الباب الأول
في مولدهِ، وبدءِ أمرهِ، ونشأتهِ، وفي بيان نسبهِ ونسبتهِ، إلى غير ذلك من الفوائد، التي هي كدُرر الفوائد(1).
وقد يذكر في كلِّ فصلٍ ممَّا ليس منه لمناسبةٍ واستطرادٍ، فعليك بتحصيل الفائدة وتجنب الانتقاد، فنقول:
هو الإمامُ، المحدِّث، بل المسندُ، الحجَّة، بل الحاكم حافظُ الإسلام، ذروةُ الجهابذةِ النُّقاد الأعلام، شيخُ السُّنة والحديث، وطبيبُ عللهِ في القديمِ والحديث، الحافظُ الذي لا تغيبُ لديه الشَّاردة، والضَّابط الذي استوتْ عندهُ الطَّارفة والتَّالدة: أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل أبي الحسن بن إبراهيم بن المُغيرة _بضم الميم، وقد تكسر، وبالغين المعجمة المكسورة فمثناة تحتية فراء فهاء تأنيث_ابن بَرْدِزْبة _بفتح الموحدة أوله، وقد تكسر، وبسكون الراء، فكسر الدال المهملة، فسكون الزاي، فموحدة بعدها تاء تأنيث، على المشهورِ في ضبطهِ_.
وعبارة التاج السُّبكي في ((طبقاته)): بَرْدِزْبَه _بفتح الباء الموحدة، بعدها راء ساكنة، ثم دال مكسورة مهملة، ثم زاي ساكنة، ثم باء موحدة مفتوحة، ثم هاء_ابن بَذِذْبِه _بباء موحدة مفتوحة، ثم ذال معجمة مكسورة، ثم ذال ثانية معجمة ساكنة، ثم باء موحدة مكسورة، ثم هاء_هذا ما كنَّا نسمعُه من الشيخ الإمامِ الوالد، وقيل بدل: بردزبة؛ الأحرف، وقيل غير ذلك، انتهت.
وأرادَ بقوله: ((وقيل بدل...إلخ)): أنَّ بَذِذْبة _بذالين_تجعل بدل: بردزبة، وعليه فلا تعرُّض لذكر والد بردزبة.
ولعلَّه أشار بقوله: /
((وقيل غير ذلك))، إلى ما ذكره ابنُ خلِّكان؛ فإنه(2) قال: وقد اختلفَ في اسم جدِّه، فقيل: إنه يَرْذِبه _بفتح المثناة من تحتها، وسكون الراء، وكسر الذال المعجمة، وبعدها باء موحدة، ثم هاء ساكنة_، وقال أبو نصر بنُ ماكولا في كتاب ((الإكمال)): هو ابنُ زذزبه _بزاي، فذال معجمة، فزاي، فباء موحدة، وهاء_، انتهى.
ثم قال: ووجدتُه في موضع آخر عوض يرذبة: الأحنف، ولعلَّ يرذبة كان أحنف الرجل، انتهى، هكذا رأيتُه في ابن خلِّكان.
لكن نقلَ ابنُ الملقِّن في ((توضيحه شرح البخاري)) عن ابن خلِّكان خلافه؛ فإنه قال: ابن يَزْدِزْبه _بفتح المثناة التحتية أوله(3)، ثم زاي ساكنة، ثم دال مهملة مكسورة، ثم زاي، ثم باء موحدة، ثم هاء_، ويقال: بردزبه _بموحدة أوله بدل المثناة، ثم راء مهملة، والباقي مثل الأول_، كذا ضبطَه أولاً ابن خلِّكان عن بعضهم، ثم نقل الثاني عن ابنِ ماكولا، انتهى.
ثم رأيتُه في نسخٍ من ابن خلِّكان كما نقل ابنُ الملقِّن، فنُسخ ابن خلِّكان مختلفة، ولعلَّ المعوَّل عليه ما نقله ابنُ الملقِّن عنه.
وقال الحافظ ابنُ حجر في ((المقدمة)) بعد أن ضبطَه بفتح الموحدة، ثم راء ساكنة، فدال مهملة مكسورة، فزاي ساكنة، فموحدة، فهاء تأنيث، قال: وبه جزمَ ابنُ ماكولا، ثم قال: وبردزبة بالفارسيَّة: الزرَّاع، كذا تقوله أهلُ بخارى، ومات بردزبة على دينِ قومه؛ يعني: مجوسيًّا.
وقال ابن الملقن في ((التوضيح)): قال _أعني: ابن ماكولا_: هو بالبخاريَّة، ومعناه بالعربية الزرَّاع، وقال ابنُ دحية: قال لي أهلُ خراسان بعد أن لم يعرفوا معنى هذه اللَّفظة: / يقال للفلاحين بالفارسية: برْزِكرْ _بباء موحدة، ثم راء ساكنة، ثم زاي مكسورة، ثم كاف غير صافية، ثم راء ساكنة_، وهو لقبٌ لكلِّ من سكن البادية، زرَّاعاً كان أو غيره، وقيل: إنَّه المغيرةُ بن الأحنف. انتهى.
وعليه: فيكون في والدِ المغيرة خلافٌ، هل هو الأحنفُ، أو بردزبة.
وعلى ما تقدَّم عن ابن خلِّكان، فهما شيءٌ واحدٌ، والأحنفُ لقب بردزبة؛ يعني: أو بزدبة أو يزدبة، فالكل بمعنى(4)، فتأمل.
وأسلم المغيرةُ بن بردزبه على يد يمانٍ الجُعفِي والي بخارى، فنسبَ إليه نسبة ولاءٍ؛ عملاً بمذهبِ من يَرى أنَّ من أسلمَ على يدهِ شخصٌ كان ولاؤه له، فقيل للبخاريِّ: الجعفي؛ لكون جدِّه الأعلى أسلم على يدِ الجُعْفي المذكور، وهو _بضم الجيم، وسكون العين المهملة، وبالفاء، فياء النسبة(5)_، وإلى ذلك أشارَ الزين العرَاقي في ((ألفيته)) بقوله:
وربَّما إلى القبيْلِ يُنْسَبُ مَوْلى عتَاقةٍ وهذَا الأغلَبُ
أو لوَلاءِ الحِلْفِ كالتَّيميِّ مالكٍ أو للدِّين كالجُعْفي
قال ابنُ علَّان المكِّي الصِّدِّيقي في ((شرح أذكار النَّووي)) نقلاً عن ((شرح المشكاة)) لابن حجر الهيتمي: الجُعفي، مولاهم ولاء إسلامٍ، على مذهب من يرَى أنَّ من أسلمَ على يدِ شخصٍ كان ولاؤهُ له، وذلك لأنَّ جدَّه المغيرة كان مجوسيًّا، فأسلمَ على يد اليمانِ الجُعْفي والي بخارى، نسبةً لـ((جعفي بن سعد العشيرة)) أبي قبيلةٍ من اليمنِ، ووهمَ من قال: إنَّه اسمُ بلدٍ، وكأنه توهَّمه من قول ياقوت الحموي في كتابه ((معجم البلدان)) أنه مخلاف باليمن منزل قبيلةٍ من مذحج، بينه وبين / صنعاء أربعون فرسخاً، انتهى.
ثم قال ابنُ علَّان، وأصله للعَاقُولي في ((شرح المصابيح)): وعلى قول ياقوت فيحتملُ: أن يكون جُعفي مشتركاً لفظياً بين القبيلة والمكان، ويحتملُ: أنَّه حقيقة في الأوَّل، وسمي المكانُ به من تسميةِ المحلِّ باسم الحال، أو بالعكسِ، وكلامُه إلى الثاني أقربُ، انتهى.
وقال ابنُ الملقن: ويمانُ هذا هو أبو جدِّ المحدِّث عبد الله بن محمد بن جعفر بن يمان المسنَدِي _بفتح النون_شيخ البُخاري.
وقال النَّووي في ((تهذيب الأسماء واللغات)): ويمان هذا هو أبو المغيرة عبدُ الله بن محمَّد بن جعفر بن يمان المسنَدِي _بفتح النون_شيخ البخاري.
وقال ابن خلِّكان: ونسبةُ البُخاري إلى سعيد بن جعفر الجُعْفي والي خراسان، وكانَ له عليهم ولاء، فنسبوا إليه، انتهى.
فتأمَّله مع قولهم السابق: إنَّ الجُعفي نسبته إلى يمان والي بخارى، وقد يجمعُ بضربٍ من التَّجوز، ويكون سعيد لقباً ليمان، أو بالعكس، فتدبر.
وكذا ليتأمل في قول النَّووي: ((ويمان هذا هو أبو المغيرة عبد الله... إلخ))، فلعلَّ قوله: أبو المغيرة كنية يمانٍ، ولعلَّ في قوله: عبد الله... إلخ، حذفاً قبله يدلُّ عليه كلام ابن الملقِّن السابق(6)، والتقدير: ويمان هذا هو أبو المغيرة أبو جدِّ المحدِّث عبد الله بن محمد... إلخ، فتأمله.
وفي بعض نسخ ((التهذيب)): أبو عبد الله بن محمد... إلخ، بدل: أبو المغيرة عبد الله... إلخ، فتدبر.
وقال الكرمانيُّ في كتاب ((التوحيد)) في باب المشيئة والإرادة، في ترجمةِ عبد الله المذكور / المسنَدِي _بلفظ الفاعل أو المفعول_قال: وإنما نُسب إليه؛ لأنه كان يتَّبع الأحاديثَ المسندةَ، ولا يرغبُ في المراسيل، انتهى.
وقال السيوطيُّ في ((تدريب الراوي بشرح تقريب النَّواوي)): اعلم أنَّ المسنِد _بكسر النون_أدنى درجةً من الحافظ والمحدِّث؛ إذ هو من يروي الحديثَ بإسنادِهِ سواء علم به، أو ليس له إلا مجرَّد الرواية، وأمَّا المحدِّث فهو أرفعُ منه، أي: فإنه العالمُ بحديثِ رسولِ الله صلعم متناً وطريقاً وأسماء رواة له.
وقال الحافظُ ابنُ حجرٍ: كان السلفُ يُطلقون المحدِّث والحافظ بمعنى واحدٍ، والحقُّ أن الحافظ أخصُّ من المحدِّث؛ إذ هو من اجتمعَتْ فيه شروط الشُّهرة بالطلبِ والأخذِ من أفواه الرِّجال، والمعرفة بطبقاتِ الرُّواة ومراتبِهِم، وبالجرحِ والتَّعديل، وتمييزِ الصَّحيح من السَّقيم؛ بحيث يكون ما يستحضرُهُ أكثر ممَّا لا يستحضرُهُ، مع استحضارِهِ لكثير من المتونِ، انتهى.
وقال بعضُهم: الحافظُ من حفظِ مئة ألف حديثٍ متناً وإسناداً، ولو بتعدُّد الطُّرق، وفوقه: الحجَّة، وهو من حفظَ ثلاث مئة ألف حديث كذلك، وفوقه: الحاكمُ، وهو من أحاطَ بجميعِ الأحاديث كذلك.
فظهرَ الفرق بين المسند والمحدِّث والحافظ والحجَّة والحاكم، وقد بسطنا الكلام على ذلك، وعلى غيره في أوائل خطبة: ((الفيض الجاري بشرح صحيح الإمام البخاري)).
فائدةٌ: قال ابنُ الملقِّن في ((التوضيح)): / قد أسلفنَا أن البخاريَّ ☼أمير المؤمنين في الحديث، وقد شاركه في ذلك جماعة، أفردَهُم الحافظ أبو علي الحسن بن محمد البكرِي في كتابه: ((التَّبيين لذكر من تسمَّى بأمير المؤمنين))، قال فيه(7): وأوَّل من تسمَّى بهذا الاسم فيما أعلمه ورويتُه وكذا بالإمامِ في أوَّل الإسلام: أبو الزِّناد عبدُ الله بنُ ذَكوان، وبعدَهُ إمامُ دار الهجرةِ مالك بن أنس، ثمَّ عدَّ بعدهما محمَّد بن إسحاق صاحب المغَازِي، وشعبة بن الحجَّاج، وسفيان الثَّوري، والبُخاري، والواقدي، وإسحاق بن راهوَيه، وعبد الله بن المبارك، والدَّارقطني.
وذكر فيه أنَّ أبا إسحاق الشِّيرازي أمير المؤمنين، فيما بين الفقهاء نقلاً عن الموفَّق الحنفِي إمام أصحابِ الرَّأي ببغداد، هذا مجموع ما ذكرهُ في تأليفِهِ، وأغفَلَ أبا نُعيم الفضلَ بنَ دُكين الملائي الكوفي، فإنَّ الحاكم في ((تاريخ نيسابور)) ذكر أنَّ أهل الكوفة يقولون له: أمير المؤمنين في الحديث؛ لعلمهِ بالحديث، وكذا هشام بن عبد الله الدَّستوائي؛ فإنَّ أبا داود الطَّيالسي قال فيه: كان أميرَ المؤمنين في الحديث، وكذا مسلم بنُ الحجاج جدير بأن يلقَّبَ بذلك، وإنْ لم أرهم نصُّوا عليه، انتهى فاعرفه.
قال النوويُّ وغيره: واتَّفقوا على أنَّ البخاري ولد بعد صلاةِ الجمعة لثلاث عشرة ليلة خلتْ من شوال، سنة أربع وتسعين ومئة، انتهى.
ومثله في كلام ابنِ الملقِّن، لكن قال ابنُ كثير: ولد ليلة الجمعة / الثالث عشر من شوال، انتهى.
فليتأمَّل نقل الاتِّفاق والإجماعِ، ويمكنُ أنْ يُجاب بأن مرادَ ابن كثيرٍ الولادة بالقوَّة؛ كالأخذِ في الطَّلق، وكلامهم محمولٌ على الولادَةِ بالفعل، أو بأنَّهم لم يعتدوا به، أو بأنَّ كلامه محمولٌ على حذف مضاف؛ أي: ولد يوم ليلة الجمعة، فتدبَّر.
وما ذكره النَّووي وابن الملقِّن من أن ولادته كانت سنة أربعٍ هو المعروفُ في كلامهم، وعليه ما في النَّظم الآتي.
وقال ابنُ خلِّكان: وكانت ولادته يوم الجمعة بعد الصَّلاة لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال سنة ست وتسعين ومئة، انتهى.
وهو ضعيف جداً لقول النَّووي: واتَّفقوا... إلخ.
وكذا قول أبي يعلى الخليلي في كتاب ((الإرشاد)) له: إنَّ ولادته كانت لاثنتي عشرة ليلة خلَتْ من الشهر المذكور، انتهى. ضعيفٌ، إلَّا أن يؤول ككلام ابنِ كثيرٍ السابق، فتأمل.
وكانت ولادتُه في التاريخ المذكور ببُخارى _بضم الموحدة، وبالخاء المعجمة، وبعد الألف راء، يليها ألف مقصُورة_مدينةٌ من أعظم مدن ما وراء النهر، بينها وبين سمرقند ثمانية أيام.
وقال النَّاجي في مولده المسمى بـ((كنز الراغبين والعفاة)): وبخارى على فعالى، وأبعد صاحب ((القاموس)) في زعمهِ أنها تمدُّ وتقصرُ، فتنبَّه له واحذرْهُ، انتهى.
وقال العينيُّ في شرحه المسمى بـ((عمدة القاري بشرح صحيح البخاري)) في ترجمة محمد بن سلام البيكندِي / البخاري ما نصُّه: البخاريُّ نسبةً إلى بُخارى _بضم الموحدة_مدينةٌ مشهورةٌ بما وراء النَّهر، خرجَتْ منها العلماء والصُّلحاء، ويشتملُ على بخارى وعلى قُراها ومَصَالحها: سوراً واحداً نحو اثني عشرَ فرسخاً في مثلها، وقال ابنُ حوقل: رساتيق بُخارى تزيدُ على خمسة عشر رِسْتاقاً، جميعها داخل الحائط المبني على بلادِهَا، ولها خارج الحائط _أيضاً_عدَّة مدنٍ، منها فرَبْر وغيرها، انتهى كلام العيني.
ومات البخاريُّ ليلة السبت عند دخولِ وقتِ العشاء ليلةَ عيد الفطرِ سنة ست وخمسين ومئتين.
قال في ((المقدمة)): وكانَتْ مدَّة عمرِهِ اثنتين وستين سنة إلا ثلاثة عشرَ يوماً، انتهى.
ودفنَ يوم الفطرِ صبيحتها بعد الظُّهر بخَرْتَنْك بفتح الخاء المعجمة، وقد تكسر، وسكون الراء، وبفتح المثناة الفوقية، فنون ساكنة، فكاف: قريةٌ على فرسخين من سمرقند، قاله النَّووي وغيره، وبهِ يعلمُ ما في قولِ القسطلانيِّ: إن بينهمَا ثلاثة أيام، فليتأمل. إلا أنْ يجابَ بأنَّ لها طريقين، فتدبَّر(8).
ومن لطيفِ ما وقعَ للبُخاري: أن شهرَ وفاتهِ وافقَ شهر ولادتهِ في الاسم، وهو شوال.
وذلك أنَّه لما خرجَ من بخارَى أو مِن نيسابور _لأمرٍ ستأتي الإشارةُ إليه_كتبَ إليه أهل سمرقند يطلبونَه إلى بلدِهِم فسارَ إليهم، فلمَّا كان بخَرْتَنْك، بلغه أنَّه قد وقعَ بسببه فتنةٌ، فقوم يريدون دخوله، وآخرون يكرهونه، وكان له بخرتنك أقرباءَ، فنزل عندهُم حتى ينجليَ الأمرُ، فأقام بها أيَّاماً، / فحصل له بها مرضٌ خفيفٌ، وأرسل إليه أهلُ سمرقند ثانياً يلتمسونَ ذهابَهُ إليهم، فأجابَ وتهيَّأ للركوب، فلمَّا مشَى قدر عشرين خطوة أو نحوها، قُدِّمت إليه دابةٌ ليركبها، فشقَّ عليه ذلك، فقال: أرسلوني؛ فقد ضعفْتُ، فأرسلوه، فدَعا بدعواتٍ، ثم اضطجَعَ، فقُضِي عليه، فسالَ منه عرقٌ كثير جداً، ولم يسكنْ حتى أدرِجَ في أكفانِهِ.
وقيل: إنَّه ضجرَ ليلةً، فدعا بعدَ أنْ فرغَ من صلاة الليلِ بقوله: اللَّهمَّ قد ضاقَتْ عليَّ الأرض بما رحبَتْ، فاقبضني إليك، فمات في ذلك الشَّهر.
وعبارة ((المقدمة)) للحافظ ابنِ حجر: قال ابنُ عدي: سمعت عبدَ القدُّوس بن عبد الجبَّار يقول: خرجَ البخاري إلى خرتنك _قرية من قرَى سمرقند_وكان له بها أقرباء، فنزلَ عندهم، فسمعتُه ليلةً من الليالي وقد فرغَ من صلاةِ الليل يقولُ في دُعائه: اللَّهمَّ قد ضاقَتْ علي الأرضُ بما رحبَتْ، فاقبضْنِي إليك، فما تم الشَّهر حتى قبضَه الله تعالى.
وقال محمَّد بن أبي حاتم الورَّاق: سمعتُ غالبَ بنَ جبريل _وهو الذي نزلَ عليه البخاري بخرتنك_يقول: إنه أقام أياماً، فمرضَ حتى وجِّه إليه رسولٌ من أهل سمرقند يلتمسونَ منه الخروجَ إليهم، فأجابَ، وتهيَّأ للركوب، ولبس خفَّيه وتعمَّم، فلمَّا مشَى قدْرَ عشرين خطوة أو نحوها، قرَّبوا له الدابة ليركبَها، وأنا آخذ / بعضُدِه، فقال: أرسلوني؛ فقد ضعفْتُ، فأرسلناه، فدعا بدعواتٍ، ثمَّ اضطجَعَ، فقضَى، فسال منه عرقٌ كثيرٌ، انتهت.
وقال الحافظ في ((المقدمة)) أيضاً: قال الخطيبُ: أخبرنا عليُّ بن أبي حامدٍ في كتابه، قال: أخبرنا محمَّد بنُ محمد بنِ مكي، سمعتُ عبدَ الواحد بن آدم الطَّواويسي يقول: رأيتُ النبيَّ صلعم في النومِ، ومعه جماعةٌ من أصحابهِ، وهو واقفٌ في موضعٍ، فسلَّمت عليه، فردَّ علي السَّلام، فقلتُ: ما وقوفكَ هاهنا يا رسول الله؟ قال: أنتظرُ محمد بنَ إسماعيل، قال: فلمَّا كان بعدَ أيامٍ، بلغني موتَه، فإذا هو قد ماتَ في السَّاعة التي رأيتُ فيها النبيَّ صلعم ، انتهى.
تنبيه: استشكل دعاؤه بالموت، مع أنَّه أخرج في ((صحيحه)) عن أبي هريرة(9): ((لا يتمنَّين أحدُكُم الموتَ لضرٍّ نزلَ به))، وفي لفظ للصَّحيحين عن أنس: ((لا يتمنَّين أحدُكُم الموتَ لضرٍّ أصابَه، فإن كان لا بدَّ فاعلاً فليقل: اللهمَّ أحيني ما دامتْ الحياة خيراً لي، وتوفَّني ما دامَتْ الوفاة _وفي رواية: إذا كانت الوفاة_خيراً لي)).
وأُجيب بأنَّ المراد بالضرِّ في الحديث: الدُّنيوي، أمَّا الأخرَوي، فيجوز تمني الموتِ لأجلهِ بلا كراهةٍ، بل يسنُّ خوفاً من تطرُّق خللٍ في دينهِ، على أن النَّهي في الحديث ليس للتَّحريم، بل للتَّنزيه كما هو مقرَّر / في الفروع، وقال بعضُهم: والأولى أن يدعوَ الإنسانُ بما في الحديث السَّابق من قوله صلعم : ((اللهمَّ أحيني ما كانتِ الحياةُ خيراً لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيراً لي)).
وفي معنى هذا قلت:
طولُ الحياةِ حميدَةٌ إنْ راقبَ الرَّحمنَ عبْدهُ
وبضدِّها فالموتُ خيـ ر والسَّعيد أتاهُ رشدُه
واختُلف في تمنِّيه لا لضررٍ نزلَ به، والرَّاجح أنَّه لا يكرهُ؛ ففي ((التحفة المكية)) لابن حجر(10): والذي يتَّجه أنَّه لا كراهةَ؛ لأنَّ علَّتها أنه مع الضُّر يشعرُ بالتَّبرم بالقضاءِ، بخلافهِ مع عدمهِ، بل هو حينئذٍ دليل على الرِّضا؛ لأنَّ من شأن النَّفوس النفرة عن الموتِ، فتمنِّيه لا لضرٍّ دليلٌ على محبَّته الآخرة، بل حديث: ((مَن أحبَّ لقاءَ الله أحبَّ الله لقاءَهُ)) يدلُّ على ندبِ تمنِّيه محبةً للقاءِ الله؛ كهو ببلد شريف، بل هو أولى، انتهى.
فائدة(11): وقال ابن الملقِّن في ((التوضيح)): قد علمت أن البخاريَّ مات بخرتنك سنة ستة وخمسين ومئتين عن اثنتين وستين سنة، ومات مسلم بنيسابور سنة إحدى وستين ومئتين، ومات أبو داود بالبصرة سنة خمس وسبعين ومئتين / ، ومات الترمذيُّ بها سنة تسع وسبعين ومئتين، ومات النسائي بمكة سنة ثلاث وثلاث مئة، انتهى.
وأقول: لعله(12) لم يذكرْ ابن ماجه؛ لأنَّه ليس من أصحابِ الكتب الستَّة عند كثيرين، ومات سنة ثلاث وسبعين ومئتين.
وما تقدَّم من أنَّ البُخاري مات بخرتنك هو الصَّواب؛ فقد قال ابن خلِّكان: ذكر ابنُ يونس في ((تاريخ الغرباء)) أن البخاريَّ قدم مصرَ، وتوفي بها، قال: وهو غلطٌ، والصَّواب أنه بخرتنك، انتهى.
وقد نظم بعضُهم زمن ولادة البخاري ووفاته ومقدارَ عمره رامزاً لذلك، مع الثناء عليه، وأجاد بقوله:
كان البخاريُّ حافظاً ومحدِّثاً جمعَ الصَّحيحَ مكمَّلَ التَّحرير
ميلادُهُ صدقٌ ومدَّة عمرِهِ فيها حميدٌ وانقضَى في نور
ونظيره للشَّهاب أحمد المقرِي المغرِبي في أئمَّة المذاهب الأربعةِ، لكن في زمنِ موتهم فقط، قال:
نظمْتُ موتَ صُدورٍ همُ منَ النَّجمِ أهْدَى
أبو حنيفَةَ سيْفٌ ماضِي الشّبا ليسَ يصْدَى
ومالكٌ قطْعُ ضِدٍّ بعلمِهِ قد تبَدَّى
والشَّافعِي دُرُّ عقْدٍ بهِ تنَظَّم عِقْدا
وأحمَدٌ رامَ عِلْماً فنَالَ عِلْماً وزُهْدا
ولنا(13) في ميلادِهِم ووفاتِهِم أعاد الله علينا منْ بركاتهم:
ميلادُ نعمَانٍ أتَى في عِزَّهٍ واستثْنِ منها اثنَين في الأعدَادِ
ووفاتُه سيفٌ نُضِي منْ غِمْدِه فسَعَى إلى الجنَّاتِ بالإعْدَادِ
وإمامُ دارِ المصْطَفَى ميلادُهُ منْجٍ أتَانَا عَاليَ الإسنَادِ
وبموْتِهِ في عامِ قطْعٍ قُطِّعَتْ للعِلْمِ أطنَابٌ عَلى أوتَادِ
والشَّافعِيُّ إمامُنَا ميلادُهُ في عامِ سيْفٍ سُلَّ منْ / أغْمَادِ /
ووفاتُهُ في عامِ رَدٍّ يا لَهُ منْ رَدِّ مَنْ أضْحَى منَ الأوْتَادِ
وبأحْمَد لمَّا تبَدَّى وجْهُهُ في عامِ قُدْسٍ زيدَ في الإمْدَادِ
وبموْتِهِ في رامَ أسلمَتِ العِدَا لكَرَامةٍ ظهَرَتْ وللإسْعَادِ
وأشرنا بقولنا: ((أسلمتِ العدَا لكرامَة...)) إلخ، إلى ما نقلهُ النَّووي في ((التهذيب))، والدَّميري في ((حياة الحيوان)): أنه أسلمَ يوم موتهِ ببغداد عشرون ألفاً من اليهودِ والنَّصارى وغيرهم(14).
ومثله لشيخ مشايخنا الشَّيخ عبد القادر بن عبد الهادِي العُمَري في أصحاب الكتبِ الستَّة، لكن في وفاتهم كالمقري، قال:
محمَّدٌ نورُ فَضْلٍ وهوَ البُخارِي المُفَدَّى
ومسلِمٌ سارَ حتَّى قدْ فاقَ ضَبْطاً ونَقْدا
أبٌ لداودَ هرعٌ إلى العَوالي تصَدَّى
والتِّرمذِي عِطْرُ نَدٍّ قدْ فاحَ لمَّا تبَدَّى
وأحمَدٌ قبْرُ جودٍ وهوَ النَّسائي المُرَدَّى
محمَّدٌ جرْعُ كأسٍ لماجَه لن يُرَدَّى
انتهى.
وأقول: الذي ذكرهُ غيره كابنِ السُّبكي في النَّسائي أنه مات سنة ثلاث وثلاث مئة فلعلَّ في وفاته خلافاً أو أن نظم: فجر، بالجيم بدل الموحدة، فتدبَّر(15).
وقد كان البخاريُّ أوصَى أن يكفَّنَ في ثلاثةِ أثوابٍ بيضٍ، ليس فيها قميصٌ ولا عمامَةٌ، ففعل به كذلك، وهذا أفضلُ في مذهب الشَّافعية، وتكون كلها لفائف، كلُّ واحدة منها تستر جميع البدن، والأفضل كونها من قطنٍ.
ولما دفنَ البخاريُّ ☺ فاحَ من قبرهِ رائحةٌ أطيبُ من ريح المسكِ الأذفرِ، وظهر شاخص أبيضٌ في السماء مُستطيلاً حِذَاء القبرِ، واستمرَّ حتى دُفن، ولم يعلمْ أين ذهبَ، ولعلَّ ذلك روحُه الشَّريفة تصوَّرت بما ذُكر؛ لتدخلَ في جسدِهِ بعد دفنهِ، كما ذكروا في ابنِ عباس ☻ : أنَّه لما وضِعَ ليصلَّى عليه، جاء طائرٌ أبيضُ، فوقعَ على أكفانِهِ، فدخلَ فيها، فالتُمِسَ فلم يُوجد، فلمَّا سُوِّي عليه الترابُ، سمعُوا / صوتاً من غير رؤية شخصه يقرأ: {يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ. ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً. فَادْخُلِي فِي عِبَادِي. وَادْخُلِي جَنَّتِي} [الفجر:27-30].
ويحتملُ في قضيَّة البخاري أنه مَلَك، أو صالحٌ آخرُ أراد حضورَ جنازتهِ، والله أعلم بحقيقةِ الحال، فتأمَّل(16).
ولما دُفِنَ صار الناسُ يأخذون من تراب القبرِ للتبرك به، وأكثروا من ذلك حتى ظهرتْ الحفرة للناس، ولم يقدروا على حفظِ القبرِ بالحرَّاس، فنصَبوا على القبر أخشاباً مشبَّكة، فصاروا يأخذون ما حولها من الترابِ والحصَى للتَّبرك، ودامتْ الرائحةُ الطِّيبة التي فاحتْ من قبرهِ أياماً كثيرةً، وتواترتْ عند أهلِ تلك البلاد، واشتهرتْ تلك الكرامات، وأمثالُ هذه لا تُستعظم بالنَّسبة لمثل هذا الإمامِ المعظَّم _نفعنا الله به وبغيره من الصَّالحين، وحشرَنا في زمرتهم بجاهِ محمَّد سيد المرسلين_.
وأمَّا والد البُخاري، وهو إسماعيل، وكنيتُه: أبو الحسن، فقد كان من خيارِ الناس وصُلحائهم، ومن العلماءِ الورعين.
فقد قال أحمد بن حفصٍ: دخلتُ على أبي الحسن إسماعيل بن إبراهيم _والد البخاري_عند موته، فقال: لا أعلم في جميعِ مالي درهماً من شُبْهة، قال أحمدُ: فتصاغرَتْ إليَّ نفسِي عند ذلك.
وقال الذَّهبيُّ: كان أبو البُخاري من العلماء الورعين، ومن الأئمَّة / المعتبرين، وحدَّث عن جَمَاعةٍ، منهم: أبو مُعاوية وغيره، وروى عنه: أحمدُ بن جعفر، ونصرُ بن الحسين.
وقال ابن حبَّان في كتاب ((الثقات)): إسماعيلُ بن إبراهيم _والد البخاري_يروي عن حماد بن زيدٍ، ومالك، وروى عنه العراقيون.
وذكره ولده في ((التاريخ الكبير)) فقال: سمعَ من مالك، وحمَّاد بن زيد، وصحبَ ابن المبارك.
وأمَّا جدُّه إبراهيم _والد إسماعيل المذكور_فذكر الحافظ ابنُ حجر في ((المقدمة)): أنه لم يقفْ على شيءٍ من أخبارِهِ، انتهى.
يعني: على شيءٍ زائدٍ على الإسلام، وعلى أخبارِهِ الظَّاهرة، وكذا يقال في المغيرة، فافهم.
وأمَّا أمُّ البخاري رحمها الله تعالى فلم أقفْ على اسمها، وقد ذكر بعضُهم أنها كانت صالحة مجابةَ الدَّعوة، قال: وذلك لأنَّ ولدها محمَّد بن إسماعيل البُخاري لما ذهبَ بصرُه في حال صغرِهِ، رأتْ أمُّه في المنام إبراهيم الخليل على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام قائلاً لها: يا هذه! قد ردَّ الله على ابنِكِ بصرَهُ؛ لكثرةِ دُعائك أو بُكائك.
وقال التَّاج السبكي في ((طبقاته الكبرى)) بعد نقل ما ذُكر، قال: وعن جبريل بن ميكائيل: سمعتُ البخاري يقول: لما بلغتُ خراسان، أُصبْتُ ببصَرِي، فعلَّمني رجل أن أحلِقَ رأسِي وأغسله(17) بالخطمي، ففعلتُ، فردَّ الله تعالى عليَّ بصرِي. رواها عنجار في ((تاريخه))، انتهى.
وذكر ابنُ حجر الهيتمي في ((شرح / الأربعين)): أن البخاريَّ هو الرَّائي لإبراهيم الخليل، وعبارته: حُكِي أنه عَمِي صبياً، فرأى في نومهِ إبراهيم على نبيِّنا و ╕ ، فتفَلَ في عينيهِ أو دَعا له، فأبصرَ، فمن ثمَّ لم يُقْرأ كتابُهُ في كربٍ إلا فرِّج. انتهت.
ويمكنُ الجمعُ بأنَّ كلًّا منهما رأى إبراهيم ╕ .
وقال الحافظُ ابن حجر في ((المقدمة)): مات إسماعيل _يعني: والدُ البخاري_ومحمدٌ صغيرٌ _أي: والحالُ أن البُخاري صغيرُ السنِّ لم يبلغْ_فنشأَ البخاريُّ يتيماً في حِجْرِ أمِّه، وحجَّ معها مرةً صحبةَ أخيهِ أحمد، وكان أسنَّ منه، فأقامَ البُخاري بمكة لطلبِ العلمِ، ورجعَ أخوه أحمد إلى بُخارى مع أمه، ومات بها.
تنبيه: الظاهرُ أنَّ البخاري لم يتزوَّج، ولم أر من تعرَّض له بنفيٍ ولا إثباتٍ، فراجعه.
ولا يُنافيه تكنيته بأبي عبد الله؛ لأنَّ التَّكنية مَطْلوبة ولو في حقِّ الصَّغير، وكذا لا يُنافيه قصَّة جاريتهِ الآتية قريباً.
وقال أبو جعفر محمَّد بن أبي حاتم ورَّاق البُخاري: قلتُ للبخاريِّ: كيف كان بدْءُ أمركَ؟ قال: أُلهمت حفظَ الحديث في المكتب، ولي عشرُ سنين أو أقل، ثم خرجتُ من المكتبِ بعد العشر، فجعلتُ أختلفُ إلى الدَّاخلي وإلى غيره، فقال الدَّاخلي يوماً فيما كان يقرأُ للناس: حدَّثنا سفيان، عن أبي الزبير، عن إبراهيم، فقلت له: إن أبا الزبير لم يرو عن إبراهيم، فانتهرَني، فقلتُ له: ارجعْ إلى الأصلِ إن كان، فدخلَ فنظر فيه، ثم خرجَ فقال لي: كيف هو يا غلام؟ فقلت: / هو الزُّبير بن عدي، عن إبراهيم، فأخذ القلم مني، وأصلحَ كتابه، وقال: صدقْتَ، فقال له إنسان: كم كان عمرك حينئذٍ؟ قال: ابنُ إحدى عشرة سنة، قال: فلمَّا طعنتُ في ست عشرةَ سنة، حفظتُ كتبَ ابن المبارك، ووكيع، وعرفتُ كلام هؤلاء؛ يعني: أصحابَ الرأي، قال: ثم خرجت مع أمي وأخي إلى الحج. انتهى.
قال الحافظ ابنُ حجر في ((المقدمة)) أيضاً عقب ذكره هذا الكلام:
قلت: فكان أول رحلتهِ على هذا سنة عشر ومائتين، ولو رحلَ أول ما طلبَ، لأدركَ ما أدركه أقرانُه من طبقةٍ عاليةٍ، وإن كان أدرك ما قاربها؛ كيزيد بن هارون، وأبي داود الطَّيالسي، وقد أدرك عبد الرزاق، وأراد أن يرحلَ إليه، وكان يمكنه ذلك، فقيل له: إنه مات، فتأخَّر عن التوجُّه إلى اليمن، ثم تبين أن عبد الرَّزاق كان حيًّا، فصار يروي عنه بواسطة؛ أي: لأنَّه لم يجتمعْ به، ولم يكنْ له منه إجازةٌ.
ثم قال البُخاري: فلمَّا طعنتُ في ثماني عشرة _أي: سنة_حفظتُ كتاب ((قضايا الصحابة والتابعين وأقاويلهم))، ثم صنفتُ ((التاريخ الكبير)) يومئذٍ في المدينة عند قبرِ النبيِّ صلعم ، وكنت أكتبُه في اللَّيالي المقمرةِ، وقلَّ اسمٌ في التاريخِ إلَّا وله عندي قصَّة، إلا أني كرهتُ أن يطولَ الكتاب، انتهى.
وكان ☺ نحيف الجسم، ربْعَةً من الناس.
ففي ((التهذيب)) / للنَّووي: روينا من أوجهٍ عن الحسنِ بنِ الحسين البزَّاز _بزايين_قال: رأيتُ محمد بن إسماعيل البخاريَّ نحيفَ الجسمِ، ليس بالطَّويل ولا بالقصيرِ، انتهى.
وكان لا يأكلُ إلا قليلاً، وربما يمضِي عليه النهار والليل ولا يأكلُ شيئاً، وربما اقتصرَ أحياناً على نحو لوزتين، أو ثلاث، لا عن احتياجٍ، بل زهداً في الدنيا وإعراضاً عنها؛ فقد ذكرُوا أنه كانَ له مالٌ كثيرٌ ورثه من أبيهِ، وكان يتصدَّق منه على الفقراء والمساكين، لا سيَّما طلبةَ العلم المحتاجين؛ فقد نُقِل عنه أنه قال: كنتُ أستغل في كلِّ شهر خمس مئة درهم، فأنفقُها في الطَّلب {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} [الشورى:36].
وفي ((المقدمة)) للحافظِ ابنِ حجرٍ: وكان قليلَ الأكل جدًّا، كثير الإحسانِ إلى الطَّلبةِ، مفرِط الكرمِ، انتهى.
ونقل الشَّعراني في ((طبقاته)): أنه كان لا يأكلُ من مال أحدٍ شيئاً، بل كان أبوه يُطعمه من ماله، ويقول له: يا محمَّد، كُلْ، فإني لا أعلمُ في مالي شيئاً من الحرام، انتهى.
وليُنظر هذا مع ما(18) تقدَّم أنه نشأ يتيماً في حجرِ أمِّه، إلا أن يقال: صدرَ هذا القولُ من أبيه له في صغرهِ لما كان مميِّزاً، ثم مات أبوهُ وهو صغير، فلا مُنافاة(19).
وحُمِل إليه مرةً بضاعةٌ أنفذَها إليه أبو حفصٍ، فاجتمعَ إليه بعضُ التُّجارِ عشِيَّةً، وطلبوهَا منه بربحِ خمسةِ آلافِ دِرْهمٍ، فقال لهم: انصرفوا هذه الليلة، فجاءهُ من الغدِ جماعةٌ آخرون، فطلبُوها منه بربحِ عشرةِ آلافِ دِرْهمٍ، فلم يجبْهُم لما طلبُوه، وقال لهم: إني نويتُ البارحةَ بيعها للذين أتوني ليلاً، ولا أحبُّ تغييرَ نيَّتي.
وحكى ورَّاقهُ أنه ورثَ من أبيه مالاً جزيلاً، وكان يُعطيه مضاربةً، فقطعَ له غريم خمسة وعشرين ألفاً، فقيل للبُخاري: استعن عليه بكُتَّاب الوالي، فقال: إن أنا أخذت منهم كتاباً، طمعوا، / ولن أبيع ديني بدنياي، ثم صالحه غريمُهُ على أن يُعطيه كلَّ شهر عشرةَ دراهم، ولم يعطهِ، وذهب المالُ كله.
ونُقِل عنه ☺ أنه قال: ما اشتريتُ من أحد شيئاً، ولا بدرهم، ولا بعت أحداً كذلك، فسئل عن الورق والحبر، فقال: كنت أوكِّلُ إنساناً في ذلك، فقيل له: فلِم؟ قال: لما فيه من الزيادة والنُّقصان والتَّخليط.
وعليه: فيُحْملُ ما تقدم قريباً عنه من قوله: إني نويتُ البارحة بيعها للذين أتوني ليلاً... إلخ، على أنه يُوكلُ في ذلك، فافهم.
وحُكِي عنه أنه مرَّ به بعضُ جواريه، فعثرتْ بمِحْبرةٍ بين يديهِ، فقال لها: كيف تمشين؟ فقالت: إذا لم يكن طريق، كيف أمشي؟ فقال لها: اذهبي، فأنت حرَّة لوجهِ الله تعالى، فقيل له: يا أبا عبد الله! أغضبتْكَ وأعتقْتَها؟! فقال: أرضيتُ نفسي بما فعلتُ.
وحكى أبو الحسنِ يوسفُ بنُ أبي ذرٍّ البخاريُّ: أن محمد بن إسماعيل مرض، فعرضُوا ماءهُ على الأطباء، فقالوا: إن هذا الماء يشبه / ماء بعض أساقفةِ النصارى، فإنهم لا يأتدمُون، فصدَّقهُمْ، وقال: لم أتناول أدماً منذ أربعين سنة، فسألوهُم عن علاجه، فقالوا: علاجُه الأُدم، فامتنع، حتى ألحَّ عليه الأشياخُ وأهلُ العِلمِ، فأجابهم إلى أنْ يأكلَ مع الخبز سكرة.
وحُكِي عنه ☺ : أنه ركبَ في سفينةٍ لطلب الحديث، ومعه كيس فيه ألف دينار، فجعلَ بعض من في السفينة يخدمُ الشيخ ويتلطَّف به حتى ركنَ الشيخُ إليه، وأطلعَه على ما معه، فتناومَ الرجل، ثمَّ استيقظَ، فصاحَ وشقَّ ثيابَه، فقال له النَّاس: ويحكَ مالك؟ قال: كان معِي كيسٌ فيه ألف دينارٍ، وقد سُرِق مني، فجعَلوا يفتِّشون السَّفينة، ويفتِّش بعضُهم بعضاً، فألقَى الشيخ الكيسَ في البحر من غيرِ أن يشعرَ به أحد، فلمَّا فتَّشوا البخاري، ولم يجدوا معه الكيسَ، سبُّوا ذلك الرجل وضرَبُوه، ثم لما خرجوا، خلا الرجلُ بالشيخ، وقال له: ما فعلتَ بالكيسِ؟ قال: ألقيتُهُ في البحر، قال: هل سمحَتْ نفسُك بذهابِ ألفِ دينارٍ؟ فقال له الشيخ: يا قليلَ العقل! أنا أذهبتُ عمْري ومالي في طلبِ الحديث، وقد ثبتَ عند الناس أني ثقةٌ، أفلا أنفِي عني اسم السَّرقةِ.
فرحمَ الله تعالى نفسه الكريمة، المنزَّهة عن الأوصافِ الذَّميمة، فهذا من أخلاقه الحميدة، الدَّالة على زهدهِ ومروءتهِ، وحسن تصرُّفه ونباهتهِ. /
ومن ذلك أنه كان يختمُ في كل يومٍ من رمضان ختمةً يفعلُها عند الإفطار، ويقول: عند كلِّ ختمة دعوةٌ مستجابةٌ.
وكان يقول: دعوتُ ربي مرَّتين، فاستجابَ لي؛ يعني: في الحال بعين ما دَعوتُ به، فلنْ أحب أن أدعوَ بعد ذلك، فلعلَّه ينقصُ من حَسَناتي.
وكان يقومُ ليالي رمضان بعد التَّراويح، يختمُ في كلِّ ثلاثِ ليالٍ ختمة؛ لأنَّه كان يصلِّي في وقت السَّحر كلَّ ليلة ثلاث عشرة ركعة، يوترُ بواحدةٍ منهنَّ؛ يقرأُ فيها بثلثِ القرآن.
وعبارةُ التاج السبكي في ((الطبقات الكبرى)): وكان البخاريُّ يختمُ القرآن كلَّ يوم نهاراً، ويقرأ في الليلِ عند السَّحر ثلثاً من القرآن، فمجمُوع وردِهِ ختمةٌ وثلث ختمةٍ، انتهى.
ثم قال: وقال مسبح بن سعيد كان محمَّد بن إسماعيل إذا كان أوَّل ليلةٍ من شهر رمضان، يجتمعُ إليه أصحابُه، فيصلِّي بهم، ويقرأُ في كلِّ ركعة عشرين آية، وكذلك إلى أن يختمَ القرآن، انتهى فليتأمل.
وقد كان ☺ على غايةٍ من الخوفِ والأدبِ مع الله تعالى؛ فقد حُكي عنه أنه دُعِي مرةً إلى بستان، فلمَّا صلَّى بهم الظُّهر، قام يتطوَّع، فلمَّا فرغَ من صلاتهِ، رفع ذيل قميصهِ، وقال لبعض من معه: انظرْ هل ترى تحت قميصِي شيئاً، فنظرَ فإذا زنبورٌ قد لسعه في ستَّة عشر أو سبعة عشر موضِعاً، وقد تورَّم من ذلك جسدُه، فقيل له: كيف لم تخرجْ / من الصَّلاة أوَّل ما لسعَك؟ قال: كنتُ في سورةٍ، فأحببتُ أن أُتمَّها.
وقال ورَّاقُ البُخاري: سمعتُه يقول لأبي معشَر الضَّرير: اجعلني في حِلٍّ يا أبا معشر، فقال: من أيِّ شيءٍ؟ فقال: رويت حديثاً يوماً، فنظرتُ إليك، وقد أعجبتُ به وأنت تحرِّك رأسك وبدنَك، فتبسَّمت من ذلك، فقال لي: أنت في حلٍّ من ذلك، رحمَك الله يا أبا عبد الله.
وقال أيضاً: ركبنَا يوماً إلى الرَّمي ونحن بفِرَبْر، فخرجنا إلى الدَّرب الذي يؤدِّي إلى الفُرْضة(20)، فجعلنا نرمِي، فأصابَ سهم أبي عبد الله وتد القَنْطرة التي على النهر، فانشقَّ الوتدُ، فلمَّا رأى ذلك، نزل عن دابَّته، فأخرجَ السَّهم من الوتدِ، وترك الرَّمي، وقال لنا: ارجعوا، فرجعنَا، فقال لي: يا أبا جعفر! لي إليك حاجةٌ، وهو يتنفَّس الصُّعداء، فقلتُ: نعم، فقال: تذهبُ إلى صاحبِ القنطَرةِ، فتقول: إنا قد أخللنا بالوتدِ، فتحبُّ أن تأذنَ لنا في إقامةِ بدلِهِ، أو تأخذُ ثمنَه، أو تجعلنا في حلٍّ ممَّا كان منَّا؟ وكان صاحبُ القنطَرةِ حميدُ بن الأخضَرِ، فقال لي: أبلغْ أبا عبدِ الله السَّلام، وقل له: أنت في حلٍّ ممَّا كان منك؛ فإنَّ جميعَ ملكي لك الفداء، فأبلغتُهُ الرسالة، فتهلَّل وجهُه، وأظهرَ سروراً كثيراً، وقرأ ذلك اليوم للغرباء خمس مئةِ حديثٍ، وتصدَّق بثلاث مئة درهم.
وقال العارف الشَّعْرانيُّ في ((طبقاته)): كان البُخاري من العلماء العاملين، وممَّن تنزَّل الرَّحمة / عند ذكرهم، وكان صائمَ الدَّهر، لا يفطرُ إلا لمرضٍ أو عذرٍ شرعيٍّ، وكان كثيرَ الاحتمال للأذى، زاهداً ورعاً، قوَّام اللَّيل، نوَّاماً في الظلام؛ لقلَّة دراهم من حلال يشترِي بها زيتاً، وربما كان يقومُ في الليلة الواحدة نحو عشرين مرَّة يقْدَح الزِّناد ويُسْرِجُ الفتيلة، ويكتبُ بعض أحاديث، ثم يضعُ رأسه، ثم يقوم. انتهى.
ولينظر وجهُ الجمعِ بينه وبين ما تقدَّم أنه كان له مالٌ كثيرٌ من حلال، ولعلَّ ما هنا في بعض الأوقات، فافهم.
وقال ورَّاقُ البخاريِّ: كان البخاريُّ يركب إلى الرمي كثيراً، ولم يُخْطِئ سهمهُ الهدف، إلا مرتين، وكان لا يسبقه أحد.
وقال ورَّاقُه أيضاً: رأيته يوماً استلقَى ونحن بفربر في تصنيفِ كتاب التفسير، وكان أتعبَ نفسه في ذلك اليوم في التَّخريج، فقلتُ له: إني سمعتُك تقول: ما أتيتُ شيئاً بغير علمٍ، فما الفائدة في الاستلقاء؟ قال: أتعبتُ نفسي اليوم، وهذا ثغرٌ، خشيتُ أن يحدثَ حدثٌ من أمر العدوِّ، فأحببتُ أن أستريحَ وآخذ أهبة، فإن عافصنا العدو، كان بنا حراكٌ(21).
وقال ورَّاقه أيضاً: كان البخاريُّ إذا كنت معه في سفر، أراه يقوم في الليل نحو خمس عشرة مرةً إلى عشرين مرة، وفي كلِّ ذلك يأخذ القداحة، فيورِي ناراً بيده ويسرجُ، ويخرِّجُ أحاديث، فيتكلَّم عليها، ثم يضعُ رأسه، فقلت له: إنك تحملُ على نفسك كلَّ هذا، ولا توقظْني؟ قال: أنت شابٌّ، / فلا أحب أن أفسدَ عليك نومك.
وقال: كان معه شعْرٌ من شعرِ النبيِّ صلعم ، فجعلَه في قُلنسوته، وفي لفظ له: كان مع البُخاري شيءٌ من شعرِ النبيِّ صلعم ، فجعله في ملبوسِه(22).
وقال: سمعتُه يقول وقد سُئِل عن خبرٍ: يا أبا فلان! تراني أُدلِّسُ، وقد تركتُ عشرة آلاف حديث لرجل لي فيه نظرٌ، وتركتُ مثلها أو أكثر منها لغيرهِ لي فيه نظرٌ؟
وقال الحافظُ أبو الفضل أحمد بن علي السليماني قال: سمعت علي بن محمد بن منصور يقول: سمعت أبي يقول: كنا في مجلس أبي عبد الله البخاري، فطرحَ إنسان من لحيتهِ قذاةً في المسجد، فرأيتُ محمد بن إسماعيل ينظرُ إليها وإلى الناس، فلمَّا غفلوا، رأيتُه مدَّ يده، ورفع القذَاة من أرضِ المسجد، وأدخلها في كُمِّهِ، فلمَّا خرجَ من المسجدِ رأيتُه أخرجها فطرحَها على الأرض، انتهى.
فانظر كيف صانَ ⌂ المسجد عمَّا تُصان عنه لحيتُه، ففيه دليلٌ على مزيد ورعهِ وصلاحه.
وكان البخاريُّ يقول: أرجو أن ألقَى الله تعالى ولا يحاسبني أني اغتبتُ أحداً.
ورُوِي عنه أنه قال: ما اغتبتُ أحداً منذ علمتُ أن الغيبةَ حرام تضرُّ أهلها.
واستُشْكِل هذا بما وقعَ له في ((التاريخ)) من التَّجريح والتَّضعيف لبعض الرُّواة.
وأُجيب بأن المُراد ما اغتبتُ أحداً؛ أي: من عند نفسِي، أو غيبةً محرَّمة، وأمَّا مثل هذه، فهي واجبة؛ لما فيها من النَّصيحة التي هي من الدِّين، فليست لغرضٍ دنيوي، وأبلغُ ما كان يقول في المتروك أو السَّاقط: فيه نظرٌ، أو سكتُوا عنه، أو نحو ذلك، ولا يكادُ يقول: فلان كذَّابٌ أو وضَّاعٌ، بل يقول: كذَّبه فلان، ورماهُ فلان بالكذبِ، / على أنه لو قاله، لم يكنْ غيبة محرَّمة.
ويدلُّ للأول أنه لما قال له ورَّاقُهُ أبو جعفر محمَّد بن أبي حاتم حين سمعَه يقول: لا يكون لي خصمٌ في الآخرة: يا أبا عبد الله! إن الناس ينقمونَ عليك ((التَّاريخ))، قال: إنما روينا ذلك روايةً، ولم نقُلْهُ من عند أنفسِنَا، وقد قال صلعم : ((بِئْس أخو العشيرةِ)).
وما أحسن قول الحافظ العرَاقي في ((ألفيته)):
واعْنَ بعِلْمِ الجرْحِ والتَّعْديلِ فإنَّهُ المرْقاةُ للتَّفضِيلِ
بيْنَ الصَّحيحِ والسَّقيمِ واحْذَرِ مِنْ غرَضٍ فالجرْحُ أيُّ خطَرِ
ومعَ ذَا فالنُّصحُ حقٌّ ولقَدْ أحْسَنَ يحيَى في جوابِهِ وسدْ
لأنْ يكُونُوا خُصَما لِي أَحَبْ مِنْ كونِ خصْمِيْ المصْطَفَى إذْ لمْ أذُبْ
وممَّا يدلُّ على أن فعلهُ للهِ لا لغرضِ نفسِهِ: أنه كان يحلفُ بعد المحنةِ أن المادحَ عنده والذَّام سواء، ومراده أنَّه لا يكره ذامَّه طبعاً، حتى لا يُنافي أنه يكرهُ ذلك شرعاً، فقيامه بالحقِّ لا بالحظِّ.
ومنه ما سيأتي من أنَّه دعا على خالد بن أحمد خليفة بن طاهر ومَن وافقَه حين نفاهُ من البلد، فتأمَّل.
ويدلُّ لذلك أيضاً أنه لم يحذفْ شيخه محمَّد بن يحيى الذُّهلي من ((جامعه الصحيح)) مع أنه وقعَ بينهما وحشةٌ(23)، بل أثبتَ روايتَه عنه فيه على وجهين، بل ثلاثة:
أحدها: يقول: حدَّثنا محمَّد، ويقتصرُ.
ثانيهما: يقول: حدَّثنا محمد بن خالد، فينسبُه إلى جدِّ أبيه، ولم يذكره بنسبهِ المشهور لما اقتضاه نظره أن يبقيَ روايته عنه خشيةَ أن يكتمَ علماً رزقَه الله على يديهِ، / وقد عذرَهُ في طعنهِ فيه لتأويله، فخشيَ على الناس أن يقعُوا فيه بأنه قد عدَّل من جرحَه، وهذا يُوهم أنه صدَّقهُ في طعْنِهِ فيه، فيجرُّ ذلك إلى إثباتِ وَهَن في البخاريِّ، فأخفى نسبَه المشهور، وما كتمَ ما أخذه عنه جمعاً بين المصلحتين، فتدبر.
وأما ثالثهما: فيستفادُ من كلام ابن خلِّكان، فإنه قال في ترجمة الذهلي: هو أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد الله بن خالد بن فارس بن ذُؤيبٍ الذهلي النِّيسابوري، كان أحدَ الحفَّاظ الأعيان، روى عنه البخاريُّ، ومسلم، وأبو داود، والترمذيُّ، والنسائيُّ، وابن ماجه، وكان ثقةً مأموناً، وسببُ الوحشةِ بينه وبين البخاري: أنه لما دخل البخاري مدينة نيسابور، شَغَبَ(24) عليه محمَّد بن يحيى الذهلي في مسألة خلقِ اللفظ، وكان البخاريُّ قد سمعَ منه، فلم يمكنه تركُ الرِّواية عنه، فروى عنه في الصَّوم والطب والجنائز والعتق، وغير ذلك مقدار ثلاثين موضعاً، ولم يصرِّح باسمهِ ونسبته، فيقول: حدَّثنا محمَّد بن يحيى الذهلي، بل يقول: حدَّثنا محمد، ولا يزيد عليه، أو يقول: محمد بن عبد الله، فينسبُه إلى جدِّهِ، وينسبه أيضاً إلى جدِّ أبيه، انتهى.
وبيانُ سببِ الوحْشَةِ بينهما بأبسط ممَّا تقدَّم آنفاً: ما ذكره التاجُ السُّبْكي في ((طبقاته))، والحافظُ ابن حجر في ((المقدمة))، وغيرهما.
وحاصله أن البخاريَّ لما قدم نيسابور، وتلقَّاه أهلها من / مرحلتين أو ثلاثة وكان مَن استقبله منهم _ كما نقله السُّبكي_أربعة آلاف رجلٍ على الخيل، سوى من ركِبَ بغْلاً أو حِماراً، وسوى الرجَّالة، انتهى.
قال محمَّد بن يحيى الذهلي في مجلسهِ: مَن أراد أن يستقبلَ محمَّد بن إسماعيل غداً، فليستقبله، فإني أستقبلُه، فاستقبلَه هو وسائرُ علماء نيسابور، فدخلها على غايةٍ من الإِكرامِ، وقال الذهلي لأصحابه: لا تسألوه عن شيءٍ من الكلام؛ فإنَّه إن أجابَ بخلاف ما نحن عليه، وقعَ بيننا وبينه، وشمتَ بنا كلُّ ناصبيٍّ ورافضيٍّ وجهميٍّ ومرجئٍ، وقد أقبلَ الناس على البخاريِّ، وازدحمُوا على بابهِ حتى امتلأتْ الدار والسُّطوح، فلمَّا كان اليوم الثاني أو الثالث من قدومهِ، قال له رجلٌ: هل اللَّفظ بالقرآن مخلوقٌ؟ فقال البخاري: أفعالنا مخلوقةٌ، وألفاظنَا من أفعالنَا، فحصلَ بين الناس اختلافٌ في فهم كلامهِ، فقال بعضُهم: إنه قال: لفظِي بالقرآن مخلوق، وقال آخرون: لم يقلْ ذلك، فوقعَ بينهم بسبب ذلك اختلاف كثيرٌ، حتى قام بعضهم للمُقاتلةِ، فاجتمعَ أهل الدارِ عليهم، فأخرجُوهم، هكذا قاله مسلم.
وقال ابنُ عدِيٍّ: لما وردَ نيسابور، واجتمعَ الناسُ عنده، حسدَهُ بعضُ شيوخها، فقالَ لأهل الحديث: إن محمَّد بن إسماعيل يقول: لفظِي بالقرآن مخلوقٌ، فلما حضرَ المجلس، قال له رجل: يا أبا عبد الله! ما تقولُ في اللفظِ بالقرآن، أمخلوقٌ هو أم غير / مخلوق؟ فأعرضَ عنه البخاري، فألحَّ عليه بالجواب، فقال له البخاريُّ: القرآن كلامُ الله غيرُ مخلوقٍ، وأفعالُ العبادِ مخلوقةٌ، والامتحان بدعةٌ، فشغب الرجُلُ، وقال: إن البخاريَّ قد قال: لفظي بالقرآن مخلوق.
وفي ((المقدمة)) للحافظ: وقال أبو أحمد الحاكم: حدَّثنا أبو بكر بن أبي الهيثم، قال: حدَّثنا الفربري قال: سمعتُ محمد بن إسماعيل يقول: إن أفعال العبادِ مخلوقةٌ، فقد حدَّثنا علي بن عبد الله، ثنا مروان بن معاوية، ثنا أبو مالك، عن رِبعيٍّ، عن حذيفة ☺ قال: قال رسول الله صلعم : ((إنَّ الله يصْنعُ كُلَّ صانِعٍ وصنْعتهُ))، انتهى.
وقال فيها أيضاً: قال الحاكمُ: سمعت أبا الوليد حسَّان بن محمَّد الفقيه يقول: سمعتُ محمد بن نعيم يقول: سألتُ محمد بن إسماعيل لما وقعَ في شأنه ما وقعَ عن الإيمان، فقال: قولٌ وعملٌ، يزيد وينقصُ، والقرآنُ كلام الله غير مخلوقٍ، وأفضلُ أصحاب رسول الله صلعم أبو بكرٍ، ثم عمر، ثم عثمان، ثم عليٌّ، على هذا أحيا، وعليه أموتُ، وعليه أبعثُ إن شاء الله تعالى. انتهى.
ومرادهُ بالقرآن هنا كلامُ الله النَّفسي الذي هو صفةٌ له قديمةٌ، فلا تخالفَ بينه وبين ما نقل عنه أيضاً: أن القرآنَ مخلوق؛ لأنه أراد به المُنزَّل على نبينا صلعم ، فتدبر(25).
وقال أبو حامد الشرقي: سمعتُ محمَّد بن يحيى الذهلي يقول: القرآنُ كلامُ الله غير مخلوق، ومن زعم أنَّ لفظِي بالقرآن مخلوقُ فهو مبتدعٌ، لا يجلسُ إلينا، ولا نكلم بعد هذا من ذهبَ إلى محمَّد بن إسماعيل، فانقطَعَ الناس عن / البخاريِّ، إلَّا مسلم بن الحجَّاج، وأحمد بن سلمة، وأرسل مسلم إلى الذهلي جميع ما كان كتبه عنه لما سمعَ منه هذا القول.
وقال التاجُ السُّبكي في ((طبقاته)): إنما أراد محمَّدُ بن يحيى الذهلي _والعلم عند الله_ما أرادَهُ أحمد بن حنبل من النَّهيِ عن الخوضِ في هذا، ولم يردْ مخالفةَ البخاري، فإن خالفَه، وزعمَ أنَّ لفظه الخارج من بين شفتيهِ المحدَثَتين قديمٌ، فقد باء بأمرٍ عظيمٍ، والظنُّ به خلاف ذلك، ولا يرتابُ المنْصِفُ أن محمَّد بن يحيى الذهلي لحقتْه آفةُ الحسدِ في العلم، والعلمُ من رزقِ الله، يؤتيهِ من يشاء.
قال الحسنُ بن محمَّد بن جابر: قال لنا الذهليُّ لما وردَ البخاري نيسابور: اذهبُوا إلى هذا الرجل الصَّالح، فاسمعوا منه، فذهبَ الناس إليه، وأقبَلوا على السَّماع منه حتى ظهرَ الخللُ في مجلسِ الذهلي، فحسدَهُ بعد ذلك، وتكلَّم فيه بما هو بريءٌ منه.
قال السُّبكي: وقد صحَّ أنَّ البُخاريَّ تبرَّأ مِنْ هذا الإطْلاقِ، فقال: كلُّ منْ نقلَ عنِّي أني قلتُ: لفظِي بالقرآنِ مخلُوقٌ، فقد كذبَ عليَّ، وإنَّما قلتُ: أفعالُ العبادِ مخلُوقةٌ.
ثم قال السُّبكي: تأمَّلْ كلامهُ ما أزكاهُ، ومعناهُ _والعلمُ عند اللهِ_أنِّي لم أقُلْ: لفظي بالقُرآنِ مخلُوقٌ؛ لأنَّ الكلام في هذا خوضٌ في مسائلِ الكلامِ، وصفاتِ اللهِ تعالى التي لا ينبغِي الخوضُ فيها إلا للضَّرورةِ، ولكنِّي قلتُ: / أفعالُ العبادِ مخلُوقةٌ، وهي قاعدةٌ مُغنِيةٌ عن تخصيصِ هذهِ المسألةِ بالذِّكرِ؛ فإن كُلَّ عاقلٍ يعلمُ أنَّ لفظنا من جُملةِ أفعالِنَا، وأفعالُنا مخلوقةٌ، فألفاظُنا مخلوقةٌ، ولقد أفصحَ بهذا المعنى في رواية أخرى صحيحة عنه.
ثم قال السبكيُّ: فإن قلت: إذا كان حقًّا، فلم لمْ يفصحْ به؟ قلت: سبحان الله! قد أنبأنَاكَ أن السرَّ فيه تشديدُهُم في الخوضِ في علم الكلامِ خشيةَ أن يجرَّ الكلامُ فيه إلى ما لا ينبغِي، وليس كلُّ علم يُفصحُ به، فاحفظْ ما نلقيهِ إليك، واشددْ عليه يديكَ.
ويُعْجِبني ما أنشدَهُ الإمامُ الغزالي في ((منهاج العابدين)) لبعض أهلِ البيت:
إنِّي لأكتُمُ مِنْ عِلْمِي جواهِرَهُ كيْ لا يرَى الحقَّ ذو جهْلٍ فيُفْتَتَنا
يا رُبَّ جوْهرِ عِلْمٍ لوْ أبوحُ بهِ لقيلَ لي أنْتَ ممَّنْ يعْبُدُ الوَثَنا
ولاسْتَحلَّ رِجَالٌ صَالِحون دَمِي يروْنَ أقْبَحَ مَا يأْتونَهُ حَسَنا
وقدْ تقدَّمَ في هذَا أبو حسَنٍ إِلى الحُسَينِ وأوْصَى قبْلَهُ الحَسَنا
انتهى مُفرَّقاً.
وأقول: يدلُّ لما ذكره السُّبكي من قوله: ولا يرتاب المنصف... إلخ: ما ذكره في ((المقدمة)) الحافظُ بقوله: وقال الحاكمُ أبو عبد الله: سمعت محمَّد بن صالح بن هانئ يقول: سمعتُ أحمد بن سلمة النيسابوري يقول: دخلتُ على البخاريِّ، فقلت: يا أبا عبد الله! إنَّ هذا رجلٌ مقبولٌ بخراسان، خصُوصاً في هذه المدينةِ، وقد لحَّ في هذا الأمر حتَّى لا يقدر أحدٌ منَّا أن يكلِّمه / فيه، فما ترَى؟ قال: فقبَضَ على لحيتهِ، ثم قال: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44].
اللهمَّ إنَّك تعلمُ أني لم أُرِد المقام بنيسابور أشراً ولا بطراً، ولا طلباً للرئاسةِ، وإنما أبتْ عليَّ نفسي الرجوعَ إلى الوطن لغلبةِ المخالفين، وقد تصدَّى هذا الرجل حسداً لما آتاني الله لا غير، ثم قال لي: يا أحمد! إني خارجٌ غداً ليتخلصوا من حديث لأجلي، انتهى.
تنبيه: الفرق بين الناصِبي والرَّافضِي والجهمِي والمرجئ، كما في ((المقدمة)) للحافظ ابنِ حجر: أن الناصبيَّ من يُبْغضُ عليَّ بن أبي طالب، ويقدِّمُ غيرَه عليه، والرَّافضيَّ من يُقدِّمُ عليًّا على أبي بكر وعمر، والجهميَّ من ينفِي صفاتَ الله الواردة في الكتاب أو السنة، ويقول: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ.
والمرجئَ من يرجئ القول؛ أي: يؤخِّر القولَ في الحكم على مرتكبِ الكبيرةِ بالنار، وعبارتُه فيها: الإرجاءُ بمعنى التأخير عندهُم على قسمين: قسمٌ أرادَ تأخيرَ القولِ في تصويب إحدى الطَّائفتين الذين تقاتلوا بعد عثمان، وقسمٌ أرادَ تأخيرَ القول في الحكمِ على من أتَى الكبائرَ وترك الفرائضَ بالنار؛ لأنَّ الإيمان عندهم هو الإقرارُ والاعتقاد لا يضر العمل مع ذلك.
والتشيُّعَ محبَّة علي ☺ وتقديمه على الصَّحابة، فمَن قدَّمه على أبي بكر وعمرَ، فهو غالٍ / في التَّشيُّع، ويُطلق عليه: رافضيٌّ، وإلا فشيعيٌّ، فإن انضافَ إلى ذلك السبُّ أو التَّصريح بالبغضِ، فغالٍ في الرَّفض، وإن اعتقدَ الرَّجعة إلى الدنيا، فأشدُّ في الغلوِّ.
والقدريةَ من يزعمُ أنَّ الشرَّ فعل العبدِ، وأنَّ الله لم يقدر عليه وحده.
والجهميةَ من ينفِي صفات الله تعالى التي أثبتَهَا الكتابُ والسنة، ويقول: إنَّ القرآنَ مخلوقٌ.
والنَّصبَ بغضُ عليٍّ وتقديم غيره عليه.
والخوارجَ الذين أنكروا على عليٍّ في التحكيم، وتبرؤوا منه ومن عثمان وذويهِ، فإن أطلقُوا تكفيرهُم، فهم الغُلاة منهم، والإباضيَّة منهم أتباعُ عبد الله بن إباض، والقعديَّةَ الذين يزينون الخروجَ على الأئمَّة، ولا يباشرون ذلك، والواقفَ في القرآنِ من لا يقول: مخلوق، ولا ليس بمخلوقٍ، انتهت.
وأقول: ذكر تعريف تسع فرق، آخرهم الواقفيَّة؛ أي: المتوقفون في القرآن عن القولِ بخلقهِ وعدمهِ.
ولقد وقعَ للبخاري أيضاً مع خالد الذهلي منافرة، وذلك أنه لما رجعَ إلى بخارى، نصبتْ له القِبابُ على فرسخٍ من البلد، واستقبلَه عامَّة أهلها، حتى لم يبق مذكور، ونُثِر عليه الدَّراهم والدَّنانير، وبقي مُدَّةً يحدِّثهم، فأرسلَ إليه أمير البلد خالد بن أحمد بن خالد الذهلي نائب الخلافة العباسيَّة يتلطَّفُ به، ويسأله أن يأتيهُ بالصَّحيح ليحدِّثه به في قصْرِهِ، فامتنعَ البخاريُّ / من ذلك، وقال لرسولهِ: قل له: أنا لا أُذِلُّ العلم، ولا أحملُه إلى أبوابِ السَّلاطين، فإن كانتْ له حاجة إلى شيءٍ منه، فليحضُرْ مجلسِي، فإن لم يعجبْه هذا، فهو السُّلطان، فليمنعني من مجلِسِي؛ ليكون لي عذرٌ عندَ اللهِ يوم القيامة في أنْ أكتمَ العلم، فحصلت بينهما وحشةٌ، فأمرهُ الأميرُ بالخروجِ عن البلد، وقال: لا يُساكنُني محمد بن إسماعيل فيها، فخشيَ البخاري على نفسهِ، فسافرَ منها، ودعا عليه، وكان مجابَ الدَّعوة، فلم يأت شهرٌ إلا ووردَ أمرٌ من الخليفة بأن يُنادى على خالد في البلد، فنودِي عليه على أتانٍ، وحُبِس إلى أن ماتَ، وما بقيَ أحدٌ ممَّن ساعدَهُ إلا ابتليَ ببلاءٍ شديدٍ.
وفي ((الطبقات)) للسُّبكي بعد نقْلِ ما تقدَّم: وقال أبو بكر ابن أبي عَمرو البخاري: كان سببُ منافرة البخاري مع خالد: أنَّ خالد بن أحمد خليفة الطَّاهرية ببُخارى سأله أن يحضرَ منزله، فيقرأ ((الجامع)) و((التاريخ)) على أولادِهِ، فامتنعَ، فراسله أن يعقدَ مجلساً خاصًّا بهم، فامتنعَ، وقال: لا أخصُّ أحداً، فاستعانَ عليه بحريثِ بن [أبي] الورقاء وغيره حتَّى تكلَّموا في مذهبهِ، ونفاهُ عن البلد، فدعا عليهم، فلم يأت شهرٌ حتى وردَ أمر الطَّاهرية بأن يُنادى على خالدٍ في البلد، فنُودي عليه على أتانٍ، انتهى.
وقال ابن خلِّكان: وكان خالد بن أحمد بن خالد الذهلي أمير خراسان قد أخرجَه / من بخارى، فانتقل إلى خرْتَنْك، ثم حجَّ خالد المذكور، فوصلَ إلى بغداد، فحبسَهُ الموفَّق بن المتوكِّل أخو المعتمد، انتهى.
وعبارةُ الحافظِ ابنِ حجرٍ في ((المقدمة)): قال الحاكمُ: سمعت محمد بن العباس الضَّبي يقول: سمعت أبا بكر ابن أبي عَمرو يقول: كان سبب مفارقةِ أبي عبد الله البخاري البلد: أنَّ خالد بن أحمد خليفة ابنِ طاهرٍ سأله أن يحضرَ منزله، فيقرأ ((التاريخ)) و((الجامع)) على أولادِهِ، فامتنعَ من ذلك، وقال: لا يسعني أن أخصَّ بالسَّماع قوماً دون قوم، فاستعان خالد بحريث بن أبي الورقاء وغيره من أهل بخارى حتى تكلَّموا في مذهبهِ، فنفاهُ عن البلد، قال: فدعا عليهم، فقال: اللهمَّ أرِهِم ما قصَدُوني به في أنفسِهِم وأولادِهِم وأهاليهم، قال: فأمَّا خالد، فلم يأتِ عليه إلا أقل من شهرٍ حتى وردَ أمر الطَّاهر بأن يُنادى عليه، فنُودي عليه وهو على أتانٍ، وأُشْخِص على إكافٍ، ثم صار عاقبةُ أمره إلى الذُّل والحبسِ، وأمَّا حُريث بن أبي الورقاء، فإنه ابتُلي في أهله، فرأى فيهم ما يجلُّ عن الوصفِ، وأمَّا فلان، فإنه ابتلِي بأولادِهِ، فأراهُ الله فيهم البلايا، انتهت.
فهذه من كراماتهِ الظَّاهرة، ويمكن الجمع بين ما في ((المقدمة))، وما في ((الطبقات)) للسبكي، وبين ما ذكره ابن خلِّكان، فتأمل.
ومن مآثرهِ الجميلة ما ذكره الحافظ في ((المقدمة)) بقوله: وقال ورَّاقُه: كنا بفربر، وكان أبو عبد الله / يعني: البخاري، يبني رباطاً مما يلي بخارى، فاجتمعَ بشرٌ كثيرٌ يعينونه على ذلك، وكان ينقلُ اللبن، فكنت أقولُ له: يا أبا عبد الله! إنك تُكفَى ذلك، فيقول: هذا الذي ينفعُني، قال: وكان ذبحَ لهم بقرة، فلمَّا أدركت القدور، دعا الناس إلى الطعام، وكان معه مئة نفس أو أكثر، ولم يكنْ علِم أنه يجتمعُ ما اجتمع، وكنَّا أخرجنا معه من فربر خبزاً بثلاثة دراهم، وكان الخبزُ إذ ذاك خمسة أمْناء بدِرْهمٍ، فألقيناهُ بين أيديهم، فأكل جميع من حضرَ، وفضلت أرغفةٌ صالحة، انتهى.
وقال في ((التهذيب)) للنووي: روينا عن أبي عبد الله محمد بن يوسف الفِرَبْري راوية ((صحيحِ البخاري)) قال: رأيتُ النبيَّ صلعم في النوم، فقال: أين(26) تريد؟ قلت: أريد محمَّد بن إسماعيل البخاري، فقال النبيُّ ╕ : أقرئه مني السَّلام.
وروينا عن المقبري قال: رأيتُ أبا عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاري خلفَ النبيِّ صلعم ، والنبيُّ ╕ يمشِي، كلَّما رفع النبيُّ صلعم قدمَه، وضعَ البخاريُّ قدمه في ذلك الموضعِ، انتهى(27).
ومن الكرامات التي وقعتْ له بعد موتهِ ما ذكره أبو الفتح نصرٌ السمرقنديُّ قال: قحِطَ المطرُ عندنا في بعضِ الأعوامِ، فاستسْقَى الناس مراراً، فلم / يُسْقَوا، فأتى رجلٌ معروف بالصَّلاح إلى قاضي سمرقند، وقال له: إني رأيتُ رَأياً أعرضُه عليك، قال: وما هو؟ قال: أرى أن تخرجَ ويخرجَ الناسُ معكَ إلى قبرِ الإمام ِ محمَّدِ بنِ إسماعيلَ البخاريِّ، ونستسقِي، فعسَى الله تعالى أن يسقيَناً، فقال له القاضِي: نِعْمَ ما رأيتَ، فخرَجَ القاضي ومعهُ النَّاس، واستسقَى بهم، وبكَى الناس عند القبرِ، وتشفَّعوا بصاحبهِ، فأرسلَ الله تعالى السَّماءَ بمطرٍ عظيمٍ غزيرٍ أقامَ النَّاسُ من أجلِهِ بخرتنك سبعةَ أيامٍ أو نحوِها.
وله مآثر جميلة أُخرى تأتي الإشارة إلى شيءٍ منها في الأبواب الآتيةِ إن شاء الله تعالى، فراجعه.
[1] ((التي هي كدرر الفوائد)): ليس في (ص).
[2] ((فإنه)): ليس في (ص).
[3] ((أوله)): ليس في (ص).
[4] ((يعني أو بزدبة أو يزدبة فالكل بمعنى)): ليس في (ص).
[5] ((فياء نسبة)): ليس في (ص).
[6] ((السابق)): ليس في (ص).
[7] ((فيه)): ليس في (ص).
[8] ((إلا أن يجاب بأن لها طريقين فتدبر)): ليست في (ص).
[9] ((عن أبي هريرة)): ليست في (ص).
[10] ((لابن حجر)): ليس في (ص).
[11] ((فائدة)): ليس في (ص).
[12] ((لعله)): ليس في (ص).
[13] في (ص): ((وللفقه)).
[14] من قوله: ((وأشرنا بغيرنا... إلى قوله: وغيرهم)): ليس في (ص).
[15] من قوله: ((وأقول الذي... إلى قوله: فتدبر)): ليس في (ع).
[16] ((فتأمل)): شطب عليها في (ع).
[17] في هامش (ص): في نسخة: ((وأغلفه)).
[18] ((ما)): ليست في (ع).
[19] من قوله: ((ونقل الشعراني... إلى قوله: فلا منافاة)): جاء في الأصول مؤخراً بعد قوله الآتي: ((وذهب المال كله)) إلا أنه جاء في (ص) عليه تقديم وتأخير، كما أثبته في المتن لتناسب الكلام.
[20] في هامش (ع): ((الفرضة _بالضم_ من النهر ثلمة يستقى منها. قاموس)).
[21] في هامش (ع): ((قوله: حَرَاك، كسحاب حركة. قاموس)).
[22] من قوله: ((وفي لفظ.. إلى قوله: ملبوسه)): ليس في (ص).
[23] ((مع أنه وقع بينهما وحشة)): ليست في (ص).
[24] في هامش (ع): ((الشغب: تهييج الشر، وشَغب؛ كمَنَع وفَرِح. قاموس)).
[25] من قوله: ((ومراده بالقرآن... إلى قوله: فتدبر)): ليس في (ص).
[26] في (ع): ((إلى أين)).
[27] جاء في الأصول زيادة: ((وقال محمَّد بن أبي حاتم الورَّاق: كان مع البخاريِّ شيءٌ من شعرِ النبيِّ صلعم فجعله في ملبوسه)): إلا أنه ضرب عليها في (ع)، وهو الصواب كونها تقدمت قبل.