░░8▒▒ ♫ : وهي ساقطة عند ابن عساكر، ثابتة عند غيره، لما فرغ المؤلف من بيان الطهارات التي منها شروط للصلاة؛ شرع في بيان الصلاة التي هي المشروطة، فلذلك أخَّرها عن الطهارات؛ لأنَّ شرط الشيء يسبقه، وحكمه يعقبه، فقال: (كتاب الصلاة)؛ أي: هذا كتاب في بيان أحكام الصلاة.
وارتفاع (كتاب) على أنَّه خبر مبتدأ محذوف، كما قدَّرناه، ويجوز أن يكون مبتدأ محذوف الخبر؛ تقديره: كتاب الصلاة هذا، ويجوز أن ينتصب على أنَّه مفعول لفعل محذوف؛ تقديره: اقرأ أو خذ كتاب الصلاة، ويجوز أن يكون مجرورًا بحرف جرٍّ مقدَّرٍ؛ تقديره: انظر في كتاب الصلاة، لكنَّه ضعيفٌ بناء على قول مَن يقول: إنَّ حروف الجرِّ لا تعمل مقدَّرةً، وتمامه في «شرحنا على شرح الأزهرية» المسمَّى بـ«تاج الأسطوانيَّة».
ثم معنى (الصلاة) في اللغة: الدعاء، قال الله تعالى: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ} [التوبة:103]؛ أي: ادع لهم، وفي الحديث في إجابة الدعوة: «وإن كان صائمًا؛ فليصل»؛ أي: فليدع لهم بالخير والبركة.
وفي الشريعة: فهي عبارة عن الأركان المعهودة، والأفعال المخصوصة، مفتتحة بالتكبير، مختتمة بالتسليم، فالصلاة حقيقة لغوية في الدعاء، ثم نقل في عرف الشرع إلى الأركان المعلومة، والعبادة المخصوصة؛ لاشتمالها على الدعاء كما أنَّ الزكاة في الأصل من التزكية بمعنى: التطهير أو بمعنى: التنمية، ثم نقلت إلى صرف مال مخصوص إلى المصرف المخصوص، فعلى هذا؛ تكون الصلاة حقيقة لغوية في الدعاء، ومجازًا لغويًّا في فعل الهيئة المخصوصة، وحقيقة اصطلاحية فيه عند أهل الشرع منقولة من الدعاء؛ لاشتمالها عليه، هذا هو المشهور بين الجمهور، فـ (الصلاة) فعلة؛ بفتح العين المهملة، من صلى؛ إذا دعا، وأصلها: صلوة، قلبت الواو ألفًا؛ كالزكاة من زكا، وكتبتا بالواو؛ لأجل التفخيم، والمراد به الألف المنقلبة عن الواو إلى مخرج الواو، كما هو المشهور عند أهل العراق.
وقال في «المفتاح»: (التفخيم: أن تكسو الفتحة ضمة، فتخرج بين بين إذا كان بعدها ألف منقلبة عن الواو؛ لتميل الألف إلى أصلها؛ كما في الصلاة والزكاة، فإن ألفهما منقلبة عن الواو؛ بدليل جمعهما على صلوات وزكوات) انتهى.
وقال إمام الشَّارحين: (وقيل: هي مشتقة من صليت العود على النار إذا قومته)، وزعم النووي أنه باطل؛ لأنَّ لام الكلمة في (الصلاة) واو؛ بدليل الصلوات، وفي صليت ياء، فكيف يصح الاشتقاق مع اختلاف الحروف الأصلية؟ ورده إمام الشَّارحين، فقال: دعواه بالبطلان غير صحيحة؛ لأنَّ اشتراط اتفاق الحروف الأصلية في الاشتقاق الصغير دون الكبير والأكبر.
فإن قلت: لو كانت واوية؛ كان ينبغي أن يقال: صلوت، ولم يقل ذلك؟
قلت: هذا لا ينفي أن تكون واوية؛ لأنَّهم يقلبون الواو ياء إذا وقعت رابعة، وقيل: أصلها في التعظيم، وسميت العبادة المخصوصة صلاة؛ لما فيها من تعظيم الرب سبحانه، وقيل: من الرحمة، وقيل: من التقرب من قولهم: شاة مصلية، وهي قربت من النار، وقيل: من اللزوم.
وقال الزجاج: يقال: صلى واصطلى، إذا لزم، وقيل: الإقبال على الشيء، وأنكر غير واحد بعض هذه الاشتقاقات؛ لاختلاف لام الكلمة في بعض هذه الأقوال، فلا يصح الاشتقاق مع اختلاف الحروف.
قلت: (قد أجبنا الآن عن ذلك) انتهى كلامه
ثم قال إمام الشَّارحين: ( وقيل: إن (الصلاة) مشتقة من الصلوين، تثنية الصلا: وهو ما عن يمين الذنب وشماله، قاله الجوهري.
قلت: هما العظمان الناتئان عند العجيزة، وهو الفرس الثاني من خيل السباق؛ لأنَّ رأسه يلي صلوى السابق) انتهى.
قلت: فهما أصلا الفخذين إلى الكعبين، والمراد بهما: الوركان، فأصل (صلى) حرك الصلوين؛ لأنَّ المصلي يفعله في ركوعه وسجوده، وإنما سمي الداعي مصليًا؛ تشبيهًا له في تخشعه بالراكع والساجد، وهذا القول اختاره رأس المحققين جار الله الزمخشري في «الكشاف»، وعليه فـ (الصلاة) حقيقة لغوية في تحريك الصلويين، ثم نقلت من التحريك المذكور إلى فعل الهيئات المخصوصة؛ لتحقق تحريك الصلوين، ومجاز مرسل في فعل الأركان المخصوصة، واستعارة في الدعاء، كما يدل عليه كلامه حيث قال: وحقيقة (صلى) حرك الصلوين؛ لأنَّ المصلي يفعل ذلك في ركوعه وسجوده، ونظيره: كفر اليهودي؛ إذا طأطأ رأسه وانحنى عند تعظيم صاحبه؛ لأنَّه ينحني على الكاذتين؛ وهما الكافرتان، ثم قال: وقيل للداعي مصلٍّ؛ تشبيهًا له في تخشعه بالراكع والساجد، انتهى.
قلت: فإذا كان لفظ (الصلاة) بمعنى: فعل الهيئات المخصوصة منقولًا من (الصلاة) بمعنى: تحريك الصلوين، فما وجه إطلاقها على الداعي مع أنه لا يحرك شيئًا من الصلويين؟
فأجاب عنه: ببيان وجه استعمالها فيه، وهو أنه سلك فيه طريق الاستعارة؛ حيث شبه الداعي في تخشعه بالمصلي، فاستعير لفظ المصلي للرداعي بهذا الجامع، والحاصل: أنَّ الصلاة نقلت أولًا من تحريك الصلوين إلى الأركان المعلومة واشتهرت فيها، ثم استعيرت / منها للدعاء بجامع التخشع إلا أنَّ هذا الجواب يستلزم أن يكون استعمال الصلاة في الدعاء بعد استعمالها في فعل الهيئات المعلومة، وليس كذلك؛ لأنَّ الصلاة بمعنى: الدعاء شائعة في إشعار الجاهلية، ولم يرو عنهم إطلاقها على فعل تلك الهيئات بل ما كانوا يعرفون ذلك قط، فكيف يتجوزونها عنه؟ والذي يظهر أن ما اختاره الجمهور أوجه وأولى، أما أولًا؛ فلأن الاشتقاق مما ليس بحدث؛ كالصلاة قليل نادر، وأما ثانيًا؛ فلأن أخذ الحركة من (صلى) المشتق من (الصلا) لا دليل عليه، وأما ثالثًا؛ فلأن ذكر الجزء وإرادة الكل إنَّما يصح إذا كان الجزء مقصودًا من الكل، وهنا ليس كذلك، بخلاف ما اختاره الجمهور؛ فليحفظ.
واعلم أن ابن حجر ذكر وجه المناسبة بين أبواب (كتاب الصلاة)، وهي تزيد على عشرين نوعًا، فذكرها مجملة في هذا الموضع، ثم قال: (هذا آخر ما ظهر من مناسبة ترتيب كتاب الصلاة من هذا «الجامع الصحيح»، ولم يتعرض أحد من الشراح لذلك) انتهى.
ورده إمام الشَّارحين فقال: (نحن نذكر وجه المناسبة بين كل بابين من هذه الأبواب بما يفوق ذلك على ما ذكره، يظهر لك ذلك عند المقابلة، وذكرها في مواضعها أنسب، وأوقع في الذهن، وأقرب إلى القول، وبالله التوفيق) انتهى.
قلت: وكلامه في غاية من التحقيق، فإن ذكر المناسبة بين كل بابين من الأبواب لا ريب أنه أنسب وأوقع في النفس، بخلاف ما زعمه ابن حجر؛ فإن فيه تشتيت الأذهان، وطلب النفس إلى سماع وجه المناسبة في كل باب، وفيه خبط وتخليط، وما ذاك إلا من عدم الذكاء والفهم، وهذا دأب الشَّارح المجهول الذي جمع منه كتابه الذي سماه «فتح الباري»، فإنه قد نحا نحوه في ذلك، فالشرح في الحقيقة مجموع من هذا الشَّارح المجهول، فهو نقله ونسبه لنفسه، وجرى على ما ذكره، ولا ريب أن ذلك مخل في الصناعة، وممل لأهل العلم لا سيما قليل البضاعة، وقد ذكر بعض الأفاضل بيان وجه التطويل الممل، والاختصار المخل الواقع لابن حجر في «الفتح» في كتاب سماه «كشف الحجاب عن العوام فيما وقع في الفتح من الأوهام»، وجمع بعض الفضلاء كتابًا آخر سماه «منهل العليل المطل على ما وقع في الفتح من التطويل المخل»، فمن أراد الاضطلاع على ذلك؛ فعليه بهما، فإنه لم يسبق إليهما أحد مما جمع فيهما من التحقيقات الفائقة، والتدقيقات الرائقة، وفوق كل ذي علم عليم.