من الظالمين حتى تفعلا فلما أكلت لم يصبها شيء لأن المنهي عنه ما وجد كاملًا وخفي هذا المعنى على آدم فطمع ونسي هذا الحكم وهو معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ}[طه: 115] وقيل: نسي قوله: {إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنَّة فَتَشْقَى}[طه: 117] انتهى.
وما صححه في مسألة: إن دخلتما الدار هو مذهبنا، وقال القرطبي مثل ذلك، واختلفوا كيف أكل منها مع الوعيد المقترن بالقرب وهو قوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ} فقال قوم: أكلا من غير التي أشير إليها فلم يتأولا النهي واقعًا على جميع جنسها وإن إبليس غره بالظاهر.
قال ابن العربي: وهي أول معصية عُصيَ الله بها على هذا القول.
قال: وفيه دليل على أن من حلف أن لا يأكل من هذا الخبز فأكل من جنسه حنث، وتحقيق المذاهب فيه أن أكثر العلماء قالوا: لا حنث فيه، وقال مالك وأصحابه: إن اقتضى بساط اليمين بعين المشار إليه لم يحنث بأكل جنسه وإن اقتضى بساط اليمين أو سببها أو نيتها الجنس حمل عليه وحنث بأكل غيره وعليه حملت قصة آدم ◙ فإنه نهي عن شجرة عينت له وأريد به جنسها فحمل القول على اللفظ دون المعنى.
وقد اختلف / علماؤنا في فرع من هذا وهو أنه إذا حلف لا يأكل هذه الحنطة فأكل خبزًا منها على قولين:
قال في الكتاب: يحنث لأنها هكذا تؤكل.
وقال ابن المواز: لا شيء عليه لأنه لم يأكل حنطة إنما أكل خبزًا فراعى الاسم والصفة، ولو قال في يمينه: لا آكل من هذه الحنطة لحنث بأكل الخبز المعمول منها، وفي ما إذا اشترى بثمنها من طعام وفيما أنبتت خلاف انتهى.
والأصح عندنا في مسألة الحنطة أنه لا حنث بطحينها وسويقها وعجينها وخبزها لزوال الاسم كما لو أكل حشيش زرعها أو أكل الفرخ من بيض حلف على عدم أكله، ومنهم من قطع بهذا.
وقيل: يحنث بذلك للإشارة إلى العين ولأنها تؤكل كذلك غالبًا، فصار كقوله: لا آكل هذا الكبش فذبحه وأكله، وفرقوا بأنه لا يؤكل بخلافها، ويجري الخلاف فيما لو قال: لا آكل هذا الدقيق فأكل عجينه أو خبزه أو هذا العجين فأكل خبزه، ثم قال القرطبي: وقال آخرون: تأولا النهي على الندب.
قال ابن العربي: وهذا وإن كان مسألة من أصول الفقه فقد سقط ذلك هاهنا لقوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ}[البقرة: 35] فعرف النهي بالوعيد وكذلك قوله تعالى: {فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنَّة فَتَشْقَى}[طه: 117].
وقال ابن المسيب: إنما أكل آدم بعد أن سقته حواء الخمر فسكر وكان في غير عقله وكذلك قال يزيد بن قُسيط: وكانا يحلفان بالله إنه ما أكل من هذه الشجرة وهو يعقل.
قال ابن العربي: وهذا فاسد نقلًا وعقلًا، أما النقل فلم يصح بحال، وقد وصف الله تعالى خمر الجنَّة فقال: {لَا فِيهَا غَوْلٌ}[الصافات: 47].
وأما العقل فلأن الأنبياء بعد النبوة معصومون عن ما يؤدي إلى الإخلال بالفرائض واقتحام الجرائم.
قلت: قد استنبط بعض العلماء نبوة آدم ◙ قبل إسكانه الجنَّة من قوله تعالى: {فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ}[البقرة: 33] وأمره الله تعالى أن ينبئ الملائكة بما ليس عندهم من علم الله.
وقيل: أكلها ناسيًا ومن الممكن أنهما نسيا الوعيد.
قلت: وهو الصحيح لإخبار الله في كتابه / بذلك حتمًا وجزمًا فقال: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[طه: 115] لكن لما كان الأنبياء ‰ يلزمهم من التحفظ والتيقظ لكثرة معارفهم وعلو منازلهم ما لا يلزم غيرهم فإن تشاغلهم عن تذكر النهي تضييعًا صار به عاصيًا؛ أي: مخالفًا.
قال أبو أمامة: لو أن أحلام بني آدم منذ خلق الله الخلق إلى يوم القيامة وضعت في كفة ميزان ووضع حلم آدم ◙ في كفة أخرى لرجحهم، وقد قال الله تعالى: {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا}[طه: 115] .
قلت: قول أبي أمامة هذا عموم في جميع بني آدم، وقد يحتمل أن يُخصَّ من ذلك نبينا محمدٌ صلعم فإنه كان أوفر الناس حلمًا وعقلًا، وقد يحتمل أن يكون المعنى: لو أن أحلام بني آدم من غير الأنبياء والله أعلم انتهى.
ويجب القطع بالاحتمال الأول.
وقد قال أبو نعيم: حدَّثنا محمد بن أحمد بن علي: حدَّثنا الحارث بن أبي أسامة: حدَّثنا داود بن المحبِّر حدَّثنا عباد بن كثير عن أبي إدريس عن وهب بن منبه قال: قرأت أحد وسبعين كتابًا فوجدت في جميعها أن الله ╡ لم يعط جميع الناس في هذه الدنيا إلى انقضائها من العقل في جنب عقل محمد صلعم إلا كحبة رملٍ من بين جميع رمال الدنيا، وإن محمدًا صلعم أرجح الناس عقلًا وأفضلهم رأيًا انتهى.
ثم قال القرطبي [1/307]: والقول الأول حسن أيضًا فظنَّا أن المراد العين وكان المراد الجنس لقول النبي صلعم حين أخذ ذهبًا وحريرًا فقال: «هذان حرامان على ذكور أمتي»(18) وقال في خبر آخر: «هذان مهلكان أمتي» وإنما أراد الجنس لا العين. انتهى.
وقد سبق في الكلام على حديث الشفاعة قول ابن الجوزي: وإنما جعل آدم آخر الخلق لأنه مهد الدار قبل الساكن وأقام عذره قبل الزلل بقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة: 30] والمحب يعتذر عن الحبيب دليله {فَنَسِيَ}[طه: 115].
قوله تعالى: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ}[البقرة: 36] أي: من اللباس والمنزل الرَّحب والرَّزق الهني والراحة، قال ابن الجوزي: فأقبح آثار المخالفة إن كنت تأنف من / الآثار فتلمح تأثير {وَعَصَى آدَمُ}[طه: 121] لقمةٌ أثرت أن عثَّرت، فعَرِيَ المُكتسي ونَزل الراقي فقام المُرفَّه يخدم نفسه انتهى(19).
عن إبراهيم بن أدهم: أورثتنا تلك الأكلة حزنًا طويلًا.
قوله تعالى: {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ}[البقرة: 36] أي: قرار وأرزاق وأحال إلى وقت مؤقت ومقدار معين ثم تقوم الساعة.
قال ابن أبي حاتم(20): حدَّثنا علي بن الحسن بن إشكاب، حدَّثنا علي بن عاصم عن سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن الحسن [عن يحيى] عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صلعم: «إن الله خلقَ آدم رجلًا طوالًا كثير شعر الرأس كأنه نَخلة سَحوق، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه، فأول ما بدا منه عورته، فلما نظر إلى عورته جعل يشتدُّ في الجنَّة فأخذت شعره شجرةٌ فنازعها فناداه الرحمن: يا آدم منّي تَفر فلما سمع كلام الرحمن قال: يا رب لا ولكن استحياء».
قال(21): وحدثني جعفر بن أحمد بن الحكم القومسي سنة أربع وخمسين ومائتين: حدَّثنا سليمان بن منصور بن عمار: حدَّثنا علي بن عاصم عن سعيد عن قتادة عن أُبي بن كعب قال: قال رسول الله صلعم: «لما ذاق آدم من الشجرة فرَّ هاربًا فتعلقت شجرة بشعره، فنودي: يا آدم أفرارًا مني؟ قال: بل حياء منك، قال: يا آدم اخرج من جواري فبعزتي لا يساكنني من عصاني ولو خلقت مثلك ملء الأرض خلقًا ثم عصوني لأسكنتهم دار العاصين» هذا حديث غريب وفيه انقطاع بل إعضال بين قتادة وأُبي بن كعب.
قال الحاكم: أخبرنا أبو بكر بن خالويه عن محمد بن أحمد بن النَّضر عن معاوية بن عمرو عن زائدة عن عمار بن أبي معاوية البجلي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما أسكن آدم في الجنَّة إلا ما بين صلاة العصر إلى غروب الشمس. ثم قال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه(22).
وروى مسلم [854] والنسائي [3/89] من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: «خير يومٍ طلعت / فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خُلق آدم وفيه أُدخل الجنَّة وفيه أُخرج منها».
وقال أبو جعفر الرازي: عن الربيع بن أنس: «فأخرج آدم من الجنَّة للساعة التاسعة أو العاشرة، فأخرج آدم معه غصن من شجر الجنَّة على رأسه تاج من شجر الجنَّة وهو الإكليل من ورق الجنَّة»(23).
وقال السدِّي: قال الله: {اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا} فهبطوا فنزل آدم بالهند وأنزل معه الحجر الأسود وقبضة من ورق الجنَّة فبثه بالهند فنبتت شجرة الطيب فإنما أصل ما يُجاءُ به من الهند من الطيب من قبضة الورق التي هبط بها آدم وإنما قبضها آدم حين أخرج من الجنَّة أسفًا على الجنَّة حين أخرج منها(24).
وقال عمران بن عيينة: عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أهبط آدم بدحنا أرض الهند.
وقال ابن أبي حاتم(25): حدَّثنا أبو زرعة حدَّثنا عثمان بن أبي شيبة حدَّثنا جرير عن عطاء عن سعيد عن ابن عباس قال: أهبط آدم إلى أرض يقال لها: دحنا بين مكة والطائف.
وعن الحسن البصري قال: أهبط آدم بالهند وحواء بجدة وإبليس بدستميسان من البصرة على أميال وأهبطت الحيَّة بأصبهان، رواه ابن أبي حاتم[1/67] وقال: حدَّثنا محمد بن عمار بن الحارث حدَّثنا محمد بن سعيد بن سابق حدَّثنا عمرو بن أبي قيس عن الزبير بن عدي عن ابن عمر قال: أهبط آدم بالصفا وحواء بالمروة، وقال رجاء بن سلمة: أهبط آدم يداه على ركبتيه مطأطئا وأهبط إبليس مشبكا بين أصابعه رافعًا رأسه إلى السماء.
وقال عبد الرزاق(26): قال معمر: أخبرني عوف عن قسامة بن زهير عن أبي موسى قال: إن الله حين أَهبطَ آدم من الجنَّة إلى الأرض علَّمه صنعةَ كلِّ شيء وزوده من ثمار الجنَّة فثماركم هذه من ثمار الجنَّة غير أن هذه تتغير وتلك لا تتغير.
وقال ابن الجوزي(27): قيل: مكث آدم في الجنَّة قدر يوم من أيام الآخرة وذلك خمس مئة عام من أيام الدنيا، وأنزل معه عصا / موسى وكانت من آس الجنَّة.
قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}[البقرة: 37] قد سبق تفسير هذه الكلمات في الكلام على قول البخاري باب السؤال بأسماء الله والاستعاذة بها، وسبق تفسير ابن عباس آنفًا.
قال الثعلبي: قال وُهب بن مُنبه: لما أهبط الله تعالى آدم إلى الأرض واستقر جالسًا على الأرض عطس عطسةً فسال أنفه دمًا، فلما رأى سيلان الدم، ولم يكن قبل ذلك هاله ما رأى ولم تشرب الأرض الدم فاسودَّ على وجهها كالحُمم، ففزع آدم فزعًا شديدًا فذكر الجنَّة وما كان فيها من الراحة فخر مغشيًا عليه وبكى أربعين سنة، فبعث الله ملكًا فمسح بطنه وظهره وجعل يده على فؤاده فذهب عنه الحزن واستراح مما كان يصيبه من الغم.
قال شَهْرُ بن حَوْشَب: بلغني أن آدم لما أُهبط إلى الأرض مكث ثلاث مئة سنة لا يرفع رأسه حياء من الله تعالى.
وقال ابن عباس: بكى آدم وحواء على ما فاتهما من نعيم الجنَّة مئة سنة. انتهى.
وقال ابن الجوزي(28): قال وهب بن منبه: سجد آدم على جبل الهند مئةَ عام يبكي حتى جرى ماء دموعه في وادي سَرَنديب، فأنبت الله تعالى في ذلك الوادي من دموعه الدارصيني والقرنفل، وجعل طير ذلك الوادي الطاووس.
يا آدم لا يضر من كسره غيري إذا جبرتُه أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي، فنشد:
يا قلب لا تَطرح سلاحَك كلَّه جزعًا وإن بانَ العقيقُ وبانُهُ
لا غَرْو أن تجني عليَّ فَضائلي سببُ احتراق المنْدليِّ دخانُهُ
وآه كم غرس الأكلُ من الشجرة من شَجرات، وكم كم أظهرت تلك الجنَّة من جنات
فلما نزل إلى الأرض خدَّ خدَّ الفرح بدمع التَّرَح حتى أقلق الوجود، فجاء جبريل فقال: ما هذا الجهد؟ فصاح لسان الوجد / :
ما رَحلْتُ العيسَ من أرضِكُمُ فرأتْ عيناي شيئًا حسنًا
هل لنا نحوكُمُ من عَودةٍ ومن التَّعليل قولي هَل لنَا
قد شَجاني اليأسُ من بعدكُمُ عَلِّلوني بأحاديث المُنا
يا نَديمي علّني ذِكرهُمُ فحديثُ الشوقِ قد أَسكَرنا
ولعمري لو وجدنا راحة من هَواهُم ما ألِفنا شَجَنا
يا آدم لا تجزع خطأ كان سببه كَيْسُك، فقد استخرج منك داء العجب وألبسك برد النسك «لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم»(29).
لعل عتبكَ محمودٌ عواقبه وربما صَحَّتِ الأجسامُ بالعِلَلِ
لا تحزن لقولي: اهبط منها فلك خلقتها، ولكن اخرج إلى مزرعة المحامد، وشُقَّ من دمعك ساقيةً لشجرة ندمك، فإذا عاد العود خضرا فعُد(30).
سؤال: آدمُ محبوبٌ كيف قال له: اهبط من الجنَّة؟.
الجواب: إذا قيل للمحبوب: ابعد عنا فله فائدة يا مُعاذ اخرُج إلى اليمن حتى تُشيعك أقدامُ الرسولِ صلعم لولا الخروج كيف كانت أقدام الرسول صلعم تشيعه؟ لولا النزول لم يقل: «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا فيقول هل من سائل .. .»(97)
'>(31).
نزول آدم لم يكن بنزول في الحقيقة بل صعود فإن كان قد قال: اهبطوا مرة ففي كل يوم ألف مرة، {والله يدعو إلى دار السلام}[يونس: 25].
إن جَرى بيننا وبينك عَتْب أو تناءت منا ومنك الدِّيارُ
فالعليلُ الذي عَهِدتَ مقيمٌ والدموعُ التي شَهِدتَ غِزارُ
يا ابنَ آدم أشبهتَ أباك في المخالفة فتشبَّه به في النَّدم، فالويل لمن أحكم عقد الإصرار انتهى.
ولا يُتوهَّم من قوله: لولا النزول .. . إلى آخره أنه يعتقد الانتقال، / فإنه قال في مكان آخر {اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ }[الأعراف:54]، وما جلس وما نزل وما انتقل، وهذا كلام ليس على قائله من جناح انتهى.
وقد ذكر القرطبي(32) ما يوضح جواب السؤال فقال: الثالثة: لم يكن إخراج الله تعالى آدم من الجنَّة وإهباطه منها عقوبة له؛ لأنه أهبطه بعد أن تاب عليه وقبل توبته، وإنما أهبطه إما تأديبًا وإما تغليظًا للمحنة، والصحيح في إهباطه وسكناه الأرض ما قد ظهر من الحكمة الأزلية في ذلك وهو نشر نَسله فيها ليكلفهم ويمتحنهم ويرتب على ذلك ثوابهم وعقابهم الأخروي إذ الجنَّة والنار ليست بدار تكليف فكانت تلك الأكلة سبب إهباطه من الجنَّة، ولله أن يفعل ما يشاء وقد قال: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة: 30] وهذه منقبة عظيمة ووصلة كريمة شريفة وقد تقدمت الإشارة إليها مع أنه خلق من الأرض.
وإنما قلنا: إنما أهبطه بعد أن تاب عليه لقوله ثانية: {قُلْنَا اهْبِطُوا}[البقرة: 38] انتهى.
وقد قدمت في الكلام على السجود قول ابن الجوزي بحرمة جدالك عنا يوم قلت: {إِنِّي أَعْلَمُ }[البقرة: 30] وتفضيلك لنا حين قلت: {اسْجُدُواْ}[البقرة: 34] وإقطاعك الجنَّة لأبينا يوم قلت: {اسْكُن}[البقرة: 35] ولطفك في إخراجه بمنشور ولاية {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}[البقرة: 30] انتهى المقصود مما تقدم.
وقال أهل التأويل: الزرزور رجل مسلم مسافر كالمكاري الذي لا يبيت في مكان وطعامه حلال لأنه حرم على نفسه الطعام والشراب لما أهبط آدم ◙ من الجنَّة وقال: والله لا أكلت ولا شربت حتى يتوب الله ╡ على آدم والله أعلم.
الأمر الثالث: قال في «شرح مسلم»[16/202] في باب حجاج آدم وموسى ♂: فإن قيل: فالعاصي منا لو قال: هذه المعصية قَدَّرها الله عليَّ، لم يسقط عنه اللَّومُ والعُقوبة بذلك.
فالجواب: أن هذا العاصي باقٍ في دار التكليف جارٍ عليه أحكام المكلَّفين من العقوبة واللَّوم والتوبيخ وغيرها، وفي لومه وعقوبته زجر له ولغيره عن مثل هذا الفعل وهو محتاج / إلى الزجر ما لم يمت، فأما آدم فميت خارج عن دار التكليف وعن الحاجة إلى الزجر فلم يكن في القول المذكور له فائدة بل فيه إيذاء وتخجيل، والله أعلم انتهى كلام أبي زكريا ☼.
وقال غيره: في الكلام على قوله صلعم في حديث أبي هريرة الذي في مسلم: «وإن أصابك شيءٌ فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا وكذا ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل، فإن اللَّو تفتح عمل الشيطان» ما نصه: فأمره أن يقول هذا قدر الله فيؤمن بأن هذا مقدر ويقول: ما شاء فعل، فينظر إلى أن هذا مقدر وأن الله يفعل ما يشاء وهذا هو الصراط المستقيم وهو النظر إلى القَدَر عند المصائب بخلاف ما عليه أهل الغضب والضلالة، فإنهم عند ذنوبهم يعتذرون بالقدر وعند مصائبهم يخاصمون السبب ويعتذرون عليه، وأهل الإيمان بالعكس كما قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ. لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}[الحديد: 22 - 23] وقال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}[التغابن: 11].
ويروى عن ابن مسعود أو علقمة أنه قال: هو العبد تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلم.
وهذا معنى ما في «الصحيحين» عن النبي صلعم من حديث احتجاج آدم وموسى لما قال موسى لآدم: «أنت آدم أبو البشر خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنَّة، فقال له آدم: أنت موسى الذي خط لك التوراة بيده فبكم تجد مكتوبًا عليَّ قبل أن أخلق {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} قال: بأربعين عامًا قال: فحجَّ آدم موسى فحجَّ آدم موسى»، فهذا الحديث كما فهم منه طوائف أن معناه أن موسى لامَ آدم على الذنب، وأن آدم احتجَّ بالقدر وعلموا أن ذلك لا يجوز باتفاق أهل المِلَل، بل باتفاق العقلاء، فإنه لو كان كل من اعتدى على الخلق واحتج بالقدر قبلت حجته لأهلك الظالمون الحرث / والنسل والله لا يحب الفساد، ولو كانت هذه حجة مقبولة للعصاة لما عذب إبليس ولا قوم نوح وعاد وثَمود وقوم فرعون وسائر من كذب الرسل ولهذا كذب بهذا الحديث طائفة ممن لا يعرف قدر الحديث من القَدَرية كالجُبّائي ورأوا أنه معارض لأصول الإسلام، وتأوله آخرون على أنه حجة لكونه أباه، والولد لا يلوم أباه، أو لكونه قد تاب والتائب لا يلام، أو لكون الذنب في شريعة فلا يلام على شريعة أخرى. [خ¦6614، م:2652]
وهذا كله عدول عن مقصود الحديث، فإن الحديث قد بين فيه أن آدم احتجَّ بالقدر وقال: لم تلومني على أمرٍ قدَّره الله عليَّ، فحج آدم موسى، وإنما غلطوا من حيث ظنوا أنه احتج به على أن المذنب لا يلام، وحاش لله أن يكون آدم قصد ذلك أو يكون موسى قبل هذه الحجة وآدم هو الذي تلقى من ربه كلمات فتاب عليه وهو القائل: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}[الأعراف: 23]
ولهذا يقال: آدم لما فعل ما فعل تابَ وندم، وإبليس أصرَّ واحتج بالقدر، فقال {فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي}[الأعراف: 16] فمن تاب كان آدميًا ومن أصرَّ واحتجَّ بالقدر كان إبليسيا
وكل من آدم وموسى يعلم أن العبد ليس له أن يحتجَّ على ذنوبه بالقدر وأن لله الحجة البالغة، وموسى قد قال لما قتل القبطي: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}.
وقال: {فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ}[الأعراف: 155] وإنما وجه الحديث أن موسى لام آدم لما أصابهم من المصيبة بسبب فعل آدم، ولهذا قال: لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنَّة؟ فكان ملامه للمصيبة التي أصابتهم بخروجهم من الجنَّة ونزولهم إلى الأرض، وهذه المصيبة كان سببها ما فعله آدم فلامه لوم المصائب لا لوم الذنوب، وذكر له آدم أن هذا كان مكتوبًا مقدرًا لا بد أن يكون، والمصائب على العبد أن يصبر فيها بل الرضا والتسليم أولى به فإنها كائنة بفعل الله لا محالة فليقل كما قال النبي صلعم: «قدَّر الله وما شاء فعل» / فحجَّ آدم موسى، وهكذا من أصيب بمصيبة فأخذ يجزع ويلوم الأسباب التي جرى بسببها ما جرى إذا احتج عليه بالقدر كان محجوجا انتهى.
وقد قال الخلال في «أماليه»: حدَّثنا أبو محمد عبد الله بن يوسف الأصفهاني قدم علينا حدَّثنا أبو بكر بن أبي موسى سمعت الجوعي يقول: سمعت منبه بن عثمان اللخمي يقول: قال آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام: كنا سبيًا من سبي الجنَّة فسبانا إبليس أخزاه الله بالخطيئة، فليس ينبغي لنا إلا البكاء والحزن حتى نرجع إلى الدار التي منها سُبينا انتهى.
قلت: والظاهر أن ابن قيم الجوزية أخذ من ذلك ما ذكره في قصيدته حيث يقول(33):
وإن ضاقتِ الدنيا عليكَ بأسرِها ولم يَكُ فيها مَنزلٌ لك يُعلَمُ
فَحيَّ على جَناتِ عَدنٍ فإنَّها منازلُك الأولى وفيها المُخيَّمُ
ولكننا سَبيُ العَدو فهل تَرى نعود إلى أوطاننا ونُسلمُ
وقد زعموا أن الغريبَ إذا نأى وشَطَّت به أوطانه فهو مُغرمُ
وأي اغترابٍ فوق غُربتنا التي لها أضحت الأَعداء فينا تَحكَّمُ
انتهى المقصود مما ذكره.
واعترض بأنه كان ينبغي أن يقول:
ولكننا عند العدو وذلك لأنا لما خرجنا من الجنَّة خرجنا ومعنا كلمة التوحيد، فخرج علينا عدونا وعدو أبينا من قبلنا فقطع الطريق على قوم فاتبعوه فأغواهم، وجاهده بالكلمة قوم فنصرهم الله عليه وهداهم.
أو يقول:
ولكننا ضد العدو الذي كنا نقاتله حقا ولله نسلم
أو يقول:
تعالوا بنا نَبكي أمورًا ونألَمُ على ما مضى في سالف الحي مُؤلمُ
لقد كان في الجَنّات مسكن أَصلِنا وفيها من النَّعماء ما ليس يُعلَمُ
فقام لنا إبليس عادى أصولَنا ومن زُورِ أقوالٍ يقول ويُبرِمُ /
إلى أن هَبطنا للخلافة في أبٍ ما قد جرى والوعد بالجعل يحكم
فيا فوزَ من وافى الوفاةَ بسلمه وماتَ على التوحيد ذاك المُنَعَّمُ
إلى آخر ما ذكره.
فإن صح ما رواه الخلال عن آدم سقط الاعتراض، وسيأتي في الجنائز في مسألة ما يقال للمريض وما يجيب: أَبياتُ الشافعي التي فيها:
ولولاكَ ما يغوى بإبليسَ عابدٌ فكيف وقد أَغوى صَفيَّك آدَما
قال ابن الجوزي(34): فلما صارت الزفرات رخاء تلمح الملائكة تصعد إلى السماء، ورأى جناحه قد قُص فعادت الرياح عواصف، يا هذا أعظم البلايا تَردُّد الركب إلى بلد الحبيب يودعون عند سفرهم الدمن.
ولم يبقَ عندي للهوى غير أنني إذا الرَّكبُ مرَّوا بي على الدار أَشْهَقُ
كانت صعداء أنفاسه تملأ مزاد المسافرين، فإذا وردوا إلى مصرِ الحبيب انفرد بِنْيامينُ بيوسف عن بقية القوم.
لولا تذكُّر أيامي بذي سَلَم وعند رامة أوطاري وأوطاني
لما قَدَحتُ بنار الشُّوق في كبدي ولا بللتُ بماء الدَّمع أَجْفاني
إخواني: بكى أبوكم آدم على ذنب قد أوجب البُعد من الحبيب ثلاث مئة سنة {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}[الحشر: 2] احذروا من زلة يقول الحبيب فيها {هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ}[الكهف: 78] انتهى.
وقال: إنما خلقتُ الأكوان كلها لك، فالدنيا لتزرع والآخرة لتتوطن.
وقال: إنما خلقتُ الدنيا لتجوزها لا لتحوزها، فالميل إلى فضول عيشها فضول «من حُسنِ إسلامِ المرء تَركهُ ما لا يَعنيه»(35) مقامك في غيرها ووطنك في سواها كن في الدنيا كأنك غريب هل تجد إلا منزل مفارق ووطن من غيره يقضى الوطر.
قال أبو نعيم(36): حدَّثنا أبو علي محمد بن أحمد بن الحسن: حدَّثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة: حدَّثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى: حدَّثنا الصلت بن عاصم المرادي عن أبيه، / عن وهب قال: لما هبط آدم ◙ إلى الأرض استوحش لفقد أصوات الملائكة فهبط عليه جبريل فقال: يا آدم ألا أعلمك شيئًا تنتفع به في الدنيا والآخرة؟ قال: بلى، قال: قل: اللهم تمم لي بالنعمة حتى تهنئني المعيشة، اللهم اختم لي بخير حتى لا تضرني ذنوبي، اللهم اكفني مؤنة الدنيا وكل هول في القيامة حتى تدخلني الجنَّة في عافية. انتهى.
الحديث الثاني: حديث أنس: «يجمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون: لو استشفعنا إلى ربنا...»(118).
'>(37) الحديث وهو مختصر من الحديث السابق في الباب قبله، وموضع الدلالة قول إبراهيم ◙ ثمَّ «ولكن عليكم بموسى فإنه كليم الله».
الحديث الثالث: حديثه ليلة أسري برسول الله صلعم من مسجد الكعبة الحديث [خ¦3570]وفيه أمور:
الأول: قوله: «من مَسجد الكعبة» اختلفوا هل كان ذلك وهو صلعم متوسد عند أركان الكعبة أو وهو نائم في بيته أو في بيت أم هانئ؟ على أقوال، وأنشدوا على الأخير:
قَد زُفَّ للتَّداني
والوصلُ منه داني
من بيتِ أم هاني
دعي إلى الأماني
رَسولُه أتاه
وللقا دعاه
لما بدا سَناه
بأحسن المعاني
الأبيات.
الثاني: قوله: «وهو نائم» استدل به من يرى أن الإسراء كان بروحه منامًا لا بجسده صلعم، وقبل الخوض في ذلك نقدم مقدمة في هديه صلعم في نومه:
نومه أعدل نوم وأنفعه للبدن والأعضاء والقوى إذ كان ينام أول الليل ويستيقظ أول النصف الثاني، فيقوم يستاك ويتوضأ ويصلي ما كتب الله له فيأخذ البدن والأعضاء والقوى حظها من النوم والراحة وحظها من الرياضة مع وفور الأجر ومراعاته صلاح القلب والبدن من الدنيا والآخرة.
قال البخاري[قبل1141]: باب قيام النبي صلعم بالليل ونومه وما نسخ من قيام الليل وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا} إلى قوله: {سَبْحًا طَوِيلًا}[المزمل: 1 -7] / وقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ} إلى قوله: {قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا}[المزمل: 20].
قال ابن عباس: نشأ: قام بالحبشية ▬وطاء↨ قال: مواطأة القرآن أشد موافقة لسمعه وبصره وقلبه {لِيُوَاطِئُوا}[التوبة: 37] ليوافقوا.
حدَّثنا عبد العزيز بن عبد الله حدثني محمد بن جعفر عن حميد أنه سمع أنسًا يقول: «كان رسول الله صلعم يفطر من الشهر حتى يظن أن لا يصوم منه، ويصوم حتى يظن أن لا يفطر منه شيئًا، وكان لا تشاء أن تراه من الليل مصليًا إلا رأيته، ولا نائمًا إلا رأيته».
تابعه سليمان وأبو خالد الأحمر عن حميد انتهى.
وفي حديثه الذي أخرجاه[خ5063، م1401]: «لكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رَغبَ عن سُنتي فليسَ منِّي» وفي حديث عائشة الذي في مسلم[746]: «كنَّا نعُد له سِواكه وطهوره فيبعثه الله متى شاء أن يبعثه من الليل فيتسوّك ويتوضأ ويصلي تسع ركعات _الحديث وآخره_: ولا أعلمُ نبيَّ الله صلعم قرأ القرآن كلَّه في ليلة، ولا صلَّى ليلةً إلى الصبح ولا صام شهرًا كاملًا غير رمضان».
وفي «معجم الطبراني»[3216] من حديث الحجاج بن عمرو قال: يحسب أحدكم إذا قام من الليل يصلي حتى يصبح أنه قد تهجد إنما التهجد: المرء يصلي الصلاة بعد رقدة ثم الصلاة بعد رقدة، وتلك كانت صلاة رسول الله صلعم.
في سنده ابن لهيعة وقد ضعفوه، لكن قال ابن عدي: أحاديثه حسان، وقال ابن وهب: كان صادقًا، وروى له مسلم مقرونًا ووقع له ذكر في البخاري من غير تسمية.
ولم يكن صلعم يأخذ من النوم فوق القدر المحتاج إليه منه، ولا يمنع نفسه من القدر المحتاج إليه منه، وكان يفعله على أكمل الوجوه وأتمها، فينام إذا دعته الحاجة إلى النوم على شقه الأيمن.
وفي «صحيح مسلم»[683] من حديث أبي قتادة: «كان رسول الله صلعم إذا كان في سفر فعَرَّسَ بليل اضطجع على يمينه، وإذا عَرَّس قُبيل الصبح نصب / ذراعه ووضع رأسه على كفه» انتهى.
ولا يزال ذاكرًا لله حتى تغلبه عيناه هذا وهو غير ممتلئ البدن من الطعام والشراب، ولا يباشر بجنبه الأرض ولا يتخذ الفرش المرتفعة، بل له ضجاع من أدم وحشوه ليف كما أخرجا من حديث عائشة قالت: «كان فراش رسول الله صلعم من أدم وحشوه ليف». [خ¦6456، م:2082]
وفي رواية[م:2082/38]: «كان وساد رسول الله صلعم الذي يتكئ عليه من أدم حشوه ليف».
ولمسلم[2106/87] من حديث زيد بن خالد الجهني عن أبي طلحة الأنصاري: أن رسول الله صلعم قال: «لا تَدخلُ الملائكةُ بيتًا فيه كلبٌ ولا تَماثيل» قال: فأتيت عائشة فقلت: إن هذا يخبرني أن رسول الله صلعم قال: «لا تدخل الملائكة بيتًا فيه كلب ولا تماثيل» فهل سمعتِ رسول الله صلعم ذكر ذلك؟ فقالت: لا ولكن سأحدثكم ما رأيته فعل، رأيته خرج في غزاته فأخذت نمطًا فسترته على الباب، فلما قدم فرأى النمط عرفت الكراهية في وجهه فجذبه حتى هتكه أو قطعه وقال: إن الله لم يأمرنا أن نكسو الحجارة والطين قالت: فقطعت منه وسادتين وحشوتهما ليفًا فلم يعب ذلك عليَّ.
وقال البخاري[5843] في كتاب اللباس، باب ما كان النبي صلعم يتجوَّز من اللباس والبسط: حدَّثنا سليمان بن حرب: حدَّثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد، عن عبيد بن حنين، عن ابن عباس قال: لبثت سنة وأنا أريد أن أسأل عمر عن المرأتين اللتين تظاهرتا على النبي صلعم، فجعلت أهابه فنزل يومًا منزلًا فدخل الأراك، فلما خرج سألته فقال: عائشة وحفصة ثم قال: كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئًا، فلما جاء الإسلام وذكرهن الله رأينا لهم بذلك علينا حقًا من غير أن ندخلهن في شيء من أمورنا، وكان بيني وبين امرأتي كلام فأغلَظَت لي فقلت لها: وإنك لهناك؟ قالت: تقول هذا لي وابنتك تؤذي النبي صلعم، فأتيتُ حفصة فقلت لها: إني أحذرك أن تعصي الله ورسوله / وتقدمت إليها في أذاه فأتيتُ أم سلمة فقلت لها فقالت: أعجب منك يا عمر قد دخلت في كل شيء فلم يبق إلا أن تدخل بين رسول الله صلعم وأزواجه، فردَّدت، وكان رجل من الأنصار إذا غاب عن رسول الله صلعم وشهدتُه أتيته بما يكون وإذا غبتُ عن رسول الله صلعم وشهد أتاني بما يكون من أمر رسول الله صلعم، وكان مَنْ حول رسول الله صلعم قد استقام له فلم يبق إلا ملك غسان بالشام كنا نخاف أن يأتينا فما شعرت إلا بالأنصاري وهو يقول: إنه قد حدث أمر، قلت له: وما هو أجاء الغساني؟ قال: أعظم من ذلك طلَّق رسولُ الله صلعم نساءه فجئت فإذا البكاء من حجرهنَّ كلها، وإذا النبي صلعم قد صعد في مَشْرُبةٍ له وعلى باب المَشْربة وَصيف فأتيته فقلت: استأذن لي فأذن لي فدخلت، فإذا النبي صلعم على حَصير قد أثرت في جنبه وتحت رأسه مرفقة من أدم حشوها ليف، وإذا أُهُبٌ معلقة وقرظ فذكرت الذي قلت لحفصة وأم سلمة، والذي ردت عليَّ أم سلمة فضحك رسول الله صلعم فلبث تسعًا وعشرين ليلة ثم نزل.
حدَّثنا عبد الله بن هشام: أخبرنا معمر، عن الزهري أخبرتني هند بنت الحارث عن أم سلمة قالت: استيقظ النبي صلعم من الليل وهو يقول: «لا إله إلا الله ماذا أنزل الليلة من الفتنة ماذا أنزل من الخزائن من يوقظ صواحب الحُجَر كم من كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة»[خ6218].
قال الزهري: وكانت هند لها أزرار في كمها بين أصابعها انتهى.
وفي حديث أبي موسى الذي أخرجاه[خ4323، م2498]: «دخلت عليه وهو في بيت على سرير مُرْمَلٍ وعليه فراش وقد أثر رمال السرير بظهر رسول الله صلعم وجنبيه...» الحديث.
والرمل المنسوج في وجهه بالسعف يقال: رَمَلتُ النسيج أرمُلُه إذا باعدت بين الأشياء المنسوج بها ولم تقارب فهو مُرْمَل، وسيأتي / في صلاة التطوع حديث حفصة إن شاء الله.
ولقد أحسن ابن الجوزي(38) في قوله: كان صلعم يعود المريض ويجيب دعوة المملوك ويجلس على الأرض ويلبس الخشن ويأكل البشع ويبيت الليالي طاويًا يتقلب في قفر الفقر ولسان الحال يناديه: يا محمد نحن نضِنُّ بك عن الدنيا لا بها عنك. انتهى.
قلت: وفي حاله صلعم هذا ما ينبه الغافل أنا في هذه الدار مزعجون لا متوطنون كما قال ابن الجوزي: انتبهوا لخلاصكم وأنيبوا إلى ربكم أنتم على الإزعاج، فما هذا التوطن أتتركون في ما هاهنا آمنين انتهى.
والنوم حالة تعرض للبدن يتبعها غور الحرارة الغريزية والقوى إلى باطن البدن لطلب الراحة وهو نوعان طبيعي وغيره.
فالطبيعي إمساك القوى النفسانية عن أفعالها وهي قوى الحِسِّ والحركة الإرادية ومتى انسلَّت هذه القوى عن تحريك البدن استرخى واجتمعت الرطوبات والأبخرة التي كانت تتحلل وتتفرق بالحركات واليقظة في الدماغ الذي هو مبدأ هذه القوى فيتخدر ويسترخي.
وأما النوم غير الطبيعي فيكون بعرضٍ أو مرض، وذلك بأن تستولي الرطوبات على الدماغ استيلاء لا تقدر اليقظة على تفريقها أو تصعد أبخرة رطبة كثيرة كما يكون عقب الامتلاء من الطعام والشراب فتثقل الدماغ وترخيه فيتخدر ويقمع القوى النفسانية عن أفعالها فيكون النوم.
وللنوم فائدتان: إحداهما: سكون الجوارح وراحتها مما يعرض لها من التعب ويُريح الحواس من نَصَب اليقظة ويزيل الإعياء والكلالة قال تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا}[النبأ: 9].
قال ابن قتيبة كما سبق عنه في الكلام على جلسة الاستراحة: أي راحة، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ}[يونس: 67] وقد سبق تفسيرها ثَمَّ أيضًا.
والثانية: هضم الغذاء ونضج الأخلاط لأن الحرارة الغريزية في وقت النوم تغور إلى باطن البدن فتعين على ذلك، ولهذا يبرد ظاهره ويحتاج النائم إلى فضل دثار.
وأنفع النوم: / أن ينام على شقه الأيمن ليستقر الطعام بهذه الهيئة في المعدة استقرارًا حسنًا، فإن المعدة أميل إلى الجانب الأيسر قليلًا، وإن المعدة من المكان المنخسف تحت الصدر إلى السرة كما ذكره الأطباء والفقهاء والعَرَّافون واللغويون وذكره شراح التنبيه كابن يونس وابن الرفعة فقال: والمعدة الموضع الذي يستقر فيه الطعام أشار إليه في «المجمل» وهي بفتح الميم وكسر العين ويجوز إسكان العين مع فتح الميم وكسرها، ومحلها ما بين فوق السرة إلى المنخفض تحت الصدر الذي يخرج منه النفس هذا كلامه.
وقد سبق في الكلام على قول البخاري مترجمًا بقوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ}[الحشر: 24] ما ذكره الغزالي في المعدة فراجعه.
ثم يتحول إلى الشق الأيسر قليلًا ليسرع الهضم بذلك لاشتمالِ الكبد على المعدة، ثم يستقر نومه على الجانب الأيمن ليكون الغذاء أسرع انحدارًا عن المعدة فيكون النوم على الجانب الأيمن بدأه ونهايته.
وكثرة النوم على الجانب الأيسر مضر بالقلب بسبب ميل الأعضاء إليه فتنصب إليه المواد.
وأردأ النوم: النوم على الظهر ولا يضر الاستلقاء عليه للراحة من غير نوم.
وقد أخرجا من حديث عبد الله بن زيد الأنصاري: أنه رأى النبي صلعم مستلقيًا في المسجد واضعًا إحدى رجليه على الأخرى. [خ¦475، م:2100]
وأردأ من النوم على الظهر: أن ينام منبطحًا على وجهه.
وفي المسند(39) وسنن ابن ماجه[3725] من حديث أبي أمامة قال: مرَّ النبيُّ صلعم على رجل نائم منبطح على وجهه فضربه برجله وقال: «قم واقعد فإنها نومة جهنمية».
وروى أبو داود[5040] بإسناد صحيح عن يعيش بن طخفة الغفاري قال: قال أبي بينما أنا مضطجع في المسجد على بطني إذا رجل يحركني برجله فقال: «إن هذه ضجعة يبغضها الله» قال: فنظرت فإذا رسول الله صلعم.
ولعل المراد بالنومة: السحب على وجوههم كما قال تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ}[القمر: 48] وقال: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ. إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ}[غافر: 70 -72] قال قتادة: يسحبون في النار مرة ومرة في الحميم.
وقال تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا}[الأحزاب: 66].
/ وقال قتادة: قال ابن عباس: (صَعود) صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه.
وقال كعب: يقول الله ╡ للإمام الجائر: {خُذوه فغُلُّوه. ثم الجَحيم صَلّوه}[الحاقة: 30-31] فيسحب على وجهه في النار فينتثر لحمه وعظامه ومخه.
وقال ثابت أبو زيد القيسي عن عاصم الأحول عن أبي منصور مولى سليم: أن ابن عباس قال: {يُسْحَبُونَ. فِي الْحَمِيمِ} قال أبو زيد: أراه قال: ينسلخ كل شيء عليه من جلد أو لحم أو عرق حتى يصير في عقبيه جسدًا من لحمه مثل طوله وطوله ستون ذراعًا ثم يكسى جلدًا آخر ثم يسجر في الحميم خرجه كله ابن أبي حاتم(40).
أو المراد الإنصات للبكاء كما سبق في الكلام على قول البخاري باب السؤال بأسماء الله حديث أنس الذي فيه يتخذ أهل النار بثلثين ...(41)، وليس المراد النوم المتعارف.
قال أبو عمران الجوني: إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار عنيد وكل سلطان وكل من كان يخاف الناس في الدنيا شره فأوثقوا بالحديد، ثم أمر بهم إلى جهنم، ثم أوصدها عليهم قال: فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرار أبدًا، ولا والله لا ينظرون فيها إلى أديم سماء أبدًا، ولا والله لا تلتقي جفون أعينهم على غمض نوم أبدًا، ولا والله لا يذوقون فيها بارد شراب أبدًا، والله أعلم(42).
قال أبقراط في كتاب «التقدمة»: وأما نوم المريض على بطنه من غير أن يكون عادته في صحته جرت بذلك فذلك يدل على اختلاط عقل وعلى ألم في نواحي البطن قال الشراح لكتابه: لأنه خالف العادة الجيدة إلى سنة رديئة من غير سبب ظاهر ولا باطن(43).
والنوم المعتدل: ممكن للقوى الطبيعية من أفعالها مريح للقوة النفسانية مكثر من جوهر حاملها حتى إنه ربما عاد بإرخائه مانعًا من تحلل الأروح.
ونوم النهار: رديء يورث الأمراض الرطوبية والنوازل ويفسد اللون ويورث الطحال ويرخي العصب ويكسل ويضعف الشهوة إلا في الصيف وقت الهاجرة وأردؤه نوم أول النهار وأردأ منه النوم آخره بعد العصر، ورأى عبد الله بن عباس ابنًا له نائمًا نومة الصبحة فقال / له: قم أتنام في الساعة التي تقسم فيها الأرزاق.
ومر عبد الله بن عمرو على رجل بعد صلاة الصبح وهو نائم فحركه برجله حتى استيقظ وقال له: أما علمتَ أن الله ╡ يطَّلعُ في هذه الساعة إلى خلقه فيدخل ثلة منهم الجنَّة برحمته.
وقال البغوي في «شرح السنة»[3/222]: قال علقمة بن قيس: بلغنا أن الأرض تعج إلى الله تعالى من نومة العالم بعد صلاة الصبح.
وقد سبق في كتاب الصلاة إنكار رِياح القيسي النوم بعد العصر، وسبق ثمَّ أيضًا إنكار طاووس النوم وقت السحر، لكن قال البخاري: باب من نام عند السحر ثم ساق حديث عبد الله بن عمرو: «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود» الحديث[خ¦1131].
وحديث مسروق: «سألت عائشة: أي العمل كان أحب...» الحديث[خ¦1132].
وحديثها: «ما ألفاه السحر عندي إلا نائمًا». [خ¦1133]
وقيل: نوم النهار ثلاثة: خُلُق وحُرق وحُمق.
فالخُلق: نوم الهاجرة وهو خُلق رسول الله صلعم.
والحُرق: نومة الضحى تشغل عن أمر الدنيا والآخرة.
والحُمْق: نومة العصر، قال بعض السلف: من نام بعد العصر فاختلس عقله فلا يلومن إلا نفسه.
وقال الشاعر:
ألا إنَّ نومات الضُّحى تورِثُ الفَتى خَبالًا ونومات العُصَيْرِ جُنونُ
فنوم الصّبْحَة(44) يمنع الرزق لأن ذلك وقت تطلب فيه الخليقة أرزاقها، وهو وقت قسمة الأرزاق فنومه حرمان إلا لعارض أو ضرورة، وهو مضر جدًا بالبدن [لإرضائه البَدن] وإفساده للعضلات التي ينبغي تحليلها بالرياضة فتحدث تكَسُّرًا وعِيًّا وضعفًا، وإن كان قبل البروز والحركة والرياضة وإشغال المعدة بشيء فذلك الداء العضال المولد لأنواع من الأدواء.
والنوم في الشمس يثير الداء الدفين، ونوم الإنسان بعضه في الشمس وبعضه في الظل رديء.
روى أبو داود في «سننه»[4821] من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: «إذا كان أحدكم في الشمس فقَلَصَ عنه الظل فصار بعضه في الشمس وبعضه في الظل / فليقم».
وفي «سنن ابن ماجه»[3722] وغيره من حديث بريدة بن الحصيب: «أن رسول الله صلعم نهى أن يقعد الرجل بين الظل والشمس» وهذا تنبيه على منع النوم بينهما.
وقد سبق في باب ما ينقض الوضوء حديث البراء بن عازب وشرحه ولا بأس بالإشارة هنا إلى نبذة من شرحه: سبق أنه يشتمل على أربعة أوامر الوضوء عند النوم والمعنى فيه أن النوم أخو الموت وربما تَخْتَرمُ العبدَ المنيَّةُ وهو نائم فيأتي الله على طهارة. [خ¦247]
ونزيده هنا: قال الإمام فخر الدين الرازي(45) في الكلام على قوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا}[الزمر: 42] ما نصه: النفس الإنسانية عبارة عن جوهر مشرق روحاني إذا تعلق بالبدن حصل ضوؤه في جميع الأعضاء وهو الحياة فنقول: إنه في وقت الموت ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن وعن باطنه وذلك هو الموت.
وأما في وقت النوم فإنه ينقطع ضوؤه عن ظاهر البدن من بعض الوجوه ولا ينقطع ضوؤه عن باطن البدن، فثبت أن الموت والنوم من جنس واحد إلا أن الموت انقطاع تام كامل والنوم انقطاع ناقص من بعض الوجوه، وإذا ثبت هذا ظهر أن القادر الحكيم دبر تعلق جوهر النفس بالبدن على ثلاثة أوجه:
أحدها: أن يقع ضوء النفس على جميع أجزاء البدن ظاهره وباطنه، وذلك هو اليقظة.
وثانيها: أن يقع ضوء النفس على باطن البدن ولكنه ينقطع عن ظاهره، وذلك هو النوم.
وثالثها: أن ينقطع ضوء النفس عن البدن بالكلية وهو الموت، فثبت أن الموت والنوم يشتركان في كون كل واحد منهما توفيًا للنفس ثم يمتاز(46) كل واحد منهما عن الآخر بخواص معينة وصفات معينة، وقيل: هذا التدبير العجيب لا يمكن صدوره إلا عن القادر الحكيم وهو المراد من قوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}[الروم:21] .
ويحتمل أن يكون المراد أن هذا الدليل يدل على أن الواجب على العاقل أن يعبد إلهًا موصوفًا بهذه القدرة وهذه الحكمة وأن لا يعبد الأَوْان التي هي جمادات لا شعور لها ولا إدراك انتهى.
الأمر الثاني: الاضطجاع على / الشق الأيمن وقد قال البخاري باب الضجعة على الشق الأيمن بعد ركعتي الفجر، ثم ساق حديث عائشة[1160]: «كان إذا صلى ركعتي الفجر اضطجع على شقه الأيمن».
وقد قيل: الحكمة في النوم على الجانب الأيمن أن لا يستغرق النائم في نومه لأن القلب فيه ميل إلى جهة اليسار، فإذا نام على جانبه الأيمن طلب القلب مستقره من الجانب الأيسر، وذلك يمنع من استغراق النائم واستثقاله في نومه بخلاف قراره في النوم على اليسار فإنه في مستقره فتحصل تلك الدعة التامة فيستغرق في نومه ويستثقل فتفوته مصالح دينه ودنياه والمطلوب من العبد أن لا يفتر عن خدمة مولاه الذي خلقه وهداه:
يا نائمًا طال الرقاد فانتبه دنياك ليلٌ فارتقِبْ فجر المَمات
وقد سبق ثَمَّ الإيماء إلى هذه الحكمة مع أخرى وهي التذكر بحالة المضجع في القبر.
الأمر الثالث: الدعاء بذلك وذلك أنه لما كان النائم بمنزلة الميت والنوم أخو الموت ولهذا يستحيل على الحي الذي لا يموت وأهل الجنَّة لا ينامون فيها كان النائم محتاجًا إلى من يحرس نفسه ويحوطها ويحفظها مما يعرض لها من الآفات ويحرس بدنه أيضًا من طوارق الآفات، وكان ربه وخالقه تعالى هو المتولي لذاك وحده كما قيل:
يا نائمًا والجليلُ يحرسُه من كل سوءٍ يدبُّ في الظُّلَمِ
كيف تنام العيون عن مَلكٍ تأتيك منه فوائد النِّعمِ
لا جَرمَ علَّم النبيُّ صلعم النائمَ أن يقول كلماتِ التَّفويض والالتجاء والرغبة والرهبة ليستدعي بها كمال حفظ الله له وحراسته لنفسه وبدنه، وأرشده مع ذلك إلى أن يستذكر الإيمان وينام عليه ويجعل التكلم به آخر كلامه، فإنه ربما توفاه الله في منامه فإذا كان الإيمان آخر كلامه دخل الجنَّة، فتضمن هذا الحديث مصالح القلب والبدن والروح في النوم واليقظة والدنيا والآخرة.
قوله: «أسلمتُ نفسي إليك» أي: جعلتُها مسلَّمةً إليك تسليم العبد المملوك / نفسه إلى سيده ومالكه، وتوجيه وجهه إليه يتضمن إقباله بالكلية على ربه وإخلاص القصد والإرادة له وإقراره بالخضوع والذل والانقياد قال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ}[آل عمران: 20].
وخُصَّ الوجه بالذكر إذ هو أشرف ما في الإنسان ويجمع الحواس، وأيضًا ففيه معنى التوجه والقصد من قوله:
أستغفر الله ذنبًا لست مُحصيه رب العباد إليه الوَجهُ والعَمَلُ
وتفويض الأمر ورده إلى الله سبحانه وذلك يوجب سكون القلب وطمأنينته والرضا بما يقضيه ويختاره له مما يحبه ويرضاه، والتفويض من أشرف مقامات العبودية ولا علة فيه وهو من مقامات الخاصة خلافا لزاعمي غير ذلك وإلجاء الظَّهر إليه سبحانه يتضمن قوة الاعتماد عليه والثقة به والسكون إليه والتوكل عليه، فإن من أسند ظهره إلى ركن وثيق لم يخف السقوط.
ولما كان للقلب قوتان: قوة الطلب وهي الرغبة وقوة الهرب وهي الرهبة كان العبد طالبًا لمصالحه هاربًا من مضاره جمع الأمرين في هذا التفويض والتوجه فقال: «رغبةً ورهبةً إليك» ثم أثنى على ربه بأنه لا ملجأ للعبد سواه ولا منجى منه له غيره فهو الذي يلجأ إليه العبد فينجيه من نفسه كما في الحديث الآخر: «أعوذ برضاك من سخطك وبعفوك من عقوبتك، وأعوذ بك منك»[م:486] فهو الذي يعيذ عبده وينجيه من بأسه الذي هو بمشيئته وقدرته فمنه البلاء ومنه الإعانة ومنه تطلب النجاة منه وإليه الالتجاء في النجاة فهو الذي يلجأ إليه في أن يحفظه في منامه ويستعاذ به من تلعب الشيطان به في شتى أحلامه، فهو رب كل شيء ولا يكون شيء إلا بمشيئته {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ}[الأنعام: 17] {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}[الأحزاب: 17].
ثم ختم الدعاء بالإقرار بالإيمان بكتابه ورسوله الذي هو ملاك النجاة والفوز في الدنيا والآخرة.
الأمر الرابع: قوله: «واجعلهنَّ آخر ما تتكلَّم به» وهو / إرشاد إلى ختم العمل بخير كما سبق ثمَّ وسبق أيضًا أن هذا من جملة الأحاديث المستعملة عند النوم ثم سقنا منها طائفة فراجع ذلك كله.
إذا تقرر ذلك فقد اختلف الناس هل كان الإسراء ببدنه صلعم وروحه أو روحه فقط على قولين:
فذهب الأكثرون من العلماء إلى أنه أسري ببدنه وروحه يقظة لا منامًا، ولا ينكر أن يكون رسول الله صلعم رأى قبل ذلك منامًا رآه بعده يقظة لأنه لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصُّبح، والدليل على هذا قوله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى}[الإسراء: 1] إذ التسبيح إنما يكون عند الأمور العظام كما قال البخاري[قبل6218] باب التكبير والتسبيح عند التعجب.
وقال ابن أبي ثور عن ابن عباس عن عمر: قلت للنبي صلعم: أطلقت نساءك؟ قال: «لا» قلت: الله أكبر.
حدَّثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري حدثتني هند بنت الحارث: أن أم سلمة قالت: استيقظ النبي صلعم فقال: «سبحان الله ما أنزل الليلة من الخزائن وماذا أنزل من الفتنة من يوقظ صواحب الحُجَر _يريد أزواجه_ حتى يصلِّين، رب كاسية في الدنيا عارية في الآخرة».
حدَّثنا أبو اليمان: أخبرنا شعيب عن الزهري «ح» وثنا إسماعيل حدثني أخي عن سليمان عن محمد بن أبي عتيق عن ابن شهاب عن علي بن الحسين: أن صفية بنت حُيَي زوج النبي صلعم أخبرته أنها جاءت رسولَ الله صلعم تزوره وهو معتكف في المسجد في العشر الغوابر من رمضان فتحدثت ساعة من العشاء، ثم قامت تنقلب فقام معها رسول الله صلعم يقلبها حتى إذا بلغت باب المسجد الذي عند سكن أم سلمة زوج النبي صلعم مر بهما رجلان من الأنصار فسلَّما على النبي صلعم ثم نفذا فقال لهما رسول الله صلعم: «على رِسلِكُما إنها صَفيَّة بنت حُيي» قالا: سبحان الله يا رسول الله! وكبر عليهما فقال: / «إن الشَّيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما» انتهى. [خ¦6219]
فالمقصود أن التسبيح إنما يكون لدى أمر عظيم ولو كان الإسراء منامًا لم يكن فيه كبير أمر ولم يكن مستعظمًا، فإن مثل ذلك يقع لبعض الآحاد حتى قال الأستاذ القشيري في كتابه «المنهاج في المعراج» فإن قيل: فما تقولون في الأولياء هل يجوز أن يكون لهم معراج إذا قلتم بجواز الكرامات، وما تقولون في ما يطلقه الناس من هذه الطائفة من معراج أبي يزيد البسطامي وغيره؟.
قيل: أما المعراج بالبدن فلم ينقل عن واحد ولم يخبر أحد عنه أنه كان له ولا يبعد أن يقال: إن ذلك لا يكون لغير المصطفى صلعم بالإجماع ولو قيل: إن ذلك من الجواز كان من مذهبنا وإلى وقتنا لم نُخبَر عن أحد أنه كان له ذلك فأما في النوم فغير مستنكر أن يكون لبعض الخواص ذلك سمعت أحمد الطابراني السرخسي يقول كنت أرى ابتداء إرادتي في المنام كل ليلة سنة كاملة أني أرفع إلى السماء وكنت أرى العجائب في النوم.
وأما حالة بين اليقظة والنوم يرى العبد أنه يحمل إلى السماء ويرى في تلك الحالة العجائب فهذا معتاد معهود موجود لكثير من الذاكرين الله في ابتداء أحوالهم وهذا مما لا يتداخلنا فيه شك أنه يكون لأهل الذِّكر ذلك لتحققنا بذلك بطرق لا يمكن جحدها. انتهى.
وقال أهل التأويل: رؤيا السماء الدنيا تدل على قصر الملك وحَشَمِهِ وجنده فمن رأى أنه صعد السماء بسلم نال عزًّا من الملك، وإن رأى أنه صعد إلى السماء لينظر إليها فإنه ينال ولاية ورفعة، ومن رأى أنه في السماء الدنيا يأمر وينهى وكان أهلا للولاية نالها أو دخل في عمل وزير لأن السماء الدنيا للقمر وهو وزير في التأويل.
ومن رأى أنه صعد إلى السماء مُستويًا أصابته مشقة لقوله تعالى: {يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} .
وإن رأى أنه دخلها وغاب فيها فإنه يموت، وإن نزل منها فإنه يشرف على الموت ثم ينجو، وإن رأى أنه في السماء الثانية فإنه ينال علمًا وأدبًا وكتابة وفطنة لأن السماء الثانية لعطارد وهو في / التأويل كاتب الملك، وإن رأى أنه في السماء الثالثة فإنه ينال رفعة وحللًا وسرورًا؛ لأن السماء الثالثة للزهرة وهي في التأويل زوجة الملك، وإن رأى أنه في السماء الرابعة فإنه إن كان أهلًا للولاية نال ملكًا وسلطانًا وهيبة لأن السماء الرابعة للشمس وهي في التأويل سلطان، وإن رأى أنه في السماء الخامسة فإنه ينال ولاية على الشرطة والقتال لأن السماء الخامسة للمريخ ويسمى بهرامًا وهو صاحب حرب الملك.
وإن رأى أنه في السماء السادسة فإنه ينال علمًا وفضلًا ويكون حازمًا في الأمور وخازن ملك لأن السماء السادسة للمشتري وهو صاحب بيت مال الملك، وإن رأى أنه في السماء السابعة فإنه ينال عقارًا وأرضين وفلاحين وكلأ لأن السماء السابعة لزحل، ومن رأى أنه فوق السماء السابعة فإنه ينال رفعة ولكنه ينتهي أمره ويهلك.
ولما قدم النابغة الجعدي على النبي صلعم وأنشده قصيدته التي يقول فيها:
أتينا رسول الله إذ جاء بالهدى ويتلو كتابًا كالمجرة نيرا
فلما انتهى إلى قوله:
بلَغنا السماءَ مجدُنا وجُدودُنا وإنا لنرجو فوقَ ذلك مَظْهَرا
ضرب رسول الله صلعم بيده في صدره وقال: «إلى أين يا أبا ليلى» قال: إلى الجنَّة قال: «إن شاء الله»(47) انتهى.
وأيضا لو كان الإسراء منامًا لما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه، ولما ارتد جماعة ممن كان قد أسلم، وأيضًا فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد وقد قال سبحانه: {أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} وقال: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ}[الإسراء: 60] قال ابن عباس: هي رؤيا عين أريها رسول الله صلعم رواه البخاري[3888].
وقال: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}[النجم: 17] والبصر من آلات الذات لا الروح، وأيضًا فإنه حُمِلَ صلعم على البُراق وإنما يكون هذا للبدن لا للروح لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركوب تركب عليه.
وقال آخرون: بل أُسري برسول الله صلعم بروحه لا بجسده.
قال محمد بن إسحاق بسنده عن معاوية بن أبي / سفيان: أنه كان إذا سئل عن مَسْرى رسول الله صلعم قال: كانت رؤيا من الله صادقة، وذكر عن عائشة أنها قالت: ما فقد جسد رسول الله صلعم ولكن أسري بروحه(48).
قال ابن إسحاق: فلم ننكر ذلك من قولها لقول الحسن إن هذه الآية [نزلت في ذلك]: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ} وذكر رؤيا إبراهيم وأن الأنبياء يأتيهم الوحي من الله أيقاظًا ونيامًا انتهى.
وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير في «تفسيره» بالرد والإنكار والتشنيع بأن هذا خلاف ظاهر سياق القرآن وذكر الأدلة على رده.
وقال الأستاذ القشيري في «منهاجه» ما نصه: فصل: فالذين أنكروا المعراج وأحالوه من جهة العقل فهم الملحدة والطبائعيون الذين قالوا؟ إن حول الهواء المحيط بنا نار محيطة بالهواء المحيط بكرة الأرض وإن الأرض نهاية السفل وهذه الأجسام الكثيفة تهوي بطبعها إلى أن تستقر على الأرض التي هي المركز، وهذا القول باطل لقيام الدلالة على حدوث العالم ووجوب وجود محدثه بوصف الجلال واستحقاق نعوت العظمة باستحالة البعض وفساد القول بالطبع، وإنكارهم المعراج كإنكارهم جواز بقاء أهل النار وهم أحياء في النار وفساد أقاويلهم مذكور في مسائل الأصول بوجوب القول بقدرة الصانع تعالى على ما يتوهم حدوثة.
وأما الذين أنكروا أن يكون معراجه صلعم بالجسد فهو قول أكثر الروافض والمعتزلة فمنهم من قال: إن المعراج كان رؤيا رآها النبي صلعم في منامه ثم ذكر لأصحابه في اليقظة ما كان قد رآه في النوم وأنه لم يغب بجسده عن مكة، وقالوا: إنه عرج بروحه دون جسمه وعندهم الإنسان هو الروح.
وقال قوم من المعتزلة: إنه أسري به إلى بيت المقدس على ما في ظاهر الكتاب وأنكروا ما وراء ذلك.
وأما أهل الحق فهم مجمعون على أن النبي صلعم أُسري به ليلة المعراج، وأنه ذهب ببدنه وعرج في السماء بنفسه خرج في شطر ليل من مكة إلى المسجد الأقصى بالبيت / المقدس ثم صعد إلى السماء حتى بلغ سدرة المنتهى، ثم كما قال تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى}[النجم: 9] وأنه رأى بعينيه الجنَّة والنار وغير ذلك على ما يجيء تفصيل ذكره، ولا يبعد أن يقال: كان للنبي صلعم تلك الليلة معراج بجسده ثم في غير تلك الليلة كانت له معاريج في النوم، فإن في بعض ألفاظ الأخبار الواردة في المعراج ما يدل على كونه في النوم مثل لفظ الانتباه وغيره انتهى.
ويظهر ما ذكره من شبهة الملحدة ما ذكره الحليمي في «منهاجه»: من حججهم أن ينزل خلق سماوي أو يصعد خلق أرضي وقد نظم ذلك:
الملَكُ الجسمُ اللطيفُ ذو الحدود والحركاتِ والنزولِ والصُّعود
هذا الذي جاء به الرسول وقال ملحد هي العقول
واعترض القول الصحيح إذ حاج بما الحليمي قاله في المنهاج
قالوا كما لا يصعد السفلي من جوهر لا يهبط العلوي
مثل التراب جرمه جرم قار وعكس هذا صاعد جرم النار
قلنا إذا تحرك الجسم إلى ناحية حاز سواها مثلا
ومثلما بالقسر يعلو الأسفل كذلك العلوي أيضا ينزل
وقسرك السهم على الصعود يرد ما تقول في الجحود
فإن زعمتم أنها جواهر مفردة قلنا الجواب حاضر
لم يثبت الجمهور هذا الجوهرا ومنه فردا عندكم كم تفردا
فالجسم من جواهر مؤلف عندكم فسلموا وأنصفوا
منها كما ذكرتموها أرواح أليست الأرواح فيها أشباح
قد هبطت من المحل الأرفع فأنتم على قياس المدعي
كل بإذن الله للأرض نزل ذا في رسالة وذا إلى أجل
ثم قال القشيري: المذكور مسألة إن قال قائل: ما الذي صحَّ عندكم من أمر المعراج / أكان ذلك رؤيا رآها النبي صلعم أم كان ذهابًا بنفسه أو ذهابًا بروحه على ما قيل؟.
الجواب الصحيح: أنه كان له عروج إلى السماء بجسده وخروج من مكة إلى بيت المقدس ببدنه لما شهد له من الظواهر:
منها قوله سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ}[الإسراء: 1] فظاهر الآية أنه أسري به على الحقيقة وصرف الخطاب إلى الرؤيا ترك الظاهر وعدول عنه من غير دليل.
ويدل عليه أيضًا قوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} والذي يرى في المنام لا يكون فيه كبير آية ولأن حقيقة قوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا} إنما يقال: لما يرى في اليقظة.
ويدل عليه أيضًا الألفاظ الكثيرة من الأخبار التي ذكرناها في الظاهر.
قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى. ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى. وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى}[النجم: 5 - 7].
ولقوله تعالى: {ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى}[النجم: 8] ولقوله: {مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى}[النجم: 11] ولقوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى}[النجم: 13] ولقوله: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى}[النجم: 17 - 18].
فلو كان المعراج رؤيا رآها أو كان بروحه لكان خلافًا للظواهر التي رويناها وذكرناها، ومن قال: كان الإسراء بروحه فإذا جاز على الروح وهو جسم لطيف قطعُ تلك المسافات الكبيرة في شطر من الليل فلم لا يجوز ذلك على جسده، وكل واحد منهما فعل ناقض للعادة.
فإن قيل: فما تقولون في الألفاظ الدالة من أخبار المعراج على أنه كان ذلك رؤيا لأنه روي أنه قال «بينا أنا بين النائم واليقظان إذ سمعت قائلًا يقول[م:164/265].
وروي أنه قال: «بينا أنا نائم في الحطيم»[خ¦3887].
وقال: «بينا أنا نائم في الحجر إذ أتاني آت»[خ¦3887] .
قيل: يجوز أن يكون ابتداء مجيء الملك إليه أنه كان نائمًا أو كان بين اليقظة والنوم ثم صار منتبهًا بعد ذلك، ويجوز أن يكون له عروج بجسده وكان قد رأى مرات أخر في منامه وهذا غير مستنكر.
سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: كان للنبي صلعم في كل وقت معراج يسره وكان يشاهد الأشياء في كل وقت، وكان رحمة الله عليه يقول: إنما لم يتغير ظاهر الرسول صلعم لما رجع من / المعراج ليلة الإسراء لأن ذلك كانت له عادة، والتغيير لأهل البداية، فأما من تعود فإنه لا يتغير به، ولهذا احتاج موسى ◙ لما رجع من طور سيناء إلى البُرقُع ولم يحتج الرسول صلعم عند منصرفه من المعراج إليه لأن موسى كان ذلك له أول مرة فتغير وتأثر به، ونبينا صلوات الله وسلامه عليه كان قد تعود ذلك فلم يؤثر عليه، وكان يستشهد عليه بقصة يوسف ◙ لما قالت له امرأة العزيز: { اخْرُجْ عَلَيْهِنّ }[يوسف: 31] فلما شهدته النسوة قطعن أيديهن حيرة البديهة ولم يشعرن، وامرأة العزيز لم تتغير بها شعرة وكانت أتم في حب يوسف منهن لأن ذلك كان أول لفتة لهن من يوسف فتغيرن لما شهدنه على الوهلة وامرأة العزيز تعودت لقاء يوسف فلم تتغير.
وقد قيل: إن الأنوار التي ظهرت على موسى سترها البُرقُع، ولو ظهرت أنوار الرسول صلعم لم يكن شيء يسترها فلذلك أخفيت أنواره، وقيل: ثلاثة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ظهرت الأنوار عليهم: يوسف وموسى ومحمد صلى الله عليه وعليهم وسلم؛ فأما يوسف فظهرت الأنوار على ظاهره فصار جماله سبب فتنة قوم، وأما موسى فظهر النور على يده فأخرجها بيضاء من غير سوء فصار معجزة له، وأما المصطفى عليه الصلاة والسلام فظهر النور في سره فقال: «ألا لا يسعني غير ربي» انتهى كلامه.
الناس مُختلفون في الإسراء قالت فرقة في النوم كان مُرتَّبًا
ولو أنّ خير العالمين يقول هذا في المنام رأيتُه ما كَذَبا
وبالجملة فالجمع بين القولين حسن كما صار إليه طائفة فقالوا: كان مرتين: الأولى في النوم توطئة للإسراء في اليقظة على ما سبق والله أعلم.
الأمر الثالث: قوله: «وتنام عينه ولا ينام قلبه» هذا قد أخرجاه في حديث عائشة: فقلت: يا رسول الله أتنام قبل أن توتر؟ قال: «يا عائشة: إن عينيَّ تنامان ولا ينام قَلبي». [خ¦3569، م:738]
وأخرج من حديث ابن عباس قال: بتُّ عند خالتي ميمونة ليلةً فقام رسولُ الله صلعم من / الليل فتوضأ من شَنٍّ معلقة وضوءًا خفيفًا يخففه عمرو ويقلله وقام فصلى، قال: فقمت فتوضأت نحوًا مما توضأ ثم جئتُ فقمتُ عن يساره وربما قال سفيان: عن شماله، فحوَّلني فجعلني عن يمينه، ثم صلَّى ما شاء ثم اضطجع فنام حتى نفخ، ثم أتاه المنادي فآذنه بالصلاة فقام معه إلى الصلاة فصلى الصبح ولم يتوضأ، قال سفيان: وهذا للنبي صلعم خاصة؛ لأنه بلغنا أن النبي صلعم تنام عيناه ولا ينام قلبه. [خ¦138، م:763]
وقد قال الرافعي في الكلام على خصائصه صلعم: وكان لا ينتقض وضوؤه بالنوم.
وذكر أبو العباس الروياني فيه وجهًا آخر غريبًا، وكذلك حكى وجهين في انتقاض وضوئه باللمس، زاد في «الروضة» قلت: المذهب الجزم بانتقاضه باللمس. انتهى.
قال البخاري[قبل183]: باب قراءة القرآن بعد الحَدَث وغيره، وقال منصور عن إبراهيم: لا بأس بالقراءة في الحمام وبكتب الرسالة على غير وضوء. وقال حماد عن إبراهيم: إن كان عليهم إزار فنسلم وإلا فلا نسلم.
حدَّثنا إسماعيل: حدثني مالك عن مَخْرمة عن سليمان عن كُريب مولى ابن عباس: أن عبد الله بن عباس أخبره: أنه بات ليلةً عند ميمونة زوج النبي صلعم وهي خالته، فاضطجعت في عرض الوسادة واضطجع رسول الله صلعم وأهله في طولها، فنام رسولُ الله صلعم حتى إذا انتصف الليل أو قبله بقليل أو بعده بقليل استيقظَ رسولُ الله صلعم فجعل يمسح النوم عن وجهه بيده، ثم قرأ العشر الآيات الخواتم من سورة آل عمران ثم قام إلى شَنٍّ معلقة فتوضأ منها فأحسن وضوءه ثم قام فصلى، قال ابن عباس: فقمتُ فصنعت مثل ما صنع، ثم ذهبت فقمت إلى جنبه فوضع يده اليمنى على رأسي، وأخذ بأذني اليمنى يفتلها، فصلى ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم ركعتين ثم أوتر ثم اضطجع حتى أتاه المؤذن فصلى ركعتين خفيفتين ثم خرج فصلى الصبح، انتهى [خ¦183].
وقد سبق في باب ما ينقض الوضوء اعتراض الإسماعيلي / على البخاري: بأنه إذا فرق بين نوم النبي صلعم ونوم غيره لم يقع هذا الحديث في هذا الباب، وجواب السبكي عنه بوجهين فراجع ذلك.
قال الحكيم الترمذي: النوم على عشرة أوجه:
نوم القدرة حين ألقي على آدم ◙ فخلق منه حواء.
ونوم الامتحان للخليل ◙: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}[الصافات: 102].
ونوم التَّنزيه لموسى ◙ حين دل به على تنزيه الله عن النوم.
ونوم الكرامة لأصحاب الكهف: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ}[الكهف: 11].
ونوم المعجزة للنبي صلعم: «تنام عيناي ولا ينام قلبي»[خ¦3569].
ونوم الأمن للصحابة ♥: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ}[الأنفال: 11].
ونوم الراحة للخلق: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا}[النبأ: 9].
ونوم الرَّحمة: وهو للرجل يهم بالمعصية فينام عنها.
ونوم العُقوبة: وهو أن ينام عن الفريضة حتى تفوته.
ونوم الغَفْلة: وهو أن ينام في مجلس الذِّكر، وكذلك النوم بعد الفجر، روي أنه تكسله سهرته انتهى.
وأشار بيوم التنزيه إلى ما رواه الثعلبي[2/231] وغيره من حديث أبي هريرة قال: سمعتُ رسول الله صلعم يحكي عن موسى ◙ على المنبر قال: وقع في نفس موسى هل ينام الله ╡؟، قال: فأرسل الله سبحانه إليه ملكًا فأرقه ثلاثًا وأعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يتحفظ بهما، قال: فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان فيحبِسُ إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطكَّت يداه فانكسرت القارورتان، قال: فضرب الله مثلًا إن الله سبحانه لو نام لم تستمسك السماوات والأرض له.
وفي حديث أبي موسى الذي في «صحيح مسلم» [179]: «إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام...» الحديث.
قلت: وفاتَه نوم العبادة وهو للصائم إذا نوى بنومه في الليل والنهار التَّقوِّي على العمل كان نومه عبادة.
وفي حديث مرفوع: «نوم الصائم عبادة»(49) قالت حفصة بنت سيرين: قال أبو العالية: الصائم في عبادة ما لم يغتب أحدًا وإن كان نائمًا على فراشه، قال: وكانت حفصة تقول: يا حبذا عبادة وأنا نائمة / على فراشي خرجه عبد الرزاق[7895] والله أعلم.
الأمر الرابع: قوله: «وكذلك الأنبياء تَنامُ أعينهم ولا تَنامُ قلوبُهم»[3570] قال البخاري في باب وضوء الصبيان: ومتى يجب عليهم الغسل والطهور[138]: حدَّثنا علي بن عبد الله، أخبرنا سفيان عن عمرو، أخبرني كريب عن ابن عباس قال: بتُّ عند خالتي ميمونة ليلة فنام النبي صلعم فلما كان في بعض الليل قام رسول الله صلعم فتوضأ من شنٍّ معلق وضوءًا خفيفًا يخففه عمرو ويقلله جدًا ثم قام يصلي فقمت فتوضأت نحوًا مما توضأ ثم جئت عن يساره فحوَّلني فجعلني عن يمينه ثم صلى ما شاء الله ثم اضطجع فنام حتى نفخ فأتاه المنادي فآذنه بالصلاة فقام معه إلى الصلاة فصلى ولم يتوضأ.
قلنا لعمرو: إن ناسًا يقولون: إن النبي صلعم تنام عينه ولا ينام قلبه، قال عمرو: سمعت عبيد بن عمير يقول: رؤيا الأنبياء وحي، ثم قرأ: {إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}[الصافات: 102] انتهى.
وأخرجا[خ344، م682] من حديث عمران بن حصين قال: كنا في سفر مع النبي صلعم وإنا أسرينا حتى إذا كنا في آخر الليل وقعنا وقعة ولا وقعة عند المسافر أحلى منها فما أيقظنا إلا حر الشمس، وكان أول من استيقظ فلان ثم فلان يسميهم أبو رجاء فنسي عوف ثم عمر بن الخطاب الرابع، وكان النبي صلعم إذا نام لم نوقظه حتى يكون هو يستيقظ لأنا لا ندري ما يحدث له في نومه .. . الحديث.
لا جرم كان صلعم يأتيه الوحي على حالات ست: كلمه الله يقظة ليلة المعراج، وكلمه في النوم دون حجاب؛ كما في حديث: معاذ «إني قُمت من الليل فصليتُ ما قُدِّر لي فنعست في صلاتي حتى استثقلت، فإذا أنا بربي ╡ في أحسن صورة فقال: يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى .. .»(50) الحديث الآتي بتمامه في صلاة الجماعة إن شاء الله.
ونفث في روعه معنا، وكان يسمع مثل صَلْصَلة الجَرَس، وأتاه الملك يقظة وفي المنام، ويتفرع منهما صور أخرى فإن الملك أتاه على أحوال من الصور: صورته، وصورة دحية، وصورة أعرابي / وصورة رجل مجهول، وراكبًا في بدر ويوم قريظة، وراجلًا ومرة على فرس ومرة على بغلة، وأما أحواله صلعم ففي السفر والحضر وفي الفراش وعلى الركاب وجالسًا ومضطجعًا ولكل من ذلك شواهد. [خ¦2]
وقال الحليمي: فصل: ومما يجب معرفته يعني النبوة وتفسيرها من النبي صلعم أنه قال: «الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءًا من النبوة»[خ¦6989].
والفرق بين النبي والرسول فنقول وبالله التوفيق: إن النبوة اسم مشتق من النبأ ومن الخبر، إلا أن المراد به في هذا الموضع خبر خاص وهو الذي يُلزم الله ╡ به أحدًا من عباده فيميزه بإلقائه إليه عن غيره، ويوقفه به على شريعته بما فيها من أمرٍ ونهي ووعظٍ وإرشادٍ ووعدٍ ووعيدٍ فتكون النبوة على هذا الخبر والمعرفة بالمخبرات الموصوفة التي ذكرتها، والنبي هو المخبر بها، فإن انضاف إلى هذا التوقيف أمر يبلغه الناس ويدعوهم إليه كان نبيًا رسولًا، وإن ألقي إليه ما ذكرنا ليعمل به في خاصته ولم يؤمر بتبليغه والدعاء إليه كان نبيًا ولم يكن رسولًا، فكلُّ رسولٍ نبي وليس كل نبيٍّ رسولًا.
ثم إن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم يخصون وراء ما ذكرته بآيات مؤكّدات ليتميزوا بها عمن ليس مثلهم كما تميزوا بالعلم الذي أوتوه فيكون الخصوص واقعًا لهم من وجهين إلا أن ما في حيز التعليم فهو النبوة، وما وقع في حيز التأبيد فهو حجة النبوة والخصوص من قبل التعليم قد يكون في الجهة التي منها يلقون العلم وقد يكون في المعلوم الذي يلقى فيهم.
والواقع من ذلك في جهة العلم وجوه،
منها: وهو أعلاها درجةً تكليم الله ╡ من كلَّم منهم قال الله ╡: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا}[النساء: 164] وقال: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى. إِذْ رَأَى نَارًا}[طه: 9 - 10] إلى قوله: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}[طه: 24] وقال: {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ} إلى قوله: {رَبُّ الْعَالَمِينَ}[القصص: 30].
ومنها أن يُلهِمَ الله أحدًا منهم الكلامَ .. . يسمعه على شيءٍ يتخذه في نفسه من غير توصل تقدم إلا منه إليه بحسٍّ واستدلال.
ومنها / أن يوحى إليه على لسان ملك فيراه ويكلمه كما يكلم واحدًا من البشر صاحبه فيقع له العلم بما يسمعه منه.
ومنها أن يأمر الملك فينفث في روعه كما روي عن النبي صلعم أنه قال: «إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» [المستدرك:2/251].
وهذا هو الوحي الذي يخص القلب دون السمع، وفي كتاب الله ╡: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ}[الشعراء: 193 - 194] وقال الله ╡: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا}[الأنفال: 12] وذلك والله أعلم أن ينفث الملك في روع المؤمن من الإطماع في الظَّفَرِ بالعدو والرغب في الثواب والأجر والإنذار من الفرار فيحمله ما يجده في قلبه من هذه المعاني على الثبات ويزول عنه ما يوسوس به الشيطان من التخويف والإقناط من الظفر والحمل على اغتنام السلامة بالرجوع.
فإن قيل: إذا كان الملك ينفث في روع كل المؤمنين فما الفرق بين النبي وبين من دونه؟
قيل: إنه لا ينفث في روع مَنْ دونَه علمَ الأحكام ولا علمَ الكوامن والحوادث المستقبلة والوعد والوعيد، وإنما ينفث في روعه ما تقدم ذكره وما يشبهه، فيكون ذلك مددًا للتوفيق يدرأ به عنه وساوس الشيطان عن صدره والله أعلم، انتهى المقصود من كلامه.
وقد ذكر البخاري في التعبير نبذة من مراتبه صلعم فقال: كتاب التعبير باب أول ما بدئ به رسول الله صلعم من الوحي الرؤيا الصالحة ثم ساق حديث عائشة(3): «أولُ ما بُدئ به رسولُ الله صلعم من الوحي الرؤيا الصَّادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح...» الحديث.
وقال: باب رؤيا الليل رواه سمرة ثم ساق حديث أبي هريرة قال النبي صلعم: «أعطيت مفاتيح الكَلِمِ، ونُصرت بالرعب، وبينا أنا نائم البارحة إذ أُتيت بمفاتيح خزائن الأرض حتى وضعت في يدي...» الحديث، وحديث ابن عمر أن النبي صلعم قال: «أَراني الليلة عند الكعبة فرأيتُ رجلًا / آدم كأحسن ما أنت راءٍ من أُدْمِ الرِّجال، لِه لِمَّة كأحسن ما أنت راءٍ من الِّلمم قد رجَّلها تقطر ماء متكئًا على رجلين أو على عواتق رجلين يطوف بالبيت، فسألت: من هذا؟ فقيل: المسيح ابن مريم، ثم إذا أنا برجل جَعدٍ قَطَطٍ أعور العين اليُمنى كأنها عِنبةٌ طافية فسألت: من هذا؟ فقيل: المسيح الدجّال». [خ¦6998]
وقال: باب رؤيا النهار، وقال ابن عون عن ابن سيرين: رؤيا النهار مثل رؤيا الليل وساق حديث أنس: كان رسول الله صلعم يدخل على أم حرام بنت ملحان وكانت تحت عُبادة بن الصامت، فدخل عليها يومًا فأطعمته وجعلت تَفلي رَأسه، فنام رسول الله صلعم ثم استيقظ وهو يضحك، قالت: فقلت: ما يُضحكك يا رسول الله؟ قال: «ناس من أمتي عُرضوا عليَّ غُزاة في سبيل الله يركبون ثَبَجَ هذا البحر، ملوكًا على الأسرة أو قال: مثل الملوك على الأسرة شك إسحاق...» الحديث. [خ¦7001]
قال أهل التأويل: أصدق أوقات الرؤيا بالليل؛ السحر، وأوقات النهار؛ وسط النهار، ورؤيا الليل أصدق من رؤيا النهار، ثم ذكروا ما ذكره البخاري عن ابن سيرين، وقيل: رؤيا النهار أصدق؛ لأن الله تعالى خصَّ النبي صلعم بالوحي نهارًا انتهى.
قلت: ومرادهم بهذه الخصوصية ابتداء الوحي وإلا فقد نزل عليه صلعم أيضًا ليلًا، وقد أخرجا في حديث توبة كعب وأصحابه قال: وأنزل الله توبتنا على نبيه صلعم حين بقي الثلث الآخر من الليل، ورسول الله صلعم عند أم سلمة، وكانت أم سلمة محسنة في شأني معينة في أمري، فقال رسول الله صلعم: «يا أم سلمة تيبَ على كعب»، قالت: أفلا أرسل إليه فأبشره، قال: «إذًا يَحطِمُكم الناس فيمنعونكم النوم سائر الليل» حتى إذا صلَّى رسول الله صلعم صلاة الفجر آذن الناسَ رسولُ الله صلعم بتوبة الله علينا. [خ¦4676، م:2769]
وقال ابن إسحاق في مصيبة أبي لُبابة: فحدثني يزيد بن عبد الله بن قُسيط أن توبة أبي لبابة نزلت / على رسول الله صلعم وهو في بيت أم سلمة، قالت أم سلمة: فسمعتُ رسول الله صلعم من السحر وهو يضحك قالت: فقلت: مم تضحك أضحك الله سنَّك؟ قال: «تيب على أبي لُبابة» قالت قلت أفلا أبشره يا رسول الله؟ قال: «بلى إن شئت»، قال: فقامت على باب حجرتها، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب، فقالت: يا أبا لبابة أبشر فقد تابَ الله عليك(51) ... إلى آخره، والله أعلم.
وقال البخاري: باب اللبن، ثم ساق حديث ابن عمر: سمعت رسول الله صلعم يقول: «بينا أنا نائم أُتيت بقدحٍ من لَبن فشربتُ منه حتى إني لأرى الرِّيَّ يخرج من أظفاري، ثم أعطيتُ فَضلي _يعني عمر_ قالوا: فما أولته يا رسول الله؟ قال: العلم». [خ¦7006]
باب إذا جرى اللبن في أطرافه أو أظافيره ثم ساق حديثه، قال رسول الله صلعم: «بينا أنا نائم أُتيت بقدح لبنٍ فشربتُ منه حتى إني لأرى الرِّيَّ يخرج من أطرافي، فأعطيتُ فضلي عُمرَ بن الخطاب» فقال من حوله: فما أولت ذلك يا رسول الله؟ قال: «العلم»، انتهى. [خ¦7007]
قال أهل التأويل: اللبن فطرة الإسلام ويدل على العلم، وساقوا الحديث المذكور.
واللبن مالٌ حلالٌ بلا تعبٍ ولا عناء لقوله تعالى: {لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ}[النحل: 66] واللبن الرائب مال حرام لحموضته وخروج دسمه، ولبن الغنم مال شريف ولبن البقر غناء، ولبن الخيل ثناء حسن، ولبن الثعلب شفاء من مرض، ولبن البغل عسر وهون، ولبن النَّمر عداوة تظهر، ولبن الأسد مال من سلطان، ولبن حمار الوحش شك في الدين، ولبن الخنزير مصيبة في دين، أو مال لمن شربه، وقيل: أصابه مال عظيم، وألبان الآدميات زيادة في المال إذا زاد في الثدي، ولا يحمد لمن رضعه فإنه يدل على السجن لأن الرضيع محجور عليه.
وقال ابن سيرين(52) : لا أحب الراضع والمرضع فإن شَربه المريضُ شُفي من مرضه لأن به كان نشؤه ونموه، ومن بدَّدَ اللبن فقد ضيع دينه، ومن رأى اللبن يخرج من الأرض فإنه يدل على فتنة يراق فيها الدم.
ولبن الكلب والذئاب والسنانير / مرض، وقيل: إن لبن الذئب مال من سلطان، ورياسة على قوم، ولبن النواهش واللوادغ مصالحة بين الأعداء فمن شربه فإنه يصالح أعداءه.
وقال: باب القميص في المنام، ثم ساق حديث أبي سعيد الخدري قال رسول الله صلعم: «بينا أنا نائم رأيت الناس يُعرضون وعليهم قُمُصٌ منها ما يبلغ الثدي، ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومرَّ عليَّ عمر بن الخطاب وعليه قميص يجرُّه، قالوا: ما أولت يا رسول الله قال: الدين». [خ¦7008]
باب جر القميص في المنام، ثم ساق حديثه[خ7009]: سمعت رسول الله صلعم يقول: «بينا أنا نائمٌ رأيتُ الناس عُرضوا عليَّ...» الحديث، وفيه: «وعُرض علي عمر بن الخطاب وعليه قَميصٌ يجتره».
قال أهل التأويل: القميص دين الرجل وتقواه وعيشته وعلمه وبساطه؛ لقوله تعالى: {اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا}[يوسف: 93].
والقميص للمرأة زوج، وللرجل امرأة؛ لقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ}[البقرة: 187] ومن رأى قميصه من السحاب فقد شملته نعمة، ومن رأى قميصه مخرق على جسده استغنى عن امرأته.
وإن رآه يفتق فارق امرأته أو شريكه، والقميص شأن الرجل في دنياه ودينه، وإن رأى قميصه بلا كمين فإنه حسن الشأن في دينه ودنياه، وليس له مال لأن الكمين لليد والمال ملك اليد، ومن رأى جيب قميصه ممزق؛ انفتح عليه باب من الفقر، ومن رأى له قمصًا كثيرة فإن له أعمالًا صالحة يثاب عليها في الدار الآخرة.
والقميص الأخضر دين، والأبيض كذلك، ولا يحمد الأزرق لقوله تعالى: {وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا}[طه: 102] والأحمر شهرة وخيلاء؛ لأنه قيل: إن حلة قارون حين خرج على قومه كانت حمراء.
ولا بأس بلبسه في يوم عيد لأنه يوم زينة.
والقميص الأسود سؤدد لمن اعتاد لبسته، ولغير العُبّاد هم وحزن.
والسمَّاك والفَحّام إذا لبس قميصًا أبيض تحول من حرفته إلى غيرها.
ومن لبس قميصًا أصفر فإنه يمرض فإن غسله نجا وكذا إن خلعه.
والبلل في / الثوب إعاقة عن السفر فإن يبس زالت العاقة، ومن لبس قميصًا بلا جيب ورتق ورباط عند رأسه فإنه يموت لأن ذلك كفنه، ومن لبس من النساء والرجال قميصًا معلمًا فإنه يحج أو يسافر نحو المغرب، ومن أهدي إليه قميص نال بشارة لقصة يعقوب، والقميص الخَلِق الوَسِخُ: هم وفقر ودين ولينُ القميص وحسنه شأن صاحبه، كما روي فيه من نقص أو زيادة أو قوة أو ضعف فذلك في شأن صاحبه، والقميص الجديد الصفيق قوة في شأن صاحبه ودينه وعزه، ومن لبس قميصًا قصيرًا لم يستر ركبتيه فذلك نقص في دينه واستدلوا بحديث أبي سعيد المذكور.
ومن لبس قميصًا من خشب فإنه يسافر في البحر ويركب السفينة، ومن رأى على قميصه آية من القرآن مكتوبة فهو متمسك بالقرآن، والقميص المصبوغ بالحداد حزن لمن لبسه قال الشاعر:
لبستُ الثيابَ الصابغاتِ عليكُمُ فلم تُبْقِ لي الآثامُ ثوبًا مُبيَّضًا
ومن رأى قميصه شق طولًا فرج عنه هم، وإن شق عرضًا فذلك كلام يقال في عرضه، ومن لبس قميصًا مقلوبًا تغير حاله إلى خلاف عادته، وربما دل على نكاحِ زوجته في الدبر.
وقال: باب كشف المرأة في المنام، ثم ساق حديث عائشة قال رسول الله صلعم: «رأيتُك في المنام مرتين إذا رجل يحملك في سَرَقَةِ حريرٍ فيقول: هذه امرأتك، فأكشفها فإذا هي أنت، فأقول: إن يكن هذا من عند الله يُمْضِه». [خ¦7011]
باب ثياب الحرير في المنام، ثم ساق حديثها قال رسول الله صلعم: «أُريتُكِ قبل أن أتزوجك مرتين، رأيتُ الملك يحملك في سَرَقَةِ من حريرٍ، فقلت له: اكشف فكشف فإذا هي أنت، فقلت: إن يكن.. .» الحديث. [خ¦7012]
قال أهل التأويل: لبس القَزِّ والحرير والدِّيباج والإبريسَم للرجل دليل على قوة عزه وسلطانه مع فساد دينه؛ لأنه صلعم حرَّم الحرير على ذكور أمته وحلَّله للنساء ولبسه محمود / للنساء، وقد يدل على التَّزويج والنكاح، واستدلوا بحديث عائشة المذكور.
ولباس الحرير للموتى من الرجال والنساء دليل على خير قدموا عليه ووصلوا بصالح الأعمال إليه، لأنه لباس أهل الجنَّة لقوله تعالى: {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ}[الحج: 23].
والحرير الأحمر والأصفر ليس بمرض، لأنه يمنع الرجال في الحرب، والحرير المحلول يدل على العشق.
وقال: باب المفاتيح في اليد، وساق حديث أبي هريرة: سمعت رسول الله صلعم يقول: «بُعِثتُ بجوامع الكَلِم، ونُصرت بالرُّعب، وبينا أنا نائم أُتيت بمفاتيح خَزائن الأرض فَوُضعت في يدي». [خ¦7013]
قال أهل التأويل: المفتاح نصر على العدو؛ لقوله تعالى: {نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ}[الصف: 13].
ومن رأى بيده مفتاح خشب فلا يودعنَّ مالًا لأحد، وإن أودعه جحده المودع؛ لأن الخشب يدل على النفاق، والمنافق لا أمانة له.
ومن رأى بيده مفتاحًا بلا أسنان فإنه يظلم اليتيم.
وإن رأى بيده مفتاح الجنَّة نال نسكًا وعلمًا، والمفتاح يدل على دعوة مجابة وعلى النصرة على الأعداء؛ لقوله تعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ}[الأنفال: 19]، ومن رأى بيده مفاتيح كبيرة نال سلطانًا عظيمًا وخزائن ومالًا؛ لقوله تعالى: {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ}[الزمر: 63] يريد به: سلطانًا، وقد تدل المفاتيح على الحج.
وقال: باب نزع الماء من البئر حتى يَرْوَى الناس.
رواه أبو هريرة عن النبي صلعم، ثم ساق حديث ابن عمر قال رسول الله صلعم: «بينما أنا على بئرٍ أَنزعُ منها إذ جاء أبو بكر وعمر، فأخذ أبو بكر الدَّلو فنزع ذَنوبًا أو ذَنوبين وفي نزعه ضعف يغفر الله له، ثم أخذها ابن الخطاب من يد أبي بكر فاستحالت في يده غَرْبًا، فلم أر عَبقريًا من الناس يَفري فَرِيَّهُ حتى ضرب الناس بِعَطَن». [خ¦7019]
باب نزع الذنوب والذنوبين من البئر بضعف، ثم ساق حديثه عن رؤيا النبيِّ صلعم في أبي بكرٍ وعمر قال: «رأيتُ الناس اجتمعوا فقام أبو بكر فنزع ذَنوبًا أو ذَنوبين وفي نَزعه ضَعف والله يغفر له، ثم قام ابن الخطاب فاستحالت غربًا، فما رأيتُ عبقريًا من الناس يَفري فَرِيَّه حتى ضَرَبَ الناسُ بعَطَن». [خ¦7020]
وحديث أبي هريرة أن رسول الله صلعم قال: «بينا أنا نائم رأيتُني على قَليبٍ وعليها دلو فنزعت منها ما شاء الله، ثم أخذها ابن أبي قُحافة فنزع منها ذنوبًا أو ذنوبين وفي / نزعه ضعف والله يغفر له، ثم استحالت غربًا، فأخذها عمر بن الخطاب فلم أَرَ عبقريًا من الناس ينزع نزع ابن الخطاب حتى ضربَ الناسُ بعَطَن». [خ¦2021]
وقد سبقَ لي الكلام على قول البخاري باب في المشيئة والإرادة الكلام على هذا الحديث، أعني حديث أبي هريرة وتفسير إمامنا الشافعي له فراجعه.
قال أهل التأويل: البئر يدل على المرأة وقيل: البئر إذا كان قريب التناول فهو رجل صاحب معروف، وإن كان بعيد الماء طويل الرِّشاء فهو رجل بخيل، ومن حفر بئرًا وخرج له ماءٌ فقد سعى في رأس مال وحصل له مرض، ومن فارت بئره ولم يغرف شيئًا نال رزقًا بلا تعب.
وقيل: من امتلأت بئره فإن امرأته تشفق عليه ولا تكلفه كثير النفقة، وهدم البئر موت المرأة، والبئر المجهولة تدل على السفر؛ لأن المسافرين يأوون إليها، والبئر تدل على المعيشة، ومن رأى بئرًا لا ماء فيها فقد دنت وفاته.
قالوا: والبكَرة تدل على رجل يسعى في المصالح، قالوا: والدلو رجل يستخرج المال بالمكر والحيلة، فمن استخرج ماء من بئر وأحرز في إنائه نال مالًا بمكر وحيلة، وإن أخرج ماءً وألقاه في غير إناء فإنه ينال مالًا ولا يبيت معه، فإن سقى به بستانًا أخرج مالًا بسبب امرأة، فإن أثمر البستان حملت امرأته، فإن سقى غنمًا أو إبلًا أو بقرًا فهو عمل بر وإيمان، ومن أدلى دلوه في جب وله امرأة حامل فإنه يرزق ولدًا ذكرًا لقوله تعالى: {يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ}، وإن لم يكن دل على طلب رزق، فإنْ خرج فيها الماء نال ذلك الرزق، قال الشاعر:
وما طَلبُ المعيشة بالتمنِّي ولكن ألقِ دَلوك في الدِّلاءِ /
تجيء بملئها طَورًا وطَورًا تجيء بحَمأةٍ وقليل ماءِ
وقال: باب الاستراحة في المنام، ثم ساق حديث أبي هريرة قال رسول الله صلعم: «بينا أنا نائمٌ رأيتُ أني على حوضٍ أسقي الناس، فأتاني أبو بكر، فأخذ الدَّلو من يدي ليريحني، فنزع ذَنوبين وفي نزعه ضعف والله يغفر له، فأتى ابنُ الخطاب فأخذ منه، فلم يزل ينزع حتى تولى الناس والحوض يتفجَّر». [خ¦7022]
قال أهل التأويل: الحوض رجل سخي منفق.
وقال: باب القصر في المنام، ثم ساق حديث أبي هريرة[خ7023]: بينا نحن جلوس عند رسول الله صلعم قال: «بينا أنا نائم رأيتني في الجنَّة، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر، قلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر بن الخطاب، فذكرت غيرته فوليت مدبرًا، قال أبو هريرة: فبكى عمر بن الخطاب ثم قال: أعليك بأبي أنت وأمي يا رسول الله أغار؟!».
وحديث جابر قال رسول الله صلعم: «دخلتُ الجنَّة فإذا أنا بقصرٍ من ذهب، فقلت: لمن هذا؟ فقالوا: لرجل من قريش، فما منعني أن أدخله يا ابن الخطاب إلا ما أعلم من غيرتك، قال: وعليك أغار يا رسول الله؟!».[خ¦7024]
قال أهل التأويل: القصر يدل على الأعمال الصالحة لأهل الصلاح والخير؛ لقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا}[الفرقان: 10].
قال أبو نعيم[الحلية10/404] في ترجمة أبي الحسن علي بن سهل: وسمعت أبا حامد وأبا جعفر الحلاوي يقولان: قال علي بن سهل: استولى عليَّ الشوق وألهاني عن الأكل وقطعني عن النوم في ابتداء أمري، فرأيت في بعض الليالي في غفوتي أني أُدخلت الجنَّة، فرأيت قصرًا عظيمًا رفيعًا فقلت: لمن هذا؟ فقيل: لمحمد بن يوسف، ثم أفضيت إلى قصر آخر مثله فقلت: لمن هذا؟ فقيل لي: لك يا أبا الحسن، واطلعت عليَّ لعبة غلب ضوء وجهها كل شيء، فنظرت إليها فأدبرت وهي تقول: أنت لا ترغب فينا، فإذا أنا بصوت ما سمعت نغمة أشجى ولا أحزن منه تقول:
مُقيمٌ للجليلِ بكل قلبٍ على الرَّضراض للخَطر العظيمِ
انتهى. فظننت أنها تعنيني.
وإن رأى القصر أو دخله فاسق فإنه يحبس، وإن رأى القصر عَزَب فإنه يتزوج، ومن دخل قصرًا من قوارير وفي رجليه قيد فإنه يتزوج ممن لا تدوم صحبتها، وقد يدل القصر على سفر تقصر فيه الصلاة، أو عظة لمن رآه ليقصر عما هو فيه ويرجع عما كان عليه؛ لقوله تعالى: {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ}[الحج: 45].
وقال: باب الوضوء في المنام، ثم ساق حديث أبي هريرة السابق في باب سنن الوضوء، وسبق ثَمَّ أيضًا قول أهل التأويل في الوضوء في النوم فراجعه. [خ¦7025]
وقال: باب الطواف بالكعبة في المنام، ثم ساق حديث ابن عمر قال رسول الله صلعم: «بينا أنا نائم رأيتُني أطوف بالكعبة، فإذا / رجل آدم سبط الشعر بين رجلين ينطف رأسه ماءً، فقلت: من هذا؟ قالوا: ابن مريم، فذهبت ألتفت فإذا رجل أحمر جسيم جعد الرأس أعور العين اليمنى كأن عينه عِنبة طافية، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا الدَّجال أقرب الناس به شبهًا ابن قَطَن، وابن قَطَن رجل من بني المصطلق من خزاعة». [خ¦7026]
قال أهل التأويل: من رأى أنه يطوف بالبيت أو يفعل شيئًا من المناسك من غير نقص ولا تحريف فإنه يرزق الحج ويعمل أعمالًا صالحة، أو يتردد إلى باب سلطان أو حاكم أو عالم؛ لينال من فضله، وإن حرفها أو بعض منها دل على فساد في الدين وتحريفه عن سنن المسلمين.
وقال: باب إذا أعطى فضله غيره في النوم، ثم ساق حديث ابن عمر السابق[خ¦7027].
وقال: باب القدح في النوم، ثم ساقه أيضًا، قال أهل التأويل: القدح يدل على المرأة ويدل على خادم حديث السن، وقيل: القدح يدل على شدة، وأقداح الذهب والفضة والمعدن خير من الزجاج؛ لنقائها، وهي ثناء حسن، وربما دلت الأقداح من الزجاج على ظهور الأشياء الخفية، والقدح المملوء ماء يدل على امرأة حامل، فالماء الولد والمرأة القدح، فإن تبدد الماء سقط الولد، وإن انكسر القدح ماتت المرأة. [خ¦7032]
وقال: باب إذا طار الشيء في المنام، ثم ساق حديث ابن عباس: ذكر لي أن رسول الله صلعم قال: «بينا أنا نائم أُريت أنه وضع في يَدي سِواران من ذهب، ففظِعْتُهما وكرهتهما، فأذن لي فنفختهما فطارا، فأولتهما كذابين يخرجان، فقال عبيد الله: أحدهما العَنسي الذي قتله فيروز باليمن، والآخر مُسيلمة». [خ¦7033]
قال أهل التأويل: السِّوار للرجال ضيق، وإن سوره سلطان فإنه يُفتح على يده فتحٌ وينال ذكرًا وصونًا، والسوار للمرأة ما في يديها من النعمة والسرور، وأنشدوا:
ومَنْ بزَنْدِهِ سِوارٌ من ذَهبْ أو فضةٍ أصابَ كَرْبًا وتَعَبْ
وقال: باب إذا رأى بقرًا تُنْحَر، ثم ساق حديث أبي موسى أراه عن النبي / صلعم قال: «رأيت في المنام كأني أهاجر من مكة إلى أرضٍ بها نَخل، فذهب وَهَلي إلى أنها اليَمامة أو هَجَر، فإذا هي المدينة يثرب، ورأيت فيها بقرًا والله خير، فإذا هم المؤمنون يوم أُحد، وإذا الخير ما جاء الله به من الخير وثواب الصدق الذي أتانا الله به بعد يوم بدر». [خ¦7035]
قال أهل التأويل: البقر تعبر بالسنين كما عبرها يوسف ◙، فالسِّمان خِصبٌ، والضِّعاف سنين جَدْب على عددها إذا كانت سوداء أو بيضاء، وإن كانت صفراء أو حمراء تنطح الشجر بقرونها والأبنية فتسقطها، فإنها فتن تحل بمكان دخلت إليه نواطح؛ لقول النبي صلعم: يكون في آخر الزمان فتن كصياصي البقر[المستدرك6/494] وعيون البقر، وصياصي البقر قرونها، فإنها تمنع بها عن أنفسها، وسميت الحصون صياصي؛ لامتناع أهلها بها قال الله تعالى: {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ}[الأحزاب: 26].
والبقرة الصفراء سَنَةٌ فيها سرور؛ لقوله تعالى: {صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ}[البقرة: 69]، وعن علي: من لبس نعلًا صفراء قلَّ همه، والغرة في البقرة شدة في أول السنة، والبلقة في أعجازها شدة في آخر السنة، والنصف من البقر مصيبة في أخت أو بيت، ولذلك كل سهم ينسب إلى من يورث كالربع والثمن، ومن رأى أنه يحلب بقرة فإنه يخون إنسانًا في امرأته، ومهما رأى الرائي ببقرته فهو عائد إلى امرأته أو نسبه، وحليب البقر مال حلال جليل، وأصوات البقر تدل على أقوام معروفين بلا أدب وحديثها مرض، ومن وَثبت عليه بقرة أو ثور ولم تغلبه فإنه يموت في تلك السنة، والبقر خير لجميع الفلاحين، وانسب البقر في ألوانها إلى ما تنسب إليه الخيل.
ومن الرؤيا المعبرة أن عائشة قالت: رأيت أني على تلٍّ وحولي بقر، فعرضتها على مسروق فقال: إن صدقت رؤياك فإن حولك ملحمة قتال.
ومن رأى بقرة تمص لبن عجلها فإنها امرأة تعود على ابنها، وإن حلب عبد بقرة سيده فإنه يتزوج امرأته، ومن رأى بقرة / دخلت داره ونطحته بقرنها فإنه يخسر في ماله، وأتى رجل ابن سيرين فقال: رأيت أني أذبح بقرة أو ثورًا فقال ابن سيرين: أخاف أن تبقر رجلًا فإن رأيت دمًا فهو أشد، وإن لم ترَ دمًا فهو أهون.
وقال: باب النفخ في المنام، ثم ساق حديث أبي هريرة عن رسول الله صلعم قال: «نحنُ الآخِرون السَّابقون»، وقال رسول الله صلعم: «بينما أنا نائم إذ أُوتيتُ خزائن الأرض، فوضع في يدي سواران من ذهب فكبرا عليَّ وأهمّاني، فأوحي إلي أن انفخهما، فنفختهما فطارا، فأولتهما الكذابَين اللذين أنا بينهما: صاحب صنعاء وصاحب اليمامة». [خ¦7036]
باب إذا رأى أنه أخرج الشيء من كُورَةٍ فأسكنه موضعًا آخر، ثم ساق حديث ابن عمر أنَّ النبيَّ صلعم قال: «رأيت أن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى كانت بمَهْيَعة وهي الجُحْفَة، فأولت أن وباء المدينة نقل إليها». [خ¦7038]
باب المرأة السوداء، ثم ساق حديثه في رؤيا النبي صلعم في المدينة: «رأيت امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت بمَهيعة، فأولتُها أن وباءَ المدينة نُقل إلى مهيعة، وهي الجُحفة». [خ¦7039]
باب المرأة الثائرة الرأس، ثم ساق حديثه أن النبي صلعم قال: «رأيتُ امرأةً سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى كانت بمَهْيَعَة، وهي الجُحفة، فأولت أن وباء المدينة نُقل إلى مهيعة وهي الجُحفة». [خ¦7040]
وقال: باب إذا هز سيفًا في المنام، ثم ساق حديث أبي موسى أراه عن النبي صلعم قال: «رأيتُ في رؤياي أني هَزَزْت سيفًا فانقطع صدره، فإذا هو ما أصيب من المؤمنين يوم أُحُد، ثم هَزَزته أخرى فعاد أحسن ما كان، فإذا هو ما جاء الله به من الفتح واجتماع المؤمنين». [خ¦7041]
قال أهل التأويل: السيف ولدٌ وولايةٌ ولسانٌ وحجةٌ وبيِّنةٌ، وغلاف السيف امرأة، فإن انكسر الغلاف وسَلِم السيف فإنه يدل على موت امرأة حامل وسلامة ولدها، وإن انكسر السيف وسلم الغلاف سلمت المرأة وهلك الولد، وإن انكسرا / جميعًا ماتا جميعًا، وكل شيء له قرين يدخل معه فإنه يدل على رجل وامرأة كالسِّكِّين وغلافها والخف وقالبه، فمن رأى أنه يجعل سيفًا في غلافه وكان عَزَبًا تزوج، ومن أعطي سيفًا من قبل سلطان نال ولاية، وسائر أصناف السلاح إذا كان من سلطان كذلك تأويله.
ومن ضرب إنسانًا بسيف بسط عليه لسانه؛ لقوله تعالى: {سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ}[الأحزاب: 19].
وثُلمة السيف عجز في الكلام، ومن تقلَّد بثلاثة سيوف وسقطت فإنه يطلق زوجته، ونعل السيف يعبر بالعم، فإن انكسر مات العم، وخاتم السيف كذلك، ومن رأى بيده سيفًا وله امرأة حامل بُشِّر بولد ذكر، فإن كان السيف من حديد كان للولد قوة وتبعة، وإن كان من صُفْر بشر بولد له صيت في الناس، وإن كان من خَشَب فالولد منافق، وإن كان من رصاص فالولد مُخنَّث لا عمل له، وإن كان من زجاج فإنه لا يعيش، ومن رأى بيده سيفًا أطول من سيف عدوه فهو [يغلب] عدوه، وكل شيء دلَّ على ولادة الذكر إذا أخذ وجعل في صندوق أو غطي بخرقة فإنه جارية؛ لأن البنات يغطين، والبنون بارزون للعيون.
ومن رأى أنه سلَّ سيفًا من غمده فإن كانت امرأته حاملًا ولدت غلامًا، وإن لم تكن حاملًا فإنه قد هيأ كلامًا لإنسان، فإن كان السيف صدئًا فإنه لا يكون لكلامه حلاوة، وإن ولد له ولد كان قبيحًا، وإن كان في السيف ثلمة فإنه انكسار لسانه عن بعض ما يريده، وإن كان السيف صافيًا قاطعًا فإنه يكون لكلامه حلاوة وقبول، وإن كلَّ السيف عن القطع فإنه لا يقبل قوله، وإن رأى إنسانًا سلَّ سيفه عليه فإن كان معروفًا فإنه قد هيأ له كلامًا، فإن ضربه ولم يقطع ظفر المضروب بالضارب، وإن قطع ظفر الضارب بالمضروب، فإن ضربه ولم يخرج منه دم كان ما يقوله الضارب حق ويخرج الضارب من إثم كان في عنقه، وإن ضربه وخرج منه دم بسط الضارب لسانه على المضروب في كذب وزور، وإن رأى أنه يلعب بالسيف / فإن نسبت السيف إلى الولد كان معجبًا به، وإن نسبته إلى الولاية كان خادمًا مدبرًا لولايته، وإن رأى أنه يلعب به وهو لا يحسن فإنه يجهل فيما ينسب إليه، ولا يحسن جوابًا.
ومن رأى سيفًا عظيمًا لا يشبه سيوف الدنيا فهو سيف الفتنة، فإن أغمد في الهواء أو طلع إلى السماء أو رمي في البحر فإن الفتنة تخمد، ومن تقلد بسيف قلد أمرًا وتولى ولاية على قدر حسن السيف، فإن كان قصيرًا لم تدم الولاية، وإن كانت حمائله طويلة لا يقوى لحمله بل يجره جرًّا كان الذي يتولاه ويتقلده يعجز عنه، ولا يقوم بما هو منسوب إليه.
وقال: باب تعبير الرؤيا بعد صلاة الصبح، ثم ساق حديث سمرة بن جندب، كان رسول الله صلعم مما يكثر أن يقول لأصحابه: «هل رأى أحد منكم من رؤيا؟»، قال: فيقص عليه من شاء الله أن يقص، وإنه قال لنا ذات غداة: «إنه أتاني الليلة آتِيان» الحديث المشتمل على مرائي كثيرة كما اشتمل حديث عبد الرحمن بن سمرة الآتي في الصيام إن شاء الله على مثل ذلك، وساق من مرائي بقية الأنبياء ‰ رؤيا يوسف وإبراهيم فقال: باب رؤيا يوسف[قبل:6991]، وقوله ╡: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ} إلى: {عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[يوسف: 4 - 6]، وقوله سبحانه: قال {هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ} إلى: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}[يوسف: 100 - 101]. [خ¦7047]
باب رؤيا إبراهيم ◙، وقوله سبحانه: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} إلى: {نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ}[الصافات: 102 - 105].
وبالجملة، فلما كانت رؤياه عليه الصلاة والسلام وحيًا كانت من جملة الأدلة السمعية التي تترتب عليها الأحكام الشرعية لا جرم.
قال البخاري: باب النظر إلى المرأة قبل التزويج:
حدَّثنا مسدد حدَّثنا حماد بن زيد عن هشام عن أبيه عن عائشة قالت: قال لي رسول الله صلعم: «أُريتك في المنام يجيء بك الملك في سَرَقةٍ من حَرير، فقال لي: هذه امرأتك، فكشفتُ عن وجهك الثوب فإذا هي أنت، فقلت: إن يك هذا من عند الله يُمْضِه»[خ5125].
وساق بعده حديث سهل بن سعد أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلعم فقالت: يا رسول الله جئت لأهب لك نفسي، فنظر إليها رسول الله صلعم / فصعَّد النظر إليها وصوَّبه ثم طأطأ رأسه... الحديث، والله أعلم. [خ¦5126]
الأمر الخامس: قوله: «فشقَّ جبريل ما بين نَحره إلى لَبَّته حتى نزع من صدره وجوفه فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه»[خ¦7517]، فيه كلمات:
الأولى: سبق في باب ما يوجب الغسل حديث أنس الذي في «صحيح مسلم»[162] أن رسول الله صلعم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغِلمان، فأخذه فَصرعه فشقَّ قلبه... الحديث.
وحديث أبي ذر الذي رواه ابن أبي الدنيا(53) قلت: يا رسول الله كيف علمت أنك نبي؟ وبم علمتَ حتى استيقنت؟ الحديث.
قال السُّهيلي(54) بعد أن ذكر قوله عليه الصلاة والسلام: «فبينا أنا مع أخٍ لي خلفَ بيوتنا نَرعى بَهْمًا لنا أتاني رَجلان عليهما ثياب بيض بطَستٍ من ذهبٍ مملوءة ثلجًا، فأخذاني فشقَّا بطني، ثم استخرجا قلبي فشقَّاه، فاستخرجا منه علقةً سوداء فطرحاها، ثم غسلا قلبي وبطني بذلك الثَّلج حتى أنقياه، ثم قال أحدهما لصاحبه: زِنْهُ بعشرةٍ من أمته، فوزنني بهم فوزنتهم، ثم قال: زِنْهُ بمئةٍ من أمته فوزنني بهم فوزَنتهم، ثم قال: زِنه بألفٍ من أمته فوزنني بهم فوزنتهم، فقال: دعه عنك، فلو وزنتَهُ بأمته لوزَنَها(124»).
وفي رواية: «فاستخرجَا منه مغمز الشَّيطان، وعلق الدم»، وفيها: «وجعل الخاتم بين كتفي كما هو الآن».
ما نصه: ولا يدل هذا على فضل عيسى ◙ على نبينا محمد صلعم؛ لأن محمدًا صلعم عندما نُزِعَ ذلك منه ملئ إيمانًا وحكمة بعد أن غسله روح القدس بالثلج والبرد.
وقد روي أنه عليه الصلاة والسلام أتي بطست من ذهب ملئ حكمة وإيمانًا، فأفرغ في قلبه، وأنه غسل قلبه بماء زمزم.
قال: وقد تأول بعض أهل العلم ممن روى ذلك ذاهبًا إلى أنها واقعة متقدمة التاريخ على ليلة الإسراء بكثير.
قال السهيلي: وليس الأمر كذلك، فإن هذا التقديس وهذا التطهير مرتين:
الأولى: في حالة الطُّفولية، والثانية: عندما أراد الله تعالى رفعه إلى الحضرة القُدسية، وليصلي صلعم بملائكة السماوات، ومن شأن الصلاة / الطُّهور، فقُدِّسَ باطنًا وظاهرًا ومُلئ قلبه حكمة وإيمانًا، وقد كان مؤمنًا، ولكن الله تعالى قال: {ويَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا}[المدثر: 31] انتهى.
وفات السهيلي مرة ثالثة وهي في بدء الوحي والله أعلم.
الثانية: قال الأستاذ القشيري في «منهاجه»: ومن لطائف المعراج ما خصَّ به أول حاله في تلك الليلة بالطهارة على ما ذكرنا في بعض الروايات فيما تقدم أن جبريل ◙ حمله إلى زمزم وشق صدره وغسل قلبه، وقد شق قلب النبي صلعم مرتين: مرة في حال صِباه وهو بعد في حِجْر حليمة، والمرة الثانية: ليلة المعراج، وفي تخصيص قلبه بالغسل دون غيره من البدن إشارات:
منها: أن القلبَ محل العرفان، وهي المضغة التي بصلاحها صلاح البدن وهو محل المشاهدة، ولكي لا يكون لغير الحق سبحانه نصيب في قلبه، ولتنبيه الأمة على صيانة القلب، فإن المصطفى صلعم لما لم يتجاوز عنه حتى أعيد عليه غسل قلبه مرة بعد أخرى، فبالحري لغيره أن يصون لله تعالى قلبه، انتهى كلامه وعليه من الاعتراض ما على السهيلي، وأنشدوا:
ما شُقَّ منه الصدر قط لرتبةٍ لكنَّ ذلك من ملامح سِرّهِ
هو طاهر في أصل عنصره وشقُ الصدر توكيدٌ له في طُهرهِ
الثالثة: في حديث أبي ذر الذي في «صحيح مسلم»[2473]: «متى كنت هاهنا» قال: قلت: كنت هاهنا منذ ثلاثين بين ليلة ويوم قال: «فمن كان يطعمك؟» قلت: ما كان لي طعام إلا ماء زمزم، فسمنت حتى تكسَّرت عُكَنُ بطني وما أجد على كَبدي سُخْفةَ جوع قال: «إنها مباركة إنها طعام طعم...» الحديث.
قلت: وفي غسل قلبه صلعم منه إشارة إلى ما ينبع منه من البركات، وإلى ما يطعمه من الخيرات لمن خص بالهدايات والله أعلم.
الأمر السادس: قوله: «ثم أُتي بطَستٍ من ذهب فيه تَوْرٌ من ذهب مَحشو إيمانًا وحكمةً، فحشا به صدره ولغاديده _يعني عروق حلقه_ ثم أطبقه» قال / السهيلي: فإن قيل: كيف تكون الحكمة والإيمان في طست من ذهب وهما عَرَض، والانتقال من صفات الأجسام لا الأعراض؟
وأجاب بأن التعبير بالإيمان والحكمة ورد في هذا الحديث، والأول أي: وهو حديث حليمة الآتي في الرضاع إن شاء الله: «فيه ثَلجٌ وبَرَد» فلعله كان في المرتين ثلجًا وبردًا، فعبَّر في الحديث الأول بصورته إذ كان طفلًا، وفي الثاني: علم أن تأويل الثلج والبرد حكمة وإيمان لما يشعران به من ثلج اليقين وبرد الفؤاد به، فعبَّر في الطفولية بالصورة، وفي الكهولية بالمعنى.
قال: والذهب في الحالين مناسب للمعنى الذي قصد به، فإن نظرت إلى لفظ الذهب فمطابق للأذهان، وإن نظرت إلى معناه وجدته أنقى شيء، فقد طابق ما أريد بالنبي عليه الصلاة والسلام من نقاء قلبه، وذكر من مناسباته أشياء حسنة:
منها: أنه لا تأكله النار، فكذا قلبٌ وَعَى القرآن لا تأكله النار يوم القيامة.
ومنها: أن الأرض لا تبليه فكذا القرآن لا يستطاع تبديله.
ومنها: عزته والقرآن لا يزال عزيزًا.
قلت: ومنها سرعة ذهابه وكذا القرآن، وقد أخرجا في حديث عبد الله بن مسعود: «واستذكروا القرآن، فإنه أشد تَفَصِّيًا من صدور الرجال من النَّعم في عقله» والله أعلم. [خ¦5032]
قال: وقد انتزع بعض الفقهاء من حديث الطست حيث جعل محلًا للحكمة جواز تحلية المصحف بالذهب، وهو وجه حسن، انتهى.
الأمر السابعِ: قوله: «ثم عُرجَ به إلى السماء الدنيا» أي: على البراق كما أخرجافي حديث مالك بن صَعصعة: «ثم أُتيت بدابة دون البغل وفوق الحِمار أبيض» فقال له الجارود: هو البُراق يا أبا حمزة؟ قال أبو حمزة: نعم، «يضع خطوة عند أقصى طرفه، فحُملت عليه فانطلقَ بي جبريل حتى أتى السماء الدنيا... الحديث». [خ¦3887، م:164]
وأما ما رواه البزار في «مسنده»[7389] حدَّثنا سلمة بن شبيب، حدَّثنا سعيد بن منصور، حدَّثنا الحارث بن عبيد، عن أبي عمران الجوني عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلعم: «جاء جبريل فوكز بين كتفي، فقمت إلى شجرة فيها كَوَكْري الطَّير فقعد في أحدهما وقعدت / في الآخر، فسمَتْ وارتفعت حتى سدَّت الخافقين وأنا أقلب طرفي، ولو شئت أن أمسَّ السماء لمسست، فالتفت إلى جبريل كأنه حِلسٌ لاطِئ فعرفت فضل علمه بالله عليَّ، وفتح لي باب من أبواب السماء فرأيت النور الأعظم، وإذا دون الحجاب رَفْرَف الدُّرِّ والياقوت، وأوحى الله إلي ما شاء أن يوحي».
ثم قال: هذا الحديث لا نعلم رواه إلا ابن شبيب، ولا نعلم رواه عن أبي عمران الجَوني إلا الحارث بن عُبيد، وكان رجلًا مشهورًا من أهل البصرة.
ورواه البيهقي في «الدلائل»[2/242] عن أبي بكر القاضي عن أبي جعفر محمد بن علي بن دُحيم، عن محمد بن الحسن بن الحسين، عن سعيد بن منصور فذكر بسنده مثله.
ثم قال: وقال غيره: في هذا الحديث في آخره: «وإذا دوني» أو قال: «دون الحجاب رفرف الدر والياقوت» قال: هكذا رواه الحارث بن عبيد، ورواه حماد بن سلمة عن أبي عمران الجوني، عن محمد بن عمير بن عطارد، أن النبي صلعم «كان في ملأ من أصحابه، فجاء جبريل فوكز في ظهره فذهب به إلى الشجرة، وفيها مثل وكري الطير فقعد في أحدهما وقعد جبريل في الآخر، فسمت حتى بلغت الأفق، فلو بسطتُ يدي إلى السماء لنِلتُها، فدلي بسبب وهبط النور، فوقع جبريل مغشيًا عليه كأنه حِلْس، فعرفت فضل خشيته على خشيتي، فأوحي إليَّ: نبيًا ملِكًا أو نبيًا عبدًا وإلى الجنَّة ما أنت، فأوحى إليَّ جبريل وهو مضطجع أن تواضع قال: قلت: لا بل نبيًا عبدًا»(55)، فهذا إن صحَّ يقتضي أنها واقعة غير ليلة الإسراء، فإنه لم يذكر فيها بيت المقدس ولا الصعود إلى السماء، والله أعلم.
قال الأستاذ في «منهاجه» في باب ذكر الخصائص التي خُصَّ بها صلعم ليلة المعراج، ومن ذلك أن موسى ◙ لما أمر بحضور طور سيناء كلف أن يحضره مشيًا، ونبينا صلعم أرسل إليه البراق وليس من يحمل راكبًا كمن يكلف أن يحضر ماشيًا، انتهى.
الأمر الثامن: قوله: «قصدت بابًا من أبوابها» / سيأتي في حمل الجنازة والدين إن شاء الله عن ابن عباس: أن للسماء أبوابًا كثيرة منها: باب الوحي بالروح من أمره، وما أشبه أن يكون هذا هو الباب الذي ضربه جبريل والعلم لله.
الأمر التاسع: قوله: «فناداه أهل السماء من هذا؟ فقال: جبريل» فيه أدب من آداب الاستئذان، وهو أنه إذا قيل للمستأذن: من أنت؟ يقول: فلان، ولا يقول: أنا، وقد سبق بسطه في الكلام على حديث أنس في الشفاعة في الباب السابق.
الأمر العاشر: قوله: «وقد بعث؟ قال: نعم»؛ المراد: البعثة إلى السماء لا أصل البعثة، فإن ذلك معلوم لديهم، وقد جنح بعض العلماء إلى أنه صلعم بعث إلى الملائكة.
وفي كلام السبكي ☼ رمز إلى ذلك حيث قال في «الدلالة على عموم الرسالة»: وقوله؛ يعني: السائل، وأيضًا فهو يعني قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا}[الفرقان: 1] مخصوصٌ يشير إلى خروج الملائكة منه، وجوابه أن العام المخصوص حجة عند جمهور العلماء والأصوليين، ولو بطل الاستدلال بالعمومات المخصوصة لبطل الاستدلال بأكثر الأدلة، فإن أكثر العمومات مخصوصة، وأيضًا فلو قيل لمدعي خروج الملائكة على الإطلاق من هذا العموم: أقم الدليل عليه؛ ربما عجز عنه، فإنه يحتمل أن يكون من المنذرين الملائكة من إنذار النبي صلعم إما ليلة الإسراء وإما غيرها، ولا يلزم من الإنذار والرسالة إليهم في شيء خاص أن يقوموا بالشريعة كلها، والقول بالعموم في حقهم في مطلق الإنذار لا يكاد يقوم دليلٌ على عدمه.
وأيضًا من الناس من يقول: إن الملائكة هم مؤمنو الجن السماوية، فإذا ركب هذا مع القول بعموم الرسالة للجن الذي قام الإجماع عليه لزم عموم الرسالة لهم، لكن القول بأن الملائكة من الجن قول شاذ، والصحيح المشهور الذي عليه الجمهور: أن العالمين الإنس والجن فالملائكة أضعافُ أضعافِ الثقلين، وإنما أردنا بهذا عدم تسرع السائل إلى القطع بالتخصيص، انتهى.
وقد سبق في الصلاة عن التستري أنه قال: سمعت / الأستاذ أبا علي يقول: أرسله إلى الخلق؛ ليتعلموا منه العبادة، وحمله إلى السماوات لتتعلم الملائكة منه آداب العبادة، قال الله تعالى: {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى}[النجم: 17].
الأمر الحادي عشر: قوله: «قال: فمرحبًا به وأهلًا» يؤخذ منه استحباب الترحيب، وقد بوب عليه البخاري فقال: باب قول الرجل: مرحبًا، وقالت عائشة: قال النبي صلعم لفاطمة: «مرحبًا بابنتي» وقالت أم هانئ: جئت إلى النبي صلعم فقال: «مرحبًا بأم هانئ»[م:336] [خ¦3623].
حدَّثنا عمران بن ميسرة حدَّثنا عبد الوارث، حدَّثنا أبو التيَّاح، عن أبي جمرة عن ابن عباس قال: لما قدم وفد عبد القيس على النبي صلعم قال: «مرحبًا بالوفد الذين جاؤوا غير خزايا ولا ندامى» فقالوا: يا رسول الله إنا حي من ربيعة بيننا وبينك مُضَر، وإنا لا نصل إليك إلا في الشهر الحرام فمرنا بأمر فَصْلٍ ندخلُ به الجنَّة وندعو به من وراءنا، فقال: «أربع وأربع، أقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان، وأعطوا خمس ما غنمتم، ولا تشربوا في الدبَّاء والحَنتم والنَّقير والمُزفَّت» ، انتهى. [خ¦53]
وفي «الروضة» في السير من زياداته: ويستحب إجابة من ناداه بلبيك، وأن يقول لمن ورد عليه: مرحبًا، انتهى.
الأمر الثاني عشر: قوله: «يستبشر به أهل السماء» أنشدوا:
غاشية السعد والتداني جاءتك يا كامل المعاني
وفي السماء موكب عظيم يلقاك بالبشر وبالتهاني
الأبيات السابقة في الصلاة.
الأمر الثالث عشر: قوله: «فوجد في السماء الدنيا آدم».
قال السهيلي[الروض:3/274]: وممَّا سئل عنه من حديث الإسراء وتُكلِّم فيه، لقاؤه لآدم في السماء الدنيا ولإبراهيم في السماء السابعة وغيرهما من الأنبياء الذين لقيهم في غير هذين السماءين، والحكمة في اختصاص كل واحد منهم بالسماء التي رآه فيها، وسؤال آخر في اختصاص هؤلاء الأنبياء باللقاء دون غيرهم إلى آخر ما سيأتي عنه في الجنائز، حيث نتكلم على الروح إن شاء الله.
الأمر الرابع عشر: قوله: «فقال له جبريل: هذا أبوك، فسلّم عليه ورد / عليه آدم»، قد جاء أن إبراهيم وموسى وعيسى بدؤوه بالسلام صلى الله عليه وعليهم وسلم.
قال ابن جرير(56): حدَّثنا يونس حدَّثنا عبد الله بن وهب، حدثني يعقوب بن عبد الرحمن الزهري، عن أبيه عن عبد الرحمن بن هاشم بن عيينة بن أبي وقاص عن أنس بن مالك قال: «لما جاء جبريل إلى رسول الله صلعم بالبراق فكأنها أمرَّت ذنَبها، فقال لها جبريل: مه يا براق فوالله إن ركبك مثله، وسار رسول الله صلعم فإذا هو بعجوز على جانب الطريق فقال: ما هذه يا جبريل؟ قال: سِرْ يا محمد، قال: فسار ما شاء الله أن يسير، فإذا شيء يدعوه متنحيًا عن الطريق يقول: هلمَّ يا محمد، فقال له جبريل: سِرْ يا محمد، قال: فسار ما شاء الله أن يسير، قال: فلقيه خلق من الخلق، فقالوا: السلام عليك يا أول، السلام عليك يا آخر، السلام عليك يا حاشر، فقال له جبريل: اردد السلام يا محمد، فرد السلام، ثم لقيه الثانية فقال له مثل مقالته الأولى، ثم الثالثة كذلك حتى انتهى إلى بيت المقدس فعُرضَ عليه الماءُ والخمرُ واللبنُ، فتناول رسول الله صلعم اللبن فقال له جبريل: أصبتَ الفِطرة، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك، ولو شربت الخمر لغويت ولغوت أمتك، ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء ‰، فأَمَّهم رسول الله صلعم تلك الليلة، ثم قال له جبريل: أما العجوز التي رأيتَ على جانب الطريق فلم يبق من الدنيا إلا ما بقي من عمر تلك العجوز، وأما الذي أراد أن تميل إليه فذلك عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه، وأما الذين سلَّموا: فإبراهيم وموسى وعيسى ‰» وهكذا رواه البيهقي في «دلائل النبوة»[2/235] من حديث ابن وهب، وفي بعض ألفاظه نكارة وغرابة.
الأمر الخامس عشر: قوله: «فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يَطَّردان فقال: ما هذان النهران يا جبريل؟ قال: هذا النِّيل والفُرات عُنْصُرهُما» فيه أمران؛ الأول: هذا يدل على وجود الأنهار في الجنَّة حقيقة، وقد قال تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}[طه: 76] / في عدة مواضع، وقال في سورة التوبة: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}، وقال في سورة يونس: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ}، فدلَّ ذلك على وجود الأنهار فيها حقيقة وأنها جارية لا واقفة، وأنها تحت غرفهم وقصورهم وبساتينهم كما هو المعهود في أنهار الدنيا.
الثاني: أنهار الجنَّة تتفجر من أعلاها ثم تنحدر نازلة إلى أقصى درجاتها، كما روى البخاري[2790] من حديث أبي هريرة عن النبي صلعم أنه قال: «إن في الجنَّة مئة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسلوه الفِردَوس، فإنه أوسط الجنَّة وأعلا الجنَّة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تَفَجَّر أنهار الجنَّة».
وروى الترمذي[2530] نحوه من حديث معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت[2531] ولفظ حديث عُبادة: «الجنَّة مئة درجة ما بين كل دَرَجتين مسيرة مئة عام، والفِردوس أعلاها دَرجة، وفيها الأنهار الأربعة والعرش فوقها، فإذا سألتم الله فَسلوه الفِردَوس الأعلى».
وفي «معجم الطبراني»[6886] من حديث الحسن عن سمرة قال: قال رسول الله صلعم: «الفردوس ربوة الجنَّة وأعلاها وأوسطها ومنها تفجر أنهار الجنَّة».
وقال الحاكم(57): أخبرنا الأصم حدَّثنا الربيع بن سليمان، حدَّثنا أسد بن موسى، حدَّثنا ابن ثوبان، عن عطاء بن قُرَّة، عن عبد الله بن ضمرة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: «من سره أن يسقيه الله ╡ من الخمر في الآخرة فليتركها في الدنيا، ومن سره أن يكسوه الله الحرير في الآخرة فليتركه في الدنيا، أنهار الجنَّة تَفَجَّر من تحت تلال أو تحت جبال المسك، ولو كان أدنى أهل الجنَّة حلية عدلت حليته أهل الدنيا جميعًا، ولكان ما يحليه الله به في الآخرة أفضل من حلية أهل الدنيا جميعًا».
وذكر الأعمش عن عمرو بن مرة، عن مسروق، عن عبد الله أن أنهار الجنَّة تفجر من جبل مسك(58)، وهذا موقوف صحيح.
وذكر ابن مردويه في «تفسيره»: حدَّثنا أحمد بن محمد بن عاصم، حدَّثنا عبد الله بن محمد بن نعمان، حدَّثنا مسلم بن إبراهيم، حدَّثنا الحارث بن عبيد، / حدَّثنا أبو عمران الجَوْني، عن أبي بكر بن عبد الله بن قيس عن أبيه قال: قال رسول الله صلعم: «هذه الأنهار تشخب من جنة عدن في جوبة، ثم تصدع بعد أنهارًا»(59).
وقال ابن أبي الدنيا (60): حدثني يعقوب بن عبيد، أخبرنا يزيد بن هارون، أخبرنا الجريري، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك قال: أظنكم تظنون أن لأنهار الجنَّة أخدودًا في الأرض، لا والله إنها لسائحة على وجه الأرض إحدى حافتيها اللؤلؤ والأخرى الياقوت، وطينه المسك الأذفر قال: قلت: ما الأذفر؟ قال: الذي لا خلط له.
ورواه ابن مردويه في «تفسيره» عن محمد بن أحمد، حدَّثنا محمد بن أحمد بن أبي يحيى، حدَّثنا مهدي بن حكيم، حدَّثنا يزيد بن هارون، أخبرني الجريري، عن معاوية بن قرة، عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلعم فذكره هكذا رواه مرفوعًا.
وذكر سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن أبي عبيدة عن مسروق في قوله تعالى: {وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ}[الواقعة: 31] قال: أنهار تجري في غير أخدود، قال: {وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ}[الشعراء: 148] قال: من أصلها إلى فرعها أو كلمة نحوها.
الأمر السادس عشر: قوله: «ثم مضى به في السماء، فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤ وزبرجد، فضرب يده فإذا مسك أذفر قال: ما هذا يا جبريل؟ قال: هو الكوثر الذي خبأه لك ربك»، قد جاء في صفة الكوثر أحاديث منها في «صحيح البخاري»[4964] من حديث هَمّام عن قتادة عن أنس أن رسول الله صلعم قال: «بينا أنا أسير في الجنَّة، إذا أنا بنهرٍ حافتاه قِبابُ اللؤلؤ المجوَّف فقلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك، قال: فضرب الملك بيده، فإذا طينه مسك أذفر».
ومنها في «صحيح مسلم»[400] من حديث المختار بن فلفل عن أنس بن مالك، عن النبي صلعم قال: «الكوثر نهر في الجنَّة وعدنيه ربي ╡».
ومنها: قال محمد بن عبد الله الأنصاري، حدَّثنا حميد الطويل عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلعم: «دخلت الجنَّة، فإذا بنهر حافتاه خِيامُ اللؤلؤ، فضربت بيدي / إلى ما يجري فيه من الماء، فإذا أنا بمسك أذفر فقلت: لمن هذا يا جبريل؟ فقال: هذا الكوثر الذي أعطاكه الله(131»).
ومنها: قال الدراوردي: حدثني ابن أخ ابن شهاب عن أبيه عبد الله بن مسلم، أنه سمع أنس بن مالك يقول في الكوثر: قال رسول الله صلعم: «هو نهر أعطانيه ربي أشد بياضًا من اللبن وأحلا من العسل، فيه طيور أعناقها كأعناق الجزور» فقال عمر بن الخطاب: إنها يا رسول الله لناعمة، قال رسول الله صلعم: «آكلها أنعم منها»(61)، تابعه إبراهيم بن سعد عن ابن أخ ابن شهاب، وقال: فقال أبو بكر بدل عمر.
ومنها: قال أبو خيثمة: حدَّثنا عفان، حدَّثنا حماد بن سلمة، عن ثابت، عن أنس أنه قرأ هذه الآية: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} فقال: قال رسول الله صلعم: «أعطيت الكوثر، فإذا هو يجري ولم يشق شقًا، وإذا حافتاه قباب اللؤلؤ، فضربت بيدي إلى تربته، فإذا مسك أذفر وإذا حصباؤه اللؤلؤ(133»).
ومنها: قال الترمذي[3361]: حدَّثنا هناد، حدَّثنا محمد بن فضيل، عن عطاء بن السائب، عن محارب بن دثار، عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله صلعم: «الكوثر نهر في الجنَّة، حافتاه من ذهب، ومجراه على الدر والياقوت، وتُربته أطيب من المسك، وماؤه أحلا من العَسل وأبيض من الثَّلْج» قال: هذا حديث حسن صحيح.
ومنها: قال البخاري[4965]: حدَّثنا خالد بن يزيد الكاهلي، حدَّثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن عائشة قال: سألتها عن قوله: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قالت: نهر أعطيه نبيكم صلعم شاطئاه عليه در مجوف، آنيته كعدد النجوم، ورواه زكريا وأبو الأخوص ومطرف عن أبي إسحاق.
ومنها: قال أبو نعيم الفضل بن دُكين، حدَّثنا أبو جعفر هو الدارمي، حدَّثنا ابن أبي نجيح عن مجاهد في قوله تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} قال: الخير الكثير(62)، قال وقال أنس بن مالك: نهر في الجنَّة، وقالت عائشة: هو نهر في الجنَّة ليس أحد يدخل إصبعيه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر(63).
قال السهيلي(64): ومما جاء في معنى الكوثر ما رواه ابن أبي نجيح عن عائشة قالت: الكوثر نهر في الجنَّة لا يدخل / أحد أصبعه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر، وقع هذا الحديث في السيرة من رواية يونس بن بكير.
ورواه الدارقطني من طريق مالك بن مِغْوَل، عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت: قال رسول الله صلعم: «إن الله أعطاني نهرًا يقال له: الكوثر لا يشاء أحد من أمتي أن يسمع خرير ذلك النهر إلا سمعه» فقلت: يا رسول الله وكيف ذلك؟ قال: «أدخلي أصبعيك في أذنيك وشدي، فالذي تسمعين فيها من خرير الكوثر» انتهى.
ومعناه: أن خرير الكوثر يشبه الخرير الذي يسمعه حين يدخل أصبعيه في أذنيه.
وما رواه ابن أبي نجيح عن مجاهد من تفسير الكوثر بالخير الكثير قد سبقه به ابن عباس، قال البخاري[4966]: حدَّثنا يعقوب بن إبراهيم، حدَّثنا هشيم، حدَّثنا أبو بشر، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس أنه قال في الكوثر: هو الخير الذي أعطاه الله إياه، قال أبو بشر: قلت لسعيد بن جبير: إن ناسًا يزعمون أنه نهر في الجنَّة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنَّة من الخير الذي أعطاه الله إياه.
ووراء ذلك أقوالٌ أخرُ لسنا بها.
وقد جاء من حديث الحسن بن علي أنه قيل له: سوَّدتَ وجوه المؤمنين، عمدتَ إلى هذا الرجل فبايعته، يعني: معاوية، فقال الحسن: لا تؤنِّبني رحمكَ الله، فإنّ رسول الله صلعم قد أري بني أمية يخطئون على منبره رجل فرجل فساءَهُ ذلك فنزلت: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ}[الكوثر: 1]، ونزلت: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ. لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}[القدر: 1 - 3] يملكه بنو أمية(65)، قال أبو القاسم: فحسبنا ملك بني أمية فإذا هو ألف شهر لا يزيد ولا ينقص، وستأتي طرق هذا الحديث في صلاة الجمعة إن شاء الله، ويأتي في الصيام أيضًا الكلام على الحوض والله أعلم.
قلت: من أنهار الجنَّة ما في «صحيح البخاري»[3207] من حديث شعبة عن قتادة، أخبرني أنس بن مالك أن رسول الله صلعم قال: «رُفعت لي سِدرةُ المنتهى في السماء السابعة، نبقها مثل قلال هجر، وورقها مثل آذان الفيلة، يخرج من ساقها نهران ظاهران ونهران باطنان / فقلت: يا جبريل ما هذا؟ قال: أما النهران الباطنان ففي الجنَّة، وأما النهران الظاهران فالنيل والفرات».
وفي «صحيح مسلم»[2839] من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلعم: «سيحان وجيحان والفرات والنيل؛ كل من أنهار الجنَّة».
وسيأتي في الوديعة إن شاء الله حديث ابن عباس عن النبي صلعم: «أنزل الله من الجنَّة خمسة أنهار: سيحون: وهو نهر الهند، وجيحون: وهو نهر بلخ، ودجلة والفرات: وهما نهرا العراق، والنيل: وهو نهر مصر» الحديث، وقال تعالى: {مَثَلُ الجنَّة الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى}[محمد: 15](66).
وسبق في الطهارة حديث حكيم بن معاوية عن أبيه: «أن في الجنَّة بحر الماء وبحر العسل وبحر اللبن وبحر الخمر، ثم تشقق الأنهار بعد»(67).
قلت: ومر بي في بعض الأجزاء بحر الزيت ولا أذكره الآن والله أعلم.
الأمر السابع عشر: قوله: «وموسى في السابعة» بتفصيل كلام الله ╡ هذا من أوهام شريك، فالذي في السابعة إنما هو إبراهيم ◙.
الأمر الثامن عشر: قوله: «ودنا الجبار رب العزة سبحانه وتعالى فتدلى، حتى كان منه كقاب قوسين أو أدنى» يعرف هذا بالكلام على أوائل سورة النجم.
وقد قال الأستاذ في «منهاجه»: باب في تفسير قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى}[النجم: 1] هذا قَسَم والقول فيه وأمثاله من القسم بالأفعال في القرآن واحد، وهو أنه يحتمل أن يكون بمعنى إضمار (الرب) أي: ورب النجم.
والثاني: بإضمار القدرة؛ أي: وقدرته سبحانه على النجم.
والثالث: أنه قسم بالنجم على جهة التشريف له لما أقسم الله تعالى به.
واختلف المفسرون في معنى: والنجم هاهنا، فمنهم من قال: أراد به النجوم إذا هَوَتْ أو سقطت يعني: في القيامة، قال الله تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ}[الانفطار: 2]، وأصل النجوم: من الطلوع ويقال: نَجَمَ القَرن ونَجَمَ السنُّ، والنجم أيضًا من النبات ما لا ساق له، والشجر ما له ساق، قال الله تعالى: {وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ}[الرحمن: 6].
/ وقيل: أراد بالنجم هاهنا الثريا، والعرب تسمي الثريا النجم، وكانوا يعظمون أمره، وكانت لهم رحلتان في الشتاء والصيف عند ظهور الثريا وغيبوبته.
وقيل: المراد بالنجم هاهنا نجوم القرآن، وكان القرآن ينزل نجمًا نجمًا.
وقال بعضهم: النجم هاهنا المصطفى صلعم، شبهه بالنجم في تلألؤ أنواره {إِذَا هَوَى} يعني: حين منصرفه من المعراج، وهو كما سماه سراجًا في موضع آخر.
وقال بعضهم: النجم قلب المصطفى عليه الصلاة والسلام {إِذَا هَوَى} يعني: انقطع عن جميع ما سوى الله.
وقال ابن عطاء: أَقسمَ بنجوم المعرفة وضيائها.
وسمعت الأستاذ أبا علي الدقاق ☼ يقول: إنما أقسم برجوعه من المعراج؛ لأن رجوع الأحباب من عند الأحباب له وصف آخر، وإن كان الحق سبحانه لا تجوز عليه المسافة ولا القرب بالمكان، ولا كان لمحمد صلعم غيبة عنه عند الرجوع ولا نقصان في الحال، ولكن على حسب ما اعتاده الخلق وتعلق به فهمهم.
وقوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ} يعني: المصطفى عليه الصلاة والسلام {وَمَا غَوَى}[النجم: 2] ،وهذا هو جواب القسم، ومعناه: ما ضلَّ عن التوحيد قط، وما زاغ عن المعرفة بالله سبحانه.
وفي نفيه سبحانه الضلال عن نبيه صلعم، وتأكيد النفي بذكر القسم تخصيص له وتفضيل على غيره من الأنبياء ‰، فإن نوحا النبي ◙ لما قيل له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ. قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ}[الأعراف: 60 - 61] فنفى بنفسه عن نفسه الضلالة.
وهودٌ ◙ لما قيل له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ}[الأعراف: 66] {قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ}[الأعراف: 67].
ولما قال فرعون لموسى ◙: {إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا}[الإسراء: 101] قال موسى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا}[الإسراء: 102] وغير هذا.
ونبينا صلعم لما رمي بالضلال والغواية نفى عنه بقوله: / {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى}، وكذلك قوله: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ. مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ}[القلم: 1 - 2].
وقال ابن عطاء: {مَا ضَلَّ} عن الرؤية طرفة عين.
وهاهنا سؤال: كيف الجمع بين قوله: {مَا ضَلَّ صَاحِبُكُم}، وبين قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى}[الضحى: 7]، فالجواب عنه: أن الذي نفي عنه هو الضلال عن الدين، والذي أثبت هو أنه ضل في حال صباه مرة في شعاب مكة، وكان عبد المطلب يطلبه، وكان قد تعلق بأستار الكعبة وهو يقول:
رد إليَّ ولدي محمدا رد علي واصطنع عندي يدا
فوجده أبو جهل فرده على عبد المطلب، ومنَّ الله عليه حيث خلصه من يدي عدوه(68).
وقيل: كان النبي صلعم في سفر مع عمه أبي طالب في طريق الشام للتجارة لخديجة، فأخذ الشيطان بزمام ناقته وعدل به عن الطريق، فبعث الله تعالى جبريل ◙ حتى نفخ في الشيطان وألقاه على بعد منه، فهذا معنى قوله: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} يعني: في الطريق {فَهَدَى} إلى الطريق.
وقال الزجاج: معناه: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} عن أحكام الشريعة، كما قال: {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ}[الشورى: 52].
وقيل معناه: وجدك بين قوم ضُلَّالٍ فهداهُم بك، وقيل: وجدك ضالًّا لقومك لا يعرفونك فهداهم إليك حتى عرفوا أنك نبينا صلعم.
وقيل: ضالًّا في محبتنا كقوله: {إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ}[يوسف: 30] يعني: من محبة يوسف ◙، وقيل: غافلًا عن النبوة، وقيل: ناسيًا للاستثناء.
وقال الجريري: ووجدك مترددا في غوامض معنى المحبة، فهداك بلطفه إلى ما رمته في ولهك.
وقال بُندار بن الحسين: كنتَ قائمًا مقام الاستدلال فتعرفتُ إليك وأغنيتُكَ عن الشواهد والأدلة، وقد نظم الشيخ عبد العزيز الديريني الأقوال في ذلك بأرجوزته المسماة بالتيسير في التفسير فقال:
ضالًا عن الأحكام في الأفعال والعلم بالحَرامِ والحلالِ /
بَلْ فهُدي بالعلم والبيانِ وما أُتي من مُحكَم القُرآنِ
وقيل عن مقداره وماله فلم يكن يطمع بالرساله
وقيل ضل عن طريق ليلًا ثم اهتدى ونال منه نيلا
وقيل بل عن بلدةٍ مأمونة ثم اهتدى لهجرة المدينة
وقيل ضلَّ حيرة الإحلال ودَهَشِ المحبِّ بالجمال
ثم اهتدى زيادة في المعرفة والقرب والمواهب المشرفة
وقيل يعني ضائعًا مجهولا هدى به المصدق المقبولا
[عدنا إلى قول](69) الأستاذ، وقوله: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى}[النجم: 3] يعني: بالهوى، والباء تقوم مقام عن قال الشاعر:
فإن تسألوني بالنساء فإنني بصير بـأدواء النساء طبيب
أو قال: تسألوني عن النساء.
وقال تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا}[الفرقان: 59]، وفي هذا مزية للمصطفى صلعم حيث نفى عنه أن ينطق بالهوى، وقال لداود ◙: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى}[ص: 26]، وفرق بين من يُنهى عن الهوى، وبين من ينفى عنه متابعة الهوى.
وقوله: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى}[النجم: 4] يعني: ما هو معنى القرآن إلا وحي يوحى إليه، فلم يذكر إليه لدلالة الحال عليه ولمشاكلة رؤوس الآي.
والوحي: إلقاء المعنى في النفس في خفاء على وجه السرعة، ثم اشتهر هذا الاسم في إلقاء الملك ◙ الرسالة إلى الأنبياء صلى الله عليهم وسلم.
وقوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى}[النجم: 5] يعني به: جبريل ◙، والقوى جمع: قوة، فالقوة هي القدرة، وهي الصفة التي يتمكن بها من الفعل، وأصله من: قوى الحَبْل، وهي طاقاته، والله سبحانه خص جبريل ◙ بالقوة.
وفي الأثر أنه قلع مدائن لوط ◙.
وقوله: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى}[النجم: 6] المِرَّة: الطاقة والقوة من قولهم: أمررت الحبل إذا أحكمت فتله، وهو نعتُ شديد القوى، وقيل: {ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى} ذو خلق عظيم حسن.
وقوله(70): /
غيره: أصبحوا تائبين وأمسوا تائبين؛ أي: إن المؤمن لا ينبغي أن يصبح ويمسي إلا على توبة، فإنه لا يدري متى يفجؤه الموت صباحًا أو مساء، فمن أصبح وأمسى على غير توبة فهو على خطر؛ لأنه يخشى أن يلقى الله غير تائب فيحشر في زمرة الظالمين للآية، وأنشدوا:
تُب يا ابن آدم لا يَسخر بك الأملُ يُفسد عليكَ الذي أَملَّته الأَجَلُ
أراكَ ترفعُ في البُنيان مجتهدًا وقد بَنَى قبلكَ السُّبّاقُ والأُولُ
فما بشيءٍ مضوا من كل ما جمعوا بل خلَّفوا الأهل والبُنيان وارتحلوا
كأنهم رُفُق حطوا لراحتهم أو عندما قد مَسَّتهم كلل
فقال قائلهم للقوم ليس لكم فيها مقام فراحوا بعدما نزلوا
فكمْ وكمْ تُلهكَ الدنيا وزينتها وأنت منها إلى الأجداث مُنتقلُ
فراقبِ الله ذا الإحسان مُجتهدًا واعمل لنفسك قبل الموتِ يا رجُلُ
وخُذْ من الزاد ما وصَّاك خالقُنا خير المزاد بتقوى الله والعملُ
فإن أيامنا تنسلُّ في مَهَلٍ والموتُ من شأنه التحريضُ والعجَلُ
لا تطمئنَّ إلى الدنيا فإنّ لها غدرًا ومكرًا وفي إدراكها الوَهَلُ
واصبر فإنّ مطايا الصَّبر سالمة من الوقوع وإن طالت بها السُّبلُ
بالصَّبر قيل يَنال الظَّفر صاحبه والصَّبر أحسن للأنام لو عقلوا
ما أحسنَ الصبر لولا أنه كره وأقبحَ الطَّيشِ فيه السّخطُ والزَّللُ
كم غافلٍ مُلتَهٍ بالغانيات سَلا والكأس يشربه إذ مسّه الكَسَلُ
حتى إذا طالتِ الأمراضُ قيل له إنّ الطَّبيب يُداوي الجسم يا رجلُ
فأقبلوا بطبيب فيه معرفة جَسَّ العروقَ ومنه يضحك الأجلُ
فقال تحتالُ فيما فيه راحته وقال في السِّرِّ ما في أمره حِيَلُ
فبات يرقُب ما قال الطَّبيب له حتى أناخَ به الجَمّال والجَمَلُ /
فقال ارحلْ فإنّ القوم قد نَهَضوا وقد أتت لتقاضي روحك الرُّسلُ
فقال مهلًا عليَّ اعمل لآخرتي فقيل هيهات ما في أمرنا مَهَلُ
فخلَّصوا روحه من سجن جُثَّتِه وخَلَّفوا جسمَه للأهل إذ دَخَلوا
حتى إذا أنَّ في الأكفان جثَّته وقربه نعشه من بعد ما غسلوا
تَلُّوهُ فوق رقاب الحاملين له إلى القُبور كما من قبله حَمَلوا
صلَّوا عليه وقالوا في دعائهمُ خَفِّف بعفوك عنه عندما سألوا
فقربوه إلى بيت ما فيه من فُرشٍ تَحت التراب ولا بابٌ ولا قُفُلُ
فيه الترابُ له فرش وتغطية وليس فيه نماريق ولا كِلَلُ
حثوا عليه ترابا ثم انصرفوا وخلَّفوه فَريدًا ثم مُعتقلُ
إلى القيامة لا تنفكُّ عطلته حتى يقوم إليه خائف وَجِلُ
فإن أتى ظالمًا كان امره عَسِرٌ وإن أتى طائعًا كان امره سَهِلُ
فالويل يومئذ للظالمين إذا كان الجَحيمُ لهم بعد الثَّرى نُزُلُ
وأصبح الإنشاد بالباب بقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}[النور: 31] قال السُّلمي في «الحقائق»: وذكر الآية: وقال بعضهم: التوبة، هي التي تورث صاحبها الفلاح عاجلًا وآجلا، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا} الآية.
قال يوسف: من طلبَ الفلاحَ والسلامةَ والنجاةَ والاستقامةَ فليطلبه في تصحيح تَوبته ودوام تَضرُّعه وإنابته، فإن في تصحيح التوبة تحقيق الإيمان والوصول إلى حقيقة المعرفة، قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللهِ} فذكر الآية، انتهى.
وقد خرج الترمذي[2499] وابن ماجه[4251] من حديث أنس عن النبي صلعم قال: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون».
قال الهروي: والتوبة لا تصح إلا بعد معرفة الذنب، انتهى.
وذلك لأن التوبة هي الرجوع عن مخالفة حكم الحق إلى موافقته، فما لم يعرف المكلف حقيقة الذنب وكون الفعل الصادر عنه مخالفًا لحكم / الحق لم يصح الرجوع عنه، ومن ثم قدم الشيخان في كتاب الشهادات ذكر الصغائر والكبائر على ذكر التوبة.
وقال الغزالي في «الإحياء»[4/3]: الركن الثاني فيما عنه التوبة وهي الذنوب صغائرها وكبائرها:
اعلم أن التوبة هي ترك الذنب ولا يمكن ترك الشيء إلا بعد معرفته، فإذا كانت التوبة واجبة فإن ما لا يتوصل إليها إلا به واجبًا، فمعرفة الذنوب إذًا واجبة.
والذنب عبارة عن كل ما هو مخالف لأمر الله من ترك أو فعل، انتهى.
وقال: اعلم أن الناس قسمان:
شاب لا صبوة له نشأ على الخير واجتناب الشر، وهو الذي قال فيه رسول الله صلعم: «تعجب ربكم من الشاب ليست له صبوة»(71) وهذا عزيز نادر.
القسم الثاني: هو الذي لا يخلو عن مقارفة الذنوب، ثم هم ينقسمون إلى مصرِّين وإلى تائبين، وغرضنا أن نبين العلاج في حل عقدة الإصرار ونذكر الدواء فيه:
فاعلم أن شفاء التوبة لا يحصل إلا بالدواء، ولا يقف على الدواء من لا يقف على الداء، ولا معنى للدواء إلا مناقضة أسباب الداء، وكل داء حصل من سبب فدواؤه حل ذاك السبب ورفعه وإبطاله، ولا يبطل الشيء إلا بضده، ولا سبب للإصرار إلا الشهوة والغفلة، ولا يضاد الغفلة إلا العلم ولا يضاد الشهوة إلا الصبر على قطع الأسباب المحركة للشهوة، والغفلة رأس الخطايا قال الله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ. لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الخَاسِرُونَ}[النحل: 108 - 109] ولا دواء للتوبة إلا معجون يعجن من حلاوة العلم ومرارة الصبر، وكما يجمع السكنجبين من حلاوة السكر وحموضة الخل، ويقصد بكل واحد منهما غرض آخر في العلاج بمجموعهما، فيقمع الأسباب المهيجة للصفراء، فهكذا ينبغي أن يفهم علاج القلب عما به من مرض الإصرار، فإذًا لهذا الدواء أصلان:
أحدهما: العلم، والآخر: الصبر، فلا بد من بيانهما.
فإن قلت: أينفع كل علم لحل الإصرار، أم لا بد من علم مخصوص؟
فاعلم أن كل العلوم بجملتها أدوية لأمراض القلوب، ولكن لكل مرض علم يخصه، كما أن علم الطب نافع في علاج الأمراض بالجملة، ولكن يخص كل / مرض علم مخصوص، فكذلك داء الإصرار فلنذكر خصوص ذلك العلم على موازنة مرض الأبدان؛ ليكون أقرب إلى الفهم، فنقول:
يحتاج المريض إلى تصديق بأمور:
الأول: أن يصدق على الجملة بأن للمرض والصحة أسبابًا يتوصل إليها بالاختيار على ما رتبه مسبب الأسباب، وهذا هو الإيمان بأصل الطب، فإن من لا يؤمن به فلا يشتغل بالعلاج ويحق عليه الهلاك، وهذا وزانه مما نحن فيه الإيمان بأصل الشرع، وهو أن للسعادة في الآخرة سببًا هو الطاعة، وللشقاوة سببًا هو المعصية، وهذا هو الإيمان بأصل الشرائع، وهذا لا بد من حصوله إما عن تحقيق أو تقليد، وكلاهما من جملة الإيمان.
الثاني: لا بد أن يعتقد المريض في طبيب معين أنه عالم بالطب حاذق فيه صادق فيما يعبر عنه ولا يُلبِّس ولا يكذب، فإن إيمانه بأصل الطب لا ينفعه بمجرده دون هذا الإيمان، ووزانه مما نحن فيه العلم بصدق الرسول صلعم، والإيمان بأن كل ما يقوله حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف.
الثالث: أنه لا بد أن يصغي إلى الطبيب فيما يحذره من أكل الفواكه وأسباب المضرة على الجملة حتى يغلب عليه الخوف في ترك الاحتماء، فتكون شدة الخوف باعثًا له على الاحتماء، ووزانه من الدين الإصغاء إلى الآيات والأخبار المشتملة على الترغيب في التقوى، والتحذير من ارتكاب الذنوب واتباع الهوى، والتصديق بجميع ما يلقى إلى سمعه من ذلك من غير شك واسترابة، حتى ينبعث به الخوف المقوي على الصبر الذي هو الركن الآخر في العلاج.
الرابع: أن يصغي إلى الطبيب فيما يخص مرضه وفيما يلزمه بنفسه الاحتماء عنه، فيعرفه أولا تفصيل ما يضره من أحواله وأفعاله ومأكوله ومشروبه، فليس على كل مريض الاحتماء عن كل شيء، ولا ينفعه كل دواء، بل لكل علة خاصة علم خاص وعلاج خاص، ووزانه من الدين أن كل عبد فليس يبتلى بكل شهوة وارتكاب كل ذنب، بل لكل مؤمن ذنب مخصوص أو ذنوب مخصوصة، وإنما حاجته في الحال مرهقة إلى العلم بأنها ذنوب، ثم إلى العلم بآفاتها وقدر ضررها في الدين، ثم إلى العلم بكيفية التوصل / إلى الصبر عنها، ثم إلى العلم بكيفية تكفير ما سبق منها.
فهذه علوم يختص بها أطباء الدين، وهم العلماء ورثة الأنبياء، فالعاصي إن تحكَّمَ عصيانه فعليه طلب العلاج من الطبيب وهو العالم، وإن كان لا يدري أن ما يرتكبه ذنب فعلى العالم أن يعرفه ذلك، بأن يتكفل كل عالم بإقليم أو بلد أو محلة أو مشهد، فيعلم أهله دينهم، ويميز ما ينفعهم عما يضرهم، وما يشقيهم عما يسعدهم، ولا ينبغي أن يصبر إلى أن يسأل عنه، بل ينبغي أن يتصدى لدعوة الناس إلى نفسه، فإنهم ورثة الأنبياء [والأنبياء] صلوات الله وسلامه عليهم ما تركوا الناس على جهلهم، بل كانوا ينادونهم في مجامعهم ويدورون على أبواب دورهم في الابتداء، ويطلبون واحدًا واحدًا فيرشدونهم، فإن مرضى القلوب لا يعرفون مرضهم، كما أن الذي ظهر على وجهه برص ولا مرآة له لا يعرف مرضه ما لم يُعرِّفه غيره.
وهذا فرض عين على العلماء كافة، وعلى السلاطين كافة أن يرتبوا في كل قرية وكل محلة فقيهًا متدينًا يعلّم الناس دينهم، فإن الخلق لا يولدون إلا جهالًا، فلا بد من تبليغ الدعوة إليهم في الأصل والفرع، فالدنيا دار مرض، إذ ليس في بطن الأرض إلا ميت، ولا على ظهرها إلا سقيم، ومرض القلوب أكثر من مرض الأبدان، والعلماء أطباء والسلاطين قوام دار المرضى، فكل مريض لم يقبل العلاج بمداواة العالم أسلم إلى السلطان ليكف شره، كما يسلم الطبيب المريض الذي لا يحتمي، أو الذي غلب عليه الجنون إلى القيم؛ ليقيده بالسلاسل والأغلال، ويكف شره عن سائر الناس.
وإنما صار مرض القلوب أكثر من مرض الأبدان لثلاث علل:
إحداها: أن المريض بها لا يدري أنه مريض.
والثانية: أن عاقبته غير مشاهدة، بخلاف مرض البدن فإن عاقبته موت مشاهد تنفر الطباع منه، وما بعد الموت غير مشاهد فقلت النفرة من الذنوب وإن علمها مرتكبها، فلذلك تراه يتكل على فضل الله في مرض القلب، ويجتهد في علاج مرض البدن من غير اتكال.
والثالث: وهو الداء العضال، فَقْدُ الطبيب، فإن الأطباء هم العلماء وقد مرضوا في هذه الأعصار مرضًا شديدًا عجزوا عن علاجه، وصارت لهم سلوة في عموم المرض حتى لا يظهر نقصانهم، فاضطروا إلى إغواء الخلق والإشارة عليهم بما / يزيدهم مرضًا؛ لأن الداء المهلك هو حب الدنيا، وقد غلب هذا الداء على الأطباء فلم يقدروا على تحذير الخلق منه؛ استنكافًا من أن يقال لهم: فما بالكم تأمرون بالعلاج وتنسون أنفسكم، فلهذا الوجه عم الداء وعظم الوباء وانقطع الدواء، وهلك الخلق لفقد الأطباء، بل اشتغل الأطباء بفنون الإغواء، فليتهم إذ لم ينصحوا ولم يصلحوا لم يفسدوا، وليتهم سكتوا وما نطقوا، فإنهم إذا تكلموا لم يهمهم في مواعظهم إلا ما يزعق العوام ويستميل قلوبهم، ولا يتوصلون إلى ذلك إلا بالإرجاء وتغليب أسباب الرجاء وذكر دلائل الرحمة؛ لأن ذلك ألذ في الأسماع وأخف على الطباع، فينصرف الخلق عن مجالس الوعظ وقد استفادوا مزيد جرأة على المعاصي ومزيد ثقة بفضل الله، ومهما كان الطبيب جاهلًا أو خائنا أهلك بالدواء حيث يضعه في غير موضعه، فالرجاء والخوف دواءان، ولكن لشخصين متضادين في العلة.
أما الذي غلب عليه الخوف حتى هجر الدنيا بالكلية وكلف نفسه ما لا تطيق وضيق العيش على نفسه بالكلية فتكسر سورة إسرافه في الخوف بذكر أسباب الرجاء؛ ليعود إلى الاعتدال، وكذلك المصر على الذنوب المشتهي للتوبة الممتنع منها بحكم القنوط واليأس استعظامًا لذنوبه التي سبقت يعالج أيضًا بأسباب الرجاء حتى يطمع في قبول التوبة فيتوب.
فأما معالجة المغرور المسترسل في المعاصي بذكر أسباب الرجاء، فيضاهي معالجة المحرور بالعسل طلبا للشفاء، وذلك من دأب الجهال والأغبياء، فإذًا فساد الأطباء هي المعضلة الداء التي لا تقبل الدواء أصلًا، انتهى(72) .
قال الهروي: وهي أن تنظر في الذنب إلى ثلاثة أشياء:
إلى انخلاعك من العصمة حين إتيانه، انتهى.
فسر معرفة الذنب بالنظر إلى أنه إذا خالف الحق كان منخلعًا عن عصمة الله وقت مخالفته، فكان ضالًا عن سواء السبيل؛ لقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}[آل عمران: 101]، والمعلق بالشرط يعدم عند عدمه، فإذا لم يعتصم / بالله فقد ضل، ولو اعتصم بالله لعصمه الله فلم يخالفه، وإذا تبين ضلاله بالمخالفة يرجع إلى الموافقة، وقد قال المفسرون في قوله تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ} أي: يؤمن بالله ويتمسك بدينه وطاعته، {فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} طريق واضح.
قال ابن جريج: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ} أي: يؤمن بالله، وأصل العصم والعصمة: المنع، وكل مانع شيئًا فهو عاصم، قال الفرزدق:
أنا ابنُ العاصمين بني تميم إذا ما أعظم الحدثان نابا
والممتنع يعتصم يقال: اعتصمتُ الشيء واعتصمت به، وهو الأفصح، قال الشاعر:
يَظلُّ من خوفه المَلّاحُ معتصمًا بالخَيْزرانة بعد الأين والنَّجدِ
وقال حميد بن ثور يصف جملًا حمل امرأة بدينة:
وما كان لما أَنْ علَتْه يُقلُّها بنهضته حتى اكْلأَنْ واعتصما
وقد ذكرت عقب عقيدة الأشعري شيئًا يتعلق بالاعتصام بالكتاب والسنة، فراجعه.
قال الهروي: وفرحك عند الظفر به، انتهى.
أي: الشيء الثاني أنه إذا علم فرحه عند الظفر بإتيان الذنب حزن وتدارك، وقد روي عن علي بن أبي طالب أنه رأى رجلًا قال حين فرغ من صلاته: اللهم إني أستغفرك وأتوب إليك سريعًا فقال: يا هذا إن سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذابين، وتوبتك تحتاج إلى توبة، قال: يا أمير المؤمنين وما التوبة؟ قال: اسم يقع على ستة معان:
على الماضي من الذنوب، الندامة.
ولتضييع الفرائض، الإعادة.
ورد المظالم إلى أهلها.
وإذابة النفس في الطاعة كما أذابها في المعصية.
وإذاقة النفس مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية.
والبكاء بدل كل ضحك ضحكته.
قال ذو النون المصري: إن لله عبادًا نصبوا أشجار الخطايا نصب رداء القلوب وسقوها بماء التوبة فأثمرت ندمًا وحزنًا، فجنُّوا من غير جُنون، وتبلّدوا من غير عِيٍّ وبكم، وإنهم والله لهم البلغاء الفصحاء العارفون بالله تعالى وبرسوله صلعم، ثم شربوا بكأس الصفاء فورثوا الصبر على طول البلاء، ثم تولَّهت قلوبهم في الملكوت، وجال فكرهم بين / سرايا حجب الجبروت، واستظلوا تحت رواق الندم، وقرؤوا صحيفة الخطايا فأورثوا أنفسهم الجزع حتى وصلوا إلى علو الزهد بسلم الورع، فاستعذبوا مرارة التَّرك للدنيا، واستلانوا خشونة المضجع حتى ظفروا بحبل النجاة وعروة السلامة، وسرحت أرواحهم في العلا حتى أناخوا في رياض النعيم، وخاضوا في بحر الحياة وردموا خنادق الجزع وعبروا جسور الهوى حتى نزلوا بفناء العلم، واستقوا من غدير الحكمة، وركبوا سفينة الفطنة وأقلعوا بريح النجاة في بحر السلامة حتى وصلوا إلى رياض الراحة، ومعدن العزِّ والكرامة(73) .
وقال أيضًا: حقيقة التوبة أن تضيق عليك الأرض بما رحبت، حتى لا يكون لك قرار، ثم تضيق عليك نفسك، كما أخبر تعالى في كتابه بقوله: {وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ} الآية[التوبة: 118].
وقد قدمت في الكلام على حديث أبي ذر: «أتاني جبريل فبشرني»[7487] الحديث الذي ساقه البخاري في باب: كلام الرب مع جبريل ونداء الله الملائكة، شيئًا يتعلق بسرور العاصي حال ملابسته المعصية، فراجعه.
وبالجملة فحزن التائب نقيض لاستبشاره غدًا، كما قال الأستاذ: قيل: أوحى الله سبحانه إلى آدم: يا آدم ورَّثْتَ ذريتك التعب والنصب، وورَّثتهم التوبة، من دعاني منهم بدعوتك لبيته بتلبيتك، يا آدم أحشر التائبين من القبور مستبشرين ضاحكين دعاؤهم مستجاب.
وذكر ابن الجوزي في «روضة المشتاق» قال رسول الله صلعم: «يؤتى يوم القيامة بالتوبة في صورة حسنة ورائحة طيبة، فلا يجد رائحتها ولا يرى صورتها إلا مؤمن، فيجدون لها رائحة وأنسًا، فيقول الكافر والعاصي المصر: ما لنا ما وجدنا ما وجدتم ولا رأينا ما رأيتم؟ فتقول لهم التوبة: طال ما تعرضتُ لكم في الدنيا فما أردتموني، فلو كنتم قبلتموني لكنتم اليوم وجدتموني، فيقولون: نحن اليوم نتوب، فينادي مناد من تحت العرش: هيهات هيهات ذهبت أيام المهلة وانقضى زمن التوبة، فلو جئتموني بالدنيا وما اشتملت عليه ما قبلت توبتكم ولا رحمت غربتكم، فعند ذلك تنأى التوبة عنهم وتبعد ملائكة الرحمة عنهم، وينادي مناد من تحت العرش: يا خزنة / النار هلموا إلى أعداء الجبار».
قال: وتعودك على الإصرار عن تداركه مع يقينك بنظر الحق إليك، انتهى.
أي: الشيء الثالث: أنه إذا أحس بالتعود عن تداركه مصرًّا مستمرًّا على الذنب ندم وجدَّ في التدارك وتلافى التقصير، وعزم على ترك المعاودة، وذلك لا يكون إلا إذا تيقن العبد بنظر الحق إليه عند المخالفة، وإلا كان كافرًا، ولا توبة للكافر، قال الربيع: سمعت الشافعي ينشد:
إذا ما خلوتَ الدهرَ يومًا فلا تَقُل خلوتُ ولكن قُل عليَّ رقيبُ
ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعةً ولا أنّ ما يخفى عليه يغيبُ
غفلنا لعمر الله حتى تداركت علينا ذنوبٌ بعدهنّ ذنوبُ
فيا ليتَ أن الله يغفر ما مضى ويأذن في توباتنا فنتوبُ
وقوله: ويأذن في توباتنا فنتوب، منتزع من قوله تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا}[التوبة: 118] الآية.
سئل أبو حفص عن التوبة فقال: ليس للعبد في التوبة شيء؛ لأن التوبة إليه لا منه، وقال رجل لرابعة: إني أكثرت من الذنوب، فلو تبت هل يتوب علي؟ فقالت: لا، بل لو تاب عليك لتبت.
فظهر بما ذكره الهروي من هذه الثلاثة أشياء أن مراده من معرفة الذنب معرفة لوازمه وما يوجب صحة عزمه في الرجوع عنه وترك العود إليه.
قلت: وكل واحد من هذه الأشياء الثلاثة مُقتضٍ لوجوب التوبة على الفور، وبذلك صرح أئمتنا، قال النووي في «الروضة» من زياداته: فالتوبة من المعاصي واجبة على الفور بالاتفاق.
وقال الشيخ عز الدين في «القواعد»[1/238]: والتوبة واجبة على الفور، فمن أخرها زمانًا يتسع لها صار عاصيًا بتأخيرها، وكذلك يتكرر عصيانه بتكرر الأزمنة المتسعة لها، فيحتاج إلى توبة من تأخيرها، وهذا جار في تأخير كل ما يجب تقديمه من الطاعات.
وقال الغزالي في «الإحياء»: بيان وجوب التوبة على الفور:
أما وجوبها على الفور يستراب فيه، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان، وهو واجب على الفور، والمتفصي وجوبه هو الذي عرفه معرفة زجره عن ذلك الفعل بأن هذه المعرفة ليست من علوم المكاشفات / التي لا تتعلق بعمل، بل من علوم المعاملة، وكل علم مراد ليكون باعثا على عمل، فلا يقع التفصي عن عهدته ما لم يصر باعثًا بالعلم بضرر الذنوب إنما أريد ليكون باعثًا على تركها، فمن لم يتركها فهو فاقد لهذا الجزء من الإيمان، وهو المراد بقوله صلعم: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» وما أراد به نفي الإيمان الذي يرجع إلى علوم المكاشفة كالعلم بالله ووحدانيته وصفاته وكتبه ورسله، فإن ذلك ينافيه الزنا والمعاصي، وإنما أراد به نفي الإيمان بكون الزنا مبعدًا عن الله موجبًا للمقت، كما إذا قال الطبيب: هذا سم فلا تتناوله، فإذا تناوله يقال: تناول وهو غير مؤمن، لا يعني أنه غير مؤمن بوجود الطبيب، وكونه طبيبًا وغير مصدق به، بل المراد أنه غير مصدق بقوله أنه سم مهلك، فإن العالم بالسم لا يتناوله أصلًا، فالعاصي بالضرورة ناقص الإيمان، وليس الإيمان بابًا واحدًا، بل هو نيف وسبعون بابًا أعلاها: شهادة أن لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. [خ¦2475]
ومثال ذلك قول القائل: ليس الإنسان موجودًا واحدًا، بل هو نيف وسبعون موجودًا أعلاها: القلب والجوارح والروح، وأدناها: إماطة الأذى عن البشرة، بأن يكون مقصوص الشارب مقلوم الأظفار نقي البشرة عن الخبث، حتى يتميز عن البهائم المرسلة الملوثة بأرواثها المستكرهة الصور بطول مخاليبها وأظلافها، وهذا مثال مطابق، فالإيمان كالإنسان، وفقد شهادة التوحيد توجب البطلان بالكلية لفقد الروح، والذي ليس له إلا شهادة التوحيد والرسالة كإنسان مقطوع الأطراف مفقوء العينين فاقد لجميع أعضائه الظاهرة والباطنة إلا أصل الروح، وكما أن من هذا حاله قريب من أن يموت فتزايله الروح الضعيفة المنفردة التي تخلفت عنها الأعضاء التي تخدمها وتقويها، فكذلك من ليس له إلا أصل الإيمان وهو مقصر عن الأعمال قريب من أن تنقطع شجرة إيمانه إذا صَدَمتها الرياح العاصفة المحركة للإيمان في مقدمة قدوم ملك الموت ووروده، فكل إيمان في اليقين أصله ولم تنتشر في الأعمال فروعه لم يثبت على عواصف الأهوال / عند ظهور ناصية ملك الموت، وخيف عليه سوء الخاتمة إلا إيمانًا سقي بماء الطاعات على توالي الأيام والساعات، حتى رسخ وثبت، وقول العاصي للمطيع: إني مؤمن كما أنك مؤمن، كقول شجرة القرع لشجرة الصنوبر: إني شجرة وأنت شجرة، وما أحسن جواب شجرة الصنوبر إذا قالت: ستعرفين اغترارك بشمول الاسم إذا عصفت رياح الخريف، فعند ذلك تنقلع أصولك وتتناثر أوراقك وتنكشف عروقك بالمشاركة في اسم الشجر مع الغفلة عن أسباب نبات الأشجار:
سوف ترى إذا انجلى الغبار أَفَرسٌ تَحتَكَ أم حمار
فهذا أمر يظهر عند الخاتمة، وإنما تقطعت نياط العارفين؛ خوفا من دواهي الموت ومقدماته الهائلة التي لا يثبت عليها إلا الأقلون، فالعاصي إذا كان لا يخاف الخلود في النار بسبب معصيته، كالصحيح المنهمك على الشهوات المضرة إذ كان لا يخاف الموت بسبب صحته، فإن الموت غالبًا لا يقع فجأة، فيقال: الصحيح يخاف المرض، ثم إذا مرض خاف الموت، فكذلك العاصي يخاف سوء الخاتمة، ثم إذا ختم له بالسوء وجب الخلود في النار، فالمعاصي للإيمان كالمأكولات المضرة للأبدان، فلا تزال تجتمع في الباطن مغيرة مزاج الأخلاط، وهو لا يشعر إلى أن يفسد المزاج فيمرض دفعة كما يموت دفعة، فكذلك المعاصي، فإن كان الخائف من الهلاك في هذه الدنيا المنقضية يجب عليه ترك السموم وما يضره من المأكولات في كل حال وعلى الفور، فالخائف من هلاك الأبد أولى بأن يجب عليه ذلك، وإن كان متناول السُّم إذا ندم يجب عليه أن يتقيأ ويرجع عن تناوله بإبطاله وإخراجه عن المعدة على سبيل الفور والمبادرة؛ تلافيًا لبدنه المشرف على هلاك لا يفوت عليه إلا هذه الدنيا الفانية، فمتناول سموم الدين _وهي: الذنوب_ أولى بأن يجب عليه الرجوع عنها بالتدارك الممكن ما دام يبقى للتدارك مهلة وهو العمر، فإن المخوف من هذا السم فوات الآخرة الباقية التي فيها النعيم المقيم والملك العظيم، وفي فواتها نار الجحيم، والعذاب الدائم التي تنصرم أضعاف أعمار الدنيا دون عُشرِ عُشَير مدته، إذ ليس / لمدتها آخر البتة، فالبدار البدار إلى التوبة قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملًا يجاوز الأمر فيه اختيار الأطباء ولا ينفع بعده الاحتماء، ولا ينجع بعد ذلك نصح الناصحين ووعظ الواعظين، وتحق الكلمة عليه وأنه من الهالكين، ويدخل تحت عموم قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ. وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ. وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}[يس: 8 - 10] ولا يغرنك لفظ الإيمان، فتقول: المراد به: الكافرون، إذ بين لك أن الإيمان بضع وسبعون بابا، وأن الزاني لا يزني وهو مؤمن، فالمحجوب عن الإيمان الذي هو شُعَبٌ وفروع سيحجب في الخاتمة عن الإيمان الذي هو أصل، كما أن الشخص الفاقد لجميع الأطراف التي هي فروع سيساق إلى الموت المعدم للروح التي هي أصل، فلا بقاء للأصل دون الفرع، ولا وجود للفرع دون الأصل، ولا فرق بين الفرع والأصل إلا في شيء واحد، وهو أن وجود الفرع وبقاءه جميعا يستدعي وجود الأصل، ولا يستدعي الأصل وجود الفرع، ولكن بقاؤه يستدعي وجود الفرع، فبقاء الأصل بالفرع ووجود الفرع بالأصل، فعلوم المكاشفة وعلوم المعاملة متلازمة كتلازم الفرع والأصل، فلا يستغني أحدهما عن الآخر وإن كان أحدهما في رتبة الأصل والآخر في رتبة التابع، وعلوم المعاملة إذا لم تكن باعثة على العمل فعدمها خير من وجودها، فإنها لم تعمل عملها التي تراد له، ثم قامت مؤكدة الحجة على صاحبها، ولذلك يزاد في عذاب العالم الفاجر على عذاب الجاهل الفاجر، هذا كلامه ☼(74) .
ويتفرع على وجوب فورية التوبة فروع:
منها: قالا في صوم التطوع، ولو شرع في صوم القضاء الواجب، فإن كان على الفور لم يجز الخروج منه وإلا فوجهان:
أحدهما: يجوز، قاله القفال وقطع به الغزالي وصاحب «التهذيب» وطائفة، وأصحهما: لا يجوز، وهو المنصوص في «الأم»، وبه قطع الروياني في «الحلية»، وهو مقتضى كلام الأكثرين؛ لأنه صار متلبسًا بالفرض ولا عذر، فلزمه إتمامه، كما لو شرع في الصلاة في / أول الوقت.
وأما صوم الكفارة فما لزم منه بسبب محرم فهو كالقضاء الذي على الفور، وما لزمه بسبب غير محرم كقتل الخطأ فكالقضاء الذي على التراخي، وكذا النذر المطلق، وهذا كله مبني على المذهب وهو انقسام القضاء إلى واجب على الفور وعلى التراخي، والأول ما تعدى فيه بالإفطار فيحرم تأخير قضائه.
قال في «التهذيب»: حتى يحرم عليه التأخير بعذر السفر.
وأما الثاني فما لم يتعد به كالفطر بالحيض والسفر والمرض، فقضاؤه على التراخي ما لم يحضر رمضان السنة المقبلة، وقال بعض أصحابنا العراقيين: القضاء على التراخي في المتعدي وغيره، انتهى.
ومنها قالا: يجب على مفسد الحج القضاء ...، ثم قالا: وفي وقت القضاء وجهان: أصحهما: على الفور، والثاني: على التراخي، ثم قالا: ذكرنا في كون القضاء على الفور وجهين.
قال القفال: هما جاريان في كل كفارة وجبت بعدوان؛ لأن الكفارة في وضع الشرع على التراخي كالحج والكفارة بلا عدوان على التراخي قطعًا، وأجرى الإمام الخلاف في المعتدي بترك الصوم، وقد سبق في كتاب الصوم انقسام قضاء الصوم إلى الفور وإلى التراخي.
قال الإمام: والمتعدي بترك الصلاة يلزمه قضاؤها على الفور بلا خلاف، وذكر غيره وجهين: أصحهما هذا، والثاني: على التراخي، وربما رجحه العراقيون، وأما غير المتعدي فالمذهب أنه لا يلزمه القضاء على الفور، وبهذا قطع الأصحاب.
وفي «التهذيب»: أنه يلزمه على الفور؛ لقوله صلعم: «فليُصلِّها إذا ذكرها»[م:684] انتهى.
وما ذكره في «التهذيب» مبني على اقتضاء الأمر الفور، والمرجح خلافه.
ومنها قالا في التفليس من قواعد الباب: أن المفلس لا يؤمر بتحصيل ما ليس بحاصل، ولا يمكن من تفويت ما هو حاصل، إلى أن قالا: وليس على المفلس أن يكتسب ويؤاجر نفسه ليصرف الكسب والأجرة في الديون أو بعضها، انتهى.
وخالف في المسألة أحمد مطلقًا ومالك في من اعتاد إجارة نفسه، لنا قوله تعالى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}[البقرة: 280] وقوله صلعم في حديث أبي سعيد لغرماء المصاب في ثمار ابتاعها: «خذوا / ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك»[م:1556].
نعم، قال الإمام أبو عبد الله الغزاوي من أئمتنا: لو كان قد عصى بسبب الدين كإتلافٍ عدوانًا، فعليه بعد القسمة أن يكتسب ما يوفي به ذلك؛ لأن التوبة واجبة على الفور، ومن شرطها: الخروج من الظُّلامة إلى غير ذلك من المسائل.
موعظة: قال ابن الجوزي: يا من يفرط في أعماله ويتكل على الشفاعة، رب أمل خاب ويحك كن رأسا بنفسك، فإن السبع لا يأكل إلا ما افترس، كل يوم تحضر فيه المجلس يقف لك الشيطان على الباب علمًا منه بضعف عزيمتك في التوبة، فإذا خرجت كما دخلت قال: فديت من لا يفلح، ويحك ما عندك من الإيمان إلا رَسمُه:
صَدٌّ وهَجرٌ وجَفَا ورَسْمُ دارٍ قد عَفَا
لم يبقَ إلا نفسٌ لولا التمنِّي لانْطَفا
قال الهروي: وشرائط التوبة ثلاثة أشياء انتهى. شرط الشيء ما يتوقف عليه وجوده، والتوبة تتوقف على هذه الأشياء الثلاثة، قال: الندم، هذا أولها أعني: الندم بالقلب، وهو معظم الثلاثة.
قال أبو داود الطيالسي في «مسنده»[381]: حدَّثنا زهير بن معاوية، عن عبد الكريم الجزري، عن زياد، وليس بابن أبي مريم عن عبد الله بن معقل قال: كنت مع أبي وأنا إلى جنبه عند عبد الله بن مسعود فقال له أبي: أسمعت رسول الله صلعم؟ فقال: نعم، سمعته يقول: «النَّدمُ تَوبة».
قال الإمام في «الإرشاد»: فإن قيل: حرَّروا عبارة في حقيقة التوبة على اصطلاحهم، قلنا: التوبة هي الندم على المعصية لأجل ما يجب الندم له، ثم الندم تلازمه صفات ليست منه عمومًا، وتلازمه صفات في بعض الأحوال دون بعض.
فأما الصفات التي تلازم التوبة أبدًا فمنها: الحزن والغم على ما تقدم من الإخلال بحق الله تعالى، إذ من المحال أن يثبت الندم دون ذلك، والفرح المسرور بما فرط منه لا يندم عليه، ومما يقارنه تمني عدم ما كان فيما مضى، وكل نادم على فعل فيجب اتصافه بتمني عدمه فيما مضى، وأما ما يقارن التوبة في بعض / الأحوال فالعزم على ترك معاودة ما ندم المكلف عليه، وذلك لا يطرد في كل حال، إذ إنما يصح العزم من متمكن من فعل ما قدمه، ولا يصح من المجبوب العزم على ترك الزنا، ولا من الأخرس العزم على ترك قذف المحصنات، ولئن صدر الندم من متمكن من مثل ما ندم عليه فلا بد أن يقارن ندمه العزم على ترك معاودته، إذ من المستحيل أن يكون موطنًا نفسه على معاودة ما ندم على تقديمه رعاية لحق الله تعالى.
فإن قيل: لم قلتم إن التوبة هي الندم؟ قلنا: لأنه الثابت الذي لا يزول في التوبة، وما عداه يتزايد ويختلف، ومنه ما يثبت تارة وينتفي أخرى، وقد قال رسول الله صلعم: «الندم توبة» فلزمنا ذلك لمسايقته الخبر وموافقته الأثر.
فإن قيل: لم لا يجوز أن يسمى ترك المعصية توبة من غير ندم؟ قلنا: هذا مما يأباه الشرع، فإن الماجن إذ مل مجونه واستروح إلى بعض المباحات غير نادم على فارط الزلات فكان على عزم معاودتها، فهذا يسمى تاركًا للزلة ولا يسمى تائبًا عنها، فهذه حقيقة التوبة وصفتها وذكر ما يلازمها من الصفات عمومًا وما يلازمها في بعض الأحوال.
فإن قيل: ما معنى قولكم: التوبة ندم لأجل ما وجب له؟ قلنا: هذا التقييد لا بد منه، فإن من فارق سيئة وندم عليها لإضرارها به وإنهاكها قواه فهو نادم غير تائب، وإنما التوبة الشرعية الندم على ما فات من رعاية حق الله تعالى، انتهى.
وقال الغزالي(75): اعلم أن التوبة عبارة عن معنى ينتظم ويلتئم في ثلاثة أمور مترتبة: علم وحال وفعل.
فالعلم أول، والحال ثان، والفعل ثالث، والأول موجب للثاني، والثاني موجب للثالث إيجابًا اقتضاه سنة الله في الملك والملكوت، أما العلم فهو معرفة عظم ضرر الذنب وكونه حجابًا بين العبد وبين كل محبوب، فإذا عرف ذلك معرفة متحققة بيقين غالب على قلبه ثار من هذه المعرفة تألم للقلب بسبب فوات المحبوب، فإن القلب مهما شعر بفوات لمحبوبه تألم، فإن كان فواته بفعله تأسف على الفعل المفوت / سمي تألمه بسبب فعله المفوت لمحبوبه ندمًا، فإذا غلب هذا الألم على القلب واستولى، انبعث من هذا الألم في القلب حالة أخرى تسمى إرادة، وقصدًا إلى فعل له تعلق بالحال وبالماضي والاستقبال.
أما تعلقه بالحال فبالترك للذنب الذي كان ملابسًا، وأما بالاستقبال فبالعزم على ترك الذنب المفوت للمحبوب إلى آخر العمر، وأما في الماضي فبتلافي ما فات بالجبر والقضاء، إن كان قابلًا للجبر.
فالعلم هو الأول وهو مطلع هذه الخيرات، وأعني بهذا العلم: الإيمان واليقين، فإن الإيمان عبارة عن التصديق، فإن الذنوب سموم مهلكة، واليقين عبارة عن تأكد هذا التصديق وانتفاء الشك عنه واستيلائه على القلب، فيعم نور هذا الإيمان، ومهما أشرق على القلب نار الندم فيتألم به القلب حتى يبصر بإشراق نور الإيمان أنه محجوب عن محبوبه كمن يُشرق عليه نور الشمس، وقد كان في ظلمة فطلع النور عليه بانقشاع سحاب وانحسار حجاب، فرأى محبوبه قد أشرف على الهلاك، فتشتعل نيران الحب في قلبه، فتنبعث بتلك النيران إرادته للانتهاض للتدارك، فالعلم والندم والقصد المتعلق بالترك في الحال والاستقبال والتلافي للماضي ثلاثة معان مترتبة في الحصول، يطلق اسم التوبة على مجموعها، وكثيرًا ما يطلق اسم التوبة على معنى الندم وحده، ويجعل العلم كالسابق والمقدمة والترك كالثمرة والتابع المتأخر.
وبهذا الاعتبار قال عليه الصلاة والسلام: «الندم توبة». إذ لا يخلو الندم عن علم أوجبه وأثمره، وعن عزم يتبعه ويتلوه، فيكون الندم توبة محفوفًا بطرفيه أعني: ثمرته ومثمره، وبهذا الاعتبار قيل في حد التوبة: ذوبان الحشا لما سبق من الخطأ، فإن هذا معرض لمجرد الألم، وكذلك قيل: هي نار في القلب تتلهب، وصدع في الكبد يتشعب، وباعتبار معنى الترك قيل في حد التوبة: أنه خلع لباس الجفاء ونشر بساط الوفاء.
وقال سهل التستري في «التوبة»: تبديل الحركات المذمومة بالحركات المحمودة، ولا يتم ذلك إلا بالخلوة والصمت، / وأقل الحلال، فكأنه أشار إلى المعنى الثالث في التوبة، والأقاويل في حدود التوبة لا تنحصر، وإذا فهمت المعاني الثلاثة وتأليفها وترتيبها عرفت أن جميع ما قيل في حدودها قاصر عن الإحاطة بجميع معانيها، وطلب العلم بحقائق الأمور أهم من طلب الألفاظ المجردة، انتهى.
وقال الأستاذ في «الرسالة»: وقال صلعم: «الندم توبة»، فأرباب الأصول من أهل السنة قالوا: لا يتم شرط التوبة حتى تصح ثلاثة أشياء: الندم على ما عمل من المخالفات، وترك الزلة في الحال، والعزم على أن لا يعود إلى ما عمل من المعاصي، فهذه الأركان لا بد منها حتى تصح توبته.
قال هؤلاء: وما في الخبر أن الندم توبة إنما نص على معظمه كما قال: «الحج عرفة»(76) أي: معظم أركانه عرفة؛ أي: الوقوف بها، لا أنه لا ركن في الحج سوى الوقوف بعرفة، ولكن معظم أركانه الوقوف، كذلك قوله: «الندم توبة»؛ أي: معظم أركانها الندم، ومن أهل التحقيق من قال: يكفي الندم في تحقيق ذلك؛ لأن الندم يستتبع الركنين الآخرين، فإنه يستحيل بتوبة أن يكون نادمًا على ما هو مصر على مثله، أو عازم على الإتيان بمثله، انتهى.
وقال الشيخ عز الدين في «القواعد»[1/237]: ومن أعمال القلوب: التوبة، ولها ثلاثة أركان: أحدها: الندم على المعصية، والثاني: العزم على أن لا يعود في الاستقبال، والثالث: الإقلاع عن تلك المعصية في الحال، فهذه مركَّبة من ثلاثة أركان: العزم والندم والإقلاع، وقد تكون التوبة لمجرد الندم في حق من عجز عن العزم، إلى آخر كلامه السابق في الكلام على قوله صلعم في حديث شدّاد: «وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت» وستأتي عبارة الشيخين قريبًا إن شاء الله. [خ¦6306]
قال الهروي: والاعتذار هذا هو الشيء الثاني، وهو الاعتذار باللسان بكثرة الاستغفار.
قال في «الإحياء»[4/46]: بيان ما ينبغي أن يبادر إليه التائب إن جرى عليه ذنب، إما عن قصد وشهوة غالبة، أو عن إلمام بحكم الاتفاق:
اعلم أن الواجب عليه التوبة والندم والاشتغال بالتفكر في كل حسنة تضاد كل ذنب من ذنوبه، فإن لم تساعده النفس على العزم على الترك لغلبة الشهوة / فقد عجز عن الوجهين، فلا ينبغي أن يترك الواجب الثالث، وهو أن يدرأ بالحسنة السيئة فيمحوها، فيكون كمن خلط عملًا صالحًا وآخر سيئًا، والحسنات المكفرة للسيئات، إما بالقلب وإما باللسان وإما بالجوارح، ولتكن الحسنة في محل السيئة وفي ما يتعلق بأسبابها، فأما بالقلب فتفكره بالتضرع إلى الله تعالى في سؤال المغفرة، ويتذلل تذلل العبد الآبق، ويكون ذلك بحيث يظهر لسائر العباد، وذلك بنقصان كبر فيما بينهم، فما للعبد الآبق المذنب وجه للتكبر على سائر العباد، ولذلك تظهر عليه الخيرات للمسلمين والعزم على الطاعات، وأما باللسان فبالاعتراف بالظلم والاستغفار فيقول: رب ظلمت نفسي وعملت سوءا فاغفر لي ذنوبي، وكذلك يكثر من ضروب الاستغفار.
وأما بالجوارح فبالطاعات والصدقات وأنواع العبادات، وفي الآثار ما يدل على أن الذنب إذا أتبع بثمانية أعمال فإن العفو مرجو أربعة من القلوب، وهي التوبة أو العزم على التوبة، وحب الإقلاع عنه وخوف العقاب عليه ورجاء المغفرة له، وأربعة من أعمال الجوارح وهي: أن يصلي عقيب الذنب ركعتين، ثم يستغفر الله بعده سبعين مرة، ويقول: سبحان الله العظيم وبحمده مئة مرة، ثم يتصدق صدقة، ثم يصوم يومًا، وفي بعض الآثار: يسبغ الوضوء ويدخل المسجد ويصلي ركعتين، وفي بعض الأخبار: يصلي أربع ركعات، وفي الخبر: «إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تكفرها، السر بالسر والعلانية بالعلانية(149») ولذلك قيل: صدقة السر تكفر ذنوب الليل، وصدقة الجهر تكفر ذنوب النهار.
وفي الخبر أن رجلًا قال لرسول الله صلعم: إني عالجت امرأة، فأصبت منها كل شيء إلا المسيس، فاقض عليَّ بحكم الله، فقال صلعم: «أوما صليت معنا صلاة الغداة» فقال: بلى فقال: «إن الحسنات يذهبن السيئات»(77) وهذا يدل على أن ما دون الزنا من معالجة النساء صغيرة، إذ جعل الصلاة كفارة له، فعلى الأحوال كلها ينبغي أن يحاسب نفسه كل يوم، ويجمع سيئاته ويجتهد / في دفعها بالحسنات.
فإن قلت: فكيف يكون الاستغفار نافعًا من غير حل عقدة الإصرار، وفي الخبر: «المستغفر من الذنب وهو مصر عليه كالمستهزئ بآيات الله تعالى»(78) ، وكان بعضهم يقول: أستغفر الله من قولي أستغفر الله، وقيل: الاستغفار باللسان توبة الكذابين، وقالت رابعة العدوية: استغفارنا يحتاج إلى استغفار.
فاعلم أنه قد ورد في فضل الاستغفار أخبار خارجة عن الحصر، حتى قرن الله الاستغفار ببقاء الرسول صلعم فقال: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }[الأنفال: 33]، فكان بعض الصحابة يقول: لنا أمانان: أحدهما: كون الرسول بيننا، والثاني: الاستغفار، فقد ذهب الرسول صلعم وبقي الاستغفار، فإن ذهب هلكنا فنقول: الاستغفار الذي هو توبة الكذابين هو الاستغفار بمجرد اللسان من غير أن يكون للقلب فيه شركة، كما يقول الإنسان بحكم العادة وعن رأس الغفلة: أستغفر الله، وكما يقول إذا سمع صفة النار: أعوذ بالله، من غير أن يتأثر به قلبه، وهذا يرجع إلى مجرد حركة اللسان ولا جدوى له، فأما إذا انضاف إليه تضرع القلب إلى الله تعالى وابتهاله في سؤال المغفرة عن صدق إرادة وخلوص رغبة، فهذه حسنة في نفسها، فتصلح لأن يدفع بها السيئة، وعلى هذا تحمل الأخبار الواردة في فضل الاستغفار، حتى قال صلعم: «ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة»(79) وهو عبارة عن الاستغفار بالقلب.
وللتوبة والاستغفار درجات وأوائلها لا يخلو عن الفائدة وإن لم ينته إلى أواخرها، ولذلك قال سهل: لا بد للعبد في كل حال من أحواله أن يرجع إليه في كل شيء، وساق كلامه الذي أسلفناه، ثم قال: وسئل أيضًا عن قوله صلعم: «التائب حبيب الله» فقال: إنما يكون حبيبًا إذا كان فيه جميع ما ذكر في قوله: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ} الآية[التوبة: 112]، وقال: الحبيب هو الذي لا يدخل في ما يكرهه حبيبه، والمقصود أن التوبة بابان ثم باب: إحداهما: تكفيره السيئات حتى يصير كمن لا ذنب له، والثاني: قيل: / الدرجات حتى يصير حبيبًا.
والتكفير أيضًا درجات، فبعضها محو لأصل الذنب بالكلية، وبعضها تخفيف له، وتفاوت ذلك بتفاوت درجات التوبة والاستغفار بالقلب، والتدارك بالحسنات وإن خلا عن حل عقدة الإصرار من أوائل الدرجات فليس يخلو عن الفائدة أصلًا، فلا ينبغي أن يظن أن وجوده كعدمه، بل عرف أهل المشاهدة وأرباب القلوب أن قول الله تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ}[الزلزلة: 7] صدق، وأنه لا تخلو ذرة من الخير عن أثر، كما لا تخلو شعيرة تطرح في الميزان عن أثر، ولو خلت الشعيرة الأولى عن أثر لكانت الثانية مثلها، ولكان لا يترجح الميزان بإجماله، وذلك بالضرورة محال، بل ميزان الحسنات يرجح بذرات الخيرات إلى أن يثقل، فتشيل كفة السيئات، فإياك أن تستصغر ذرات الطاعات فلا تأتيها، وذرات المعاصي فلا تنفيها، فالمرأة الخرقاء تكسل عن الغزل تعليلًا بأنها لا تقدر على المغزل في كل ساعة إلا على خيط واحد، وأي عناء يحصل بخيط، وما وقع ذلك في الثياب، وما تدري المعتوهة أن ثياب الدنيا اجتمعت خيطًا خيطًا، وأن أجسام العالم مع اتساع أقطاره اجتمعت ذرةً ذرةً، فإذًا التضرع والاستغفار بالقلب حسنة لا تضيع عند الله أصلًا.
بل أقول: الاستغفار باللسان أيضًا حسنة أو حركة اللسان به عن غفلة خير من حركة اللسان في ثلاث ساعات بغيبة مسلم أو فضول كلام، بل هو خير من السكوت عنه ويظهر فضله بالإضافة إلى السكوت عنه، وإنما يكون نقصانًا بالإضافة إلى عمل القلب، ولذلك قال بعضهم لشيخه أبي عثمان المقرئ: إن لساني في بعض الأحوال يجري بالذكر والقرآن وقلبي غافل، فقال: اشكر الله، إذ يستعمل جارحة من جوارحك في خير وعوَّده الذكر ولم يستعمله في الشر ولم يعوده الفضول.
وما ذكره حق، فإن تعود الجوارح للخيرات حتى يصير لها ذلك كالطبع يدفع جملة من المعاصي كمن يعود لسانه الاستغفار إذا سمع من غيره كذبًا سبق لسانه إلى ما تعوَّدَ فقال: / أستغفر الله، ومن تعود الفضول سبق لسانه إلى أن يقول: ما أحمقك وما أقبح كذبك، ومن تَعوَّد الاستعاذة إذا حدث بظهور منادي الشر من شرير قال بحكم سبق اللسان نعوذ بالله، وإذا تَعوَّد الفضول قال: لعنه الله، فيعصي في إحدى الكلمتين ويسلم في الأخرى؛ لأنه آثر اعتياد لسانه الخير، وهو من جملة معاني قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[التوبة: 120] ومعاني قوله تعالى: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا}[النساء: 40]، فانظر كيف ضاعفها، إذ فضل الاستغفار في الغفلة عادة اللسان، حتى رفع بتلك العادة شر العصيان بالغيبة واللعن والفضول، هذا تضعيف في الدنيا لأدنى الطاعات وتضعيف الآخرة أكثر لو كانوا يعلمون، فإياك أن تتلمح في الطاعات مجرد الآفات فتفتر رغبتك في العبادات، فإن هذه مكيدة رَوَّجَها الشيطانُ بلعبته على المغرورين، وخيل إليهم أنكم أرباب البصائر وأهل التفطن للخفايا والسرائر، فأي خير في ذكر اللسان مع غفلة القلب، فانقسم الخلق في هذه المكيدة إلى ثلاثة أقسام: ظالم لنفسه ومقتصد وسابق.
أما السابق فقال: صدقت يا ملعون، ولكن هي كلمة حق أردت بها باطلًا، فلا جرم أعذبك مرتين وأرغم أنفك من وجهين، فأضيف إلى حركة اللسان حركة القلب، فكان كالذي داوى جرح الشيطان بنثر الملح عليه.
وأما الظالم المغرور فاستشعر في نفسه خيلاء الفطنة بهذه الدقيقة، ثم عجز عن الإخلاص بالقلب فترك مع ذلك تغريد اللسان بالذكر، فأسعف الشيطان وتدلى بحبل غروره، فتمت بينهما المشاكلة والموافقة كما يقال: وافَقَ شَنٌّ طَبقه، وافقه فاعتنقه.
وأما المقتصد فلم يقدر على إرغامه بإشراك القلب في العمل، وتفطن لنقصان حركة اللسان بالإضافة إلى القلب، ولكن نظر إلى كماله بالإضافة إلى السكوت والفضول، فاستمر عليه، وسأل الله تعالى أن يشرك القلب مع اللسان في اعتياد الخير، فكان السابق كالحائك ذمت حياكته فتركها وأصبح كاتبًا، والظالم المتخلف ترك الحياكة وأصبح كياسًا، والمقتصد كالذي / عجز عن الكتابة فقال: لا أنكر مذمة الحياكة، ولكن الحائك مذموم بالإضافة إلى الكاتب لا بالإضافة إلى الكياس، فإن عجزت عن الكتابة فلا تترك الحياكة.
قالت رابعة العدوية: استغفارنا يحتاج إلى استغفار، فلا تظن أنها تذم حركة اللسان من حيث إنه ذكر الله تعالى، بل تذم غفلة القلب، فهو يحتاج إلى الاستغفار من غفلة قلبه لا من قوله بلسانه، فإن سكت عن الاستغفار باللسان أيضًا احتاج إلى استغفارين لا إلى استغفار واحد، فهكذا ينبغي أن تفهم ذم ما تذم وحمد ما تحمد، وإلا جهلت يعني ما قال القائل الصادق: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فإن هذه أمور تثبت بالإضافة، فلا ينبغي أن تؤخذ من غير إضافة، بل ينبغي أن لا تستحقر ذرات الطاعات والمعاصي، ولذلك قال جعفر الصادق: إن الله تعالى خبأ ثلاثًا في ثلاث: رضاه في طاعته فلا تحقروا منها شيئًا فلعل رضاه فيه، وغضبه في معاصيه فلا تحقروا منها شيئًا فلعل غضبه فيه، وخبأ أولياءه في عباده فلا تحقروا منهم أحدًا فلعله ولي الله، انتهى كلام الغزالي ☼(80) .
وقال الأستاذ في «الرسالة»: واعلم أن الله تعالى قال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[البقرة: 222] ومن فارق الزلة فهو من خطائه على يقين، فإذا تاب فإنه من القبول على شك لا سيما إذا كان من شرطه، وحقه أن يكون مستحقا لمحبة الحق، وإلى أن يبلغ العاصي محلا يجد في أوصافه أمارة محبة الله مسافة بعيدة، فالواجب إذًا على العبد إذا علم أنه ارتكب ما يجب عنه التوبة دوام الانكسار وملازمة التنصل والاستغفار، كما قالوا: استشعار الوجل إلى الأجل، وقال ╡: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ}[آل عمران: 31] وكان من شيمه عليه الصلاة والسلام دوام الاستغفار قال صلعم: «إنه ليغان على قلبي حتى أستغفر الله في اليوم سبعين مرة» انتهى.
تنبيه: عد الهروي الاعتذار شرطًا مقالة المشهور خلافها، قال أبو الحسن السبكي: قال بعض العلماء: إنه لا بد مع التوبة من الاستغفار لقوله تعالى: / {وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ}[هود: 3]، والمشهور أن ذلك ليس بشرط في التوبة، وقال بعضهم: إن الاعتراف بالذنب شرط؛ لقوله صلعم: «فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه»[خ¦2661].
والمشهور أن ذلك ليس بشرط، وإنما الواجب الثلاثة التي ذكرها الفقهاء: الندم والإقلاع والعزم على أن لا يعود وإن كان حق آدمي كالخروج عنه، فهذه الأربعة لا بد منها والأصل الندم، ولهذا جاء في الحديث: «الندم توبة»(81) ، انتهى.
قال الهروي: والإقلاع هذا هو الثالث، والمراد الإقلاع بالجوارح، وهو الكف عن الأذى والذنب حتى ينخرط في سلك الرجوع عنه بالكلية وإلا لم تصح توبته، قال السبكي: واشتراط الإقلاع إنما هو من معصية تدوم، أما المعصية التي لا تدوم فلا يشترط في التوبة عنها إلا الندم والعزم على أن لا يعود.
تنبيهات:
أحدها: قالا: قال الأصحاب: التوبة تنقسم إلى توبة بين العبد وبين الله، وهي التي يسقط بها الإثم، وإلى توبة في الظاهر وهي التي يتعلق بها عود الشهادة والولايات، أما الأولى فهو أن يندم على ما فعل ويترك فعله في الحال ويعزم أن لا يعود إليه، ثم إن كانت المعصية لا يتعلق بها حق مالي لله تعالى ولا للعباد كقُبلة الأجنبية ومباشرتها في ما دون الفَرج فلا ينبني عليه سوى ذلك، وإن تعلق بها حق مالي كمنع الزكاة والغَصْب والجنايات في أموال الناس وجب مع ذلك تبرئة الذمة عنه بأن تؤدّى الزكاة، وتُرد أموال الناس إن بقيت، ويَغرمَ بدلها إن لم تبق، ويستحلّ المستحق فيبرئه، ويجب أن يعلم المستحق إن لم يعلم به وأن يوصله إليه إن كان غائبًا إن كان غصبه منه هناك، فإن مات سلمه إلى وارثه، فإن لم يكن له وارث وانقطع خبره دفعه إلى قاض ترضى سيرته وديانته، فإن تعذر تصدق به على الفقراء بنية الغرامة له إن وجده، ذكره العبادي في الرقم، والغزالي في غير كتبه الفقهية وإن كان معسرًا نرى الغرامة إذا قدر، فإن مات قبل القدرة / فالمرجو من فضل الله تعالى المغفرة.
زاد في «الروضة»[11/272] قلت: ظواهر السنة الصحيحة تقتضي ثبوت المطالبة بالظلامة وإن مات معسرًا عاجزًا إذا كان عاصيا بالتزامها، فأما إذا استدان في موضع يباح له الاستدانة واستمر عجزه عن الوفاء حتى مات أو أتلف شيئًا خطأ وعجز عن غرامته حتى مات، فالظاهر أن هذا لا مطالبة في حقه في الآخرة، إذ لا معصية منه، والمرجو من الله تعالى أن يعوض صاحب الحق، وقد أشار إلى هذا إمام الحرمين في أول كتاب النكاح، وتباح الاستدانة لحاجة في غير معصية ولا سرف إذا كان يرجو الوفاء من جهة أو سبب ظاهر، والله أعلم.
وإن تعلق بالمعصية حق ليس بمالي كأن كان حدًّا لله تعالى بأن زنا أو شرب، فإن لم يظهر عليه فله أن يقر به ليقام عليه الحد، ويجوز أن يستر على نفسه وهو الأفضل، وإن ظهر فقد فات الستر فيأتي الإمام ليقيم عليه الحد.
قال ابن الصباغ: إلا إذا تقادم عليه العهد، وقلنا: يسقط الحد وإن كان حقا للعباد كالقصاص وحد القذف، فيأتي المستحق ويمكنه من الاستيفاء، فإن لم يعلم المستحق وجب في القصاص أن يعلمه، فيقول: أنا الذي قتلت أباك ولَزِمَني القِصاص، فإن شئتَ فاقتص وإن شئت فاعف، وفي حد القذف سبق في كتاب اللعان خلاف في وجوب إعلامه.
وقطع العبادي وغيره هنا بأنه يجب إعلامه كالقصاص، وأما الغيبة إذا لم تبلغ المغتاب فرأيت في منادي الحناطي أنه يكفيه الندم والاستغفار، فإن بلغته أو طرد طارد قياس القصاص، والقذف فيها بالطريق أن يأتي المغتاب ويستحل منه، فإن تعذر لموته أو تعسر لمغيبته البعيدة استغفر الله تعالى، ولا اعتبار بتحليل الورثة، هكذا ذكره الحناطي وغيره.
قال العبادي: والحسد كالغيبة، وهو أن يهوى زوال نعمة الغير ويسر بنكبته، فيأتي المحسود ويخبره بما أضره ويستحله، ويسأل الله تعالى أن يزيل عنه / هذه الخصلة، وفي وجوب الإخبار عن مجرد الإضمار بعد زاد.
قلت: المختار، بل الصواب أنه لا يجب إخبار المحسود، بل لا يستحب، ولو قيل: يكره لم يبعد.
وهل يكفي الاستحلال من الغيبة المجهولة، أو يشترط تعريفها للمغتاب؟ فيه وجهان سَبَقا في كتاب الصلح، والله أعلم.
فرع: لو قصر فيما عليه من دين ومظلمة ومات المستحق واستحقه وارث بعد وارث ولم يُوَفِّهم ممن يستحق المطالبة به في الآخرة فيه أوجه: أرجحها وبه أفتى الحناطي أنه صاحب الحق أولا، والثاني: أنه آخر من مات من ورثته أو ورثة ذريته وإن نزلوا، والثالث ذكره العبادي في «الرقم» أنه يكتب الأجر لكل وارث مدة حياته، ثم من بعده لمن بعده، ولو دفع إلى بعض الوارثين عند انتهاء الاستحقاق خرج عن مَظلمةِ الجميع إلا ما سوف وماطل.
وأما التوبة في الظاهر، فالمعاصي تنقسم إلى: فعلية وقولية، أما الفعلية: فالزنا والسرقة والشرب، فإظهار التوبة فيها لا يكفي في قبول الشهادة وعود الولاية، بل يختبر مدة يغلب على الظن فيها أنه قد أصلح عمله وسريرته وأنه صادق في توبته، وفي تقدير هذه المدة أوجه:
الأكثرون أنها: سنة، والثاني: ستة أشهر، ونسبوه إلى النص، والثالث: لا يتقدر بمدة، إنما المعتبر حصول غلبة الظن بصدقه، ويختلف ذلك بالأشخاص وأمارات الصدق، وهذا اختيار الإمام والعبادي والغزالي.
وأما القولية فمنها: القذف، ويشترط في التوبة منه القول، كما أن التوبة في الردة تكافئ الشهادة.
قال الشافعي: التوبة منه إكذابه نفسه، فأخذ الإصطخري بظاهره، وشرط أن يقول: كذبت في ما قذفته ولا أعود إلى مثله، وقال الجمهور: لا يكلف أن يقول: كذبت، فربما كان صادقًا، فكيف نأمره بالكذب؟ ولكن يقول: القذف باطل، وأنا نادم على ما فعلت ولا أعود إليه، أو يقول: ما كنت محقا في قذفي وقد تبت منه ونحو ذلك، وسواء في هذا القذف على سبيل السب والإيذاء والقذف على صورة الشهادة إذا لم يتم عدد الشهود إن / قلنا بوجوب الحد على من شهد، فإن لم نوجب فلا حاجة بالشاهد إلى التوبة، ويشبه أن يشترط في هذا الإكذاب كونه عند القاضي، ثم إذا تاب بالقول فهل يستبرئ المدة المذكورة إذا كان عدلًا قبل القذف ينظر، إن كان القذف على صورة الشهادة لم يشترط على المذهب، وإن كان قذف سب وإيذاء اشترط على المذهب.
واعلم أن اشتراط التوبة بالقول في القذف وإلحاقه بالردة ضعيف، فإن اشتراط كلمتي الشهادة مطرد في الردة القولية والفعلية، كإلقاء المصحف في القاذورات، ثم يقتضي ما ذكره في القذف أن يشترط التوبة بالقول في سائر المعاصي القولية كشهادة الزور والغيبة والنميمة، وقد صرح صاحب «المهذب» بذلك في شهادة الزور، فقال: التوبة منها أن يقول: كذبت في ما نقلت ولا أعود إلى مثله.
فصل
لو قذف وأتى ببينة على زنا المقذوف فوجهان حكاهما الإمام: أحدهما: لا تقبل شهادته؛ لأنه ليس له أن يقذف ثم يقيم البينة، بل كان ينبغي أن يجيء مجيء الشهود، والأصح القبول؛ لأن صدقه قد تحقق بالبينة، وكذا الحكم لو اعترف المقذوف، وكذا لو قذف زوجته ولاعن وسواء في رد الشهادة وكيفية التوبة قذف محصنا أو غيره، حتى لو قذف عبد نفسه رُدَّت شهادته ويكفي تحريم القذف سببا للرد، وشاهد الزور يستبرأ كسائر الفسقة، فإذا ظهر صلاحه قُبلت شهادته في غير تلك الواقعة، ومن غلط في شهادة لا يشترط استبراؤه، وتقبل شهادته في غير واقعة الغلط ولا تقبل فيها(82) ، انتهى.
قوله: ثم إذا كانت المعصية لا يتعلق بها حق مالي ولا للعباد كقُبلة الأجنبية إلى آخره، فيه كلام سنعرفه في حد الزنا إن شاء الله.
ومن جملة أمثلة ذلك قالا: ومتى جامع في الحيض متعمدًا عالمًا بالتحريم فقولان: المشهور الجديد: لا غرم عليه، بل يستغفر ويتوب، لكن يستحب أن يتصدق بدينار إن جامع في إقبال الدم، وبنصف دينار إن جامع في إدباره، والقديم تلزمه غرامة، وفيها قولان: المشهور منهما ما قدمنا استحبابه في / الجديد، والثاني: عتق رقبة بكل حال(83) .
ومن ذلك قالا في الكلام على ما لو جبر عظمه بعظم نجس ما نصه: ومداواة الجرح بالدواء النجس وخياطته بخيط نجس كالوصل بعظم نجس فيجب النزع حيث يجب نزع العظم، وكذا لو شق موضعًا من بدنه وجعل فيه دمًا، وكذا لو وشم يده بالعظام أو غيرها، فإنه ينجس عند الغرز، وفي تعليق الفراء: أنه يزال الوشم بالعلاج، فإن لم يمكن إلا بالجرح لا يجرح، ولا إثم عليه بعد التوبة(84) .
ومن ذلك قالا: لا يتعرض لصيد حرم المدينة وشجره، وهو حرام على المذهب، وحكي قول أو وجه أنه مكروه، فإذا حرمناه ففي الضمان قولان: الجديد لا يضمن، والقديم يضمن، وفي ضمانه وجهان: أحدهما: كحرم مكة، وأصحهما: أَخذُ سَلَبِ الصائد وقاطع الشجر(85) .
ومن ذلك قالا: إذا قال: إن فعلت كذا فإما يهودي أو نصراني أو بريء من الله أو من رسوله صلعم أو من الإسلام أو من الكعبة أو مستحل للخمر أو الميتة لم يكن يمينًا ولا كفارة في الحنث به، ثم إن قصد بذلك تبعيد نفسه عنه لم يكفر، وإن قصد به الرضا بذلك، وما في معناه إذا فعله فهو كافر في الحال، زاد في «الروضة»[11/8] قلت: قال الأصحاب: وإذا لم يكفر في الصورة الأولى فليقل: لا إله إلا الله محمد رسول الله ويستغفر الله، ويستدل له بما ثبت في «الصحيحين» أن رسول الله صلعم قال: «مَن حلفَ فقال في حَلِفه: باللَّات والعُزَّى فليقل: لا إله إلا الله» ويستحب أيضًا لكل من تكلم بقبيح أن يستغفر الله تعالى، وتجب التوبة من كل كلام محرم، انتهى. [خ¦4860، م:1647]
وقوله: فلا ينبني عليه سوى ذلك؛ أي: الندم والترك والعزم مطلق، والمراد به مع ضميمةِ تدارك ما يجب تداركه، وقد أوضح ذلك الغزالي في «الإحياء»[4/34] فقال: قد ذكرنا أن التوبة عبارة عن ندم يورث عزمًا وقصدًا، وذلك الندم أورثه العلم بكون المعاصي حائلًا بينه وبين محبوبه، ولكل واحد من العلم والعزم دوام وتمام، ولتمامهما علامة ولدوامهما شرط، أما العلم فالنظر فيه نظر في سبب التوبة، وأما الندم فهو تَوجُّع القلب عند شعوره بفوات المحبوب، وعلامته طول الحسرة والحزن / وانسكاب الدمع وطول البكاء، فمن استشعر عقوبةً نازلةً مؤكدةً أو ببعض أعزته كثر على ذلك حزنه وبكاؤه، وأي عزيز أعز عليه من نفسه، وأي عقوبة أشد عليه من النار، وأي سبب أدل على نزول العقوبة من المعاصي، وأي مخبر أصدق من الله تعالى ورسوله صلعم، ولو حدَّثه إنسان واحد يسمى طبيبًا أنَّ مرض ولده لا يبرأ وأنه سيموت طال في الحال حزنه، فليس ولده بأعز من نفسه، ولا الطبيب بأعلم ولا أصدق من الله تعالى ورسوله صلعم، ولا الموت بأشد من النار، ولا المرض بأدل على الموت من المعاصي على سخط الله تعالى والتعرض بها للنار.
فألم الندم كلما كان أشد كان تكفير الذنوب به أرجى، فعلامة صحة الندم رقة القلب وغزارة الدمع، وفي الخبر: «جالسوا التوابين، فإنهم أرق أفئدة»(86).
ومن علاماته أن تتمكن مرارة تلك الذنوب من قلبه بدلًا من حلاوتها، فتستبدل بالميل كراهية وبالرغبة نفرة، وفي الإسرائيليات: أن الله سبحانه قال لبعض أنبيائه وقد سأله قبول توبة عبد بعد أن اجتهد سنين في العبادة ولم ير قبول توبته فقال: وَعِزَّتي، لو شفع فيه أهل السماوات والأرض ما قبلت توبته، وحلاوة ذلك الذنب الذي تاب منه في قلبه.
فإن قلت: فالذنوب هي أعمال مشتهاة بالطبع، فكيف يجد مرارتها؟
فأقول: من تناول عسلًا كان فيه سم ولم يدركه بالذوق فاستلذه ثم مرض وطال ألمه وتناثر شعره وفلجت أعضاؤه، فإذا قدم إليه عسل فيه مثل ذلك السم وهو في غاية الجوع والشهوة للحلاوة، فهل يَنفرُ بنفسه عن ذلك العسل أم لا؟ فإن قلت: لا، فهو جحد للضرورة المشاهدة، بل ربما ينفر عن العسل الذي ليس فيه سم أيضًا لشبهه به، فوجدان التائب مرارة الذنب كذلك، وذلك لعلمه بأن كل ذنب تذوقه ذوق العسل وعمله عمل السم، ولا تصح التوبة ولا تصدق إلا بمثل هذا الإيمان، ولما عزَّ مثل هذا الإيمان عزَّت التوبة والتائبون، فلا يرى إلا معرضا عن الله متهاونًا بالذنوب مصرًّا عليها، فهذا شرط تمام الندم، وينبغي أن يدوم إلى الموت، وينبغي / أن يجد هذه المرارة في جميع الذنوب وإن لم يكن قد ارتكبها من قبل، كما يجد متناول السم في العسل النفرة من الماء البارد، ومهما علم أن فيه مثل ذلك السم إذ لم يكن ضرره من العسل، بل مما فيه، ولم يكن ضرر التائب من سرقته وزناه من حيث إنها سرقة وزنا، بل من حيث إنها مخالفة لأمر الله، وذلك جار في كل ذنب، وأما القصد الذي ينبعث منه وهو إرادة التدارك فله تعلق بالحال وهو موجب ترك كل محظور هو ملابس له، وأداء كل فرض هو متوجه عليه في الحال وله تعلق بالماضي، وهو تدارك ما فرط بالمستقبل وهو دوام الطاعة ودوام ترك المعصية إلى الموت، وشرط صحتها فيما يتعلق بالماضي أن يرد فكره إلى أول يوم بلغ فيه بالسن أو الاحتلام، ويقيس عما مضى من عمره سنةً سنةً وشهرًا شهرًا ويومًا يومًا ونفسًا نفسًا، وينظر إلى الطاعات ما الذي قصر فيه منها، وإلى المعاصي ما الذي قارفه منها، فإن كان قد ترك صلاة أو صلاها بثوب نجس أو صلاها بنية غير صحيحة لجهله بشرط النية فيقضيها عن آخرها، فإن شك في عدد ما فاته منها حسب مدة بلوغه وترك القدر الذي يستيقن أنه أداه ويقضي الباقي، وله أن يأخذ فيه بغالب الظن ويصل إليه على سبيل التحري والاجتهاد.
قلت: من عليه فوائت لا يعرف عددها، قال القفال: يقال له: اقض ما تحققت تركه، قال ابن الرفعة: قيل: وهو أشبه بالمذهب؛ لأن من شك في أنه ترك شيئًا من فروض الصلاة بعد السلام لا يلزمه الإعادة، وقال القاضي حسين: عندي يقال له اقض ما زاد على ما تحققت فعله، قال الفقيه: قيل: وهذا أحوط، قال القاضي: وما قاله القفال تخريج على القديم في أن من شك هل ترك ركنا من الصلاة أم لا؟ لا تلزمه الإعادة، وفي الجديد: يلزمه الاستئناف، والله أعلم.
ثم قال الغزالي(87): وأما الصوم فإن كان قد تركه في سفر ولم يَقضِهِ أو أفطر عمدًا أو نسي النية بالليل ولم يقضِ، فيتعرف مجموع ذلك بالتحرِّي والاجتهاد ويشتغل بقضائه، وأما الزكاة فيحسب جميع ماله وعدد السنين من أول ملكه لا من زمان البلوغ، فإن الزكاة واجبة / على الصبي، فيؤدي ما علم بغالب الظن أنه في ذمته، وإن أداها لا على وجه يوافق مذهبه بأن لم يصرفها إلى الأصناف الثمانية، أو أخرج البدل وهو على مذهب الشافعي فيقضي جميع ذلك، فإن ذلك لا يجزئه أصلًا، وحساب الزكاة في معرفة ذلك يطول ويحتاج إلى تأمل شاق، ويلزمه أن يسأل عن كيفية الخروج عنه من العلماء.
وأما الحجُّ فإن كان قد استطاع في بعض السنين ولم يتفق له خروج والآن قد أفلس فعليه الخروج، فإن لم يقدر مع الإفلاس فعليه أن يكتسب من الحلال قدر الزاد، فإن لم يكن له كسب ولا مال فعليه أن يسأل الناس ليصرف له من الزكوات والصدقات ما يحج به، فإنه إن مات قبل الحج مات عاصيا، قال صلعم: «من ماتَ ولم يَحجّ، فليمُتْ إن شاء يهوديًا أو نَصرانيًا»(88).
والعجز الطارئ بعد القدرة لا يسقط عنه الحج، فهذا طريق تفتيشه عن الطاعات وتداركها.
وأما المعاصي فينبغي أن يفتش من أول بلوغه عن سمعه وبصره ولسانه وبطنه ويده ورجله والوجه وسائر جوارحه، ثم ينظر في جميع أيامه وساعاته ويفصل عند نفسه ديوان معاصيه حتى يطلَّع على جميعها صغارها وكبارها، ثم ينظر فيها، فما كان من ذلك بينه وبين الله من حيث لا يتعلق بمظلمة العباد كنظر إلى غير محرم وقعود في مسجد مع جنابة ومس مصحف بغير وضوء واعتقاد بدعة وشرب خمر وسماع ملاهي وغير ذلك مما لا يتعلق بمظالم العباد فالتوبة عن ذلك كله بالنَّدم والتَّحسُّر ،عليه وبأن يحسب مقدارها من حيث الكثرة ومن حيث المدة، ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها، فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات أخذًا من قوله صلعم: «اتَّقِ الله حيثما كنت، وأَتْبعِ السيئةَ الحسنةَ تَمْحُها»(89) بل من قوله: { ِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ }[هود: 114] فيكفر سماع الملاهي سماع القرآن وبمجالس الذكر، ويكفر القعود في المسجد جُنبًا بالاعتكاف فيه والاشتغال بالعبادة، ويكفر مَسَّ المصحف مُحدِثًا بإكرام المصحف وكثرة قراءة القرآن فيه وكثرة تقبيله، وبأن يكتب مصحفًا ويجعله وقفًا، ويكفر شرب الخمر بالتصدق بكل شراب / حلال هو أطيب منه وأحب إليه.
وعَدُّ جميعِ المعاصي غير ممكن، وإنما المقصود سلوك طريق المضادة، فإن المرض يعالج بضده، فكل ظلمة ارتفعت إلى القلب بمعصية فلا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة تضادها، والمضادات هي المتناسبات، فلذلك ينبغي أن يمحو كل سيئة بحسنة من جنسها لكن تُضادّها، فإن البياض يزال بالسواد لا بالحرارة والبرودة، وهذا التدريج والتحقيق من التلطف في طريقة المحو، الرجاء فيه أصدق، والثقة به أكثر من أن يواظب على فرع واحد من العبادات، وإن كان ذلك أيضًا مؤثرًا في المحو.
ويدل على أن الشيء يكفر بضده أن حب الدنيا رأس كل خطيئة، وأثر اتباع الدنيا في القلب السرور بها والألف بها والحنين إليها، فلا جرم كان كل أذى يصيب المسلم ينبو بسببه قلبه عن الدنيا يكون كفارة له، إذ القلب يتجافى بالهموم والغموم عن دار الهموم، قال صلعم: «من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهموم» وفي لفظ آخر: «إلا الهم بطلب المعيشة»(90) .
وفي حديث عائشة: «إذا كثُرت ذنوبُ العبد ولم يكن له أعمالٌ تكفرها أدخل الله تعالى عليه الغُموم فتكون كفارةً لذنوبه(91) » ويقال: إن الهم الذي يدخل على القلب والعبد لا يعرفه هو ظلمة الذنوب والهم بها وشعور القلب بوقفه للحساب وهول المطلع.
فإن قلت: هَمُّ الإنسان غالبا بملكه وولده وجاهه وذلك خطيئة، فكيف يكون كفارة؟ فاعلم أن الحب كذلك خطيئة والحرمان منه كفارة ولو تمتع به لتمَّت الخطيئة، فقد روي أن جبريل دخل على يوسف في السجن فقال له: كيف تركتَ الشيخ الكبير؟ فقال: قد حَزِن عليك حُزن مئة ثكلى، فقال: فما له عند الله؟ قال: أجر مئة شهيد، فإذا الهموم أيضًا مكفرات حقوق الله، فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى.
وأما مظالم العباد ففيها أيضًا معصية وجناية على حق الله، فإن الله تعالى نهى عن ظلم العباد، فما يتعلق منه بحق الله تداركه بالندم والتحسُّر وترك فعله في المستقبل والإتيان بالحسنات التي هي أضدادها، فيقابل أذاه الناس بالإحسان إليهم، ويكفر غصب أموالهم / بالتصدق بماله الحلال، ويكفر تناول أعراضهم بالغيبة والقدح بالثناء على أهل الدين، وإظهار ما يعرف من خصال الخير من أقرانه وأمثاله، ويكفر قتل النفوس بإعتاق الرقاب؛ لأن ذلك إحياء، إذ العبد مفقود لنفسه موجود لسيده، فالإعتاق إيجاد لا يقدر الإنسان على أكثر منه، فيقابل الإعدام بالإيجاد.
وبهذا نعرف أن ما ذكرناه في سلوك طريق المضادة في التكفير والمحو مشهود له في الشرع، حيث كفر القتل بالإعتاق.
ثم إذا فعل ذلك كله لم يُنْجِهِ ولم يخرجه من مظالم العباد، ومظالم العباد إما في النفوس أو الأموال أو الأعراض أو القلوب، أعني به: الإيذاء المحض.
أما النفوس فإن جرى منه قتل خطأ فتوبته بتسليم الدِّية ووصولها إلى المستحق إما منه أو من عاقلته، وهو في عهدة ذلك قبل الوصول، وإن كان عمدًا موجبا للقصاص فبالقصاص، فإن لم يعرف فيجب عليه أن يعترف عند ولي الدم ويحكمه في روحه، فإن شاء عفا عنه وإن شاء قتله، ولا تسقط عهدته إلا بهذا، ولا يجوز له الإخفاء، وليس كمن لو زنا أو شرب أو قطع الطريق أو باشر ما يجب فيه حد لله تعالى، فإنه لا يلزمه في التوبة أن يفضح نفسه ويهتك ستره ويلتمس من الوالي استيفاء حق الله عليه، بل عليه أن يستتر بستر الله ويقيم حد الله على نفسه بأنواع المجاهدة والتعذيب، فالعفو في محض حق الله قريب من التائبين النادمين، فإن رفع أمره إلى الوالي حتى أقام عليه الحد، فالحد يقع موقعه، وتوبته تكون صحيحة مقبولة عند الله تعالى.
بدليل ما روي أن ماعز بن مالك أتى رسول الله صلعم فقال: يا رسول الله، إني قد ظلمت نفسي وزنيت، وإني أريد أن تُطهِّرني، فردَّه، فلما كان من الغد أتاه فقال: يا رسول الله، إني قد زنيت، فردَّه الثانية والثالثة، فلما كان في الرابعة حفر له حفرة، ثم أمر به فرجم، فكان الناس فيه فرقتين، قائل يقول: لقد هلك، لقد أحاطت به خطيئته، وقائل يقول: ما توبة أفضل من توبة ماعز، فقال رسول الله / صلعم: «لقد تاب توبة لو قسمت بين أمةٍ لوسعتهم»، وجاءت الغامدية فقالت: يا رسول الله، إني قد زنيت فطهرني، وأنه ردها، فلما كان من الغد قالت: يا رسول الله أتردني، لعلك تريد أن تردني كما رددت ماعز، فوالله إنها لحبلى فقال لها: «إما لا فاذهبي حتى تَلِدي» فلما ولدت أتت بالصبي في خرقة، وقالت: هذا قد ولدت، قال: «اذهبي فأرضعيه حتى تَفْطميه» فلما فَطَمته أتته بالصبي في يده كِسرة قالت: هذا يا نبي الله قد فَطمته وقد أكل الطعام، فدفع الصبيَّ إلى رجل من المسلمين، ثم أمر بها، فحُفر لها إلى صدرها، وأمر الناس فرجموها، فأقبل خالد بن الوليد بحجر فرمى رأسها فنضح الدم على وجهه فسبها، فسمع رسول الله صلعم سبه إياها فقال: «مهلًا يا خالد، فوالذي نَفسي بيده لقد تابَت توبةً لو تابها صاحب مَكْسٍ لغَفِرَ اللهُ له» ثم أمر فصلى عليها ودفنت(92) .
وأما القصاص وحد القذف، فلا بد من تحكيم المستحق فيه، وإن كان المتناول مالا تناوله بغصب أو خيانة أو غبن معاملة بنوع تلبيس، كترويج زائف أو ستر عيب من المبيع أو نقص أجرة أجير أو منع أجرته، فكل ذلك يجب أن يفتش عليه لا من حد بلوغه، بل من مدة وجوده، فإن ما يجب في مال الصبي يجب على الصبي إخراجه بعد البلوغ إن كان الولي قد قصر فيه، فإن لم يقصر كان ظالما مطالبا بذلك، إذ يستوي في الحقوق المالية الصبي والبالغ، وليحاسب نفسه على الحبات والذرات من أول يوم حياته إلى يوم توبته قبل أن يحاسب في القيامة، وليناقش نفسه قبل أن يناقش فمن لم يحاسب نفسه في الدنيا طال في الآخرة حسابه، فإذا حصل مجموع ما عليه بظن غالب ونوع من الاجتهاد ممكن فليكتبه وليكتب أسامي أصحاب المظالم واحدًا واحدًا، وليطف في نواحي العالم وليطلبهم وليستجلهم وليؤد حقوقهم.
وهذه التوبة تشق على الظلمة وعلى التجار، فإنهم لا يقدرون على طلب المعاملين كلهم، ولا على طلب ورثتهم، ولكن على كل واحد منهم أن يفعل منه ما يقدر عليه، وإن / عجز فلا يبقى له طريق إلا أنه يكثر من الحسنات حتى تفيض منه يوم القيامة، فتؤخذ حسناته فتوضع في موازين أرباب المظالم، ولتكن كثرة حسناته بقدر كثرة مظالمه، فإنه إن لم تف بها حسناته حمل من سيئات أرباب المظالم فيهلك بسيئات غيره، فهذا طريق كل تائب في رد المظالم، وهذا يوجب استغراق العمر في الحسنات لو طال العمر بحسب هذه المظالم، فكيف وذلك مما لا يعرف وربما يكون الأجل قريبًا، فينبغي أن يكون تشميره للحسنات والوقت ضيق أشد من تشميره الذي كان في المعاصي في متسع الأوقات، هذا حكم المظالم الثابتة في ذمته.
أما الأموال الحاضرة فليرد إلى المالك ما يعرف له مالكًا معينًا، وما لا يعرف له مالكًا فعليه أن يتصدق به، فإن اختلط الحرام بالحلال عرف قدر الحرام بالاجتهاد وتصدق بذلك المقدار.
وأما الجناية على القلوب بمشافهة الناس بما يسوءهم أو يعيبهم في الغيبة، فيطلب كل من تعرض له بلسانه أو آذاه قلبه بفعل من أفعاله، وليستحل واحدًا واحدًا منهم، ومن مات أو غاب فقد فات أمره، ولا تدارك إلا بكثرة الحسنات لتوجد عوضًا في القيامة.
وأما من وجده وأحله بطيب قلب فذلك كفارته، وعليه أن يعرفه قدر جنايته وتعرضه له، فالاستحلال المبهم لا يكفي، وربما لو عرف ذلك وكثرة تعديه عليه لم تطب نفسه بالإحلال، وادخر ذلك في القيامة ذخيرة بأن يأخذ من حسناته أو يحمله من سيئاته، فإن كان في حمله على التعريف ما لو ذكره وعرفه لتأذى بمعرفته كزناه بجاريته أو أهله أو سبه باللسان إلى عيب من خفايا عيوبه يعظم أذاه مع ما شافهه به، فقد اشتد على نفسه طريق الاستحلال، فليس له إلا أن يستحلل منها، ثم يبقى له مظلمة، فليجبرها بالحسنات كما يجبر مظلمة الميت والغائب، فأما الذكر والتعريف فهو سبة جديدة يجب الاستحلال منها.
ومهما ذكر جنايته وعرفها للمجني عليه فلم تسمح نفسه بالإحلال بقيت المظلمة عليه، فإن هذا حقه فعليه أن يتلطف به ويسعى في / مهماته وأغراضه، ويظهر من حبه والشفقة عليه ما يستميل بذلك قلبه، فإن الإنسان عبد الإحسان، وكل من نفر بسيئة مال بحسنة، فإذا طاب قلبه بكثرة تودده وتلطفه سمحت نفسه بالإحلال، فإن أبى إلا الإصرار فيكون تلطفه به واعتذاره إليه من جملة حسناته التي يمكن أن تجبر بها في القيامة جنايته، وليكن قدر سعيه في فرحه، وسرور قلبه بتودده، وتلطفه بقدر سعيه في إيذائه، حتى إذا قاوم أحدهما الآخر أو زاد عليه أخذ ذلك منه عوضًا في القيامة بحكم الله به عليه، كمن أتلف في الدنيا مالًا فجاء بمثله، فامتنع الذي له المال من القبول ومن الإبراء، فإن الحاكم يحكم عليه بالقبض منه شاء أم أبى، فكذا يحكم في صعيد القيامة أحكم الحاكمين وأعدل المقسطين.
وفي المتفق عليه من «الصحيحين» عن أبي سعيد الخدري أن نبي الله صلعم قال: «كان في من كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفسًا، فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على راهب فأتاه فقال أنه قتل تسعة وتسعين، فهل لي من توبة؟ فقال: لا، فقتله فكمل به مئة، ثم سأل عن أعلم أهل الأرض، فدل على رجل عالم، فأتاه فقال أنه قتل مئة نفس فهل لي من توبة؟ فقال: نعم، ومن يحول بينه وبين التوبة، انطلق إلى أرض كذا وكذا، فإن بها ناسا يعبدون الله فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء، فانطلق حتى انتصف الطريق أتاه الموت، فاختصم فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائبًا مقبلًا بقلبه إلى الله، وقالت ملائكة العذاب: إنه لم يعمل خيرًا قط، فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم، فقال: قيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أدنى فهو لها، فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد، فقبضته ملائكة الرحمة». [خ¦3470، م:2766]
وفي رواية: «فكان إلى القرية الصالحة أقرب منها بشبر، فجعل من أهلها»، وفي رواية: «فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي، وإلى هذه أن تقربي وقال: قيسوا ما بينهما، فوجدوه أدنى إلى هذه بشبر، فغفر له» فبهذا يعرف أنه لا خلاص إلا برجحان ميزان الحسنات ولو بمثقال / ذرة، فلا بد للتائب من تكثير الحسنات.
هذا حكم القصد المتعلق بالماضي، فأما العزم المرتبط بالاستقبال، فهو أن يعقد مع الله عقدًا مؤكدًا ومعاهدة بعهد وثيق أن لا يعود إلى تلك الذنوب ولا إلى أمثالها، كالذي يعلم في مرضه أن الفاكهة مضرة مثلا فيعزم عزمًا جزمًا أنه لا يتناول الفاكهة ما لم يزل مرضه، فإن هذا العزم يتأكد في الحال وإن كان يتصور أن تغلبه الشهوة في ثاني الحال، ولكن لا يكون تائبًا ما لم يتأكد عرضه في الحال، ولا يتصور أن يتم ذلك للتائب في أول أمره إلا بالعزلة والصمت وقلة الأكل والنوم وإحراز قوت حلال، فإن كان له مال موروث حلال أو كانت له حرفة يكتسب بها قدر الكفاية فليقتصر، فإن رأس المعاصي أكل الحرام، فكيف يكون تائبا مع الإصرار عليه، ولا يكتفي بالحلال وترك الشبهات من لا يقدر على ترك الشهوات في المأكولات والملبوسات، قال بعضهم: من صدق في ترك شهوة وجاهد نفسه لله سبع سنين لم تعد إليه أبدًا، انتهى كلام الغزالي ☼.
وقال القرطبي في «التذكرة»[1/46]: فالذنوب التي يتاب منها، إما كفر أو غيره، فتوبة الكافر إيمانه مع ندمه على سالف كفره، وليس مجرد الإيمان نفس توبته، وغير الكفر إما حق لله وإما حق لغيره، فأما حق الله تعالى فيكفي في التوبة منه الترك غير أن منها ما لم يكتف الشرع فيه بمجرد الترك، بل أضاف إلى ذلك في بعضها قضاء كالصلاة والصوم، ومنها ما أضاف إليها كفارة كالحنث في الأيمان وغير ذلك، وأما حقوق الآدميين فلا بد من إيصالها إلى مستحقيها، فإن لم يوجدوا تصدق عنهم، ومن لم يجد السبيل إلى الخروج عما عليه لإعساره فعفو الله مأمول وفضله مبذول، وكم ضمن من التبعات وبدل من السيئات بالحسنات، وعليه أن يكثر من الأعمال الصالحات ويستغفر لمن ظلمه من المؤمنين والمؤمنات، انتهى.
قول زوائد الروضة:
قلت: ظواهر السنة الصحيحة تقتضي المطالبة بالظلامة إلى آخره، قال الشيخ عز الدين(93) : فإن قيل: إذا جار الأئمة والحكام وعدلوا فهل يقوم عدلهم بجورهم؟
فالجواب أن ما فوتوه من الأموال / مضمون عليهم في الدنيا، فإن أدوه برئت ذممهم، وإن لم يؤدوه أخذ في الآخرة من حسناتهم، فإن فنيت حسناتهم طرح عليهم من سيئات من ظلموه، ثم طرحوا في الجحيم، والتقدير: أخذ في الآخرة من ثواب حسناتهم، فإن فنيت طرح عليهم من عقوبات سيئات من ظلموه بقدر ظلمه، وكذلك الحكم في الدماء والأبضاع والأعراض وفيما أخروه من الحقوق التي يجب تقديمها، أو قدموه من الحقوق التي يجب تأخيرها، فقد قال رب العالمين: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}[الأنبياء: 47].
قول الزوائد أيضًا:
فأما إذا استدان في موضع تباح له الاستدانة واستمر عجزه عن الوفاء حتى مات إلى آخره، صرح الشيخ عز الدين في هذا بأنه يؤخذ من ثواب الآخرة بقدر ما عليه من الدين، فإن فنيت حسناته لم يطرح عليه شيء من السيئات؛ لأنه غير عاص، وأن حكم ما يفضل من الديون بعد الوفاء إلى الله تعالى إن شاء عوض وإن شاء لم يعوض، قال: وهذا موقوف على صحة الخبر فيه، وسيأتي لفظه في الجنائز إن شاء الله تعالى.
قوله: وإن كان حقا للعباد فالقصاص صريح في صحة توبة القاتل، وقد قال في «الروضة»[10/3] من زياداته في الجراح: وتقبل التوبة منه، ولو قتل مسلم ثم مات قبل التوبة لا يتحتم دخوله النار، بل هو في خطر المشيئة كسائر أصحاب الكبائر، فإن دخلها لم يخلد فيها، خلافًا للمعتزلة والخوارج، انتهى.
وقال هنا من زياداته(94) : قال إمام الحرمين في «الإرشاد»: والقتل الموجب للقود تصح التوبة منه قبل تسليم القاتل نفسه ليقتص منه، فإذا ندم صحت توبته في حق الله تعالى، وكان منعه القصاص عن مستحقه معصية مجردة لا تقدح في التوبة، بل تقتضي توبة منها، انتهى.
وعبارة «الإرشاد»: فصل: التوبة واجبة على العبد، ولا يدل على وجوبها عليه عقل، إذ لا يثبت شيء من الأحكام الشرعية بالعقل، ولكن الدال عليه إجماع المسلمين على وجوب ترك الزلَّات والندم على ما تقدم منها، ثم التوبة تنقسم: فمنها ما يتعلق بحق الله على التمحض، ومنها ما يتعلق بحق الآدميين، فأما ما يتعلق بحق الله تعالى على / التمحض فيصح دون مراجعة غيره.
وأما ما يتعلق بحق الآدمي فينقسم:
فمنه ما لا يصح دون الخروج عن حق الآدمي، ومنه ما يصح دونه، فأما ما يصح دونه فهو كل ما يتصور فيه حقيقة الندم مع دوام وجوب حق الآدمي، ويظهر ذلك القتل الموجب للقَوَد فيصح الندم عليه من غير تسليم القاتل نفسه ليُستقاد منه، فإذا ندم صحَّت توبته في حق الله تعالى، وكان منعه القصاص من مستحقه معصية متجددة لا تقدح في التوبة، بل تستدعي في نفسها خروجا عنها وتوبة منها، وربما تتعلق التوبة بحق الآدمي ولا تصح دون الخروج منه، وذلك كاغتصاب شيء من مال الغير فلا يصح الندم عليه مع إدامة اليد عليه، فلا تتمسكوا بالصور وارعوا الندم بحق الله تعالى نفيًا وإثباتًا، انتهى.
ومن جملة الدلائل على صحة توبة القاتل حديث أبي سعيد السابق، نعم، قال البخاري في تفسير قوله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} الآية[النساء: 93]: حدَّثنا آدم بن أبي إياس، حدَّثنا سعيد، حدَّثنا مغيرة بن النعمان، سمعت سعيد بن جبير قال: اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت فيها إلى ابن عباس فسألته عنها فقال: نزلت هذه الآية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} هي آخر ما نزل وما نسخها شيء[خ¦4590].
وقال في باب ما لقي النبي صلعم وأصحابه من المشركين بمكة: حدَّثنا عثمان بن أبي شيبة، حدَّثنا جرير، عن منصور، حدَّثنا سعيد بن جبير، أو قال: حدثني الحكم، عن سعيد بن جبير قال: أمرني عبد الرحمن بن أبزى قال: سل ابن عباس عن هاتين الآيتين وما أمرهما، {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ } {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا }[النساء:93] فسألت ابن عباس قال: لما أنزلت التي في الفرقان قال مشركو أهل مكة: قد قتلنا النفس التي حرم الله، ودعونا مع الله إلهًا آخر، وقد أتينا الفواحش، فأنزل الله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ}، فهذه لا دليل، وأما التي في النساء: الرجل إذا عرف الإسلام وشرائعه ثم قتل فجزاؤه جهنم خالدًا فيها، فذكرته لمجاهد فقال: إلا من ندم. [خ¦3855]
وأخرجا عن سعيد بن جبير قلت لابن عباس: ألمن قتل مؤمنًا متعمدًا من توبة؟ قال: لا، فتلوت عليه هذه الآية التي في الفرقان / {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ} إلى آخر الآية[الفرقان: 68] قال: هذه آية مكية نسختها آية مدنية {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} انتهى. [خ¦4762، م:3023]
وأجيب عن ذلك بأن النسخ لا يقع في الأخبار، وإنما يكون في الأحكام، والآيتان جميعًا خبران، فإن تكن الآية التي في النساء أنزلت أولًا فإنها محكمة ولم تستوف حكمها بالنص، وفسر حكمها في الآية التي في الفرقان، وإن كانت التي في الفرقان أنزلت متقدمة ثم أنزلت التي في النساء، فإنه استغني بتفسير ما في الفرقان عن إعادة تفسير ما في التي في النساء.
قول الزيادات[11/273]: المختار، بل الصواب أنه لا يجب إخبار المحسود إلى آخره، وقد قدمت في الكلام على حديث أبي هريرة: «لا تحاسد إلا في اثنتين» الحديث الذي ساقه البخاري في باب قول النبي صلعم: «رجل آتاه الله القرآن» الترجمة تحقيق هذه المسألة من كلام الدعاية فراجع ذلك. [خ¦7232]
قال الشيخ عز الدين(95) في الكلام على أمثلة إعطاء المعدوم حكم الموجود ما نصه:
المثال الثامن: تقدير الصداقة في الأصدقاء والعداوة في الأعداء والحسد في الحساد مع الغفلة عنها في حالة النوم والغشي، فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}، فالجواب: أن الحسد الحكمي لا يضر المحسود لغفلة الحاسد عنه، والحسد الحقيقي هو الحاث على أذية المحسود، فقوله سبحانه: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ} صالح للحسد الحكمي والحقيقي، فقال: إذا حسد مخصصا للحسد الحقيقي الذي هو مظنة الأذى بالاستعاذة، فإن الحكمي لا ضرر فيه، انتهى.
وما أحسن قول أبي الحسن التهامي الشاعر في ما ذكره ابن خلكان(96) :
إنّي لأرحمُ حاسِدي لحرِّ ما ضَمَّت صدورهُمُ من الأَوغارِ
نظروا صنيعَ الله لي فعيونهم في جنةٍ وقلوبهم في نارِ
وتَلهُّب الأحشاءِ شَيَّبَ مَفرِقي هذا الشعاع شُواظُ تلك النّارِ
قوله: كما أن التوبة في الردة بكلمتي الشهادة فيه مخالفة لقول «الروضة»[11/276] من / زياداته: قال الإمام: وإذا أسلم الكافر فليس إسلامه توبة من كفره، وإنما توبته ندمه على كفره، ولا يتصور أن يؤمن ولا يندم على كفره، بل يجب مقارنة الإيمان للندم على الكفر، ثم وزر الكفر يسقط بالإيمان والندم على الكفر بالإجماع، هذا مقطوع به، وما سواه من ضروب التوبة مقبولة مظنون غير مقطوع به، وقد أجمعت الأمة على أن الكافر إذا أسلم وتاب عن كفره صحت توبته وإن استدام معاصي أخر، هذا كلام الإمام.
وهذا الذي قاله أن القبول مظنون هو الصحيح، وقال جماعة من متكلمي أصحابنا: إنه مقطوع به، انتهى.
ولفظ الإمام: الكافر إذا آمن بالله تعالى فليس إيمانه توبة من كفره وإنما توبته ندمه على كفره، فإن قيل: فلو آمن ولم يندم على كفره قلنا: ذلك غير ممكن، بل يجب مقارنة الإيمان بالندم على الكفر، ثم وزر الكفر ينحطُّ بالإيمان والندم على الكفر إجماعًا، وهذا موضع قطع، وما عداه من ضروب التوبة فقبوله مظنون غير مقطوع به، انتهى.
وفي القبول كلام يأتي بسطه في الكلام على حديث ابن مسعود إن شاء الله.
ثانيها: قد يكون الندم بمجرده توبة في حق بعض الأشخاص، قال في القواعد[1/237]: وقد تكون التوبة بمجرد الندم في حق من عجز عن العزم والإقلاع، فلا يسقط المقدور عليه بالمعجوز عنه، وذلك كتوبة الأعمى عن النظر المحرم، وتوبة المجبوب عن الزنا إلى آخر كلامه الذي قدمته في الكلام على شرح حديث سيد الاستغفار.
وقال السبكي في «الحلبيات»: والعاجز عن العود إلى المعصية قيل: يشترط عزمه على أنه لو قدر لما عاد، وقيل: يتمحض الندم في حقه توبة، انتهى.
وقال الغزالي في «الإحياء»[4/40]: فإن قلت: هل تصح توبة العنين من الزنا الذي قارفه قبل طرقان العنة؟
فأقول: لا؛ لأن التوبة عبارة عن ندم يبعث العزم على الترك في ما يقدر على فعله وما لا يقدر على فعله العزم بنفسه لا بتركه إياه، ولكن أقول: لو طرأ عليه بعد العنة كشف ومعرفة تحقق به ضرر الزنا الذي قارفه وثار منه احتراق وتحسر / وندم، بحيث لو كانت شهوة الوقاع باقية لكان حرقة الندم تقمع تلك الشهوة وتغلبها، فإني أرجو أن يكون ذلك مكفرًا لذنبه وماحيًا عنه سَيئَتَه، إذ لا خلاف في أنه لو تاب قبل طَرَيانِ العنة ومات عقيبه كان من التائبين، وإن لم تطرأ عليه حالة تهيج فيها الشهوة وتتم أسباب القضاء للشهوة، ولكنه تائب باعتبار أن ندمه بلغ مبلغًا أوجب صرف قصده عن الزنا لو ظهر قصده، فإذًا لا يستحيل أن تبلغ قوة الندم في حق العنين هذا المبلغ إلا أنه لا يعرفه من نفسه، فإن كل من لا يشتهي شيئًا يقدر نفسه قادرًا على تركه بأدنى خوف، والله مطلع على ضميره وعلى مقدار تندمه فعساه يقبله منه، بل الظاهر أنه يقبله.
والحقيقة في هذا ترجع إلى أن ظلمة المعصية تنمحي عن القلب بشيئين: أحدهما: حرقة الندم، والآخر شدة المجاهدة بالترك في المستقبل، وقد امتنعت المجاهدة بزوال الشهوة، ولكن ليس محالًا أن يقوى الندم بحيث يقوى على محوها دون المجاهدة، فلولا هذا لقلنا: إن التوبة لا تقبل ما لم يعش التائب بعد التوبة مدة يجاهد نفسه في غير تلك الشهوة مرات كثيرة، وذلك مما لا يدل ظاهر الشرع على اشتراطه أصلًا، انتهى.
يا أرباب الأدناس لا تقنعوا بصب ماء التوبة على ظاهر البدن بلوا الشعور وأنقوا البشرة.
أبلغ المراهم في دواء الخطايا الندم، وأحسن زي التائب حُلَّة الانكسار.
ثالثها: مقتضى ما ذكره الهروي، بل صريحه أنه متى وجدت الأشياء الثلاثة صحت التوبة، فيدخل فيه ما ذكره في «الروضة»[11/276] من زياداته: ولو تاب من ذنب، ثم فعله مرة أخرى لم تبطل التوبة، بل هو مطالب بالذنب الثاني دون الأول، ولو تكررت التوبة ومعاودة الذنب صحت، هذا مذهب أهل الحق في المسلمين جميعًا خلافًا للمعتزلة، انتهى.
وقال في «الإرشاد»: من تاب وصحت توبته ثم عاود الذنب فالتوبة الماضية صحيحة، والغرض مما ذكرناه أن تعلموا أن التوبة عبادة من العبادات يقضى بصحتها وفسادها، فإذا سيقت على شرائطها لم يقدح / في صحتها ما يقع بعد مضيها، وعلى معاود الذنب تجديد التوبة، ثم هذه التوبة عبادة أخرى سوى التي سبقت، انتهى.
ودلائل هذا متظافرة من الكتاب والسنة، قال تعالى في وصف المتقين: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا}[آل عمران: 135] أي: أنه وإن وقع منهم أحيانًا كبائر وصغائر، لكنهم لا يصرون عليها، بل يذكرون الله عقب وقوعها ويستغفرونه ويتوبون إليه منها، والتوبة ترك الإصرار، وأما السنة فسبق حديث أبي هريرة: أذنب عبد ذنبا فقال: رب.. الحديث الذي أخرجاه. [خ¦7507، م:2758]
وفي «الترمذي»[3559] من حديث أبي بكر الصديق، عن النبي صلعم قال: «ما أصر من استغفر ولو عاد في اليوم سبعين مرة»(97) وأصل الإصرار في اللغة: الإقامة، ويقال: هو المُصر على العَزم، ومنه قوله تعالى: {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا}[آل عمران: 135]، فالمصر هو المستديم عزمه على فعل معصية فعلها، ومن عزمه أن يعود إليها، والجمع: مصرون، وقد جاء: هلك المصرون قدما قدما إلى النار، فقال في حديث الصديق: ما أصر من استغفر، إذ من استغفر الله من ذنبه حقيقة فليس بمصر على الذنب، وذلك أن حقيقة المستغفر من شاهد قبح ذنبه وعاين فضيحته في نظر ربه وهتك الستر عند الله وملائكته، ونظر خواص المؤمنين المتفرسين بما خلع عن نفسه من لباس التقوى، وافتضح به في نظر الملأ الأعلى والأدنى مع ما أعد له من العقاب والجزاء، فيَوْجَلُ قلبه ويخجل سره، كرجل عَرِي من ثيابه وبدت سوأته في ملأ من كبراء أهل بلده ومعارفه، فيتمنى أن تسيح الأرض به لما بدا من فضيحته وهتك عورته، فإذا استشعر المذنب هذا في نفسه وعلم أنه لا يقدر على غفره وستره إلا الله ╡ استغفر؛ أي سأله غفر ذنبه، والغفر التغطية، والمغفر: ما يستر به الرأس في الحرب فيقول: رب اغفر لي؛ أي: أعدني إلى سترك وغط ذنبي بعفوك وغفرك، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، فهذا المستغفر هكذا يقول عقيب كل ذنب لا يكون مصرًّا؛ لأن الله يعلم من عزمه أنه لا يعود إلى ذنبه، وإن عاد إليه لعدم العصمة عاد إلى / صدق استغفاره، فعاد الكريم عليه بعفوه ولو عاد سبعين مرة، فإن عفو الله أكبر، فأما إذا استغفر باللسان والقلب عازم على العود إلى الذنب فهو مصر ولو استغفر مئة أو سبعين مرة؛ لأنه كاذب في استغفاره، كما قيل: الاستغفار باللسان توبة الكذابين؛ أي: إذا لم يقارنه ندم القلب.
وخرَّج الحاكم[1/81] من حديث عقبة بن عامر أن رجلًا أتى النبي صلعم فقال: يا رسول الله أحدنا يذنب، قال: «يُكتَب عليه» قال: ثم يستغفر منه قال: «يُغَفر له ويتاب عليه» قال: فيعود فيذنب، قال: «يُكتب عليه» قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: «يُغفَر له ويُتاب عليه، ولا يملُّ الله حتى تَملّوا».
وخرج الطبراني(98) بإسنادٍ ضعيف عن عائشة قالت: جاء حبيب بن الحارث إلى النبي صلعم فقال: يا رسول الله إني رجل مقراف للذنوب قال: «فتب إلى الله ╡» قال: أتوب ثم أعود قال: «فكلما أذنبت فتب» قال: يا رسول الله إذًا تكثر ذنوبي، قال: «فعفو الله أكثر من ذنوبك يا حبيب بن الحارث» وخرجه بمعناه من حديث أنس مرفوعًا بإسنادٍ ضعيف.
وروى ابن أبي الدنيا(99) بإسناده عن عليٍّ قال: خِياركم كُلّ مُفَتَّنٍ تَوّاب، قيل له: فإن عاد، قال: يستغفر الله ويتوب، قيل: حتى متى. قال: حتى يكون الشيطان هو المحسور.
وقيل للحسن: ألا يستحي أحدنا من ربه يستغفر من ذنوبه، ثم يعود، ثم يستغفر، ثم يعود؟ فقال: ودَّ الشيطان لو ظفر بهذه منكم، فلا تملوا من الاستغفار.
وروي عنه أنه قال: ما أرى هذا إلا من أخلاق المؤمنين؛ يعني: أن المؤمن كلما أذنب تاب، وقد روي: المؤمن مفتن تواب.
وروي من حديث جابر بإسناد ضعيف مرفوعًا: «المؤمن واهٍ راقع، فسعيد من هلك على رقعه»(100).
قال عمر بن عبد العزيز في خطبته: من أحسن منكم فليحمد الله، ومن أساء فليستغفر الله، فإنه لا بد لأقوام من أن يعملوا أعمالًا وظفها الله في رقابهم وكتبها عليهم.
وسبق عنه في الباب قبله أنه قال: أيها الناس من ألمَّ بذنب فليستغفر الله وليتب، فإن عاد فليستغفر الله وليتب، إلى / قوله: فإنما هي خطايا مطوقة في أعناق الرجال، وإن الهلاك كل الهلاك الإصرار عليها؛ أي: إن العبد لا بد أن يفعل ما قدِّر عليه من الذنوب، كما في حديث أبي هريرة: «إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة» الحديث. [خ¦6243، م:2657]
ولكن الله جعل للعبد مخرجًا مما وقع فيه من الذنوب بالتوبة والاستغفار، فإن فعل فقد تخلص من شر الذنب، وإن أصرَّ على الذنب هلك.
كما في المسند[6541] من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلعم قال: «ارحموا تُرحموا، واغفروا يُغفر لكم، ويل لأقماع القول، ويل للمصرين على ما فعلوا وهم يعلمون» وفسر أقماع القول بمن كانت أذناه كالقمع لا تشبع من الحكمة والموعظة الحسنة، فإذا دخل شيء من ذاك في أذنه خرج من الأخرى ولم ينتفع بشيء مما سمع أصلًا.
قال في «الإحياء»[4/15]: ويروى أنه كان في بني إسرائيل شاب عبد الله عشرين سنة، ثم عصاه عشرين سنة، ثم نظر في المرآة فرأى الشيب في لحيته، فساءه ذلك فقال: إلهي أطعتك عشرين ثم عصيتك عشرين سنة، فإن رجعت إليك أتقبلني؟ فسمع قائلًا يقول ولا يرى شخصا: أحببتنا فأحببناك وتركتنا فتركناك وعصيتنا، فإن رجعت إلينا قبلناك، انتهى.
وأنشدوا:
أيامن أعرضوا عنَّا بلا جُرمٍ ولا مَعنى
أساؤوا ظنهم فينا فهلَّا أحسنوا الظنَّا
فإن عادوا لنا عُدنا وإن خانوا فما خنا
وإن كانوا قد استغنوا فإنا عنهم أغنى(101)
قال أبو نعيم(102) : حدَّثنا أبي، حدَّثنا أحمد بن محمد بن أبان، حدَّثنا أبو بكر بن عبيد، حدَّثنا محمد بن قدامة، سمعت سفيان بن عيينة يقول: كان من دعاء مُطرِّف بن عبد الله: اللهم إني أستغفرك مما تبت إليك منه، ثم عدت فيه، وأستغفرك مما جعلته لك على نفسي ثم لم أف لك به، وأستغفرك مما زعمت أني أردت به وجهك فخالط قلبي فيه ما قد علمت.
رابعها: / قضية كلام الهروي أيضًا أنه تصح التوبة من ذنب وإن كان ملابسًا ذنبًا آخر مصرًّا عليه، وبه صرح في «الروضة»[11/276] من زياداته، وقال الإمام في «الإرشاد»: فصل: من احتقب أوزارًا وقارف ذنوبًا صحت توبته عن بعضها مع الإصرار على بعضها، وذهب أبو هاشم ومتبعوه إلى أن التوبة لا تصح دون الانكفاف عن جميع الذنوب، وهذا الذي ذكروه يخرج عن المعقول وموجب الشرع، فإن من بدرت منه بوادر وصدرت منه عظائم فيصح في مجرى العادة منه التنصل عن جماهيرها والاعتذار عنها مع الإصرار على شيء منها، وضرب الأئمة لذلك مثالًا وقالوا: من غصب أموالًا لرجل واستولى على جرائم وانتسب إلى انتهاك الحرمات وكسر له في تضاعيف ما اجترمه قلمًا، ثم غرم له ما أتلفه واستسلم لحكمه وأذعن لأمره، ولكنه لم يعتذر إليه عن كسر القلم في تضاعيف ما اجترم، فيصح اعتذاره من العظائم التي ندم عليها، وذلك غير مجحود عند ذوي العقول، والذي يحقق ما قلناه: إجماع الأمة على أن الكافر إذا أسلم وتاب عن كفره صحت توبته، وإن استدام زلة أخرى.
ومذهب أبي هاشم: أنه لا تصح توبته، وهو بعد إسلامه والتزام أحكامه ملتزم لوزر الكفر، وهذا خروج عن إجماع المسلمين، فإن قال: من نصر مذهبه إنما يجب التوبة على المذنب بقبحه، وذلك يعم كل ذنب فلا يصح ندم على قبيح مع الإصرار على قبيح، وهذا الذي ذكروه يبطل من أوجه يطول تتبعها، ولا يحتمل هذا المعتقد ذكرها، ولكن مما يقرب في إبطال ما قال أن الطاعة تثبت لحسنها فينبغي أن لا تصح طاعة مع ترك طاعة، وليس الأمر كذلك عنده، وكذلك القبيح يترك لقبحه، فينبغي أن لا يتصور ترك قبيح مع مقارفة قبيحٍ آخر ومثابرته عليه، فبطل ما قالوه من كل وجه، ثم التوبة ندم، ويتصور الندم على ضرب مع غلبة الهوى في غيره، انتهى.
وقال الغزالي في «الإحياء»[4/39]: ومن مهمات التائب إذا لم يكن عالما أن يتعلم ما يجب عليه في المستقبل وما يحرم عليه حتى الاستقامة، وأن يؤثر العزلة، ولن تتم له الاستقامة المطلقة إلا أن يتوب عن / كل الذنوب، فأما إن تاب عن بعض الذنوب كالذي يتوب عن الشراب والزنا والغصب مثلًا فليست هذه توبة مطلقة، وقد قال بعض الناس: إن هذه التوبة لا تصح، وقال قائلون: تصح، ولفظ الصحة في هذا المقام مجمل، بل نقول لمن قال لا تصح: إن عنيت به أن تركه بعض الذنوب لا يفيد أصلًا بل وجوده كعدمه فما أعظم خطأك، فإنا نعلم أن كثرة الذنوب سبب لكثرة العقاب وقلتها سبب لقلته، ونقول لمن قال تصح: إن أردت به أن التوبة عن بعض الذنوب توجب قبولًا يوصل إلى الفوز أو النجاة فهذا أيضًا خطأ، بل النجاة والفوز ترك الجميع، هذا حكم الظاهر ولسنا نتكلم في خفايا أسرار عفو الله تعالى، وإن قال: من ذهب إلى أنه لا يصح إن أردت به أن التوبة عبارة عن الندم فإنما يندم على السرقة مثلًا لكونها معصية لا لكونها سرقة، ويستحيل أن يندم عليها دون الزنا إن كان توجعه من المعصية، فإن العلة شاملة لهما، إذ من توجع على قتل ولده بالسيف يتوجع على قتله بالسكين؛ لأن توجعه بفوات محبوبه، وذلك بالمعصية سواء عصى بالسرقة أو بالزنا، فكيف يتوجع على البعض دون البعض، فالندم حالة يوجبها العلم بكون المعصية مفوتة للمحبوب من حيث إنها معصية، فلا يتصور أن يكون على بعض المعاصي دون بعض، ولو جاز هذا لجاز أن يكون من شرب الخمر من أحد من الدَّنَّين دون الآخر استحال ذلك، من حيث إن المعصية في الخمرين واحد والدنان ظرف، فكذلك أعيان المعاصي آلات المعصية، والمعصية من حيث مخالفة الأمر واحد، فإذًا معنى عدم الصحة أن الله وعد التائبين رتبة، تلك الرتبة لا تنال إلا بالندم، ولا يتصور الندم على بعض المماثلات فهو كالملك المرتب على الإيجاب والقبول، فإنه إن لم يتم الإيجاب والقبول يقال العقد لم يصح؛ أي: لا يترتب عليه الثمرة وهو الملك، وتحقق هذا بأن ثمرة تجدد الترك أن ينقطع عنه عقاب ما تركه، وثمرة الندم تكفر ما سبق، فترك السرقة لا يكفر السرقة، بل الندم عليها، ولا يتصور / الندم إلا بكونه معصية، وذلك يعم جميع المعاصي، وهذا كلام مفهوم واقع يستنطق المنصف بتفصيل به ينكشف الغطاء.
فنقول: التوبة عن بعض الذنوب لا تخلو إما أن تكون عن الكبائر دون الصغائر أو عن الصغائر دون الكبائر، أو عن كبيرة دون كبيرة، أما التوبة عن الكبائر فممكن؛ لأنه يعلم أن الكبائر أعظم عند الله تعالى وأجلب لسخط الله تعالى ومقته، فالصغائر أقرب إلى تطرق العفو إليها، فلا يستحيل أن يتوب عن الأعظم ويتندم عليه، فالذي يجني على أهل الملك وحرمه ويجني على دابته فيكون خائفًا من الجناية على الأهل مستحقرًا للجناية على الدابة والندم يجب على استعظام الذنب واعتقاد كونه صغيرًا عند الله تعالى، وهذا ممكن وجوده في الشرع، فقد كثر التائبون في الأعصار، ولم يكن أحد منهم معصومًا فلا تستدعي التوبة المعصية، والطبيب قد يحذر المريض العسل تحذيرًا شديدًا ويحذره السكر تحذيرًا أخف منه على وجه يشعر معه أنه ربما لا يظهر ضرر السكر أصلًا، فيتوب المريض بقوله عن العسل دون السكر، فهذا غير محال وجوده، فإن أكلهما معًا بحكم شهوته ندم على أكل العسل دون السكر.
الثاني: أن يتوب عن بعض الكبائر دون بعض، وهذا أيضًا ممكن؛ لاعتقاده أن بعض الكبائر أشد وأغلظ عند الله تعالى، كالذي يتوب عن القتل والنهب والظلم ومظالم العباد، لعلمه بأن ديوان العباد لا يترك وما بينه وبين الله تعالى يتسارع إليه، فهذا أيضًا ممكن كما في تفاوت الصغائر والكبائر؛ لأن الصغائر أيضًا متفاوتة في أنفسها وفي اعتقاد من يرتكبها، ولذلك يتوب عن بعض الكبائر التي لا تتعلق بالعباد كما يتوب عن شرب الخمر دون الزنا مثلًا، إذ اتضح له أن الخمر مفتاح الشرور، فإنه إذا زال عقله ارتكب جميع المعاصي، فبحسب ترجح شرب الخمر عنده ينبعث منه خوف يوجب ذلك تركًا في المستقبل وندمًا على الماضي.
الثالث: أن يتوب عن صغيرة أو صغائر / وهو مصر على كبيرة يسلِّم أنها كبيرة، كالذي يتوب عن الغيبة أو عن النظر إلى غير المحرم وما يجري مجراه، وهو مصر على شرب الخمر، وهو أيضًا ممكن، ووجه إمكانه أنه ما من مؤمن إلا وهو خائف على معاصيه ونادم على فعله ندمًا ضعيفًا وإما قويًا، ولكن تكون لذة نفسه في تلك المعاصي أقوى من ألم قلبه في الخوف منه لأسباب توجب ضعف الخوف من الجهل والغفلة، وأسباب توجب قوة الشهوة ويكون الندم موجودًا، ولكن لا يكون مليًا بتحريك العزم ولا قويًّا عليه، فإن سلم من شهوة أقوى منه بل لم يعارضه إلا ما هو أضعف قهر الخوف والشهوة وغلبهما، وأوجب ذلك كله المعصية، وقد تشتد ضراوة العاشق بالخمر ولا يقدر على الصبر وتكون له ضراوة ما بالغيبة والنظر إلى غير المحرم، وثبت التائب وخوفه من الله تعالى قد يبلغ مبلغًا يقمع به هذه الشهوة الضعيفة دون القوية، فوجب عند الخوف انبعاث العزم للترك، بل يقول هذا الفاسق في نفسه: إن قهرني الشيطان بواسطة غلبة الشهوة في بعض المعاصي فلا ينبغي أن أخلع العذار وأرخي العنان بالكلية، بل أجاهده في بعض المعاصي فعساني أغلبه، فيكون قهري له في البعض كفارة لبعض ذنوبي، ولو لم يتصور هذا لما تصور من الفاسق أن يصلي ويصوم، ويقال له: إن كانت صلاتك لغير الله فلا تصح، وإن كانت لله فاترك الفسق لله، فإن أمر الله به واحد فلا يتصور أن تقصد بصلواتك التقرب إلى الله ما لم تتقرب بترك الفسق وهذا محال، بل يقول: لله عليَّ أمران ولي على المخالفة فيهما عزيمتان، فأنا على أحدهما بقهر الشيطان قادر وعاجز في الآخر، فأقهره في ما أقدر عليه وأرجو بمجاهدتي فيه أن يكفر عني ما عجزت عنه لفرط شهوتي، وكيف لا يتصور هذا وهو حال كل مسلم، إذ لا مسلم إلا وهو جامع بين طاعة الله وبين معصيته، ولا سبب له إلا هذا، وإذا [فهم هذا](103) فهم أن غلبة الخوف للشهوة في بعض الذنوب ممكن وجوده، و / الخوف إذا كان من فعل ماض أورث الندم، والندم يورث العزم.
وقد قال صلعم: «الندم توبة»، ولم يشترط الندم على الكثير دون القليل؛ لأن لكثرة المعصية تأثيرًا في كثرة العقوبة، فيساعد الشهوة بالقدر الذي يعجز عنه ويترك بعض شهوته لله تعالى، فالمريض الذي حذره الطبيب الفاكهة فإنه قد يتناول قليلها، ولكن لا يستكثر منها، فقد حصل من هذا أنه لا يمكن أن يتوب عن شيء ولا يتوب عن فعله، بل لا بد أن يكون ما تاب عنه مخالفًا لما بقي عليه، إما في شره المعصية أو في غلبة الشهوة، وإذا حصل هذا التفاوت في اعتقاد التائب تصور اختلاف حاله في الخوف والندم، فيتصور اختلاف حاله في الترك، فندمه على ذلك الذنب ووفاؤه بعزمه على الترك يلحقه بمن لم يذنب، وإن لم يكن قد أطاع الله تعالى في جميع الأوامر والنواهي، انتهى.
وقال السبكي في «الحلبيات» ما نصه: وأما قوله: هل يصح أن يكون العبد نادمًا على المعصية خوفا من الله تعالى مصرًا عليها، نعم يصح أن يتوب من معصية وهو مصر على أخرى عند الجمهور، خلافًا لمن منع ذلك محتجًّا بأن التوبة من الذنب إنما تصح لكونه معصية حتى لو تاب، لا لأنه معصية لم تصح، والعلة موجودة في المعصية الأخرى.
وأما حتى يشترط الندم والإقلاع والعزم على أن لا يعود اشتراط الندم إن وقع في عبارة أحد فتَسمُّحٌ؛ لأن الندم هو التوبة كما اقتضاه الحديث، والشيء لا يكون شرطًا في نفسه، واشتراط الإقلاع والعزم على أن لا يعود ليحقق الندم فيهما بتحقق وجود الندم، فإن العبد يلتبس عليه حاله، ومراتب الندم متفاوتة، والشيء قد يشدك على صحته بسببه وبمنحته.
والسبب الأول هنا هو: العلم المحصل للخوف من الله تعالى المولد للندم في القلب والإقلاع في الحال، والعزم على أن لا يفعله في المستقبل، واستدراك ما فات في الماضي، فإن حصلت هذه النتائج علمنا صحة الندم وحقيقة الخوف الناشئ عن العلم، وإن لم تحصل قلنا له: قد كذبتك نفسك في / تخييلها لك أنك نادم، وقد يقال: إن التوبة في الحقيقة وفي اللغة هي الرجوع، فالتائب راجع عن المعصية إلى الطاعة، ورجوعه لا يتحقق إلا بهذه الأمور، فيجوز تسميتها شروطًا، ويجوز تسميتها أركانًا وأعظمها: الندم، ولا يتحقق إلا بالباقي، ولا يمتنع أن يكون بعض الشروط شرطًا في الأجر أو في الركن، انتهى.
خامسها: قال الحليمي: من علم الله تعالى منه الإصرار على ذنب وطبع على قلبه في ذلك الذنب امتنعت توبته منه ولم تمتنع من غيره، خلافًا لمن يزعم أنها لا تمتنع؛ محتجًّا بأنه مأمور بها، ورد بأن الأمر يكفي فيه الإمكان الذاتي، ومن استغفر ولم يتب فإن استجاب الله منه غفر له، ولكن ذلك غير معلوم لنا لهذا لا تصح توبته ولا يجري فيه الخلاف في سقوط الحد بالتوبة، بل يحد قولًا واحدًا.
قال الهروي: وحقائق التوبة ثلاثة أشياء: تعظيم الجناية [واتهام التوبة، وطلبُ إعذارِ الخليقة](104) انتهى.
حقيقة الشيء: أصله وما يتحقق به وجوده، فأصل التوبة أن يعظم التائب جنايته وإلا لم يندم عليها، والندم شرط التوبة فلا تتحقق التوبة بدونه، ومن لم يعظم الجناية لم يستقبحها، فلا يعزم على الرجوع عنها.
قال الغزالي(105): وإنما يعظم الذنب في قلب المؤمن لعلمه بجلال الله، فإذا نظر إلى عِظَمِ من عصى بذلك الذنب رأى الصغير كبيرًا، وقد أوحى الله تعالى إلى بعض أنبيائه: لا تنظر إلى قلّة الهدية وانظر إلى عظم مُهديها، ولا تنظر إلى صغر الخطيئة وانظر إلى كبرياء من واجهتَه بها، وبهذا الاعتبار قال بعض العارفين: لا صغيرةَ، بل كُلُّ مخالفة فهي كبيرة، ولذلك قال بعض الصحابة للتابعين: إنكم لتعملون أعمالًا هي أدقَّ في أعينكم من الشعر كنا نعدها على عهد رسول الله صلعم من الموبقات، إذ كانت معرفة الصحابة بجلال الله أتم، فكانت الصغائر عندهم بالإضافة إلى جلال الله كبائر، فبهذا السبب يَعظُم من العالِمِ ما لا يَعظُم من الجاهل، ويتجاوز عن العامي في أمور لا يتجاوز في أمثالها عن العارف؛ لأن الذنب والمخالفة تكبر بمعرفة قدر المخالف، انتهى.
وأنشدوا: /
أسأتُ ولم أُحسِنْ وجئتُكَ تائبًا وأنَّى لعبدٍ من مَواليهِ مَهْرَبُ
يُؤمِّل غُفرانًا فإن خابَ ظَنُّه فما أحدٌ منه على الأرضِ أَخْيَبُ
قال الهروي: واتِّهامُ التوبة، انتهى.
اتِّهامُها هو أن يعتقد أنه لم يقم بحقها كما ينبغي، وعسى الله أن لا يقبلها لكونها ناقصة فيخاف ويجتهد في تصحيحها والثبات عليها، قال الغزالي في «الإحياء»[4/43]: بيان أقسام العباد في دوام التوبة: اعلم أن طبقات الناس أربعة:
الطبقة الأولى: أن يتوب العاصي ويستقيم على التوبة إلى آخر عمره، فيتدارك ما فرط من أمره ولا يحدث نفسه بالعود إلى ذنوبه إلا الزلات التي لا ينفك عنها البشر في العادات مهما لم يكن في رتبة النبوة، فهذه الاستقامة في التوبة وصاحبها هو السابق بالخيرات المستبدل بالسيئات حسنات، واسم هذه التوبة: التوبة النصوح، واسم هذه النفس الساكنة: النفس المطمئنة التي ترجع إلى ربها راضية مرضية، وهؤلاء هم الذين إليهم الإشارة بقوله صلعم: «سبق المفرّدون المُسْتَهتَرونَ بذكر الله تعالى وضَعَ الذِّكرُ أوزارهم فوردوا القيامة خفافًا»(106)، فإن فيه إشارة إلى أنهم كانوا تحت أوزار وضعها الذكر عنهم، وأهل هذه الطبقة على رُتَبٍ من حيث النزوع إلى الشَّهوات، فمن تاب سكنت شهواته تحت قهر المعرفة فَفَتر نِزاعُها، ولم يشغله عن السلوك صراعها، وإلى من لا ينفك عن منازعة النفس ولكنه مليء بمجاهدتها وذكرها، ثم تتفاوت درجات النزاع أيضًا بالكثرة والقلة واختلاف المدة باختلاف الأنواع، ولذلك يختلفون من حيث طول العمر فمن مختطف يموتُ قريبًا من توبته يغبط على ذلك لسلامته وموته قبل الفترة، ومن مُمْهَلٍ طال جهاده وصبره وتمادت استقامته وكثرت حسناته، وحال هذا أعلى وأفضل، إذ كل سيئة فإنما تمحوها حسنة.
حتى قال بعض العلماء: إنما يكفر الذنب الذي ارتكبه العاصي أن يتمكن منه عشر مرات مع صدق الشهوة، ثم يصبر عنه ويكسر شهوته / خوفًا من الله تعالى، واشتراط هذا بعيد وإن كان لا ينكر عظم أثره لو فُرض، ولكن لا ينبغي للمُريد الضعيف أن يسلك هذا الطريق فتهيج هذه الشهوة وتحضر الأسباب حتى يتمكن، ثم يطمع في الانكفاف، فإنه لا يؤمن من خروج عنان الشهوة عن اختياره فيقدم على المعصية ويَنقضُ توبته، بل طريقه الفرار من ابتداء أسبابه الميسرة حتى يسد طرقها على نفسه، ويسعى مع ذلك في كسر شهوته مما يقدر عليه فتسلم توبته في الابتداء.
الطبقة الثانية: تائب سلك طريق الاستقامة في أمهات الطاعات وكبائر الفواحش، إلا أنه ليس ينفك عن ذنوب تَعتريه لا عن عمد وتحديد قصد، ولكن يبتلى بها في مجاري أحواله من غير أن يقدم عزمًا على الإقدام عليها، ولكنه كلما أقدم عليها لام نفسه وندم وتأسف وجدد عزمه على أن يتشمر للاحتراز من أسبابها التي تعرضه لها، وهذه النفس جديرة بأن تكون هي اللوامة، إذ تلوم صاحبها على ما استهدف له من الأحوال الذميمة لا عن تصميم عزم وتخمين رأي وقصد، وهذه أيضًا رتبة عالية وإن كانت نازلة عن الطبقة الأولى، وهي أغلب أحوال النادمين؛ لأن الشر معجون بطينة الآدمي قلَّ ما ينفك عنه، وإنما غاية سعيه أن يغلب خيره شره حتى يثقل ميزانه فترجح كفة الخيرات.
وأما أن تخلو بالكلية كفة السيئات فذلك في غاية البعد، وهؤلاء لهم أحسن الوعد من الله تعالى إذ قال تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ}[النجم: 32]، فكل إلمام يقع بصغيرة لا على توطين نفس عليه، فهو جدير بأن يكون من اللَّمم المعفو عنه، وقد قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ}[آل عمران: 135] فأثنى عليهم مع ظلمهم أنفسهم لتندمهم ولومهم أنفسهم على ذلك.
وإلى مثل هذه الرتبة الإشارة بقوله صلعم فيما رواه علي ☺: «خياركم كل مفتَّنٍ تواب»(107)، وفي خبر آخر: «المؤمن كالسنبلة / يفيء أحيانًا ويميل أحيانًا»(108).
وفي الخبر: «لا بد للمؤمن من ذنب يأتيه الفَينة بعد الفَينة»(109) أي: الحين بعد الحين، فكل ذلك أدلة قاطعة على أن هذا القدر لا ينقض التوبة ولا يلحق صاحبها بدرجة المُصرِّين، ومن يؤيس مثل هذا عن درجة التائبين، كالطبيب الذي يؤيس الصحيح في دوام الصحة بما يتناوله من الفواكه والأطعمة الحارة مدة بعد مدة أخرى من غير مداومة واستمرار، وكالفقيه الذي يؤيس المتفقه عن نيل درجة الفقهاء بفتوره عن التكرار والتعليق في أوقات نادرة غير متطاولة ولا كثيرة، بل الفقيه في الدين هو الذي لا يؤيس الخلق عن درجات السعادات بما يتفق لهم من الفترات ومقارفة السيئات المختطفات، قال صلعم: «كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين المستغفرون»(110).
وقال صلعم: «المؤمن واهٍ راقع، فخيرهم من مات على رقعه(184») أي: واهٍ بالذنوب راقع بالتوبة والندم، وقال تعالى: {أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}[القصص: 54] فما وصفهم بعدم السيئة أصلًا.
الطبقة الثالثة: أن يتوب ويستمر على الاستقامة مدة، ثم تغلبه شهوته في بعض الذنوب فيقدم عليها عن قصد وصدق شهوة بعجزه عن قهر الشهوة، إلا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات وتارك جملة من الذنوب مع القدرة والشهوة، وإنما قهرته هذه الشهوة الواحدة أو الشهوتان، وهو يود لو أقدره الله تعالى على قمعها وكفاه الله تعالى شَرَّها، هذه أمنيته في حال قضاء الشهوة وعند الفراغ يتندم ويقول: ليتني لم أفعله وسأتوب عنها وأجاهد نفسي في هذا وفي قهره، لكنه تُسوّل نفسه ويسوّف توبته مرة بعد أخرى ويومًا بعد يوم، فهذه النفس هي التي تسمى النفس المُسوِّلة وصاحبها من الذين قال الله فيهم: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا}[التوبة: 102].
فأمره من حيث مواظبته للطاعات وكراهيته لما يتعاطاه مرجو، فعسى الله أن يتوب عليه وعاقبته / مخطورة من حيث تسويفه وتأخيره، فربما يختطف قبل التوبة ويقع أمره في المشيئة، فإن تداركه الله بفضله وجبر كسره وامتنَّ عليه بالتوبة التحق بالسابقين، وإن غلبت عليه شقوته وقهرته شهوته فيخشى أن يحق عليه في الخاتمة ما سبق عليه من القول في الأزل؛ لأنه مهما تَعذَّر على المتفقه مثل الاحتراز عن شواغل العلم، دلَّ بعذره على أنه سبق له في الأزل أن يكون من الجاهلين، فيضعف الرجاء في حقه، وإذا تيسرت له أسباب المواظبة على التحصيل دلَّ على أنه سبق له في الأزل أن يكون من العالمين.
فكذلك ارتباط سعادات الآخرة ودَرَكاتها بالحسنات والسيئات بحكم تقدير مُسبِّب الأسباب، كارتباط المرض والصحة بتناول الأغذية والأدوية، وارتباط حصول فقه النفس الذي يستحق به المناصب العلية في الدنيا بترك الكسل والمواظبة على تفقيه النفس، فكما لا يصلح لمنصب الرئاسة والقضاء والتقدم بالعلم إلا نفسٌ صارت فقيهة بطول التفقّه، فلا يصلح لملك الآخرة ونعيمها ولا للقرب من رب العالمين إلا قلب سليم صار طاهرًا بطول التزكية والتطهير.
هكذا سبق في الأزل تدبير رب الأرباب، ولذلك قال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا. فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}[الشمس: 7- 11]، فمهما وقع العبد في ذنب فصار الذنب نقدًا والتوبة نسيئة، كان هذا من علامات الخذلان، قال صلعم: «إن العبدَ ليعملُ بعملِ أهل الجنَّة سبعين سنة حتى يقول الناس: إنه من أهلها، ولا يبقى بينه وبينها إلا شِبرٌ، فيسبقُ عليه الكتابُ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها(185») فإذا الخوف من الخاتمة قبل التوبة، وكل نفس فهو خاتمة، إذ يمكن أن يكون الموت متصلًا به، فليراقب الأنفاس وإلا وقع المحذور ودامت الحسرات حين لا ينفع التحسُّر.
الطبقة الرابعة: أن يتوب وتجري هذه الاستقامة، ثم يعود إلى مقارفة الذنب _أو الذنوب_ من غير أن يحدث نفسه بالتوبة، ومن غير أن يتأسف على فعله، بل ينهمك / انهماكَ الغافل في اتّباع شهوته، فهذا من جملة المُصرِّين، وهذه النفس هي النفس الأمارة بالسوء الفَرّارة من الخير، ويُخاف على هذا سوء الخاتمة وأمره في مشيئة الله، فإن ختم له بالسوء شقي شقاوة لا آخر لها، وإن ختم له بالحسنى حتى مات على التوحيد فينتظر له الخلاص من النار ولو بعد حين، ولا يستحيل أن يشمله عموم العفو بسبب خفي لا يطلع عليه، كما لا يستحيل أن يدخل الإنسان خرابًا ليجد كنزًا فيتفق أن يجده، ولا أن يجلس في البيت ليجعله الله عالمًا بالعلوم من غير تعلم، كما كان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، فطلب المغفرة بالطاعات كطلب العلم بالجهد والتكرار، وطلب المال بالتجارة وركوب البحر وطلبها بمجرد الرجاء مع خراب الأعمال كطلب الكنوز في المواضع الخربة، وطلب العلوم من تعليم الملائكة، وليتَ من اجتهد تعلم، وليتَ من اتجر استغنى، وليتَ من صام وصلَّى غُفر له، فالناس كلهم محرومون إلا العالمون، والعالمون محرومون إلا العاملون، والعاملون محرومون إلا المُخلِصون، والمُخلِصون على خطرٍ عظيم، فكما أن من خرب بيته وضَيَّع ماله وترك نفسه وعياله جياعًا يزعم أنه ينتظر فضل الله تعالى بأن يرزقه كنزًا يجده تحت الأرض في البيت الخرب؛ يُعد عند ذَوي البصائر من الحمقى والمغرورين، وإن كان ما ينتظره غير مستحيل في قدرة الله تعالى وفضله، فكذلك من ينتظر المغفرة من فضل الله تعالى وهو مصر على الذنوب غير سالك سبيل المغفرة معدود عند أرباب القلوب من المعتوهين، والعجب من عقل هذا المعتوه وترويجه حماقته في صيغة حسنة، إذ يقول: إن الله تعالى كريم وجنَّته ليست تضيق عن مثلي، ومعصيتي ليست تضره، ثم تراه يركب البحار ويقتحم الأغوار في طلب الدنيا، وإذا قيل له: إن الله تعالى كريم ودنانيره وخزائنه ليست تقصر عن فقرك وكسلك بترك التجارة ليس يضره، فاجلس في بيتك فعساه يرزقك من حيث لا تحتسب، / فيستحمق قائل هذا الكلام ويستهزئ به ويقول: ما هذا الهوس؟ السماء لا تُمطر ذهبًا ولا فضة، وإنما يُنال ذلك بالكسب، فهكذا قدره رب الأرباب وأجرى به سنته ولا تبديل لسنة الله، أولا يعلم المغرور أن ربَّ الدنيا ورب الآخرة واحد، وأن سنته لا تبديل لها فيهما جميعا، وأنه قد أخبر بذلك إذ قال تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النجم: 39]، وكيف يعتقد أنه كريم في الآخرة وليس بكريم في الدنيا؟! وكيف يقول: ليس مقتضى الكرم الفتور عن كسب المال، ومقتضى الفتور عن العمل الملك المقيم والنعيم الدائم، وأن ذلك بحكم الكرم يعطيه من غير جهد، وهذا يتعين شدة الاجتهاد عن غالب الأمر، فنعوذ بالله من العمى والضلال.
ما هذا إلا انتكاس على أم الرأس وانغماس في ظلمات الجهل، وصاحبه جدير بأن يكون داخلًا تحت قوله تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا}[السجدة: 12] أي: أبصرنا أنك صدقت إذ قلت: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}[النجم: 39] فارجعنا لنسعى، وعند ذلك لا يمكن من الانقلاب ويحق عليه العذاب.
فنعوذ بالله من دواعي الجهل والشك والارتياب السائق بالضرورة إلى سوء المنقلب والمآب، انتهى.
يا معاشر التائبين من أقامكم وأقعدنا؟ من قربكم وأبعدنا؟ إن نحن إلا بشر مثلكم، ولكن الله يمن على من يشاء من عباده.
كلما رأيت تَقَلْقُلَ التائبين تَقَلْقَلَ قلبي، فإذا تلمَّحتُ اصفرارهم تَبلبلَ لُبِّي، فإذا شاهدت دموعهم زاد كربي، فإذا سمعت حنينهم تبدَّدَ دمعي.
اللهم ارزقنا الثبات على التوبة إلى موافاة النوبة.
قال الهروي ☼: وطلب إِعذار الخليقة، انتهى.
أي: أن يطلب لكل من جنى عليه وارتكب ذنبًا عذرًا، فيعذر الكل في الذنب إلا نفسه، فيرى نفسه شر الناس متفردًا من الأذناب، فيتضاعف عنده عُظْمُ جنايته، إذ لا يرى أحدًا من الناس أسوأ حالًا فيه منه، فيجتهد في تصحيح توبته والإقلاع بالكلية عن جنايته.
قال عمر بن الخطاب: لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله، ولكن لا تعلمون، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيد، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، فإنما الناس معافًى ومبتلًى، فارحموا أهل البلاء واحمدوا الله على العافية، انتهى.
قال الأستاذ في باب المجاهدة / من الرسالة[1/49]: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي، سمعت محمد بن الفراء، سمعت أبا الحسن الوراق يقول: كان إحكامنا في مبادئ أمرنا في مسجد أبي عثمان: الإيثار بما يفتح علينا، وأن لا نبيت على معلوم، ومن استقبلنا بمكروه لا ننتقم لأنفسنا بل نعتذر إليه ونتواضع له، وإذا وقع في قلوبنا حقارة لأحد قمنا بخدمته والإحسان إليه حتى تزول، انتهى.
قال المبرد في «الكامل» وقال محمود الوراق أيضًا:
إني شكرتُ لظالمي ظُلمي وغفرتُ ذاك له على عِلْمي
ورأيتُه أسدَى إليَّ يدًا لما أبانَ بجهلهِ حِلْمي
رَجعت إساءته عليه وإحـ ـساني فعاد مضاعف الجُرمِ
فكأنما الإحسانُ كان لهُ وأنا المسيء إليه في الحُكمِ
وغدوتُ ذا أجرٍ ومحمدة وغدا بكَسْبِ الظلم والإثمِ
ما زالَ يظلمُني وأرحمُهُ حتى بكيتُ له من الظُّلمِ
أخذ هذا المعنى من قول رجل من قُريش لرجل: إني مَررتُ بقومٍ من قُريش من آل الزبير أو غيرهم يشتمونك شَتمًا رحمتك منه، قال: أفسمعتني قلتُ إلا خيرًا؟ قال: لا، قال: فإياهم فارحم.
وقال رجل لأبي بكر: لأشتمنَّك شتمًا يدخل معك قَبرك، قال: معك والله يدخل لا معي.
وقال رجل لابن مسعود: إن الرجل ليظلمني فأرحمه.
وقال رجل للشعبي كلامًا أقذع له فيه، فقال الشعبي: إن كنتَ صادقًا فغفر الله لي، وإن كنتَ كاذبًا فغفر الله لك.
ويروى أنه أتى مسجدًا فصادف فيه قومًا يغتابونه، فأخذ بعضادتي الباب وقال:
هنيئًا مريئًا غير داءٍ مُخامرٍ لعزَّة من أعراضنا ما استحلَّتِ
وذكر ابن عائشة أن رجلًا من أهل الشام قال: دخلتُ المدينة فرأيت رجلًا راكبًا على بغلةٍ لم أر أحسن سَمتًا ولا وجهًا ولا ثوبًا ولا دابة منه، فمال قلبي إليه فسألت عنه، فقيل لي: هذا الحسن بن علي، فامتلأ قلبي له بُغضًا وحسدت عليًّا عليه أن يكون له ابن مثله فصرت إليه فقلت: أنت ابن أبي طالب؟ فقال: أنا ابن ابنه، فقلت: بك وبأبيك أسبهما، فلما انقضى كلامي قال: أحسبك غريبًا، قلت: أجل، قال: فمل بنا، فإن احتجت إلى منزل أنزلناك، أو إلى مالٍ واسيناك، أو إلى حاجةٍ عاوناك قال: فانصرفت عنه وما على وجه الأرض أحد أحب إليَّ منه، انتهى كلام المبرد.
وقد قدمتُ في باب ما ينقض الوضوء قول الشافعي: إذا بلغك عن صديق لك ما تكرهه، فذكِّره إلى أن قال: فقل له: ما أردتَ بما بلغني عنك؟ فإن ذكر ما له وجه من العذر فاقبل منه، وذكرنا ثَمَّ قول هلال:
اقبلْ معاذير من يأتيك مُعتذرًا إنْ بَرَّ عندك فيما قال أو فَجَرا
البيتان.
وقول المبرد:
إذا اعتذرَ الصديق إليك يومًا من التَّقصير عُذْرَ أخٍ مُقرِّ
فَصُنْهُ عن عتابك واعفُ عنه فإنّ الصفح شِيمةُ كل حُرِّ
وقول الحسن بن رجاء:
صَفوحٌ عن الأجرام حتى كأنه من العَفو لم يعرف من الناس مُجرما
وليس يبالي أن يكون به الأذى إذا ما الأذى لم يغش بالكره مُسلِما
وذكرنا ثَمّ قول بكر المزني: ما أخرج من بيتي فيستقبلني أحد إلا رأيتُ له الفضل عليَّ لأني من نفسي على يقين وأنا من الناس في شك
وقول أبي الحسين الآجري:
يَمنعني عن عَيبِ غيري الذي أعرفه فيَّ من العَيبِ
عيبي لهم بالظنِّ مني لهم ولستُ من عَيبيَ في رَيْبِ
الأبيات.
وقول ابن الجَلّاء: لو أن رجلًا عصى الله بين يدي معصية أنظر إليه، ثم غاب فلا يجوز لي ما بيني وبين الله أن أعتقد فيه ذاك الذي رأيته بعيني؛ لأنه يمكن أنه قد تاب ورجع إلى الله حين غاب عني.
وذكرنا في «الاستطابة» قول أبي يزيد: ما دام العبد يظن أن في الخلق من هو شر منه فهو متكبر، وبالجملة فالإنسان من ذنبه على يقين ومن عيب نفسه على قطع مبين.
قال أبو حفص: من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات لم يخالفها في جميع الأحوال، ومن لم يجرها إلى مكروهها في سائر الأيام كان مغرورًا.
/ ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها، وكيف يصح لعاملٍ الرضا عن نفسه، والكريم ابن الكريم يقول: وما أبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بالسوء، ذكره القشيري.
وقال أبو الدرداء: إنك لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهًا، وإنك لا تفقه كل الفقه حتى تمقت الناس في جنب الله تعالى، ثم ترجع إلى نفسك فتكون لها أشد مقتًا من الناس، وللشافعي:
إني بُليتُ بأربعٍ يَرمينني بالنَّبلِ عن قوسٍ لهنَّ صَريرُ
إبليسُ والدنيا ونَفسي والهَوى أنى يفر من الهوى نِحْريرُ
قال الهروي: وسرائر حقيقة التوبة بثلاثة أشياء: تمييز التقية من العزة [ونِسيانُ الجِناية، والتوبةُ من التوبة](111) انتهى.
أي: لحقيقة التوبة ظواهر وبواطن، فظواهرها ما سبق، وبواطنها هي السرائر التي ذكرها، أولها: تمييز التقية؛ أي: التقوى من العزة؛ أي: بين الخلق، فإن كثيرًا من الناس من يتوب ويجتنب المخالفات للرياء والجاه والحشمة بين الناس، فالصورة صورة التقوى والتوبة والحقيقة عزة النفس وطلب الجاه، فليتحرر التائب من ذلك وليخلص التوبة لله تعالى.
وقد قال الحارث بن أسد في «الرعاية»: باب هيجان الرياء والدواعي إليه، قلت: ممَّ يكون الرياء الذي يتشعب منه في القلب وما الذي يهيجه؛ لأنه لو لم يكن له من قلب العبد أصل يتشعب منه ويهيجه لم يقبل خطوات العدو في ذلك، إذ يدعو إلى ما ليس له في القلب محبة ولا رغبة، قال: أجل، قلت: فما هو؟ قال: ثلاثة عقود في ضمير النفس: حب المَحمدة، وخوف المَذمَّة، والضَّعة، والطمع في الدنيا ولما في أيدي الناس، قلت: ما الدليل على ذلك؟ قال: ما يجده العبد من نفسه أنه يُحبُّ أن يعلم العبادُ بطاعته لربه فيوصل ويعطي ويكرم، ويحب أن يُحمد ويثنى عليه، ويعظم ويكره أن يذم ويعاب، فيعمل بالطاعة لئلا يذم بقلة الرغبة فيها، قلت: قد أجد ذلك، ولكن أريد الدليل من العلم، قال: الدليل على ذلك الحديث الذي رواه أبو موسى الأشعري أن رجلًا سأل النبيَّ صلعم فقال: يا رسول الله الرجل يقاتل حَمِيَّةً، ومعنى / الحمية: أنه يحمى فيأنف أن يقهر أو يذم بأنه غلب أو قهر قومه وغلبوا فيقاتل لذلك، أو يقاتل ليرى مكانه، وهذا لطلب الحمد وعظم القدر بالقلب، والرجل يقاتل للذكر وهذا للحمد له بالألسن، وقال ابن مسعود: إذا التقى الصفان تنزل الملائكة يكتبون الناس على نياتهم، فلان يقاتل للذكر، ومعنى هذا: حمد المخلوقين، وفلان يقاتل للملك ومعنى هذا: الطمع في الدنيا، إلى آخر كلام الرعاية. [خ¦7458، م1904]
وبالجملة، فالتوبة لأجل الناس توبة نفاق، كما قال فرقد السبخي: إن المنافق لينظر، فإذا لم ير أحدًا دخل مدخل السوء، وإذا لم ير أحدًا بطش، وإنما يراقب الناس ولا يراقب الله ╡، انتهى.
والتوبة لأجل الله توبة إخلاص، فإنه إفراد الحق في الطاعة بالقصد، وهو أن يريد بطاعته التقرب إلى الله دون شيء آخر من تَصنُّعٍ لمخلوق أو اكتساب مَحْمَدة عند الناس، أو محبة مدح من الخلق، أو معنى من المعاني سوى التقرب به إلى الله، ويصح أن يقال: الإخلاص تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين.
ويصح أن يقال: الإخلاص: التَّوقِّي عن مُلاحظة الأشخاص.
قال الهروي: ونسيان الجناية، انتهى.
وإنما كان ذلك من سرائرها لصفاء الوقت مع الله بالحضور، فإن ذكر الجفاء في وقت الصفاء جفاء.
قال الأستاذ في «الرسالة»[1/46]: أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي، سمعت أبا عبد الله بن مصلح بالأهواز، سمعت الجنيد يقول: دخلت على السَّريِّ يومًا فرأيتُه متغيرًا، فقلت له: ما لك؟ فقال: دخل عليَّ شاب فسألني عن التوبة فقلت له: أن لا تنسى ذنبك، فعارضني وقال: بل التوبة أن تنسى ذنبك، فقلت: إن الأمر عندي ما قاله الشاب، قال: لمَ؟ قلت: لأني إذا كنت في حال الجفاء فنقلني إلى حال الصفاء، فذكر الجفاء في حال الصفاء جفاء، فسكت، انتهى.
وقال: سمعت أبا حاتم السجستاني، سمعت أبا نصر السراج الصوفي يقول: سئل سَهل بن عبد الله عن التوبة فقال: أن لا تنسى ذنبك، وسئل الجُنيد عن التوبة فقال: أن تنسى ذنبك، قال أبو نصر السرّاج: أشار سهل إلى / أحوال المريدين والمعرضين تارة لهم وتارة عليهم، فأما الجنيد فإنه أشار إلى توبة المتحققين لا يذكرون ذنوبهم بما غلب على قلوبهم من عظمة الله ودوام ذكره، قال: وهذا مثل ما سئل رويم عن التوبة فقال: التوبة من التوبة.
وسئل ذو النون المصري فقال: توبة العوام من الذنوب، وتوبة الخواص من الغفلة.
وقال الثوري: التوبة أن تتوب من كل شيء سوى الله، انتهى.
وقال الغزالي في «الإحياء»[4/42]: فإن قلت: فما قولك في تائبين، أحدهما: نسي الذنب ولم يشتغل بالتفكر فيه، والآخر: جعله نصب عينيه ولا يزال يتفكر فيه ويحترق ندمًا عليه، أيهما أفضل؟.
فاعلم أن هذا قد اختلفوا فيه فقال بعضهم: حقيقة التوبة أن تنصب ذنبك بين عينيك، وقال آخر: حقيقة التوبة أن تنسى ذنبك، وكل واحد من المذهبين عندنا حق، ولكن بالإضافة إلى حالين، فكلام المتصوفة أبدًا يكون قاصرًا، فإن عادة كل واحد أن يخبر عن حال نفسه فقط ولا يهمه حال غيره، فتختلف الأجوبة لاختلاف الأحوال، وهذا نقصان بالإضافة إلى درجة العلم، فإن معرفة الأشياء على ما هي عليها أفضل وأعلى، ولكنه كمال بالإضافة إلى الهمّة والإرادة والجد، حيث يكون صاحبه مقصور النظر على حال نفسه لا يهمه أمر غيره، إذ طريقه إلى الله تعالى نفسه ومنازله أحواله، وقد يكون طريق العبد إلى الله العلم والتعليم، فالطرق إلى الله كثيرة وإن كانت مختلفة في القرب والبعد، والله أعلم بمن هو أهدى سبيلًا مع الاشتراك في أصل الهداية.
فأقول: تصور الذنوب وذكرها والتفجع عليها كمال في حق المبتدئ في الزهد؛ لأنه إذا نسيها لم يكثر احتراقه، فلا تقوى إرادته وانبعاثه لسلوك الطريق، ولأن ذلك يستخرج منه الحزن والخوف الوازع عن الرجوع إلى مثله، فهو بالإضافة إلى الغافل كمال، ولكنه بالإضافة إلى سالك الطريق نقصان، فإنه شغل مانع عن سلوك الطريق، بل سالك الطريق ينبغي أن لا يعرج / على غير السلوك، فإن ظهر له مبادئ الوصول وانكشف له أنوار المعرفة ولوامع الغيب استغرقه ذلك، ولم يبق فيه متسع للالتفات إلى ما سبق من أحواله وهو الكمال، بل لو عاق عن الطريق إلى بلد من البلاد نهر خارج طال تعب المسافر في عبوره من حيث إنه كان قد خرب جسره من قبل، فجلس على شاطئ النهر بعد عبوره يبكي متأسفًا على تخريبه الجسر، كان هذا مانعًا آخر اشتغل به بعد الفراغ عن ذلك المانع، نعم إن لم يكن الوقت وقت الرحيل بأن كان ليلًا فتعذر السلوك، وكان على طريقه أنهار وهو يخاف على نفسه أن يجربها، فليطل بالليل بكاؤه وحزنه على تخريب الجسر، ليتأكد بطول الحزن عزمه على أن لا يعود إلى مثله، فإن حصل له من التنبه ما يثق به من نفسه أنه لا يعود إلى مثله، فسلوك الطريق أولى به من الاشتغال بذكر تخريب الجسر والبكاء عليه، فهذا لا يعرفه إلا من عرف الطريق والمقصد والعائق وطريق السلوك، بل نقول: شرط دوام التوبة أن يكون كثير الفكر في النعيم في الآخرة؛ لتزيد رغبته، ولكن إن كان شابًّا فلا ينبغي أن يطيل فكره في كل ما له نظير في الدنيا كالحور والقصور، فإن ذلك ربما يحرك رغبته فيطلب العاجلة ولا يرضى بالآجلة.
بل ينبغي أن يتفكر في لذة النظر إلى وجه الله فقط، فذلك لا نظير له في الدنيا، وكذلك تذكر الذنب قد يكون محركًا للشهوة، فالمبتدئ أيضًا قد يستضر به، فيكون النسيان أفضل له عند ذلك، ولا يصدنك عن التصديق بهذا التحقيق ما يحكى لك من بكاء داود ◙ ونياحته، فإن قياسك نفسك على الأنبياء ‰ قياس في غاية الاعوجاج؛ لأنهم قد ينزلون في أقوالهم وأفعالهم إلى الدرجات اللائقة بأممهم، فإنهم ما بعثوا إلا لإرشادهم فعليهم التأسيس بما تنتفع أمتهم بمشاهدته، وإن كان ذلك نازلًا عن ذروة مقامهم.
فقد كان في الشيوخ من لا يشير على مريده بنوع رياضة إلا ويخوض معه فيها، وقد كان مستغنيا لفراغه عن المجاهدة / وتأديب النفس، ولكن تسهيلًا للأمر على المريد، ولذلك قال صلعم: «أما إني لا أنسى، ولكني أنسى لأشرع»(112) ولا تعجب من هذا، فإن الأمم في كنف شفقة الأنبياء كالصبيان في كنف شفقة الآباء، وكالمواشي في كنف الرعاة.
أما ترى الأب إذا أراد أن يستنطق ولده الصبي كيف ينزل إلى درجة الصبي؟ كما قال صلعم للحسن: «كخ كخ» لما أخذها تمرة من الصدقة ووضعها في فيه، وما كانت فصاحته تقتصر عن أن يقول: ارم هذه التمرة، فإنها حرام، ولكنه إذ علم أنه لا يفهم منطقه ترك فصاحته ونزل إلى لكنته. [خ¦3072، م:1069]
بل الذي له شاة أو طير يصوت به رغاء وصفير تشبهًا بالبهيمة والطير تلطفًا في فعله، فإياك أن تغفل عن أمثال هذه الدقائق، فإنها مزلة أقدام العارفين فضلًا عن الغافلين، انتهى.
تنبيهات:
أحدها: قال في «الروضة»[11/276] من زياداته: ولو تاب عن معصية ثم ذكرها.
قال الإمام القاضي أبو بكر الباقلاني: يجب عليه تجديد الندم عليها كلما ذكرها، إذ لو لم يندم لكان مستهينًا بها، وذلك ينافي الندم، وأخبار إمام الحرمين أنه لا يجب ولا يلزم من ذكرها بلا ندم الاستهانة، بل قد يذكر ويعرض عنها.
قال القاضي: وإذا لم تجدد التوبة فإن ذلك معصية جديدة، والتوبة الأولى صحيحة؛ لأن العبادة الماضية لا ينقصها شيء بعد فراغها، قال: فيجب تجديد توبة عن تلك المعصية، وتجب توبة من ترك التوبة إذا حكمنا بوجوبها، انتهى.
ولفظ الإرشاد: فصل: من ندم على سيئة ووقع الندم توبة على شرطها، ثم ذكر السيئة فقال القاضي ☼: يجب عليه تجديد الندم عليها كلما ذكرها، إذ لو لم يندم عليها لكان مستهينًا بها أو فرحًا، وذلك يرده إلى إصراره ويحل عروة الندم، هذا ما قاله ولي فيه نظر، إذ لا يبعد أن يندم، ثم إذا ذكر أعرض عنه ولم يفرح به مبتهجًا ولم يجدد عليه ندمًا، ولا خلاف أنه لا يجب عليه استدامة الندم واستصحاب ذكره، وهذا مما نستخيرُ الله تعالى فيه، انتهى. /
قال: فإن قيل: لو أطاع العبد ثم ندم على الطاعة فما قولكم فيه؟ قلنا: لا يتصور من العارف بالله أن يندم على طاعة، وإن ندم على أمر يرجع إلى نفسه من مضرة لحقته فلا بُعْدَ فيه، وإنما الذي قلنا في الندم على الطاعة من حيث كانت طاعة، وغرضنا بهذه المقدمة أن القاضي ☼ أوجب تجديد الندم كما تقدم، ثم قال: إن لم يجدد الندم كان ذلك معصية جديدة، والتوبة الأولى قد مضت على صحتها، إذ العبادة الماضية لا ينقضها شيء بعد تصرمها، ثم قال: يجب تجديد ندم على تلك السيئة، ويجب ندم على ترك الندم وقت حكمنا بوجوبه فهذا قوله.
وعندي أن ذلك من مسائل الاحتمال والتوبة من العبادة، ولا يجب أن يكون جميع الكلام فيه قطعيًّا، بل لا يبعد أن يقع فيه مجتهد فيه، انتهى.
وقد صرح الشيخ عز الدين(113) في مسألة القاضي هذه بالاستحباب، فقال: ويستحب للتائب إذا ذكر ذنبه الذي تاب عنه أن يجدد الندم على فعله والعزم على ترك العود إلى مثله، وعلى هذا يحمل قوله صلعم: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم مئة مرة»[م:2702] إلى آخر كلامه الذي أسلفناه في الباب قبله.
ثانيها: سيأتي في باب التعزية إن شاء الله حديث الحسين بن علي عن النبي صلعم قال: «ما من مسلم ولا مسلمة يصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها، فيحدث لذلك استرجاعًا، إلا جدد الله له عند ذلك وأعطاه مثل أجرها يوم أصيب»(114).
فقد ينقدح ذلك في ما نحن فيه ويقال: إن التائب إذا ذكر ذنبه الذي تاب عنه فجدد له ندمًا جدد الله له إذ ذاك مثل الأجر الذي حصل له يوم توبته الأولى عنه، لكن هل هو أجر واجب أو أجر مندوب ينبني على ما سبق من الخلاف، إن قلنا بمذهب القاضي كان أجر واجب، وإن قلنا بمقابله كان أجر مندوب، كذا ظهر لي من الفتح الإلهي، وعلى هذا يخرج ما هو سائر على ألسنة الناس من قولهم: كل الذخائر تنفع حتى الذنوب السالفة إذا ذكرها العاصي يستغفر الرحمن. /
ثالثها: من كان له مع الله سبحانه [طاعة] فقطعها أو قصر عنها ثم تذكرها، فهذا من باب ذكر الصفاء في أيام الجفاء، عكس ما نحن فيه، ولا شَكَّ إنه مأجور بتذكرها، ولا سيما إذا صمم على العود إليها، حكي أن رجلًا قال للجنيد: على ماذا تتأسف من أوقاتك؟ فقال: على زمانِ بسطٍ أورثَ قبضًا، وزمان أُنس أورث وحشة، ثم أنشأ يقول:
قد كانَ لي مشربٌ يصفو برؤيتكم فكدَّرتهُ يدُ الأيام حينَ صَفا
وقال أبو العباس بن مسروق: مررت مع الجنيد في بعض دروب بغداد، وإذا بمغنٍّ يغني:
منازل كنتَ تهواها وتألفها أيام كنتَ على الأيام مَنصورُ
فبكى الجُنيد بكاء شديدًا، وقال: يا أبا العباس ما أطيب منازل الألفة والأنس، وأوحش مقامات المخالفة والوحشة، ولا أزال أبدًا أحن إلى بدء إرادتي جِدَّةِ سَعْيي وركوبي الأهوال طمعًا في الوصول، وها أنا في أيام الفترة أتأسف على أوقاتي قال الله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ}[إبراهيم: 5].
كان لبعض الرجال أوقات مناجاة فتغيرت ولم تتغير نعم الله عليه، فجلس يومًا في خلوة وقال: يا رب تغيرت خدمتي ولم تتغير نعمتي، فهتف به هاتف لأيام وصل عندنا حفظناها وضيعتها وأنشدوا:
تعالوا بنا نَصطلح كتاب الرضا قد فُتِحْ
وداووا الفؤادَ الذي بسيف الجفا قد جُرحْ
أيا مدعي حبنا دع الروح ثم انْطَرحْ
تعلَّقْ بأهلِ الهوى وقلْ للعَذول استَرِحْ
وبالجملة، فالعارف يتأسف في وقت التكدر على زمن الصفاء، ويحن إلى زمان القرب والوصال في حال الجفاء، ولسان الحال يقول:
لله ما أطيب ذاك السهاد وما ألذ القربَ بعد البِعاد
وما أشد الهجر من بعدما قد كنت من جملة أهل الوداد /
يا ناسيًا للعهد عاملتنا ثم تعلَّلت بطيب الرُّقاد
بمن تشاغلت وأين الذي حصَّلتَ كلَّا بل حُرمت المُراد
فاز الذي عاملنا بالرِّضا وحصَّل الزاد ليوم المَعاد
شَمِّر من النوم ودَع ما مضى وكن نفيرا ما مضى لا يعاد
والله أعلم.
قال الهروي: والتوبة من التوبة أبدًا؛ لأن التائب داخل في الجميع في قوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ}[النور: 31] فأمر التائب بالتوبة، انتهى.
لما كان الاشتغال بالحق والتوجه إليه بالكلية والوفاء بعهد الفطرة ينفي تعلق الخاطر بالغير وذكر الذنب لا جرم، كان ذلك يقتضي التوبة من التوبة الموقوفة على معرفة الذنب وذكره، وكلما ترقَّى السالك إلى مقام أعلى ظهر له علة المقام السافل، فإن التوكل ينفي النظر إلى فعله وفعل ما سوى الحق والذنب، والتوبة منه كلاهما من أفعاله، فالتوبة من التوبة من أسرار التوبة، وقد استدل الهروي على هذا المقام بقوله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ}، فإن التائب من جملة المؤمنين، فدخل في الجميع، فكان مأمورًا بالتوبة ولم يبق له ذنب يتوب عنه، فإنه قد تاب فوجب عليه أن يتوب من التوبة الموقوفة على ذكر الذنب الذي هو الجفاء، فليتب عنها ليخلص عن الجفاء وقت الصفاء.
قال الشيخ عز الدين في «القواعد»[1/238]: فإن قيل: كيف تتصور التوبة مع ملاحظة توحد الله تعالى بالأفعال خيرها وشرها، مع أن الندم على فعل الأغيار لا يتصور.
قلنا: من رأى للآدمي كسبًا خصص الندم والعزم بكسبه دون صنع ربه، ومن لا يرى الكسب خصص التوبة بحال الغفلة عن التوحد، وهذا مشكل جدًّا من جهة أنه يتوب عما يظنه فعلًا له، وليس بفعل له في نفس الأمر.
وقال الغزالي(115): فإن قلت: تألم القلب أمر ضروري لا نرى فيه الاختيار، فكيف يوصف بالوجوب؟ فاعلم أن سببه تحقيق العلم بفوات المحبوب، وله سبيل إلى تحصيل سببه، وبمثل هذا / المعنى دخل العلم تحت الوجوب لا بمعنى أن العلم يخلقه العبد ويحدثه في نفسه، فإن ذلك محال، بل العلم والندم والفعل والإرادة والقدرة والقادر الكل من خلق الله تعالى وفعله: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات: 96]، هذا هو الحق عند ذوي البصائر، وما سوى هذا ضلال.
فإن قلت: أفليس للعبد اختيار في الفعل والترك؟
قلنا: نعم، وذلك لا يناقض قولنا: أن الكل من خلق الله، بل الاختيار من خلق الله، والعبد مضطر في الاختيار الذي له، فإن الله تعالى إذا خلق اليد الصحيحة وخلق الطعام اللذيذ، وخلق الشهوة للطعام في المعدة، وخلق العلم في القلب، كان هذا الطعام مسكن للشهوة، وخلق الخواطر المتعارضة في أن هذا الطعام هل فيه مضرة مع أنه مسكن الشهوة، وهل دون تناوله مانع يتعذر معه تناوله أم لا، ثم خلق العلم بأنه لا مانع بعيد اجتماع هذه الأسباب تنجزم الإرادة الباعثة على التناول، فانجزام الإرادة بعد تردد الخواطر المتعارضة وبعد قوة الشهوة للطعام تسمى اختيارًا، ولا بد من حصوله عند تمام أسبابه، فإذا حصل انجزام الإرادة بخلق الله إياها تحركت اليد الصحيحة إلى جهة الطعام لا محالة، إذ بعد تمام الإرادة والقدرة يكون الفعل ضروريًّا فتحصل الحركة، فتكون الحركة بخلق الله بعد حصول القدرة وانجزام الإرادة وهما من خلق الله تعالى، وانجزام الإرادة يحصل بعد صدق الشهوة والعلم بعدم الموانع، وهما أيضًا من خلق الله، ولكن بعض هذه المخلوقات يترتب على البعض ترتيبًا جرت به سنة الله تعالى في خلقه، ولن تجد لهذه السنة تبديلًا، فلا يخلق الله تعالى حركة اليد بكتابة منظومة ما لم يخلق فيها صفة تسمى قدرة، وما لم يخلق فيها حياة، وما لم يخلق إرادة مجزومة، ولا يخلق الإرادة المجزومة ما لم يخلق شهوة وميلًا في النفس، ولا ينبعث هذا الميل انبعاثًا تامًّا ما لم يخلق علمًا بأنه موافق للنفس، إما في الحال وإما في المآل.
ولا يخلق العلم أيضًا إلا بأسباب أخر ترجع إلى حركة وإرادة وعلم، فالعلم وميل الطبع / أبدًا يستتبع الإرادة الجازمة، والإرادة والقدرة أبدًا تستردف الحركة، وهكذا الترتيب في كل فعل، والكل من اختراع الله تعالى، ولكن بعض مخلوقاته شرط لبعض، فلذلك يجب تقدم البعض وتأخير البعض، كما لا تخلق الإرادة إلا بعد العلم ولا يخلق العلم إلا بعد الحياة، ولا تخلق الحياة إلا بعد الجسم، ويكون خلق الجسم شرطًا لحدوث الحياة، إلا أن الحياة تتولد من الجسم، فيكون خلق الحياة بخلق العلم لا أن العلم يتولد من الحياة، ولكن لا يستعد المحل لقبول العلم إلا إذا كان حيًّا، ويكون خلق العلم شرطًا لجزم الإرادة، لا أن العلم يولد الإرادة، ولكن لا يقبل الإرادة إلا جسم حي عالم، ولا يدخل في الوجود إلا ممكن، والإمكان ترتيب لا يقبل التغيير؛ لأن تغيره محال فمهما وجد شرط الوصف سبقه المحل له بقبول الوصف، فحصل ذلك الوصف من الحلول الإلهي والقدرة الأزلية عند حصول الاستعداد، ولما كان للاستعداد بسبب الشروط ترتيب، كان لحصول الحوادث بفعل الله تعالى ترتيب، والعبد يجري هذه الحوادث المرتبة وهي مرتبة في قضاء الله تعالى الذي هو واجد كلمح بالبصر ترتيبًا كليًّا لا يتغير، وظهورها بالتفصيل بقدرة مقدر لا تتعداه، وعن ذلك العبارة بقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر: 49]، وعن القضاء الكلي الأزلي العبارة بقوله تعالى: {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ}[القمر: 50]، وأما العباد فإنهم مُسَخَّرون تحت مجاري القضاء والقدر، ومن جملة ذلك خلق حركة في يد الكاتب بعد خلق صفة مخصوصة في يده تسمى قدرة، وبعد خلق ميل قوي جازم في نفسه يسمى قصدًا، وبعد علم بما إليه ميله يسمى إدراكًا ومعرفة، فإذا ظهرت من باطن الملكوت هذه الأمور الأربع على جسم عبد مسخر تحت قهر التقدير سبق أهل عالم الملك والشهادة المحجوبين عن عالم الغيب والملكوت، وقالوا: أيها الرجل قد تحركت وكتبت ورميت، ونودي من وراء حجب الغيب {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى}[الأنفال: 17]، وما قتلت إذ قتلت، ولكن {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ}[التوبة: 14].
وعند هذا / تَحيَّرت عقول القاعدين في بحبوحة عالم الشهادة، فمن قائل: إنه جَبْر محض، ومن قائل: إنه اختراع صرف، ومن متوسط مائل إلى أنه كسب، ولو فتحت لهم أبواب السماء فنظروا إلى عالم الغيب والملكوت لظهر لهم أن كل واحد صادقٌ من وجه، وأن المقصود شامل لجميعهم، فلم يدرك واحد منهم كُنه هذا الأمر، ولم يُحط علمه بجوابه، وتمام علمه ينال بإشراق النور من كوة نافذة إلى عالم الغيب، وأنه تعالى عالم الغيب والشهادة لا يُطلعُ على غيبه أحدًا إلا من ارتضى، وقد يطلع على الشهادة من لم يدخل في حيز الارتضاء، ومن حرك سلسلة الأسباب والمسببات، وعلم كيفية تسلسلها، ووجه ارتباط مناط سلسلتها بمسبب الأسباب انكشف له سر القدر وعلم علمًا يقينًا أن لا خالق إلا الله ولا مبدع سواه.
فإن قلت: فقد قضيت على كل واحد من القائلين بالجبر والاختراع والكسب، وإنه صادق من وجه وهو مع صدقه قاصر، وهذا متناقض فكيف يمكن فهم ذلك، وهل يمكن إيصال ذلك إلى الأفهام بمثال؟
فاعلم أن جماعة من العميان سمعوا أنه قد حمل إلى البلدة حيوان عجيب يسمى الفيل، وما كانوا قد شاهدوا صورته ولا سمعوا اسمه فقالوا: لا بد من مشاهدته ومعرفته باللمس الذي نقدر عليه، فطلبوه فلما وصلوا إليه لمسوه فوقعت يد بعضهم على رجله، ووقعت يد بعضهم على نابه، ووقعت يد بعضهم على أذنه فقالوا: قد عرفناه، فلما انصرفوا سألهم بقية العميان، فاختلفت أجوبتهم.
فقال الذي لمس الرجل: إن الفيل ما هو إلا مثل أسطوانة خشنة الظاهر إلا إنه ألين منها.
وقال الذي لمس الناب: ليس كما تقول، بل هو صلب لا لين فيه وأملس لا خشونة فيه، وليس هو في غلظ الأسطوانة أصلًا، بل مثل عمود.
وقال الذي لمس الأذن: هو لعمري لين وفيه خشونة، فصدق أحدهما فيه، ولكن قال: ما هو مثل عمود ولا هو مثل أسطوانة، وإنما هو مثل جلد عريض غليظ، فكل واحد من هؤلاء صدق من وجه، إذ أخبر كل عما أصابه من معرفته، ولم يخرج واحد في خبره عن وصف الفيل، ولكنهم بجملتهم / قصروا عن الإحاطة بكنه صورة الفيل.
فاستبصر بهذا المثال واختبر به، فإنه مثال أكثر ما اختلف الناس فيه، وإذا كان هذا كلامًا يناطح علوم المكاشفة ويحرك أمواجها وليس ذلك من غرضنا، فلنرجع إلى ما كنا بصدده، وهو بيان التوبة فنقول: إن التوبة واجبة بجميع أجزائها الثلاث: العلم والندم والترك، وإن الندم داخل في الوجوب لكونه واقعًا في جملة أفعال الله المقصودة من علم العبد وإرادته وقدرته المتخللة، وما هذا وصفه فاسم الوجوب يشمله، انتهى.
وقال الشيخ عز الدين في «أواخر القواعد»[2/232]: وأما التوبة فأقسام:
أحدها: التوبة من ترك الواجبات وفعل المحرمات.
القسم الثاني: التوبة من ارتكاب المكروهات.
القسم الثالث: التوبة من الشبهات.
القسم الرابع: التوبة من ملابسة المباحات إلا ما تدعو إليه الضرورات أو تمس إليه الحاجات.
القسم الخامس: التوبة من رؤية التوبة ورؤية جميع ما يتقرب به إلى ذي الجلال.
ومعنى ذلك: ترك الاعتماد والاستناد إلى شيء من المعارف والأحوال والأقوال والأعمال، إذ لا ينجي شيء من ذلك صاحبه، فإنه لا اعتماد في النجاة إلا على ذي الجلال، وقد قال صلعم: «لن ينجي أحدكم عمله» قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: «ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله برحمته»(116) انتهى.
ومن القسم الرابع: قال أبو نعيم(117): حدَّثنا جعفر بن محمد في كتابه، وحدَّثنا عنه عمر بن أحمد بن عثمان: قال أحمد بن خلف: دخلت يومًا على السَّرِيِّ فقال لي: أعجبك من عصفور يجيء فيسقط على هذا الرواق فأكون قد أعددت له لقيمة فأفتها في كفي، فيسقط على أطراف أناملي فيأكل، فلما كان في وقت من الأوقات سقط على الرواق، ففتت الخبز في يدي فلم يسقط على يدي كما كان، فذكرت في سري العلة في وحشته مني، فوجدتني قد أكلت ملحًا طيبًا فقلت في سري: أنا تائب من الملح، فسقط على يدي فأكل وانصرف، انتهى.
ونظير ما ذكره في القسم الخامس، قال الأستاذ في «الرسالة»: سمعت محمد بن أحمد بن محمد الصوفي، سمعت عبد الله بن علي بن محمد اليمني، يقول: شتان بين تائب / يتوب من الزلات، وتائب يتوب من الغفلات، وتائب يتوب من رؤية الغفلات، وتائب يتوب من رؤية الحسنات، انتهى.
وأنشدوا:
بذكرِكَ يا مولى الوَرَى نَتنعَّم وقد خابَ قومٌ عن سبيلك قَدْ عَمُوا
شهِدنا يقينًا أن علمَك واسعٌ وأنتَ ترى ما في القلوبِ وتَعلمُ
إلهي تحملنا ذنوبًا عظيمةً أسأنا وقصرنا وجودك أعظمُ
سَترنا معاصينا عن الخَلق غفلةً وأنت ترانا ثم تَعفو وتَرحمُ
وحقَّك ما فينا مُسيٌء يسرُّه صُدودك عنه بل يزلُّ ويَندمُ
سَكتنا عن الشَّكوى حياءً وهيبةً وحاجاتنا بالمُقتضى تتكلمُ
إذا كان ذلُّ العبد بالحال ناطقًا فهل يستطيع الصَّبر عنه ويكتمُ
إلهي فجُد واصفَحْ وأصلح قلوبَنا فأنتَ الذي تُولي الجميلَ وتُكرمُ
ألستَ الذي قرَّبتَ قومًا فوافقوا ووفَّقتَهم حتى أنابوا وأسلموا
وقلتَ استقيموا منَّةً وتكرمًا وأنت الذي قوَّمتَهم فتقوَّموا
لهم في الدُّجى أُنسٌ بذكركَ دائمًا فهم في الليالي ساجدون وقوَّمُ
نظرت إليهم نظرةً بتلطفٍ فعاشوا بها والخلق سَكْرى ونوَّمُ
لكَ الحمدُ عامِلنا بما أنتَ أهلُه وسامح وسَلِّمنا فأنت المُسلِّمُ
قال الهروي: ولطائف أسرار التوبة ثلاثة أشياء، انتهى.
لطائف أسرار التوبة: بواطن بواطنها كروح الروح، فإن النفس روح للبدن يحيى بها، والقلب روح للنفس تحيى به، ثم روح الإنسان، روح يحيى به قلبه، وقد شبه الله تعالى النفس بالشجرة والقلب بالزجاجة والروح بالمصباح.
قال الغزالي(118): وأما الندم على ما سبق والتحزن عليه فواجب عليه، وهو روح التوبة وبه تمام التلافي، انتهى.
فلطائف أسرار التوبة هي: روح هذا الروح، قال الهروي: أولها: أن ينظر بين الجناية والقضية / فيتعرف مراد الله ╡ فيها إذ خَلَّاك وإتيانها، انتهى.
أي: اللطيفة الأولى هي: أن ينظر بعد نسيان الجناية الذي هو روح لحقيقة التوبة إلى حكم الله تعالى بها عليه، فيعرف أن الله مكنه منها وأقدره عليها، وخلَّا بينه وبينها، فله مراد في إجراء الخطيئة عليه، فيكون ركونه مع إرادة الله تعالى لا مع الذنب، والوقوف مع الله تعالى وصفته روح نسيان الجناية.
وقد قال الغزالي في كتاب «الخوف والرجاء من الإحياء»[4/159]: فالعاصي قد قُضي عليه بالمعصية شاء أم أبى، وكذا المُطيع، فالذي رفع محمدًا صلعم إلى أعلى عليين من غير وسيلة سبقت منه قبل وجوده، ووضع أبا جهل في أسفل سافلين من غير جناية منه قبل وجوده، جدير بأن يخاف لصفة جلاله، فإن من أطاع أطاع؛ لأنه سلطت عليه إرادة الطاعة وآتاه القدرة، وبعد خلق الإرادة الجازمة والقدرة التامة يصير الفعل ضروريًّا، والذي عصى عصى؛ لأنه سلطت عليه إرادة قوية جازمة وآتاه الأسباب والقدرة، فكان الفعل بعد الإرادة والقدرة ضروريًّا، فليت شعري ما الذي أوجب تكريم هذا وتخصيصه بتسليط إرادة الطاعات عليه، وما الذي أوجب إهانة الآخر وإبعاده بتسليط دواعي المعصية عليه، وكيف يحال ذلك على العبد؟ فإذا كانت الحوالة ترجع إلى القضاء الأزلي من غير جناية ولا وسيلة، فالخوف ممن يقضي بما يشاء ويحكم بما يريد، انتهى.
قال الشيخ عز الدين(119) في الكلام على الصبر: ولا يشترط أن يرضى بالمقضي به إلا إذا كان المقضي به خيرًا، وإن كان المقضي به معصية فليرض بالقضاء، وليكره المقضي به؛ لأن القضاء هو حكم الله تعالى، والمقضي به هو المحكوم به، وهذا كالمريض إذا وصف له الطبيب الدواء المر، أو قطع اليد المتآكلة، فإنه يرضى بوصف الطبيب وقضائه، وإن كره المقضي به من الدواء وألم القطع هذا كلامه.
قال الهروي: فإن الله تعالى يُخْلي العبد والذنب لأحد معنيين: أحدهما: أن يعرف عزته في قضائه وبِرَّه في سترة / وحلمه في إمهال راكبه، وكرمه في قبول العذر منه وفضله في مغفرته، انتهى.
أي: أن يعرف من النظر في حكمة الله تعالى هذه الأوصاف الخمسة:
الوصف الأول: عزته سبحانه في قضائه، بأن حكم عليه بما لا يمكنه رده، فأذل نفسه بما لم يقدر على دفعه لكمال عِزِّهِ سبحانه وسلطانه، وقد جلس بعض الصالحين في خلوة فقال: إلهي أنت قضيت وأنت حكمتَ وأنتَ أردتَ وأنت قدرتَ، فهتف به هاتف: هذا التوحيد، فأين أدب العبودية؟ فقال: إلهي أنا عصيتُ وأنا جنيتُ وأنا أخطأتُ وأنا أسأتُ، فسمع الهاتف يقول: أنا غفرتُ وأنا رَحَمتُ وأنا تجاوزتُ وأنا سَتَرتُ وأنا أهل التقوى وأهل المغفرة.
الثاني: بره وإحسانه سبحانه إليه بأن سَتر عيبه ولم يفضحه بين الخلائق.
إلهي أنتَ الملكُ الكريم وكلُّ معبودٍ سواك باطل
إليك رغب القاصدون وابتغوا إليكَ الوَسائل
مولاي برحمة تعطف بها عبدك خاضع وسائل
إحسانك واسع عميم لا تنقص جودك المسائل
فيك تولَّه الواجدون فاللسان كليل والعقل داهش ذاهل
الثالث: حلمه سبحانه بأن لم يعاجله بالعقوبة وأمهله حتى تاب واعتذر إليه واستغفر عن ذنبه.
كن حييًا إذا خلوتَ بذنبٍ ليس يَخفَى على الرقيبِ الشهيدِ
أتهاونْتَ بالإله بديًّا وتواريت عن عُيون العبيدِ
أقرأتَ القرآن أم لستَ تدري أن مولاك دون حبل الوريدِ
فلولا حلمه والصفح منه لعاجلك العقاب لدى الشرودِ
فبادر بالإنابة يا مسيء لتحظى بالنظر يوم المزيدِ
وهذان البيتان الأخيران لي.
الرابع: كرمه سبحانه في قبول العذر منه يا قاعدين عنا، يا راضين بالغير بدلًا منا، لو وفيتم بعهودنا ما رمينا بصدودنا، وإذ كاتبتمونا بدموع / الأسف لغفرنا لكم ما سلف، وأنشدوا:
ولو أنهم عند كشف القِناع وحَلِّ العُقود ونَقض العُهود
وخَلعهمُ لعِذارِ الوفاء ولُبسهمُ لبرود الصُّدودِ
أَتونا وقالوا مَضى ما مَضَى وبلوا بفَيض الدُّموع الخُدود
لقلنا لهم ما مضى لا يُعاد قبلناكُم والتداني يَعود
يا مغترًّا بلهب نار الأمل مثل اغترار الفراش، أين نظر البصائر؟ ويحك قم لتسرح في مقعد صدق عند مليك مقتدر، اسلك جادة الجد تصل، ولا تتبع الهوى فتضل، يا قليل الخبرة بالطرق، اطلب رفقة، يا مأسور استغث، يا بعيد اندب، يا طريد تأسف، يا مهجور تقلقل.
أين انكسارُ المعتذِر أين بكاء المُفتَقر
يا راقدًا في غفلة يا قاعدًا عما أمر
أين الذين استبصروا وساروا إلى المولى فسر
قم في الدجى مستغرقا وابك بدمع منهمر
وانهض إلى درك العلى جدا بقلب مصطبر
الخامس: فضله سبحانه؛ أي: بفضله وزيادة الطَّول وإلفه عليه بالعفو عنه، وإفاضة ثواب التوبة عليه بالغفران.
وقد قال الإمام فخر الدين(120) في قوله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا}[الزمر: 53] الآية: اعلم أن هذه الآية تدل على رجاء الرحمة من وجوه:
الأول: سمَّى المذنب بالعبد، والعبودية تشعره بالحاجة والذلَّة والمَسْكنة، واللائق بالكريم الرحيم إفاضة الجبر والرحمة على المسكين المحتاج.
الثاني: أنه تعالى أضافهم إلى نفسه بياء الإضافة، فقال: {يَا عِبَادِيَ}، وشرف الإضافة إليه يفيد الأمن من العذاب.
الثالث: أنه تعالى قال: {أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ}، ومعناه: أن ضرر تلك الذنوب ما عاد إليَّ، بل هو عائد إليهم، فيكفيهم من تكفير الذنوب عود مضارها إليهم، فلا حاجة إلى إلحاق ضرر آخر بهم.
الرابع: قال: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} نهاهم عن / القنوط، فيكون هذا أمرًا بالرجاء، والكريم إذا أمر بالرجاء فلا يليق به إلا الكرم.
الخامس: أنه تعالى قال أولًا: {يَا عِبَادِيَ}، فكان اللائق أن يقول: لا تقنطوا من رحمتي، لكنه ترك هذا اللفظ وقال: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ}؛ لأن قوله: {اللَّهِ} أعظم أسماء الله وأجلها، فالرحمة المضافة إليه يجب أن تكون أعظم أنواع الرحمة.
والفضل السادس: لما قال: {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} كان الواجب أن يقول: إنه يغفر الذنوب، ولكنه لم يقل ذلك، بل أعاد اسم {اللَّهِ} وقرن به لفظة: {إِنَّ} المفيدة لأعظم وجوه التأكيد، وكل ذلك يدل على المبالغة في الوعد بالرحمة.
السابع: أنه لو قال: إنه يغفر الذنوب لكان المقصود حاصلًا، لكنه أردفه باللفظ الدال على التأكيد فقال: {جَمِيعًا}، فهذًا أيضا من المؤكدات.
الثامن: أنه وصف نفسه بكونه غفورًا، ولفظ الغفور يقتضي المبالغة.
التاسع: أنه وصف نفسه بكونه رحيمًا، والرحيم يفيد فائدة زائدة على المغفرة، فكأن قوله: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ} إشارة إلى إزالة موجبات العقاب، وقوله: {الرَّحِيمُ} إشارة إلى تحصيل موجبات الرحمة والثواب.
العاشر: قوله: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} يفيد الحصر، ومعناه: أنه لا غفور ولا رحيم إلا هو، وذلك يفيد الكمال في وصفه سبحانه بالغفران والرحمة، فهذه الوجوه العشرة مجموعة في هذه الآية، وهي بأسرها دالة على كمال الرحمة والغفران، ونسأل الله الفوز بها والنجاة من العقاب بفضله ورحمته، انتهى.
وما ذكره في الوجه الرابع هو بناء على مذهب القاضي أبي بكر ومتابعيه.
قال ابن سمعون: إن الله تعالى يقول: يا عبدي لم تقنط من رحمتي، أليس أنا الذي أظهرتك، ولأماني طوقتك؟ ما لك تتجاهل عني كأنك ما عرفتني، وتتنحى كأنك ما وافقتني، عبدي إن استقلتنا أقلناك، وإن تبت إلينا قبلناك، وإن عزمت على قصدنا أدنيناك، وإن اضطرب دليلك أريناك، وإن عاديت نفسك في حب ودِّنا واليناك، وإن بكيت لعوز دوائك داويناك، وإن بكيت لضرك شفيناك، وإن بكيت خشية أحضرناك، وإن بكيت خوفًا أمناك، وإن بكيت أسفًا على ما فاتك من حقوقنا / عوضناك.
لا تقنطوا من رحمتي، هل رأيتم من انقطع إليَّ ذل؟ هل رأيتم من احتمى من أجلي اعتل؟ هل رأيتم من تنسم رياض قربي اختل؟ هل رأيتم من راعى أعلام نصرتي انغل؟ هل رأيتم من وجد حلاوة ذكري انسل؟.
كأنه سبحانه يقول: يا عبدي لا تقنط من رحمتي، فإنك إن كنت بالغدر موصوف، فأنا بالجود معروف، وإن كنت ذا خطايا فأنا ذو عطايا، وإن كنت ذا جفاء فأنا ذو وفاء، وإن كنت ذا إساءة فأنا ذو أناة، وإن كنت ذا غفلة فأنا ذو عفو ورحمة، وإن كنت ذا خشية وإنابة فأنا ذو قبول وإجابة، لا تقنط من رحمة من جاد بالمغفرة على ألوف من السَّحَرة وجعلهم من البررة.
وأنشدوا:
لا تُخيِّب قصدَ من جاءك يسعى ما لنا غيرك من يُرجَى ويُدعَى
يا غياث المُستغيثين ومن يملك إعطاءً ومَنعا
وبالجملة، فبعد تعرف هذه الأوصاف الخمسة، تكون في مشاهدة ذلك كله مع الله تعالى وصفاته العلى ذاهلًا عن الجناية، شاكرًا على النعمة والحضور مع الحق، والذهول عما سواه مطلوب شريف في هذا الطريق.
قال الهروي: والثاني: ليقيم على العبد حجة عدله فيعاقبه على ذنبه بحجته، انتهى.
أي: المعنى الثاني أنه سبحانه إنما خلا بينه وبين فعل الذنب؛ لأن الذنب مقتضى غيبه في الأزل، فلم يحكم عليه به إلا لعلمه التابع لمقتضى غيبه بنفسه التي جنت على نفسه بما اقتضى عقوبته، فلله الحجة عليه بعقابه، فإذا عرف ذلك عرف أن مراد الله تعالى أن يعرف العبد عدله في عقابه، كما عرف أن مراده في المعنى الأول أن يعرفه موصوفًا بالصفات المذكورة فيه، فيؤثر الله على نفسه ولا ينازعه في ملكه فيبلغ مقام الرضا، انتهى.
قال أبو الدرداء: أدلجت ذات ليلة إلى المسجد، فلما دخلت مررت على رجل ساجد وهو يقول: اللهم إني خائف مستجير فأجرني من عذابك، وسائل فقير فارزقني من فضلك، لا مُذْنبٌ فأعتذر، ولا ذي قوة فأنتصر، ولكن مذنب مستغفر، فأصبح أبو الدرداء يعلمهن أصحابه، رواه / أبو نعيم(121).
قال سفيان الثوري: سمعت أعرابيًّا بعرفة يقول: إلهي من أولى بالزلل مني وقد خلقتني ضعيفًا، ومن أولى بالعفو عني منك وعلمك فيَّ سابق، وأمرك بي محيط، أطعتك بإذنك والمنة لك عليَّ، وعصيتك بعلمك والحجة لك، فأسألك بوجوب حجتك وانقطاع حجتي وبفقري إليك وغناك عني أن تغفر لي وترحمني، الدعاء الآتي بتمامه في مظنته إن شاء الله، وأنشدوا من أبيات سبقت:
فسُبحانه سبحانه جَلَّ مُلكه هو الأول الباقي كما هو الآخر
فليس لمخلوقٍ على الله حُجةٌ وليس لمخلوقٍ من الله ناصرُ
قال الهروي: اللطيفة الثانية: أن تعلم أن طلب البصير الصادق سيئة لم تبق له حسنة بحال؛ لأنه يسير بين مشاهدة المنة ويطلب عيب النفس والعمل، انتهى.
البصير الصادق هو: الذي له بصيرة يعرف بها حقائق الأشياء كما هي، فلا يخطئ في إدراكه، فإن رأى حسناته التي من جملتها التوبة خالصة لوجه الله رآها منَّة من الله بها عليه على سبيل التفضيل، وإن رآها مشوبة بالرياء وطلب الجاه والعزة رآها من عيوب نفسه وسيئات أعماله، فعلى التقديرين لم تبق له حسنة، وذلك معنى سيره بين مشاهدة المنة وتَطلُّبِ عيبِ النفس والعمل، وقد سبق ذلك في الكلام على شرح حديث سيد الاستغفار، فراجعه.
ولابن كثير المقرئ في عيب نفسه:
بُنيُّ كثيرٍ كثيرُ الذنوب ففي الحلِّ والبِلِّ من كان سَبَّهْ
بُني كثيرٍ أكولٌ نَؤوم فما ذي خصائلُ من طاعَ ربَّهْ
بُني كثيرٍ تعلَّم علمًا لقد أعوز الصوف من جزَّ كلبَه(122)
قال الهروي: واللطيفة الثالثة: أن مشاهدة العبد الحُكْمَ لم تدع له استحسان حسنة، ولا استقباح سيئة؛ لصعوده من جميع المعاني إلى معنى الحُكْم، انتهى.
المراد بمشاهدة الحكم هو: أن لا يرى مؤثرًا إلا الله ولا حكمًا ولا أثرًا ولا فعلا إلا له، / فيتحقق العبد عيانا معنى قوله سبحانه: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ}[القصص: 88] .
قال بعضهم: بينما أنا في بعض أسفاري إذ ملت إلى شجرة لأستريح تحتها، فإذا بشيخ قد أشرف عليَّ وقال: يا هذا قم، فإن الموت لم يمت، ثم هام على وجهه، ثم سمعته يقرأ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[القصص: 88] ثم قال: يا من لوجهه عنت الوجوه بيض وجهي بالنظر إليك، واملأ قلبي بمحبتك، فقد آن لي الحياء منك، وحان لي الرجوع إلى الإعراض عنك، انتهى.
وهذا المقام أعلى من الأول، أعني: السير بين مشاهدة المنة ويطلب عيب النفس والعمل.
وقد قيل في قوله تعالى: {فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ}[الذاريات: 50] فروا من الشرك إلى توحيد الله، ومن المعصية إلى طاعة الله، ومن الغفلة إلى ذكر الله، ومن رؤية نفوسكم إلى رؤية منة الله، ومن أبواب الخلق إلى باب الله، أإله مع الله؟ هل قادر غني غير الله؟ هل حاكم غير الله؟ وأنشدوا:
قل للفقير إذا ما اغْتَنَى إلى أين تذهب عن بابِهِ
وهل أحُدُ غيره يُرتجى بل الكلُّ من بعض طُلّابِهِ
يلذ التذلل في عزِّه وذاك النعيم لأحبابه
يغار المحبُّ على سِرِّه وبلواه تُعرب عمّا بِه
قف بالباب أيها الفقير الحقير، وتضرَّع إلى الله تضرُّع الأسير بقلب كسير، وقل: يا إله العالمين وأكرم الأكرمين، أسير الظلمات واقف بباب كرمك، ينتظر فوائد رحمتك وزوائد نعمك، الخير دأبك والحكم حكمك، اجعل منتهى مطلبنا رضاك، واقض مقاصدنا ما بعدنا لأن نلقاك، فلعلك تجد من الله تحف أفضاله، وتحظى منه بجميل إقباله، فإن من اعتز بحِماه حَماه، ومن استضاء بهداه هَداه، ومن انقطع إليه كفاه، ومن حَطَّ رحاله ببابه آواه، ومن أعرض عنه ناداه، ومن رجع إليه قَبِله وأدناه، ومن تمادى في متابعة هواه أبعده / وأقصاه.
قال الهروي: فتوبة العامة: الاستكثار من الطاعة، فإنه يدعو إلى ثلاثة: إلى جحود نعمة الستر والإمهال، ورؤية الحق على الله تعالى، والاستغناء الذي هو عين الجبروت، والتوثب على الله تعالى، انتهى.
إنما كانت توبة العامة لاستكثار الطاعة منا على ظاهر قوله تعالى: {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ}[الفرقان: 70].
والتوبة وشرائطها ولوازمها وجميع ما يترتب عليها من الموافقات حسنات أخر فتتضاعف حسناتهم فاستكثروا حسناتهم، وذلك الاستكثار عند الخواص سوء أدب يستدعي سيئات كثيرة؛ لأن عندهم إن لم تبق لهم سيئة يحتاجون فيها إلى الستر والإمهال بتأخر العقوبة وترك معاجلتهم بها فجحدوا ما بين النعمتين، ورأوا أنهما حسنات يجب على الله أن يثيبهم بها ويدخلهم الجنَّة، فأوجبوا لهم عليه حقًّا، واستغنوا بانتفاء سيئاتهم ووفور ما لهم عليه من ثواب حسناتهم عن عفوه وغفرانه، وهذا عين التجبر على الله تعالى والتوثب عليه بطلب الحق.
وكلها سيئات عظيمة ولهذا قيل: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فإن عندهم وجود الحسنات فضل من الله تعالى ونعمة، والثواب امتنان ورحمة.
ورؤية الحسنات من أنفسهم بل أفعالهم وصفاتهم ووجوداتهم كلها سيئات.
تنبيهات:
أحدها: ما ذكر في هذه التوبة من أنه يجب على الله أن يثيب على الحسنات هو عين مذهب المعتزلة، فإنهم أوجبوا على الله الثواب على الطاعات، ورد عليهم الأشاعرة القائلون بأنه سبحانه لا يجب عليه شيء، إذ لا حاكم عليه فقالوا: تلك الأعمال لا تكافئ النعم السابقة، فكيف تقتضي مكافأة؟.
ثانيها: الاستكثار من الطاعة والاجتهاد فيها مطلوب في الجملة، ولا سيما إذا صدرت بعد سبق هفوة.
حاسب بعضهم نفسه من وقت بلوغه، فإذا زلاته لا تجاوز ستا وثلاثين زلة، فاستغفر لكل زلة مئة ألف مرة، وصلى / لكل زلة ألف ركعة، وختم في كل ركعة منها ختمة، قال: ومع ذلك فإني غير آمن سطوة ربي أن يأخذني بها وأنا على خطر من قبول التوبة.
قال البيهقي: باب ما يستدل به على اجتهاد الشافعي في طاعة الله ╡ وزهده في الدنيا وحضه عليه.
وأورد فيه أنه كان قد جزأ الليل ثلاثة أثلاث: الثلث الأول يكتب، والثاني يصلي، والثالث ينام، إلى غير ذلك مما أورده فيه.
وقال ابن أبي الدنيا في «محاسبة النفس»[136]: حدثني محمد بن الحسين: حدثني أحمد بن سهل الأزدي قال: دخل على زجلة العابدة نفر من القراء، فكلموها في الرفق بنفسها فقالت: ما لي وللرفق بها؟ إنما هي أيام مبادرة، من فاته اليوم شيئًا لم يدركه غدًا، والله يا إخوتاه لأصلين له لله ما أقلتني جوارحي، ولأصومن له أيام حياتي، ولأبكين له ما حملت الماء عيناي، ثم قالت: أيكم يأمر عبده بأمر فيحب أن يقصر فيه؟ انتهى.
شمروا والله حتى وصلوا ووقفوا بالباب حتى قُبلوا، فطوبى لهم إذا وجدوا ما عملوا، ما أقل ما تعبوا، وما أيسر ما نصبوا، وما كان إلا القليل حتى نالوا ما طلبوا.
ثالثها: قال الشافعي في «الرسالة»[1/13]: ووعظهم بالإخبار عمن كان قبلهم ممن كان أكثر منهم أموالًا وأولادًا وأطول أعمارًا وأحمد آثارًا، فاستمتعوا بخلاقهم في حياة دنياهم فاز فيهم عند نزول قضائه مناياهم دون آمالهم، ونزلت بهم عقوبته عند انقضاء آجالهم، ليعتبروا في آنف الأوان ويتفهموا بجلية التبيان، وينتبهوا قبل رين الغفلة ويعملوا قبل انقضاء المدة حين لا يعتب مذنب ولا توجد فدية، و{تجد كل نفس ما عملت من خيرٍ مُحضرًا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدًا بعيدًا}[آل عمران: 30]، انتهى.
إنما يتبين ربح العاملين يوم المعاد، وفيه تظهر آثار القرب والبعاد، فمن عمل خيرًا وجد جزاءه محضرًا، ومن عمل سوءًا ألفاه في كتابه مُسطرًا، وهذا الذي أزعج قلوب الخائفين وأسهر أعين العابدين.
اختلف كبيران في تفسير قوله تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ}[البقرة: 286]، فأتيا قبر ابن هبيرة، / فرآه كل منهما في المنام عند قبره وهو يقول:
قد سُئلنا عن مثلها فأجبنا بعد ما حال حالُنا وحُجِبنا
قد وجدنا مضاعفًا ما كَسبنا ووجَدْنا مُمحَّصًا ما اكتَسبنا
قال الهروي: وتوبة الأوساط من استقلال المعصية، وهو عين الجرأة والمبارزة، ومحض التزين بالحمية والاسترسال للقطيعة، انتهى.
الأوساط هم: المتوسطون في السلوك، الذين ينظرون إلى حكم الله تعالى وقضائه عليهم بما يصدر منهم، فهم يستقلون المعصية ويستحقرونها في جنب سعة رحمة الله وعفوه كما قال(123)
وهذا عين الجرأة والمبارزة على الله تعالى، ومحض الحماية والمحاباة للنفس بأن يبريها عن المخالفة ويحيل مخالفة حكمه على حكمه، فهم يتدينون بكونهم ناظرين إلى حكم الله تعالى وإرادته، وأن لا حرج على أنفسهم فيما يفعلون، يسترسلون في الذنوب المورطة في الهجران المقتضية للقطيعة، يدعون أن من هذه حاله لا ذنب له، وهو عين الاغترار والإفراط في البسط، وأكثر من يقع في ذلك من سلك بنفسه من غير شيخ يربيه ويؤدبه، وقد يكون من وارد بسط يؤدي إلى الإفراط فيه فيورده وارد فيض يصده ويجدد توبته، وعلى كل حال فيجب عليهم التوبة من ذلك، فإنه مخاطرة عظيمة وسوء أدب يجر إلى الهلاك إن دام، ولما فعل آدم ◙ ما أخبر الله عنه تاب وندم، وإبليس أصر واحتج بالقدر فقال: {فبما أغويتني}[الأعراف: 16].
فمن تاب كان آدميًّا، ومن أصر واحتج بالقدر كان إبليسيا.
تنبيه: سيأتي في الكلام على حديث عبد الله: أن من جملة ما تعظم به الصغائر من الذنوب أن يستصغره العبد، والله أعلم.
قال الهروي: وتوبة الخاصة من تضييع / الوقت، فإنه يدعو إلى درك النقيصة ويطفئ نور المراقبة ويكدر عين الصحبة، انتهى.
المراد بالوقت: حين الاستغراق في المشاهدة المشارف لمقام الجمع مع عدم البلوغ إلى حدِّ التمكُّن، وذلك هو القرب من الكمال، فتضييعه يدعو إلى درك النقصان الذي يقابله، فتجب التوبة عنه بدوام المحافظة عليه، والدرك في النقصان والوقوع إلى الأسفل في مقابلة الدرج إلى الكمال، والترقي إلى الأول، وقد قال أحمد بن محمد بن إدريس الشافعي: سمعت أبي يقول: صحبت الصوفية عشر سنين ما استفدت منهم إلا هذين الحرفين: الوقتُ سَيف، وأفضلُ العِصمة أن لا تَقْدِر، رواه البيهقي وغيره.
وأنشدوا:
جَدَّ الزمانُ وأنت تَلعبْ والعمرُ في لا شيء يَذهَبْ
كَمْ كَمْ تقولُ غدًا أتوب غدًا غدًا والموتُ أقربْ
وإنما يُطْفَأُ نور المراقبة؛ لأن الانحطاط بالتضييع إنما هو الوقوع في التفرقة برؤية الغير، والاحتجاب بصفات النفس، فيحرم صاحبه عن نور المراقبة الموجب لحفظ الوقت بظلمة الحجاب.
لا جرم قال الواسطي: أفضل الطاعات حفظ الأوقات، وهو أن لا يطلع العبد عن حده، ولا يوافق غير ربه، ولا يقارن غير وقته.
وسئل ابن عطاء: ما أفضل الطاعات؟ فقال: مراقبة الحق على دوام الأوقات، ويلزم من انطفأ نور المراقبة كُدورةُ الصحبة مع الله تعالى في مقام المشاهدة، فإنه لا بد من صفاء الوقت معه، فإذا ضاع الوقت بالتفرقة والحجاب برؤية الغير تكدرت الصحبة، ويصحح إطلاق الصحبة على هذا الحضور قوله صلعم في حديث ابن عمر الذي في مسلم[6374]: «اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل» الحديث.
وفيه من حديث أبي هريرة أن النبي صلعم كان إذا كان في سفر وأسحر يقول: «سَمَّعَ سامعٌ بحمد الله وحُسن بلائه علينا، ربَّنا صاحِبنا وأفضِلْ / علينا عائذًا بالله من النار»[م:2718].
قال الأستاذ في «الرسالة»[1/133]: سمعت الأستاذ أبا علي يقول: قال رجل لسهل بن عبد الله: أريد أن أصحبك يا أبا محمد، فقال: إذا مات أحدنا فمن يصحب الباقي؟ فقال: الله، قال: فلتصحبه الآن.
وقال رجل لذي النون: من أصحب؟ فقال: من إذا مرضتَ عادك، وإذا أذنبت تاب عليك، وقال ذو النون: لا تصحب مع الله إلا بالموافقة، ولا مع الخلق إلا بالمناصفة، ولا مع النفس إلا بالمخالفة، ولا مع الشيطان إلا بالعداوة.
وقال الأستاذ: سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن، سمعت عبد الله بن المعلم، سمعت أبا بكر الطمستاني يقول: اصحبوا مع الله، فإن لم تطيقوا فاصحبوا مع من يصحب مع الله لتوصلكم بركات صحبتهم إلى صحبة الله، انتهى.
لو طلع نجم عزمك من برج الجد في ظلام ليل الزلل لأثر في السر، لو قمت معتذرًا وقت السحر رأيت طريق العباد قد رُصَّ بالزحام، أو وردت ماء مدين وجدت عليه أمة من الناس يسقون، وأنشدوا:
بانوا وخُلِّفت أبكي في ديارهمُ قل للدِّيار سقاكَ الرائحُ الغادي
وقُل لأظعانهم حييت من ظُعُنٍ وقل لواديهم حُييت من وادي
يا من قد ضلَّ عن طريقهم، يا من بات مُطَلِّقًا وصالنا راجع، يا ملتفتا عنا ما تحسن، يا ناسيًا عهودنا ما تحمل.
تَشاغلتُم عنّا بصحبة غيرنا وأظهرتُمُ الهِجْران ما هكذا كُنّا
وأقسمتمُ أنْ لا تَحولوا عن الهَوى فقد وَحياة الحب حُلْتُم وما حُلْنا
يا ويح من بلُي بالطَّرد والبعاد، يا خيبة من حرم القرب والوداد، لا جعل الله حظنا الحرمان ولا منعنا من حِماه بسالف العصيان، إنه غفور رحيم رؤوف حليم، وأنشدوا:
وإنَّا ليُرضينا رجوع وِصالكم فردّوا لنا ذاكَ الوصال كما كانا
وكنَّا نُغطِّي في الدنوِّ غرامنا ونَكتُم ما نَلقَى فقد كان ما كانا
أيها المقصِّر لازم باب الملك الكريم وتعزز بالمولى العزيز العليم، وتِهْ على الأكوان بمعبودك، وهوِّن الروح في طلب مقصودك، فإنه كريم من توسل إليه بطاعته تفضل عليه بنعمته، / وإن أطاع أكرمه وفضله، وإن أضاع رحمه وأمهله، فإن تاب وأناب شكره، وإن أساء وعصى ستره.
عزيزٌ شهدَت بجلاله جميعُ أفعاله، ونطق بجماله جميلُ أفضاله، ودلَّت على إثباته روائع آياته، وأخبرت عن صفاته عجائب مصنوعاته، كريم من دعاه لبَّاه، ومن توكَّل عليه هداه، ومن انقطع إليه آواه، ومن رجع إليه رحمه وأدناه، ومن سأله أكرمه وأعطاه، ومن أعرض عنه ناداه، ألف المحبون قربه فلا يصبرون عن لقياه، وألف العارفون مجده فلا يستأنسون بسواه، وأنشدوا:
حبيبٌ أرتَجيه وإن جفاني ويعلم ما لقيتُ من الصُّدودِ
ويُظهر في الهَوى عِزَّ الموالي فيلزمني له ذلُّ العَبيدِ
عزيز اعترف العارفون بالقصور عن إدراك صمديته، جليل تمنعت العلوم خجلًا من الطمع في الإحاطة بأحديته، كريم صغرت الحوائج على ساحات جوده ورأفته، رحيم تلاشت قطرات زلات عباده في تلاطم أمواج بحار رحمته، هو الذي رباك بنعمته وسربلك بخدمته، وهداك إلى معرفته وزينك بمحبته، فما لك لا تنقطع بالكلية إليه، وما بالك لا تعتمد في مهماتك عليه؟ يا مسكين إن أعرضت وأبيت وفي جحودك تماديت فما أفقرك إليَّ وما أغناني عنك.
يا مسكين أنت إن لم تكن لي فأنا عنك غني، وأنت المسكين إن لم أكن لك، من الذي يحسن إليك؟ من الذي ينظر إليك؟ من الذي يهتم بشأنك؟ بمن تتسلى إذا طردتك عني؟ عبدي أنا لا أرضى أن تكون لغيري أفترضى أن لا أكون لك؟.
يا قليلَ الوفاء كثير التَّجنِّي كيف ترضى بطول بُعدك عنِّي
لو تحققت قَدرَ وصلي وقُربي لبكيت الدماء لِما فات منِّي
تنبيه: قال الغزالي في «الإحياء»[4/10]: وأما بيان وجوبها أي: التوبة على الدوام وفي كل حال، فهو أن كل بشر فلا يخلو عن معصية بجوارحه، وإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب، وإن خلا عن الهم فلا يخلو عن وسواس / الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله تعالى، فإن خلا عن ذلك فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله، وكل ذلك نقص وترك أسبابه بالتشاغل بأضداده رجوع عن طريق إلى ضده، والمراد بالتوبة: الرجوع، ولا يتصور الخلو في حق الآدمي عن هذا النقص، وإنما يتفاوتون في المقادير، فأما الأصل فلا بد منه.
فإن قلت: لا يخفى أن ما يطوى على القلب من الهمم والخواطر نقص، وأن الكمال في الخلو عن ذلك، وأن القصور عن معرفة كنه جلال الله نقص، وأنه كلما ازدادت المعرفة زاد الكمال، وأن الانتقال إلى الكمال عن أسباب النقصان رجوع وتوبة، ولكن هذه فضائل لا فرائض، وقد أطلت القول بوجوب التوبة في كل حال، والتوبة عن هذه الأمور ليست واجبة، إذ درك الكمال غير واجب في الشرع، فما المراد بقولك: التوبة واجبة في كل حال؟
فاعلم أنه قد سبق أن الإنسان لا يخلو في مبدأ خلقته عن اتباع الشهوات أصلًا، وليس معنى التوبة تركها فقط، بل تلزم التوبة بتدارك ما مضى، وكل شهوة اتبعها الإنسان ارتفعت منها ظلمة إلى قلبه، كما يرتفع من نفس الإنسان ظلمة إلى وجه المرآة الصقيلة، فإن تراكمت ظلمة الشهوات صار رَيْنًا كما يصير بخار النفَس في وجه المرآة عند تراكمه خبثًا، كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}[المطففين: 14]، وإذا تراكم الرَّينُ صار طبعًا فيطبع على قلبه كالخبث على وجه المرآة إذا تراكم وطال زمانه غاص في جرم الحديد وأفسده وصار لا يقبل الصقل بعده، وصار كالمطبوع من الخبث.
ولا يكفي في تدارك اتباع الشهوات تركها في المستقبل، بل لا بد من محو تلك الآثار التي انطبعت في القلب، كما لا يكفي في ظهور الصور في المرآة الطبع والأنفاس والبخارات المسوِّدة لوجهها في المستقبل، ما لم يُستعان بمحو ما انطبع فيها من الأَرْيان، وكما يرتفع إلى القلب ظلمة من المعاصي والشهوات، فيرتفع إليه نور من / الطاعات وترك الشهوات، فيمحَى نور ظلمة المعصية بنور الطاعات، وإليه الإشارة بقوله صلعم: «وأتبع السيئة الحسنة تمحها»(124).
فإذًا لا يستغني العبد في حال من أحواله عن محو آثار السيئات عن قلبه بمباشرة حسنات، فإن أثرت ضاد أثرها آثار تلك السيئات، هذا في قلب حصل أولا صفاوة وحلاوة، ثم أظلم بأسباب عارضة.
فأما التفصيل الأول ففيه يطول الشغل، إذ ليس شغل الصيقل في إزالة الصدأ عن المرآة كشغله في عمل أصل المرآة، فهذه الأشغال المزيلة لا تنقطع أصلًا، وكل ذلك يرجع إلى التوبة.
فأما قولك: إن هذا لا يسمى واجبًا، بل هو فضل وطلب كمال.
فاعلم أن الواجب معنيان:
أحدهما: ما يدخل في فتوى الشرع ويستوي فيه كافة الخلق، وهو القدر الذي لو اشتغل كافة الخلق به لم يخرب العالم، ولو كلف الناس كلهم أن يتقوا الله تعالى حق تقاته لتركوا المعايش ورفضوا الدنيا بالكلية، ثم يؤدي ذلك إلى بطلان التقوى بالكلية، فإنه مهما فسدت المعايش لم يتفرغ أحد للتقوى، بل شغل الحالة والحراثة والخبز يستغرق جميع عمر كل واحد فيما يحتاج، فجميع هذه الدرجات ليست واجبة بهذا الاعتبار.
والواجب الثاني: هو الذي لا بد منه للوصول إلى القرب من المطلوب من رب العالمين، والمقام المحمود بين الصديقين، والتوبة من جميع ما ذكرناه واجبة في الوصول إليه كما يقال: الطهارة واجبة في صلاة التطوع؛ أي: لمن يريدها، فإنه لا يوصل إليها إلا بطهارة.
فأما من رضي بالنقصان والحرمان عن فعل صلاة التطوع فالطهارة ليست واجبة عليه لأجلها، كما يقال: العين والأذن واليد والرجل شرط وجود الإنسان؛ يعني: أنه شرط من يريد أن يكون إنسانا كاملًا ينتفع بإنسانيته ويتوصل بها إلى الدرجات العلى في الدنيا.
فأما من قنع بأصل الحياة ورضي بأن يكون كلَحمٍ على وَضَم وكخِرقة مطروحة، فليس يُشترط لمثل هذه الحياة عين ويد ورجل.
فأصل الواجبات الداخلة في / فتوى العامة لا توصل إلا إلى أصل النجاة، وأصل النجاة كأصل الحياة، وما وراء أصل النجاة من السعادات التي إليها تنتهي النجاة تجري مجرى الأعضاء، والآلات التي بها تنتهي الحياة، وفيها يسعى الأنبياء ‰ والأولياء والعلماء والأمثل فالأمثل، وعليه كان حرصهم، وحواليه كان مطوفهم، ولأجله كان رفضهم لملاذ الدنيا بالكلية، حتى انتهى عيسى ◙ إلى أن توسد حجرًا في منامه، فجاء إليه الشيطان وقال: أما كنت تركت الدنيا للآخرة؟ قال: نعم، وما الذي حدث؟ فقال: توسدك لهذا الحجر تنعم بالدنيا، فلم لا تضع رأسك على الأرض، فرمى عيسى بالحجر ووضع رأسه على الأرض، وكان رميه للحجر توبة عن ذلك الذنب.
أَفَترى أن عيسى لم يعلم أن وضع الرأس على الأرض لا يسمى واجبًا في فتوى العامة؟.
أفترى أن نبينا صلعم لما شغله الثوب الذي عليه علم في صلاته حتى نزعه وشغله شراك نعله الذي جدده، حتى أعاد الشراك الخليع ما علم أن ذلك ليس واجبًا في شريعته التي شرع لكافة العباد؟.
فإذا علم ذلك فلم تاب عنه بتركه؟ وهل كان ذلك إلا لأنه رآه مؤثرًا في قلبه أثرًا يمنعه عن بلوغ المقام المحمود الذي وُعدَ به، ويروى أن الصديق ☺ بعد أن شربَ الَّلبن وعرف أنه من غير وجهه أدخل أصبعه في حلقه ليخرجه، حتى كاد أن يخرج معه روحه، ما علم من الفقه هذا القدر، وهو أن ما أكله عن جهل فهو غير آثم، ولا يجب في فتوى الفقه إخراجه، فلم تاب عن أكله بالتدارك على حسب إمكانه بتخلية المعدة عنه؟.
وهل كان ذلك إلا لسر وقر في صدره عرفه ذلك السر أن فتوى العامة حديث آخر، فإن خطر طريق الآخرة لا يعرفه إلا الصديقون.
فتأمل أحوال هؤلاء الذين هم أعرف خلق الله بالله تعالى، وبطريق الله، وبمكر الله، وبمكان الغرور بالله، وإياك مرة واحدة أن تغرك الحياة الدنيا، وإياك ثم إياك ألف مرة أن يغرك بالله الغرور.
فهذه أسرار من استنشق مبادئ روائحها، علم أن لزوم / التوبة النصوح للعبد السالك في كل نفس من أنفاسه، ولو عمر عمر نوح، وأن ذلك واجب على الفور من غير مهلة.
ولقد صدق أبو سليمان الداراني حيث قال: لو لم يبك الغافل فيما بقي من عمره إلا على فوت ما مضى منه في غير الطاعة، لكان خليقًا أن يحزنه ذلك إلى الممات، فكيف من يستقبل ما بقي من عمره بمثل ما مضى من جهله؟ وإنما قال هذا؛ لأن الغافل إذا ملك جوهرة نفيسة إذا ضاعت منه بغير فائدة بكى عليها لا محالة، وإن ضاعت منه وصار ضياعها سبب هلاكه كان بكاؤه من ذلك أشد، وكل ساعة من العمر، بل كل نَفَسٍ جوهرة نفيسة لا خلف لها ولا بدل منها، فإنها صالحة لأن توصلك إلى سعادة الأبد، وتنقذك من شقاوة الأبد، وأي جوهرة أنفس من هذا، فإذا ضيعته في الغفلة فقد خسرت خسرانًا مبينًا، وهلكت هلاكًا فاحشًا، فإن كنت لا تبكي على هذه المصيبة فذلك لجهلك، ومصيبتك بجهلك أعظم من كل مصيبة؛ لأن الجهل مصيبة لا يعرف المصاب بها أنه صاحب مصيبة، فإن نوم الغفلة يحول بينه وبين معرفته، والناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا، فعند ذلك ينكشف لكل مفلس إفلاسه، ولكل مصاب مصيبته، وقد وقع الناس من التدارك، انتهى.
وقريب مما ذكره من التنظير بالطهارة في صلاة التطوع ما في فتاوى القاضي حسين، سئل عن فرض قراءة القرآن في صلاة التطوع؟
أجاب: لا أقول أنه فرض، بل أقول: هو شرط صحة الصلاة، كاستقبال القبلة وستر العورة.
قال الهروي: ولا يتم مقام التوبة إلا بالانتهاء إلى التوبة مما دون الحق، ثم رؤية علة تلك التوبة، ثم التوبة من رؤية تلك العلة، انتهى.
إنما يكون في مقام الفناء والتكوين في هذا المقام إنما هو بظهور أنية العبد، فإن رأى أنه تاب عما سوى الحق، فقد ظهرت أنيته من حيث لا يشعر بظهورها الذي هو علة توبته، فيوفقه الله لرؤية تلك العلة؛ لأنه يعني به معصوم من جهة الله، ثم إن رأى رؤيته لتلك العلة كان تكوينًا آخر، والخلاص منه بأن يتوب عن / رؤيته لتلك العلة بالحق، وذلك لا يمكن إلا بالتمكين، فيكون رائيًا في مقام التمكين بالحق توبته بالحق، فلا يكون هو رائيًا ولا تائبًا.
قال إبراهيم الخواص: بينما أنا في طريق مكة، إذ وقع لي خاطر العزلة، فانفردت عن الناس ومشيت ثلاثة أيام ما خطر على قلبي ذكر طعام ولا شراب، فوصلت إلى روضة خضراء فيها رياحين كثيرة ونهر ماء، فوقفت متعجبًا منها، وإذا بنفرٍ قد أقبلوا عليهم مُرَقَّعات حِسان، فسلّموا عليَّ وحَفّوا بي فقلت: من أنتم؟ قالوا: نحن نفر من الجِنِّ المؤمنين، سمعنا القرآن من محمد صلعم فسلبتنا حلاوة القرآن جميع اللذات، فانقطعنا إلى الله تعالى في هذا المكان، فقيَّض الله لنا هذه الروضة كما ترى، وقد اختلفنا في مسألة وسألنا الله تعالى أن يقيض لنا من يبينها لنا، فقلت: كم بيني وبين الموضع الذي فارقت فيه أصحابي؟ قالوا: ثلاثة أشهر، وإن هذا الموضع لم يصل إليه آدمي قبلك إلا شاب أتانا يومًا ونحن جلوس نتذاكر المحبة فسلم علينا فرددنا السلام عليه وقلنا له: من أين أقبلت؟ قال: من مدينة نيسابور خرجت منها منذ سبعة أيام قلنا: وما أخرجك؟ قال: آية سمعتها قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}[الزمر: 54] قلنا: فما الإنابة؟ قال: أن يردك منك إليه، قلنا: فما العذاب؟ قال: عذاب الفراق، ثم صاح صيحة ووقع ميتًا فواريناه وهذا قبره، قال إبراهيم: فنظرت فإذا قبره في وسط الروضة وحوله رياحين كثيرة، وعلى القبر مكتوب: هذا حبيب الله قتيل الغيرة، وإذا طاقة نرجس كأنها رحا عظيمة، وعلى كل ورقة منها مكتوب صفة الإنابة، فقرأتها وفسرتها لهم فقالوا: كفينا جواب مسألتنا، فوقع فيهم الطرب ووقع عليَّ النوم، فما انتبهت إلا وأنا عند مساجد عائشة، والله أعلم.
[1] تفسير ابن أبي حاتم (5/67).
[2] تفسير عبد الرزاق (2/239).
[3] المنثور لابن الجوزي( 1/9).
[4] ربما وقع هنا سقط في الأصل لذلك اختلف الكلام.
[5] جاء هنا في هامش الأصل تعليق فيه كلام للإمام الجويني، وفيه كلمات كثيرة غير واضحة.
[6] المدهش( 1/76).
[7] تفسير ابن أبي حاتم( 1/64).
[8] ينظر : «التفسير القيم» لابن القيم( 1/355-358).
[9] الكشاف للزمخشري( 1/128).
[10] تفسير الطبري( 1/543).
[11] تفسير القرطبي: (1/302).
[12] تفسير الطبري( 1/514).
[13] تفسير الطبري( 1/517).
[14] تفسيرعبد الرزاق ( 2/226).
[15] تفسير الطبري( 1/520).
[16] تفسير القرطبي( 1/311).
[17] تفسير القرطبي( 1/307).
[18] أخرجه أحمد (750)، والنسائي (8/161)، وابن ماجه (3595) من حديث علي.
[19] المدهش لابن الجوزي( 1/458).
[20] تفسير ابن أبي حاتم ( 384).
[21] تفسير ابن أبي حاتم ( 385).
[22] المستدرك( 3/431).
[23] تفسير ابن أبي حاتم ( 1/67).
[24] تفسير ابن أبي حاتم ( 1/68).
[25] تفسير ابن أبي حاتم ( 1/68).
[26] تفسير عبد الرزاق ( 1/44).
[27] التبصرة لابن الجوزي ( 1/6).
[28] اللطائف (1 /2).
[29] أخرجه مسلم (2749) من حديث أبي هريرة.
[30] المدهش لابن الجوزي (1/77).
[31] أخرجه مسلم (758): [97]
[32] تفسير القرطبي ( 1/321).
[33] حادي الأرواح ( 1/7).
[34] المدهش( 1/458-459).
[35] أخرجه الترمذي (2470)، وابن ماجه (3977).
[36] الحلية أبي نعيم ( 4/28).
[37] أخرجه البخاري (6565)، ومسلم [118].
[38] المدهش: ( 1/125).
[39] هو ليس في المسند كما ذكر المصنَّف، بل عند البخاري في الأدب المفرد (1188).
[40] أوردها ابن رجب في: «التخويف من النار»( 1/190).
[41] هي غير منقوطة في الأصل ولم يتضح لنا معناها.
[42] تفسير ابن أبي حاتم( 2/297).
[43] زاد المعاد( 4/219).
[44] في الأصل: «الضحية» والمثبت من زاد المعاد( 4/219).
[45] التفسير الكبير ( 27/462).
[46] الصواب: ((ثم يمتاز)).
[47] الوفا بتعريف فضائل المصطفى( 1/344).
[48] سيرة ابن هشام( 1/399).
[49] أخرجه البيهقي في الشُّعب (3937).
[50] أخرجه أحمد (22109)، والترمذي (3235).
[51] دلائل النبوة للبيهقي (1365).
[52] تفسير الأحلام( 1/45).
[53] الهواتف( 3).
[54] الروض الأنف: ( 2/109).
[55] دلائل النبوة للبيهقي (2/242).
[56] تفسير الطبري (17/336).
[57] هو ليس عند الحاكم كما ذكر المصنف، وأخرجه ابن أبي حاتم في التفسير( 1/44).
[58] تفسير ابن أبي حاتم (1/45).
[59] مسند أحمد (19731).
[60] صفة الجنة (66).
[61] أخرجه أحمد (13306)، والنسائي في الكبرى (11703).
[62] تفسير الطبري( 24/648).
[63] تفسير الطبري( 24/646).
[64] الروض الأنف: (3/247).
[65] أخرجه الترمذي (3350).
[66] تاريخ بغداد (1/57-58).
[67] أخرجه أحمد (20052)، والترمذي (2571).
[68] ينظر تفسير الرازي (17/79).
[69] هذه العبارة غير واضحة في الأصل.
[70] وقع هنا سقط، لذلك اختلف الكلام.
[71] أخرجه أحمد (17371) من حديث عقبة بن عامر.
[72] إحياء علوم الدين (4/51).
[73] إحياء علوم الدين (4/15).
[74] ينظر إحياء علوم الدين (4/9).
[75] إحياء علوم الدين (4/3).
[76] أخرجه أحمد (18774)، وأبو داود (1949)، والترمذي (889)، وابن حبان (3892) من حديث عبد الرحمن بن يعمر.
[77] أخرجه مسلم (2765) من حديث عبد الله بن مسعود.
[78] أخرجه البيهقي في: «شعب الإيمان» (7178).
[79] أخرجه أبو داود (1514) من حديث أبي بكر.
[80] إحياء علوم الدين (4/47-49).
[81] تقدم تخريجه.
[82] ينظر : «روضة الطالبين» للنووي (11/272-276).
[83] روضة الطالبين: (1/245).
[84] الروضة: (1/404).
[85] الروضة: (3/460).
[86] أخرجه ابن أبي شيبة (35606) عن عمر، قوله.
[87] إحياء علوم الدين (4/35).
[88] أخرجه الترمذي (812)، من حديث علي، وقال: هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وفي إسناده مقال.
[89] أخرجه أحمد (21354)، والترمذي (1987) من حديث أبي ذر.
[90] أخرجه الطبراني في الأوسط (1/38)، وأبو نعيم في: «الحلية» (6/335) من حديث أبي هريرة.
[91] أخرجه أحمد (25236).
[92] أخرجه مسلم (1695) من حديث بريدة.
[93] القواعد: (1/157).
[94] الروضة: (11/276).
[95] القواعد (2/107).
[96] وفيات الأعيان (4/285).
[97] وهو عند أبي داود (1514).
[98] الأوسط (5257).
[99] كتاب التوبة (170).
[100] أخرجه الطبراني في الأوسط (1856).
[101] المنثور لابن الجوزي (1/8).
[102] الحلية (2/207).
[103] ما بين معقوفين ليس في الأصل، واستدرك من الإحياء (4/40).
[104] ما بين معقوفين ليس في الأصل، واستدرك من: «مدارج السالكين» لابن القيم (1/184).
[105] الإحياء (4/32).
[106] أخرجه الترمذي (3596) من حديث أبي هريرة.
[107] أخرجه البيهقي في: «الشعب» (7121) من حديث علي.
[108] أخرجه البخاري في التاريخ الكبير ( 6/2)، من حديث أنس.
[109] أخرجه الطبراني في الكبير (11810)، من حديث ابن عباس.
[110] أخرجه الترمذي (2667)، وابن ماجه (4251) من حديث أنس بلفظ: «التوابون».
[111] ما بين معقوفين استدرك من: «مدارج السالكين» (1/201).
[112] ذكره مالك في الموطأ (1/161) بلاغًا.
[113] قواعد الإحكام (1/237).
[114] أخرجه أحمد (1734)، وابن ماجه (1600).
[115] الإحياء (4/5).
[116] أخرجه أحمد (9831)، ومسلم (6816) من حديث أبي هريرة.
[117] الحلية (10/123).
[118] إحياء علوم الدين (4/5).
[119] قواعد الأحكام (2/232).
[120] التفسير الكبير (27/471).
[121] الحلية (1/224).
[122] ينظر تاريخ الإسلام (24/226).
[123] بعدها في الأصل فراغ يتسع لبيتي شعر.
[124] أخرجه أحمد (21988)، والترمذي (1987).