الفوائد الدراري في ترجمة الإمام البخاري

الثاني: في بيان رحلته وشيوخه وتلامذته وسعة علمه

          الباب الثاني
          في بيان رحلتهِ الواسعة لأخذ العلمِ من الأقطارِ الشَّاسعة، وفي بيان شيوخهِ الكثيرين، ومن أخذُوا عنه من المشايخ و(1)الطَّالبين، وفي بيان سَعة حفظهِ، وسيلانِ ذهنهِ، وفهمهِ الثَّاقب، وثناءِ الناس عليه بالعلمِ والحفظِ والزهد، وغيرهما من المآثرِ والمناقب.
          اعلم أنَّ الإمامَ البخاري ☺ قد رحل رَحَلات واسعةً في طلب الحديثِ إلى الأمصارِ، وكتبَ عن شيوخٍ كثيرين من الأئمَّة الكبارِ، فقد نقلَ عنه كما في ((المقدمة)) وغيرها: أنه قال: كتبتُ عن ألفِ شيخٍ وثمانين، ليس فيهم إلَّا صاحب حديثٍ، كلهم يقولون: الإيمانُ قولٌ وعملٌ، يزيدُ وينقصُ.
          فمنهم الإمام أحمدُ بن حنبل، روى عنه في ((الصحيح)) في النكاح فقال: / وقال لنَا أحمد.
          ومنهم: الزعفراني، والكرابيسي، وأبو ثور، وهم من أصحاب الإمام الشَّافعي، ولم يأخذ البُخاري عن الشَّافعي؛ لأنه لم يلقَه، ولا روى عنه بالواسطةِ إلا قليلاً، قالوا: لأنَّه أدركَ أقرانَهُ، والشَّافعيُّ مات مكتهلاً، فلا يرويهِ نازلاً، وقيل: روى عنه في ((صحيحه)) في موضعين(2): في الزكاة، وفي العرَايا، على خلافٍ في المرَادِ من قوله: ابن إدريس فيهما.
          وما ذُكر من كونِ شيوخهِ يزيدون على ألف بالنِّسبة لمطلق من رَوى عنهم، وأمَّا بالنسبة لمن روى عنهم في ((جامعه الصحيح))، فهم كما قال الكرمانيُّ وغيره: مئتان وتسعة وثمانون شيخاً، وعدد من تفرَّدَ بالرِّواية عنهم دون مسلم: مئة وأربعة وثلاثون، وتفرَّد أيضاً بالرواية عن أشياخ لم تقعْ لبقيَّة أصحابِ الكتب الخمسةِ إلا بالواسطة، انتهى.
          وقال ابنُ نَاصرِ الدين في ((إتحاف السامع)): ومبلغُ مشايخهِ الذين رَوى عنهم في ((الجامع)) مئتان وتسعة وثمانون شيخاً ممَّن سمعَ منهم، على ما ذكره أبو أحمد بن عدي عداً وافياً، وخالفَه الحاكمُ أبو عبد الله، فنقصَ من العَدد(3) ثلاثة عَشَر راوياً، انتهى.
          ولم أر بيان أسماء هؤلاء الثلاثة عشر.
          واعلم أنَّه ليس اعتناء البُخاري وغيره بالأخذِ عن المشايخِ والإجازة منهم(4) لأنه شَرْطٌ في جوازِ روايةِ الحديث، بل هو محمولٌ على الكمالِ.
          فقد قال الحافظُ السُّيوطي / في ((الإتقان)) وغيره: الإجازة من الشَّيخ ليستْ بلازمةٍ في جواز رواية الحديث، بل الشَّرط أن يكون أهلاً للرِّواية والدِّراية، لكنَّها أولى وأكملُ.
          ولهذا اعتنى الأئمَّة بذلك؛ لما قالوه من أنَّ الإسناد من الدين، وبقاؤهُ من خصوصيَّة أهل هذه الملَّة المحمَّدية الكاملين، ومن ثم قال بعضُ مشايخنا المعتمدِين: الإسنادُ أنسابُ العلماء العاملين.
          وقال بعضُ الفُضلاء المعتبرين: الأسانيدُ أنسابُ الكتب كما سمعَه منه الحافظ ابنُ حجر، على ما نقلَه في أوَّل خطبة ((فتح الباري)).
          وقال الإمامُ عبدُ اللهِ بنُ المبَارك: الإسنادُ من الدين، ولولاهُ لقالَ من شاءَ ما شاء.
          وقال سفيانُ الثَّوري: الإسنادُ سلاحُ المؤمن، فإذا لم يكنْ له سلاح، فبأيِّ شيءٍ يقاتل؟
          وقال حافظُ الغرب ابنُ عبد البرِّ الإمام الخبير: الإجازةُ رأسُ مال كبير، أو كثير.
          وقال الإمامُ الشافعيُّ: الذي يطلبُ الحديث بلا سندٍ كحاطبِ ليل، يحملُ الحطبَ، وفيه أفعى، وهو لا يدرِي.
          وقال الإمامُ أحمد كما أسندَه عنه البخاري: إنما الناس بشيوخِهم(5)، فإذا ذهبَ الشيوخُ، فمع مَن العيش؟
          وقال غيرهُ: لا يزالُ الناسُ بخير ما تفاضَلوا، فإذا تساووا هلكوا.
          وقال آخرُ: ما فرحتُ بنكبةِ رئيسٍ، فإذا هلكتِ الرؤساء، فمع من يكون العيش؟
          وقال الزُّهريُّ لمن قال له: حَدِّثْ بلا إسنَادٍ: أتريدُ أن(6) تَرقى السَّطح بلا سُلَّمٍ؟
          وما زال الأئمةُ يعتنونَ / بالحديث، فيرتحلون إلى أقاصِي البلدان في طَلَبهِ، ويتحملونَ مشاقَّ المتاعب بسببهِ، فما عند من طلب الرِّواية أجل من أبناء جنسهِ، ولا عند المُفيدِ أحلى من قوله: حدَّثنا فلان، وأنشدَنا لنفسهِ، ولذا نُقِلَ عن الإمام أحمدَ ☼: أنه قيلَ له: ما تشتهِي؟ فقال: سنداً عالياً، وبيتاً خالياً.
          وأعلى سندٍ وقعَ للبُخاري إسناد الأحاديثِ الثلاثيات، وجملتها كما قاله الكرماني وغيره اثنان وعشرون حديثاً، ودونها الرُّباعيات، وهكذا إلى التُّساعيات، وهي غايةُ ما فيه، قاله بعضهم.
          وقال في ((فتح الباري)): أعلى سند في البخاريِّ الثلاثيات، وأطولُ سندٍ في البخاريِّ حديث في يأجوج ومأجوج تُسَاعِي(7).
          تنبيه: ما تقدَّم آنفاً من أخذ البخاري عن الكرابيسي، والزَّعفراني، وأبي ثَور الشَّافعيين لا يستلزم أن يكون شافعيًّا، وقد اختُلِفَ في مذهبهِ، فقيل: إنه شافعي المذهبِ، وجرى عليه التَّاج السُّبكي في ((طبقاته))، فقال: وذكره أبو عاصم في طبقاتِ أصحابنا الشَّافعية، وقال: إنَّه سمعَ من الكرابيسي، وأبي ثور، والزَّعفراني، وتفقَّه على الحُميدي، وكلُّهم من أصحاب الشَّافعي، انتهى.
          وقيل: إنه حنبلي، وذكره أبو الحسين بن الفرَّاء في أصحابِ الإمام أحمد بن حنبل، وأسندَ عن البخاريِّ أنه قال: دخلتُ بغداد ثمان مرَّات، وفي كلِّ ذلك أجالس أحمدَ بن حنبل، فقال لي آخرَ ما ودعته: يا أبا / عبد الله! تتركُ العلمَ والناسَ، وتصيرُ إلى خراسان؟ فقال البخاري: فأنا الآن أذكرُ قوله.
          وقيل: كان مجتهداً مطلقاً، واختاره السَّخاوي، قال: والميل لكونه مجتهداً صرَّح به تقي الدين بن تيميَّة، فقال: إنه إمامٌ في الفقهِ من أهل الاجتهادِ.
          ولجلالةِ كتابه ((الصحيح)) قال اللؤلؤي _يعني: ابن خلدون في ((مقدمة تاريخه)) _: شَرْحُهُ دَيْنٌ على هذه الأمَّة.
          قيل: هذا كان قبل ((فتح الباري)) للحافظ ابنِ حجر، فبه ارتفعَ عنهم ذلك الدَّيْن؛ أي: وبغيره من شروحهِ الجليلة كما سيأتي بيانها.
          وقدَّمنا أنَّ شيوخ البخاريِّ يزيدون على الألف.
          وقال النَّووي في ((التهذيب)): روينا من جهاتٍ عن جعفر القطَّان قال: سمعتُ البخاريَّ يقول: كتبتُ عن ألفِ شيخٍ من العلماء وزيادة، وليس عندي حديثٌ إلا أذكرُ إسناده.
          وقال: روينا عن الخطيبِ البغدادي قال: رحلَ البخاريُّ إلى مُحَدِّثي الأمصارِ، وكتبَ بخراسان، والجبال، ومدن العراق كلها، وبالحجاز، ومصر، والشام، وورد بغداد مرات.
          وقال أيضاً قبله: وهذا باب واسع جداً لا يمكن استقصاؤه، فأنبِّهُ على جماعةٍ من كلِّ إقليم وبلد، ليُسْتَدَلَّ بذلكَ على اتِّساع رحلتهِ، وكثرة روايتهِ، وعظمِ عنايته.
          فأمَّا شيوخه:
          فقال الحاكم أبو عبد الله في ((تاريخ نيسابور)):
          ممَّن سمع منه البخاري بمكة: أبو الوليد أحمد بن محمد الأزرقيُّ، وعبد الله بن يزيد / المقرئ، وإسماعيل بن سالم الصَّائغ، وأبو بكر عبدُ الله بن الزُّبير الحُمَيدي، وأقرانهم.
          وبالمدينة: إبراهيمُ بن المنذر الحِزَامي _بالزاي بعد الحاء المهملة المكسورة_، ومطرِّف بن عبد الله، وإبراهيم بن حمزة، وأبو ثابت محمَّدُ بن عبد الله، وعبد العزيز بنُ عبد الله الأويسي، وأقرانهم.
          وبالشام: محمَّد بن يوسف الفِرْيابي، وأبو نصر إسحاقُ بن إبراهيم، وآدم بنُ أبي إياس، وأبو اليمان الحكمُ بنُ نافع، وحَيوة بنُ شريح، وأقرانهم.
          وببخارى: محمَّد بن سلام البَيْكندي، وعبد الله بن محمد المسْنَدي، ومحمَّد بن عزيز، وهارون بن الأشعث؛ وأقرانهم.
          وبمرو: علي بنُ حسن بن شقيق، وعبدانُ، ومحمَّد بنُ مقاتل، ومعاذ بنُ أسد، وصَدَقة بن الفضل، وأقرانهم.
          وببلخ: مكي بنُ إبراهيم، ويحيى بنُ بشر الزَّاهد، ومحمد بنُ أبان، والحسن بنُ شجاع، ويحيى بنُ موسى، وقتيبةُ، وأقرانهم.
          وبِهَراة: أحمد بنُ أبي الوليد الحنفِي.
          وبنيسابور: يحيى بنُ يحيى، وبشر بنُ الحكم، وإسحاق بنُ راهويه، ومحمد بنُ رافع، ومحمد بنُ يحيى الذهلي، وأقرانهم.
          وبالرَّي: إبراهيم بنُ موسى الحافظ، وغيره.
          وببغداد: محمد بن عيسى الطَّباع، ومحمد بنُ سابق، وسُرَيج _بسين مهملة وجيم مصغراً_ابن النُّعمان، وأحمد بنُ حنبل وأقرانهم.
          وبواسط: حسانُ بن حسَّان، وحسان بنُ عبد الله، وسعيد بنُ سليمان، وعَمرو بن عوف، وأقرانهم.
          وبالبصرة: أبو عاصم النَّبيل، وصفوان / بن عيسى، وبَدَل _بفتحتين_ابن المُحَبَّر _بضم الميم، وفتح الحاء المهملة، وتشديد الباء الموحدة مفتوحة_، وحَرَمي _بفتح الحاء والراء المهملتين_ابن عَمَارة، وعفَّان بن مسلم، ومحمد بنُ عَرْعرة، وسليمان بن حرب، وعَمرو بن عاصم الكلابي، وأبو الوليد الطَّيالسي، وعَارِم، ومحمد بن سنان، ومحمَّد بن عبد الله الأنصاري، وعبد الرحمن بنُ محمد بن حماد، وطبقتهم.
          وبالكوفة: عبيد الله بنُ موسى، وأبو نُعيم، وأحمد بن يعقوب، وإسماعيلُ بن أبان، والحسن بن الرَّبيع، وخالد بنُ مخلد، وسعد بنُ حفص، وطَلْق بن غنَّام، والحسنُ بن عطيَّة _وهما أقدم شيوخه_وعمر بن حفص، وفَرْوة، وقَبِيصة بنُ عقبة، وأبو غسان، وأقرانهم.
          وبمصر: عثمانُ بن صَالح، وسعيد بنُ أبي مريم، وعبد الله بنُ صالح، وأحمد بن صالح، وأحمد بن شَبِيب، وأصبغُ بنُ الفرج، وسعيد بنُ عيسى، وسعيد بنُ كثير بنِ عُفَير، ويحيى بن عبد الله بن بُكير، وعَمرو بن الربيع بنِ طارق، وأقرانهم.
          وبالجزيرة: أحمد بن عبد الملك الحراني، وأحمد بن يزيد الحراني، وعمرو بن خالد، وإسماعيل بن عبد الله الرقي، وأقرانهم، انتهى كلام ((التهذيب))، مع زيادة في الأسماء دون البلدان.
          ثم قال: قال الحاكمُ أبو عبد الله: قد رحلَ البخاريُّ إلى هذه البلادِ المذكورةِ في طلب العلم(8)، وأقام في كلِّ مدينة منها على مشايخها، قال الحاكمُ: وإنما سمَّيتُ / من كلِّ ناحيةٍ جماعة من المتقدِّمين؛ ليستدلَّ به على عالي إسنادِهِ، انتهى.
          وقال غيره: وسمعَ بعسقلانَ من آدم بنِ أبي إياسٍ: وبدمشق من أبي مُسْهِر شيئاً يسيراً، ومن أبي النَّصر الفراديسِي، وجماعة، وبحمص من أبي المغيرة، وأبي اليمان، وأحمد بن خالد الوهبي، ويحيى الوحاظِي، وبقيساريَّة من محمَّد بن يوسف الفِرْيابي، انتهى.
          لكن في ((طبقات التاج السبكي)) ما نصُّه: وفي ((تاريخ نيسابور)) للحاكم: أنَّه سمعَ بالجزيرة من أحمد بن الوليد بن الورتنيس الحرَّاني، وإسماعيل بن عبد الله بن زُرَارة الرِّقي، وعَمرو بن خالد، وأحمد بن عبد الملك بن أحمد الحرَّاني، وهذا وهم؛ فإنه لم يدخلِ الجزيرة، ولم يسمعْ من أحمد بن الوليد، وإنما روى عن رجلٍ عنه، ولا من ابن زرارة، وإنما إسماعيل بن عبد الله الذي يروي عنه هو إسماعيلُ بن أبي أويس، وأمَّا ابن واقد، فإنما سمعَ منه ببغداد، وعَمرو بن خالد سمع منه بمصر، نبَّه على هذا شيخنا الحافظ المزِّي فيما رأيتُه بخطِّه، انتهى كلام ((الطبقات))، فليتأمل.
          وقال النَّووي في ((شرح البخاري)) نقلاً عن أبي الفضل بن طاهرٍ المقدسي: أنَّ مشايخَ البخاري مع كثرتهم ينحصرونَ في خمسِ طبقات.
          وجَرَى على ذلك أيضاً ابن الملَقِّن في ((شرحه))(9)، وكذا الحافظ ابن حجر في ((المقدمة))، لكن كلامه قد يُوهم أنه من عنديَّاته؛ حيث قال:
          قلت: وينحصرونَ في خمسِ طبقاتٍ:
          الطبقة الأولى: من حدَّثَ عن / التَّابعين، مثل: محمَّد بن عبد الله الأنصاري، حدَّثه عن حميد، ومثل: مكي بن إبراهيم، حدَّثه عن يزيد بن أبي عبيد، ومثل: أبي عاصم النَّبيل، حدَّثه عن يزيد المذكور، ومثل: عبيد الله بن موسى، حدَّثه عن إسماعيل بن أبي خالد، وحدَّثه أيضاً عن هشام بن عروة، وعن معروف، ومثل: أبي نُعيم، حدَّثه عن الأعمش، ومثل: خلَّاد بن يحيى، حدَّثه عن عيسى بن طَهمان، ومثل: علي بن عياش وعصام بن خالد، حدَّثاه عن جرير بن عثمان، وشيوخ هؤلاء كلهم من التَّابعين.
          الطبقة الثانية: من كان في عصرِ هؤلاء، لكنَّه لم يسمعْ من ثقاتِ التابعين؛ كآدم بن أبي إياس، وأبي مُسْهر عبد الأعلى بن مُسهر، وكسعيد بن أبي مريم، وكأيوب بن سليمان بن بلال، وأمثالهم.
          الطبقة الثالثة: وهي الوسطى من مشايخهِ، وهم من لم يلقَ التابعين، بل أخذَ عن كبارِ تابع التابعين: كسليمان بن حربٍ، وقُتيبة بن سعيد، ونُعيم بن حماد، وعلي بن المدِيني، ويحيى بن مَعين، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهَوَيه، وأبي بكر وعثمان ابنَي أبي شيبة، وأمثال هؤلاء، وهذه الطبقة شاركه مسلمٌ في الأخذ عنهم.
          الطبقة الرابعة: رفقاؤه في الطَّلب، ومن سمع قبله قليلاً: كمحمد بن يحيى الذهلي، وأبي حاتم الرَّازي، ومحمد بن عبد الرَّحيم صاعقة، وعبد بن حميد، وأحمد بن النضر، / وجماعة من نُظرائهم، وإنما يخرِّج عن هؤلاء ما فاتهُ عن مشايخهِ، أو ما لم يجده عند غيرهم.
          الطبقة الخامسة: قومٌ في عداد طلبتهِ في السنِّ والإسناد، قاله في ((المقدمة)).
          وأقول: لعلَّه يعني: وليسوا برفقةٍ له في الطَّلب؛ لتخالف الطَّبقة التي قبلها؛ كما قد يشعرُ بذلك التَّعبير بقولهم: في عدادِ طلبته.
          وأولى من ذلك قول ابن الملَقِّن: الخامسة: قوم حدَّث عنهم، وهم أصغرُ منه في الإسناد والسنِّ والوفاة والمعرفة، منهم عبد الله بن حَمَّادٍ الآمُلي، وحسين القَبَّاني، وغيرهما.
          قال نقلاً عن ابنِ طاهر: فهذا تفصيلُ طبقاتهم مختصراً، نبَّهتُ عليه لئلا يظُنَّ من لا مَعْرفة له إذا حدَّث البخاري عن مكي، عن يزيد بن أبي عُبيد، عن سلمة ☺ ، ثم حدَّث في موضعٍ آخرَ عن بكر بن مُضر، عن عَمرو بن الحارثِ، عن بُكير بن عبد الله بن الأشجِّ، عن يزيد بن أبي عُبيد، عن سلمة، أنَّ الإسنادَ الأول سقَطَ منه شيءٌ، وعلى هذا سائر الأحاديث، وكان البخاريُ يحدِّث بالحديث في موضعٍ نازلاً، وفي موضعٍ آخر عالياً، فقد حدَّث في مواضع كثيرة جداً عن رجل عن مالك، وحدَّث في موضعٍ آخر عن عبد الله بن محمَّد المَسْنَدي، عن معاوية بن عَمرو، عن أبي إسحاق الفَزَاري، عن مالك، وحدَّث في مواضع عن رجل عن شعبة، وحدَّث في مواضعَ عن ثلاثة عن شعبة(10)، وحدث في مواضع عن رجل عن الثَّوري، / وحدَّث في مواضع عن ثلاثة عنه، وقِسْ على هذا أمثاله.
          ثم قال: وقد رَوَينا عن البخاري أنه قال: لا يكون المحَدِّثُ مُحدِّثاً كاملاً حتى يكتبَ عمَّن فوقَه، وعمَّن هو مثله، وعمَّن دونه، وروينا هذا الكلام عن وكيع. انتهى ما في ((التوضيح)) لابن الملقِّن مختصراً.
          وقال الحافظُ في ((المقدمة)) بعد ذكر الخمس طبقاتٍ عَقِبَ الخامسةِ منها: وقد روى عنهم أشياء يسيرة، وعملَ في الرواية عنهم بما روى عثمان بنُ أبي شيبة عن وكيع أنه قال: لا يكون الرجلُ عالماً حتى يحدِّث عمَّن هو فوقَه، وعمَّن هو مثله، وعمَّن هو دونه، وعن البُخاري أنه قال: لا يكون المحدِّث كاملاً حتى يكتبَ عمَّن هو فوقه، وعمَّن هو مثله، وعمَّن هو دونه، انتهى.
          واعلم أن هذا لا يُنْقِصُ رتبةَ العَالمِ، بل يكملها عند أهلِ الكمال، فعليك بالفائدةِ أيُّها الطالب لها حيث كانت، فهي ضالةُ المؤمن يأخذها حيث وجدَها، وإن كانت عند من لم تكن أصوله من ذوي العلمِ، ولا من الأعيان، أو كانت عندَ من هو أصغر منه سنًّا أو قدراً.
          ففي ((الجامع الصغير)) من رواية الترمذيِّ وابن ماجه عن أبي هُريرة، ومن رواية ابن عساكرَ عن علي بسندٍ حسنٍ: ((الكلمةُ الحكمةُ ضالَّةُ المؤمن فحيثُ وجدَها فهو أحقُ بها))، وعزاهُ في ((ذيل الجامع)) لابن حبَّان في ((الضعفاء)) بلفظ: ((الكلمة الحكمة ضالةُ المؤمن، حيثُ وجدَها جذبها))، ورواه في ((مسند الفردوس)) عن عليٍّ رفعه بلفظ: ((الحكمَةُ ضالَّةُ المؤمِنِ حيثُ ما وجَدَها، فهوَ أحَقُّ بِها)).
          وليجتهد الإنسان أيضاً في طلبِ العلم النَّفيس بالتَّغرب لأجله عن الأوطانِ؛ فإن في ذلك مرضاةَ الرحمنِ، وسعادةَ المرءِ وإن هان، وإن لم يكنْ أحدُ أسلافِهِ له اشتغالٌ بذلك؛ فإن لكلِّ مجتهدٍ نصيباً، والفخرُ بالعلم والكمالِ، لا بالآباء ومناصبِ الرجالِ،
          ولا بالمال وإن كثُرَ وطَال(11)، وما أحسنَ ما قيل:
كَمالُ الفَتى بالعِلْمِ لا بالمنَاصِبِ                     ورُتبَةُ أهْلِ العِلمِ أسْنَى المراتِبِ
همُ ورِثُوا عِلمَ النَّبيِّينَ فاهْتَدَى                     بهِمْ كُلُّ سارٍ غَيْهَبَ الليلِ سارِبِ
ولا فخْرَ إلا إِرْثُ شِرْعَةِ أحمَدٍ                     ولا فضْلَ إلَّا باكْتِسابِ المناقِبِ /
          وما أحسن قولَ إمامنا الشَّافعي ╩:
وإني إذَا ما فاخَروني بمالِهِمْ                     فَإنِّي بميرَاثِ النَّبيِّينَ أفْخَرُ
فخارُهُمُ يَفْنَى على كُلِّ حَالَةٍ                     وفخْرِيَ باقٍ والعظامُ نَواخِرُ
          وما أحسنَ قولَهُ أيضاً ☺ (12):
وناعِيَةٍ للبَيْنِ قُلتُ لَها اقْصِري                     فَلا الموْتُ أَعْلى من مُعالَجَةِ الفَقْرِ
سأُنْفِقُ رَيْعانَ الشَّبيبَةِ كُلِّها                     على طلَبِ العَلْياءِ أوْ طَلَبِ الأجْرِ
سَأَطلُبُ عِلْماً أوْ أَموتَ ببلْدَةٍ                     يقِلُّ بِها فيْضُ الدُّموعِ على قَبْري
ولَيسَ اكْتِسابُ العِلْمِ يا نفْسُ فَاعَلمِي                     بميرَاثِ آباءٍ كرامٍ ولا مَهْرِ
ولكِنْ فَتَى الفِتْيانِ مَنْ راحَ واغْتَدى                     ليَطلُبَ عِلْماً بالتَّجَلُّدِ والصَّبْرِ
فإنْ نالَ عِلْماً عاشَ في النَّاسِ سَيِّداً                     وإنْ ماتَ قالَ الناسُ بالغَ في العُذْرِ
إذا هَجَعَ النُّوَّام أسبَلْتُ عَبْرَتِي                     وأنشَدْتُ بَيْتاً وهوَ مِنْ أحسَنِ الشِّعْرِ
ألَيسَ منَ الخُسْرانِ أَنَّ لَيالياً                     تَمرُّ بِلا نَفْعٍ وتُحسَبُ مِنْ عُمْر
          ولبعضهم:
كُنِ ابنَ مَنْ شئتَ واكتسِبْ أدَباً                     يُغْنيكَ مَوْروثُه عنِ الحسَبِ
إنَّ الفَتى مَنْ يقُولُ ها أنَا ذَا                     ليسَ الفَتَى مَنْ يقولُ كَانَ أَبِي(13)
          وذكرَ ابنُ خَلِّكانَ في ترجمةِ الوزيرِ أبي القاسمِ الحسينِ: أنه قال من رسالةٍ له: ((الفخر بالفضائل لا بالأوائل)):
          وأَقْبِحْ بالمرْءِ أنْ يُقالَ هو بلؤمِهِ حَلَّ منَ المفَاخِرِ ما كانَ آباؤُه عَقَدوا، وأن يُنشَدَ فيه:
لئِنْ فخَرْتَ بآباءٍ ذوِي شَرَفِ                     لقَدْ صدَقْتَ ولكِنْ بئْسَ ما وَلَدُوا
          وما يُغني السيفَ انتسابهُ إلى الهِند إذا كان كهاماً؟ وما يجدِي السَّحاب ارتفاعهُ / في الجو إذا كان جهاماً؟ وما يضر الفتى كونُهُ من بَاهلةَ إذا كان طائيَّ السخاءِ؟ وما ينفعُه اعتزاؤه إلى هاشم إذا كان تميميَّ العطاء؟ والفضلُ المكتسبُ خيرٌ من الحسب والنَّسب، والفاضل من يتَّكل على مجدِهِ لا على جَدِّه، ويفتخرُ بشرفِهِ لا بسلفِهِ، ويتحلَّى بمحامدِهِ لا بموالدِهِ، ويعلو بإنعامهِ لا بأعمَامهِ، ويعتدُّ بأحواله لا بأخواله:
فلَيسَ يَسودُ المرْءُ إلاَّ بنَفْسهِ                     وإنْ عَدَّ آباءً كِراماً ذَوي حسَبْ
إذا الغُصْنُ لم يُثمِرْ وإنْ كانَ شُعبَةً                     مِنَ المثمِرَاتِ اعْتَدَّهُ الناسُ في الحَطَبْ
          انتهى.
          وأما الآخذونَ عن البخاري:
          فقال النوويُّ وغيره: فأكثرُ من أن يحصرَ، وأشهر من أن يُذكر.
          قال: وقد روينا عن الفِرَبْرِي أنه قال: سمع ((الصحيحَ)) من البخاري تسعون ألف رجلٍ، فما بقيَ أحدٌ يرويه غيري، وقد رَوَى عنه خَلائق غير ذلك.
          قال: وقدَّمنا أنه كان يحضرُ مجلسه أكثر من عشرينَ ألفاً يأخذون عنهُ، وكان له ثلاثةُ مستملينَ، انتهى.
          وأقولُ: لكن قال الحافظ ابنُ حجر: أطلقَ الفِرَبْري ذلك على ما في علمهِ، وقد تأخَّر بعده تسع سنين أبو طلحةَ منصور بن محمد البزدَوي، وهو آخرُ من حدَّث عن البخاري بصحيحه، كما جزم به ابنُ ماكولا، انتهى.
          وأقول: ويحتمل أن الفربري أراد: لم يبق أحد... إلخ، أي: بالنسبة لبلدِه، فتأمل(14).
          ثم قال النَّووي: وممَّن روى عنه من الأئمَّة الأعلام: أبو الحسين مسلم بنُ الحجَّاج صاحب ((الصحيح))، لكنه لم يرو عنه في صحيحهِ، وأبو عيسى الترمذي، وأبو عبد الرحمن النَّسائي، وأبو حاتم / وأبو زُرعة الرَّازيان، وأبو إسحاق إبراهيم بن إسحاق الحرْبِي الإمام، وصالح بن محمد جَزَرة، والحافظ أبو بكر بنُ خزيمة، ويحيى بن محمد بن صَاعد، ومحمد بن عبد الله مَطير، وكل هؤلاء أئمة حفاظ، وآخرون من الحفاظ، وغيرهم، قال الخطيبُ: وآخرُ من حدَّثَ عن البخاري ببغداد الحسينُ بن إسماعيل المحامِلي، انتهى كلام النَّووي في ((التهذيب)).
          وأقول: هؤلاء الثلاثة، وهم الفربري، والبزدوي، والمحاملي من أجلِّ من أخذ عن البخاري ((صحيحه))، وسمعَه منه، لكن المحامِلي فاته منه سماع أشياء كثيرة، وإنما سمعَ منه ببغداد آخر قَدْمةٍ قَدِمها البخاري مجالسَ لا جميعَه، كما غلط بعضُهم في ذلك.
          ومن أجلِّ من سمعَه منه أيضاً: إبراهيم بن معقل النَّسفي، وفاته سماع قطعة من آخره رواها بالإجازة.
          ومن أجلِّهم: حمادُ بن شَاكر، لكن له فيه فَوت أيضاً، وقد اتصلت رواياتهم لنا من طريق جماعات كثيرين بيَّنَّاهم في ((فيض الجاري بشرح صحيح البخاري))(15).
          وأما قول القسطلاني: والأصحُّ أنَّ النَّسائي لم يرو عن البخاري شيئاً، ففيه أن عدم التَّعرض لهذا من مثل النَّووي قد يدلُّ على عدم وجودِهِ، فضلاً عن كونه الأصَح، فتدبر.
          وقال غيره: وممن روى عن البخاري محمد بن هارون الحضرَمي، وأحمدُ بن حمدُون الأعمش، ومحمود بن عنبر، وإبراهيم بنُ معقل النسفيان، وخلق آخرون من مشايخه وأقرانه.
          فمن مشايخه: عبد الله بن محمد المَسْنَدي، وعبد الله بن منير، وإسحاق بن أحمد السَّرْماري، ومحمد بن خلف بن قتيبة.
          ومن أقرانه: أبو زُرعة وأبو حاتم الرازيَّان، وإبراهيم الحرْبي، ومطير المتقدم ذكرهم قريباً وأبو بكر بن أبي عاصم، وموسى بن هارون الحَمَّال، ومحمد بن قُتيبة البخاري، وأبو بكر الأَعْين، وغيرهم.
          وأما سعة حفظهِ، وسيلانُ ذهنه، وفهمه الثَّاقب، وثناء الناس عليه في المشارقِ والمغارب، فهو أمر مشهور(16):
          فقد قيل: إنه كان يحفظُ وهو صبي سبعين / ألف حديث سرداً.
          ونقل عن محمد بن عَمرويه أنه كان يقول: سمعتُ محمد بن إسماعيل يقول: أحفظُ مئَة ألفِ حديثٍ صحيحٍ، ومئتي ألف حديث غير صحيح.
          وإلى الأول أشار العراقي بقوله:
.... لِقَوْلِ الجُعْفِي                     أحفَظُ منهُ عَشْرَ أَلفِ أَلفٍ
          ورُوي: أنه كان ينظر في الكتاب مرةً واحدةً، فيحفظ ما فيه منها.
          ونُقِلَ عن الإمام أحمدَ بن حنبل أنه قال: ما أخرجتْ خراسانُ مثلَ محمد بن إسماعيل.
          وعنه أنه قال: انتهى الحفظُ إلى أربعة من أهل خراسان: أبو زرعة الرازي، ومحمد بن إسماعيل البخاري، وعبد الله بن عبد الرحمن السمرقنديّ الدارمي، والحسن بن شجاع البَلخي.
          وقال الإمامُ محمد بنُ بشار: حفَّاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالرِّي، ومسلم بن الحجَّاج بنَيسايور، وعبد الله بن عبد الرحمن الدارميّ بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببُخَارى.
          ورُوي عنه أنه قال: ما قدم علينا مثلُ البخاري.
          وعنه: أنه حين قدم البخاري البصرةَ، قامَ إليه، فأخذه بيدهِ، وعانقه وقال: مرحباً بمن أفتخرُ به منذ سِنين.
          وقال عليُّ بن حجرٍ: أَخرجت خراسانُ ثلاثة: أبا زرعة بالرِّي، ومحمد بن إسماعيل ببخارى، والدَّارمي بسمرقند، ومحمد عندي أعلمُهم وأفقههم وأبصرهم.
          وعن الحافظ صالح بن محمد جَزَرة أنه قال: / ما رأيت خراسيًّا أفهم منه.
          وقال: أعلمُهم بالحديث البخاريُّ، وأحفظُهم أبو زرعةَ، وهو أكثرُهم حديثاً.
          وقال محمد بن أبي حاتم: سمعت حاشدَ بن إسماعيل، وآخر يقولان: كان البخاري يختلف معنا إلى السماع وهو غلام، فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام، فكنا نقول له: لم لا تكتب؟ فقال: إنكما قد أكثرتما عليَّ، فاعْرِضا عليَّ ما كتبتُما، فأخرجنا له ما كان عندنا، فزادَ على خمسةَ عَشَرَ ألفَ حديث، فقرأها كلها عن ظهرِ قلبه، حتى جعلنا نُصلحُ كتبَنا من حفظهِ، ثم قال: أترونَ أني أختلفُ هَدْراً وأضيِّع أيامي؟ فعلمنا أنه لا يتقدَّمه أحدٌ، قالا: فكان أهلُ المعرفة يتبعونه لطلبِ الحديث وهو شابٌّ حتى يغلبوه على نفسهِ، ويجالسوهُ في بعض الطُّرق، فيجتمع عليه ألوف، أكثرهم يكتبون عنه.
          وعبارة ((المقدمة)): قال حاشد بنُ إسماعيل: كان البخاري يختلف معنا إلى مشايخ البصرة وهو غلام، فلا يكتب حتى أتى على ذلك أيام فلمناهُ بعد ستة عشر يوماً فقال: قد أكثرتم عَليَّ، فاعرضُوا عليَّ ما كتبتُم، فأخرجنَاه، فزادَ على خمسة عشر ألف حديث، فقرأها كلها عن ظهرِ قلبٍ حتى جعلنا نُحْكِمُ كتبنا من حفظه، انتهت.
          ثم قال فيها: قال محمَّد بن الأزهرِ السجستاني: كنت في مجلس سليمان بن حرب، والبخاري يسمع ولا يكتب، فقيل لبعضهم: ماله لا يكتب؟ فقال: يرجعُ إلى بخارى فيكتبه من حفظه. /
          وقال أبو بكر بنُ عتاب: كتبنا عن محمد بن إسماعيل، وما في وجههِ شعرة.
          وقال ابنُ أبي حاتم: كان سَليم بن مجاهد يقول: كنت عند محمَّد بن سلام البيكندي، فقال لي: لو جئت قبلُ لرأيت صبياً يحفظ سبعينَ ألفَ حديثٍ، قال: فخرجتُ في طلبه، فلقيته، فقلتُ: أنت الذي تقول: أحفظُ سبعينَ ألفَ حديثٍ؟ قال: نعم، وأكثر، ولا أُجيبك بحديث عن الصحابة والتابعين إلا عرفتُ مولدَ أكثرهم ووفاتهم ومساكنهم، ولستُ أروي حديثاً من حديث الصَّحابةِ إلا ولي في ذلك أصل أحفظُه حفظاً عن كتابِ الله تعالى وسنَّة رسوله صلعم .
          وقال: دخلتُ بلخ، فسألوني أن أُمْلي عليهم كلَّ مَنْ كتبتُ عنه، فأمليتُ ألف حديثٍ عن ألفِ شيخٍ.
          وقال: تذكرتُ يوماً في أصحاب أنس، فحضرني في ساعةٍ ثلاثُ مئةِ نفسٍ، وما قَدِمتُ على شيخ إلَّا كان انتفاعُه بي أكثر من انتفاعِي به.
          وقال حاشدُ بن إسماعيل: رأيتُ إسحاقَ بن راهويه جالساً على المنبر، والبخاري جالس معه، وإِسحاق يحدث، فمرَّ حديث، فأنكره محمد، فرجع إسحاق إلى قوله، وقال: يا معشر أصحاب الحديث، انظروا إلى هذا الشاب، واكتبُوا عنه؛ فإنه لو كان في زمن الحسنِ بن أبي الحسن البَصري، لاحتاجِ إليه؛ لمعرفتهِ بالحديثِ وفقههِ.
          وقال الفربري: سمعتُ محمد بن أبي حاتم يقول: سمعتُ حاشدَ بن إسماعيل يقول: كنتُ بالبصرة، فسمعتُ بقدوم محمَّد بن إسماعيل، فلمَّا قدمَ، قال / محمَّد بن بشَّار: دخلَ اليوم سيِّدُ الفُقهَاءِ. وقال: أنا أفتخرُ به منذ سنين.
          وقال موسَى بن قريش: قال عبدُ الله بن يوسف التِّنيسي للبُخاري: يا أبا عبد الله! انظرْ في كتبي وأخبرني بما فيها من السَّقطِ، فقال: نعم.
          وقال البخاريُّ: قال لي محمَّد بن سَلام البيكندي: انظرْ في كتبي، فما وجدتَ فيها من خطأ، فاضربْ عليه، فقال له بعضُ أصحابه: مَنْ هذا الفتى؟ فقال: هذا الذي ليس مثله أحد.
          وكان محمَّد بن سَلام المذكور يقول: كلَّما دخل عليَّ محمَّدُ بن إسماعيل تحيَّرت، ولا أزالُ خائفاً منه؛ يعني: يخشَى أن يخطئَ بحضرتهِ.
          وقال أبو بكر المدِيني: كنَّا يوماً عند إسحاق بنِ راهويه، ومحمَّد بن إسماعيل حاضر، فمرَّ إسحاق بحديث ودَوَّنَ صحابيَّهُ عطاءَ الكيخاراني، فقال له إسحاق: يا أبا عبد الله! إيش هي كيخاران؟ قال: قرية باليمن، كان معاويةُ بعث هذا الرجل الصَّحابي إلى اليمن، فسمعَ منه عطاء هذا حديثين، فقال له إسحاق: يا أبا عبد الله! كأنَّك شهدتَ القوم، انتهى ما في ((المقدمة)).
          وأقول: قال السُّيوطي في ((لب الألباب)): الكَيْخَارَانِي - بفتح الكاف، وسكون التحتية، وبخاء معجمة وراء؛ أي: فألف، فنون، وياء نسبة إلى كَيْخَارَان: قريةٌ باليمن، انتهى.
          وقال في ((القاموس)): منها عطاء بن يعقوب.
          وفي ((المقدمة)): قال البخاريُّ: كنتُ عند إسحاق بن راهويه، / فسُئِلَ عمَّن طلَّق ناسياً، فسكتَ طويلاً مفكِّراً، فقلت أنا: قال النبيُّ صلعم : ((إنَّ اللهَ تجاوَزَ عنْ أُمَّتي ما حدَّثَتْ بهِ أنْفُسها، ما لم تعمَلْ به أو تكلَّمْ به(17)))، وإنما يُراد مباشرة هؤلاء الثلاث: العمل والقلب، أو الكلام والقلب، وهذا لم يعتقدْ بقلبهِ، فقال لي إسحاق: قويتني قوَّاك الله وأفتى به، انتهى.
          وانظر لمَ لمْ يستدلَّ بحديث ثوبان الَّذي رواه الطَّبراني: ((رُفِعَ عنْ أُمَّتي الخَطأُ والنِّسيانُ وما اسْتُكرِهُوا عليه))، ولعلَّه لم يثبتْ عنده، كالحديث الَّذي رواه ابنُ ماجه عن أبي ذرٍّ، والطبرانيُّ والحاكمُ عن ابن عبَّاس، والطبرانيُّ عن ثوبان أيضاً، ولفظه: ((إن اللهَ تعَالى تجاوَزَ لِي عنْ أُمَّتي الخَطأَ والنِّسيانَ وما استُكْرِهوا عليهِ)).
          وأمَّا الحديث الَّذي أوردَهُ، فقد أخرجَه أصحابُ الكتبِ الستَّة عن أبي هُريرة، وكذا الطَّبراني عن عمران بن حُصين.
          وقال البُخاري: ما استصغرتُ نفسِي عند أحدٍ إلا عند عليِّ بن المدِيني، وأنا كنتُ أُغْربُ عليه، قال حامدُ بن أحمد: فذكرتُ هذا الكلام لعليِّ بن المدِيني، فقال لي: دَعْ قولَهُ، هو مَا رَأَى مثلَ نفسِهِ.
          وقال البخاريُّ أيضاً: كانَ عليُّ بن المدِيني يسألني عن شيوخِ خراسان، فكنتُ أذكرُ له محمَّد بن سلام فلا يعرفه، إلى أنْ قال لي يوماً: يا أبا عبد الله! كلُّ من أثنيتَ عليه فهو عندنا الرِّضى.
          وقال قتيبةُ بن سعيد: جالستُ الفُقهاء والزُّهاد والعبَّاد، فما رأيتُ منذ عقلتُ مثل محمَّد بن إسماعيل، وهو في زمانهِ كعُمَرَ / في الصَّحابة.
          وعن قتيبة أيضاً قال: لو كان محمَّد بن إسماعيل في الصَّحابة، لكان آية.
          وقال محمَّدُ بن يوسُفَ الهَمَداني: كنا عند قُتيبة، فجاء رجلٌ شعرَاني، يقال له: أبو يعقوب، فسأله عن محمَّد بن إسماعيل، فقال: يا هؤلاء! نظرتُ في الحديثِ، ونظرتُ في الرأي، وجالستُ الفُقهاءَ والزهادَ والعبَّادَ، ما رأيتُ منذ عقلتُ مثل محمَّد بن إسماعيل.
          وسُئِلَ قتيبةُ عن طلاق السَّكرَان، فدخل محمَّد بن إسماعيل، فقال للسَّائل: هذا أحمد بنُ حنبل، وإسحاق بنُ راهويه، وعلي بن المدِيني قد ساقَهم الله إليك، وأشارَ إلى البُخاري.
          وقال إبراهيمُ بن محمَّد بن سَلام: كان الرُّتُوتُ من أصحابِ الحديث مثل سعيد بن أبي مريم، وحجَّاج بن مِنْهال، وإسماعيل بن أبي أويس، والحُمَيدي، ونُعيم بن حمَّاد، والعدَني؛ يعني: محمَّد بن يحيى بن أبي عَمرو الخلال، ومحمَّد بن ميمون، وإبراهيم بنُ المنذر، ومحمَّد بن العلاء، وأبي سعيد الأشج، وإبراهيم بن موسى الفرَّاء، وأمثالهم يقضُون لمحمد بن إسماعيل على أنفسِهم في النَّظر والمعرفة.
          والرُّتُوْت _بضمِّ الراءِ والمثناةِ الفوقية، فواو ساكنة، فمثناة فوقية آخره_بمعنى الرؤساء، قاله ابن الأعرابيِّ وغيره، كذا في ((المقدمة))، و((التَّهذيب))، ولم يبينا مفرده، لكنه الرَّتُّ: بفوقية مشددة آخره، قال في ((القاموس)): الرَّتُّ: الرئيسُ، والجمع رَتَّاتٌ، ورُتُّوتٌ، انتهى.
          وقال البخاري: ذَاكَرَني أصحابُ عَمرو بنِ علي الفَلاَّس بحديث / فقلت: لا أعرفُه، فسرُّوا بذلك، وصاروا إلى عَمرو بن علي، فقالوا له: ذاكرنا محمَّد بنَ إسماعيل بحديثٍ فلم يعرفْه، فقال عَمرو بن علي: حديثٌ لا يعرفُه محمَّد بنُ إسماعيل ليس بحديثٍ.
          وقال رجاءُ بن مرجا: فضلُ محمَّد بن إسماعيل على العلماء كفضْلِ الرجالِ على النِّساء.
          وقال أيضاً: هو آيةٌ من الآياتِ يمشِي على ظهرِ الأرض.
          وقال الترمذيُّ: كان محمَّد بن إسماعيل عند عبدِ الله بنِ مُنير، فقال له لما قامَ: يا أبا عبدِ الله! جعلَكَ الله زينَ هذه الأمَّة، قال الترمذيُّ: فاستجابَ الله دعاءهُ فيه.
          وقال الفربريُّ: رأيتُ عبد الله بنَ منير يكتبُ عن البخاريِّ، وسمعتُه يقول: أنا من تلامذتِهِ.
          وعبدُ الله المذكور كما قال في ((المقدمة)) من شيوخِ البُخاري، قد حدَّث عنه في ((الجامع الصحيح))، وقال: لم أر مثلَه، وكانت وفاته سنة أن(18) ماتَ أحمد بن حنبل.
          وقال محمَّد بنُ أبي حاتم الورَّاق: سمعتُ يحيى بنَ جعفر البيكندي يقول: لو قدرتُ أن أزيدَ عمرِي في عمر محمَّد بن إسماعيل لفعلْتُ، فإنَّ مَوتي يكون موت رجلٍ واحدٍ، وموت محمَّد بن إسماعيل فيه ذهابُ العلم، قال: وسمعتُه يقول للبخاريِّ: لولا أنت ما استطيبتُ العيشَ ببُخارى.
          وقال عبدُ الله بن محمَّد المسندي: محمَّد بنُ إسماعيل إمامٌ، فمَن لم يجعلْه إماماً، فاتَّهمه.
          وقال حاشد: رأيتُ عَمرو بن زُرَارة، ومحمَّد بن رافع عند محمَّد بن إسماعيل، وهما يسألانهِ عن عللِ الحديثَ، فلمَّا قاما قالا لمن حضَرَ المجلسَ: لا تحدِّثوا إلَّا / عن أبي عبد الله؛ فإنَّه أفقَه منَّا وأعلم وأبصرُ.
          وقبَّله مسلمٌ مرَّة بين عينيهِ، وقال له: دَعْني أقبِّل رجليكَ يا أستاذَ الأستاذِين، وسيِّدَ المحدِّثين، ويا طبيْبَ الحديثِ في عللِهِ.
          وقال الترمذيُّ: لم أر أحداً بالعراق ولا بخراسان أعلمَ من محمَّد بن إسماعيل في مَعنى العللِ والتَّاريخ والأسانيد.
          وقال البخاريُّ: دخلتُ على الحُمَيدي وأنا ابنُ ثماني عشرة سنة، فإذا بينه وبين آخر اختلافٌ في حديث، فلمَّا أبصرَني قال: جاء من يفصِلُ بيننا، فعرضَا عليَّ الخصُومةَ، فقضيتُ للحُمَيديِّ؛ لكون الحقِّ معه.
          وقال محمَّد بن أبي حاتم ورَّاق البخاريِّ: سمعتُه يقول: كنت في مجلسِ الفريابي، فسمعتُه يقول: حدَّثنا سفيان، عن أبي عَرُوبة، عن أبي الخطَّاب عن أنس: أنَّ النبيَّ صلعم كان يطوفُ على نسائهِ في غُسل واحدٍ، فلم يعرفْ أحدٌ في المجلس أبا عَرُوبة، ولا أبا الخطَّاب، فقلت: أمَّا أبو عَرُوبة: فمَعْمر، وأمَّا أبو الخطَّاب: فقتادةُ.
          وعبارةُ ((المقدمة)): قال محمَّد بن أبي حاتم عن البخاريِّ قال: كنت في مجلسِ الفِرْيابي، فقال: حدَّثنا سفيان، عن أبي عَرُوبة، عن أبي الخطَّاب، عن أبي حمزة، فلم يعرفْ أحدٌ في المجلس من فوق سفيان، فقلت لهم: أبو عَرُوبة هو: مَعْمر بن راشد، وأبو الخطَّاب هو: قتادةُ بن دِعَامة، وأبو حمزة هو: أنسُ بن مالك، قال: وكان الثَّوري فعولاً لذلك، يكنِّي المشهورين، انتهى.
          وقال ورَّاقه المذكور: قدم رجاء الحافظ، فقال / لأبي عبد الله: ما أعددْتَ لقُدُومي حين بلغَكَ؟ وفي أيِّ شيءٍ نظرتَ؟ قال: ما أحدثْتُ نظراً، ولا استعددتُ لذلك؛ فإن أحببتَ أن تسألَنِي عن شيءٍ، فافعلْ، فجعلَ يُناظره في أشياء، فبقيَ رجاءُ لا يدري، ثم قال أبو عبدِ الله: هل لك في الزِّيادة؟ فقال استحياءً منه وخجلاً: نعم، قال: سلْ إن شئتَ، فأخذَ رجاء في أسامِي أيُّوب، فعدَّ نحواً من ثلاثة عشر اسماً، وأبو عبد الله ساكتٌ، فظنَّ رجاء أنَّه صنعَ شيئاً، فقال: يا أبا عبد الله! فاتكَ شيءٌ كثيرٌ، فزيَّف أبو عبد الله من أولئك سبعة، وأغربَ عليه أكثر من ستين رجلاً، ثم قال لرجاء: كم رويتَ في العمامَة السَّوداء؟ قال: هات كم رويتَ أنت؟ قال: نحواً من أربعين حديثاً، فخجلَ رجاء، ويبسَ ريقُه.
          وقال أبو حامد الأعمش: رأيتُ البُخاري في جنازة، ومحمَّد بن يحيى الذهلي يسأله عن الأسماء والكُنى وعلل الحديث(19)، ويمر فيها البُخاري مثل السَّهم، كأنه يقرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}[الصمد:1].
          وغالبُ ما ذكرنَاه موجودٌ في ((المقدِّمة)) للحافظ ابنِ حجرٍ، وفيها أشياء أُخر زائدة.
          ثم قال(20): ذكر طرف من ثناء أقرانهِ وطائفة من أتباعهِ عليه.
          قال أبو حاتم الرَّازي: لم يخرجْ من خراسان قط أحفظُ من محمَّد بن إسماعيل، ولا قدمَ منها إلى العراق أعلمُ منه.
          وقال الحسينُ المعروف بالعجليِّ: ما رأيت مثل محمَّد بن إسماعيل، ومسلمٌ حافظ، لكنَّه لم يكن يبلغُ مبلغ محمَّد بن إسماعيل.
          وقال العجليُّ أيضاً: رأيتُ أبا زُرعة وأبا حَاتم يستمعانِ إليه، وكان أمَّة من الأممِ، ديِّناً فاضلاً، يحسنُ كلَّ شيءٍ، وكان أعلم من محمِّد بن يحيى / الذهلي بكذا وكذا.
          وقال عبدُ الله بن عبد الرَّحمن الدَّارمي: قد رأيتُ العلماء بالحرمين والحجاز والشَّام والعراق، فما رأيتُ فيهم أجمع من محمَّد بن إسماعيل.
          وقال أيضاً: هو أعلمُنا وأفقهُنا، وأكثرُنا طلباً.
          وسئلَ الدَّارمي عن حديث، وقيل له: إنَّ البُخاري صحَّحه، فقال: محمَّد بن إسماعيل هو أبصرُ مني، وهو أكيسُ خلقِ الله، عقَلَ عن الله ما أمرَ به، ونهى عنه في كتابهِ وعلى لسان نبيِّه صلعم ، إذا قرأَ محمدٌ القرآن، شغلَ قلبَه وبصرَه وسمعَه، وتفكَّر في أمثالهِ، وعرفَ حرامَه من حلالهِ.
          وقال أبو سهْلٍ محمود بن النَّضر الفقيه: دخلتُ البصرةَ والشَّام والحجازَ والكوفةَ، ورأيت علماءهَا، فكلَّما جرَى ذكر محمَّد بن إسماعيل، فضَّلوه على أنفسِهِم.
          وقال أبو سهْل أيضاً: سمعتُ أكثرَ من ثلاثين عالماً من علماء مصرَ يقولون: حاجتُنا في الدُّنيا النَّظرُ إلى محمَّد بن إسماعيل.
          وسُئل الحافظ أبو العباس الفضْل بن العبَّاس المعروف بـ(فضلك الرَّازي): أيما أحفظ محمد بن إسماعيل أو أبو زُرعة؟ فقال: لم أكنْ التقيتُ مع محمد بن إسماعيل، فاستقبَلني ما بين حلوان وبغداد، قال: فرجعتُ معه مرحلةً، وجهدتُ كلَّ الجهدِ على أنْ أجيءَ بحديث لا يعرفه، فما أمكنَني، وهذا فلان أغرب على أبي زُرعة عدد شعرِ رأسه.
          وقال محمد بنُ إسماعيل الدَّغُولي: كتب / أهل بغداد إلى محمَّد بن إسماعيل البُخاري كتاباً فيه:
المُسْلِمونَ بخَيْرٍ ما بَقِيتَ لَهُم                     ولَيْسَ بعْدَكَ خَيْرٌ حينَ تُفْتَقَدُ
          وقال إمامُ الأئمَّة أبو بكر محمَّد بن خُزيمة: ما تحتَ أديم السَّماء أعلمَ بالحديثِ من محمَّد بن إسماعيل.
          وقال أبو أحمد بنُ عدي: كان يحيى بنُ محمد بنِ صَاعد إذا ذكر البُخاري قال: ذاك الكبشُ النَّطَّاح.
          وقال أبو عَمرو الخفَّاف فيه: التَّقي النَّقي، العالم الذي لم أر مثلَه، محمد بن إسماعيل، وهو أعلمُ بالحديثِ من أحمد وإسحاق وغيرهما بعشرين درجة، ومن قال فيه شيئاً فعليهِ مني ألف لعنة.
          وقال أيضاً: لو دخلَ من هذا الباب وأنا أحدِّث، لمُلِئتُ منه رعباً.
          وقال موسى بنُ هارون الحمَّال الحافظ البغدادي: لو أنَّ أهلَ الإسلام اجتمَعوا على أن ينصبُوا آخر مثل محمَّد بن إسماعيل، لما قدُروا عليه.
          وقال عبدُ الله بن محمد بن سعيد بن جعفر: سمعتُ العلماء بالبصرةِ يقولون: ما في الدنيا مثل محمَّد بن إسماعيل في المعرفةِ والصَّلاح، قال عبدُ الله: وأنا أقولُ قولهم.
          وقال الحاكمُ أبو أحمدٍ في ((الكنى)): كان البخاريُّ(21) أحد الأئمة في معرفةِ الحديث وجمعهِ.
          ولو فتحتُ باب ثناء الأئمَّة عليه ممَّن تأخَّر عن عصرِهِ، لفَنِي القرطاسُ، ونفدَتِ الأنفَاسُ، فذاك بحرٌ لا ساحلَ له، انتهى ما في ((المقدِّمة)) للحافظ مختصراً.
          ثم قال فيها: وبعدما تقدَّم من ثناء كبارِ مشايخهِ عليه لا يحتاجُ إلى حكايتهِ / عن آخرين؛ لأنَّ أولئك إنما أثنَوا بما شاهدُوا، ووصفُوا بما علمُوا، بخلاف من بعدَهُم؛ فإنَّ ثناؤهُم ووصفَهم مبنيٌّ على الاعتماد على ما نُقل إليهم، وبين المقامين فرقٌ ظاهرٌ، وليس الخبرُ كالعَيَان، انتهى.
          وقال التاجُ السُّبكي في ((الطبقات الكبرى)) بعد إيرادِهِ جملاً من مناقبِهِ(22): واعلمْ أنَّ مناقبَ أبي عبد الله كثيرةٌ، فلا مَطْمع في استيعابِ غالبِهَا، والكتبُ مشحونةٌ به، وفيما أوردناهُ مَقنع وبلاغٌ، انتهى.
          وقال النوويُّ في ((التهذيب)) بعد أن نقَلَ كثيراً من ترجمة البُخاري(23) ممَّا نقلنَا بعضَه:
          فهذه أحرفٌ من عيونِ مناقبهِ، من صفاتهِ ودُرَر شمائلهِ وحالاتهِ، أشرتُ إليها إشارات؛ لكونها من المعروفاتِ الواضحاتِ، ومناقبُه لا تستقصَى؛ لخروجِها عن أن تحصَى، وهي منقسمةٌ إلى حفظٍ ودرايةٍ، واجتهادٍ في التحصيلِ وروايةٍ، وتنسُّك وإفادةٍ، وورعٍ وزهادةٍ، وتحقيقٍ وإتقانٍ، وتمكن وعرفانٍ، وأحوال وكراماتٍ، وغيرها من أنواع المكْرُمات، ويوضح ذلك ما أشرتُ إليه من أقوالِ أعلام المسلمين، أولي الفضلِ والورعِ والدين، والحفَّاظِ النُّقاد المتقنِين، الذين لا يجازفون في العباراتِ، بل يتأمَّلونها ويحرِّرونها، ويحافظونَ على صيانتها أشدَّ المحافظات، وأقاويلهم بنحو ما ذكرتُ غير منحصرةٍ، وفيما أشرتُ إليه أبلغُ كفاية للمستبصِرِ، ☺ وأرضَاه، وجمعَ بيني وبينَه وجميعَ أصحابنا في دارِ كرامتهِ مع / من اصطفَاه، وجزاهُ عني وعن سائرِ المسلمين أكمل الجزاء، وحبَاه من فضلهِ أبلغَ الحباء، انتهى.
          تنبيه: قال الحافظُ ابنُ حجر في ((المقدمة)) أيضاً: ذكر جملٍ من الأخبارِ الشَّاهدة بسعة حفظهِ، وسيلانِ ذهنهِ، واطِّلاعه على العللِ سوى ما تقدَّم.
          ثم ذكر بسندهِ إلى أحمد بن عدي الحافظ أنه قال: سمعتُ عدَّة مشايخ ببغداد يقولون: إنَّ محمد بن إسماعيل البُخاري قدم بغداد، فسمعَ به أهلُ الحديث، فاجتمعوا وأرادُوا امتحانَ حفظهِ، فعمدوا إلى مئة حديث، فقلَبُوا متونها وأسانيدها، وجعلوا متنَ هذا الإسناد لإسناد آخر، وإسناد هذا المتن لمتنٍ آخر، ودفعوهَا لعشرة أنفسٍ، لكلِّ رجلٍ عشرة أحاديث، وأمروهم إذا حضَروا المجلسَ أن يلقوا ذلك على البُخاري، وأخذوا عليه الموعدَ للمجلس، فحضرَ وحضرَ جماعةٌ كثيرون من الغُرباء من أهل خُراسان وغيرهم ومن البغداديين، فلمَّا اطمأنَّ المجلسُ بأهله، انتدبَ رجلٌ من العشرة، فسألَه عن حديث من تلك الأحاديث، فقال له البُخاري: لا أعرفه، فما زالَ يلقي عليه واحداً بعد واحدٍ حتى فرغَ، والبُخاري يقول: لا أعرفه، فكان العُلماء ممَّن حضرَ المجلس يلتفتُ بعضُهم إلى بعض، ويقولون: فهم الرجل، ومن كان لم يدر القضيَّة، يقضِي على البُخاري بالعجزِ والتَّقصير وقلَّة الحفظ، ثم انتدبَ الثاني من العشرة، / وفعل كالأول، وقال له البُخاري كالأول، ثم انتدبَ الثالث والرابع، وهكذا إلى تمام العشرة حتى فرغُوا كلهم من إلقاءِ تلك الأحاديث المقلوبةِ، والبُخاري لا يزيدهم على: لا أعرفه، فلمَّا علم أنهم فرغُوا، التفتَ إلى الأول فقال: أمَّا حديثك الأوَّل، فقلت: كذا، وصوابُه كذا، وحديثُك الثاني كذا، وصوابُه كذا، وهكذا الثَّالث والرَّابع إلى تمام العشَرة على الولاء، فردَّ كلَّ متنٍ إلى إسنادِهِ، وكلَّ إسنادٍ إلى متنهِ، في الجميع على الولاء في السؤالِ، فأقرَّ الناس له بالحفظِ، وأذعنُوا له بالفضلِ.
          قال فيها: قلتُ: فمن هنا يخضعُ للبخاري، فما العجبُ من ردِّه الخطأَ إلى الصَّواب؟ فإنه كان حافظاً لا ينكر، بل العجبُ من حفظهِ للخطأ على ترتيبِ ما ألقوه عليه في مرَّة واحدةٍ.
          وروِّينا عن أبي بكرٍ الكلوذَاني قال: ما رأيتُ مثل محمَّد بن إسماعيل، كان يأخذُ الكتاب من العلم، فيطَّلع إليه اطلاعةً واحدةً، فيحفظُ عامَّة أطرافِ الأحاديث من مرَّة واحدةٍ.
          وتقدَّم ما حكاه حاشدٌ من أنه كان يحفظُ ما سمعَ ولا يكتبُ، انتهى ما في ((المقدمة)).
          وقد أشار إلى هذه القضيَّة الحافظ الزين العرَاقي في ((ألفيَّته)) بقوله في بحثِ الحديث(24) المقلوب:
ومنْهُ قَلْبُ سَنَدٍ لِمَتْنِ                     نحْوَ امْتِحَانِهِم إِمَامَ الفَنِّ
فِي مِئَةٍ لمَّا أَتَى بَغْدَادَ                     فَرَدَّها وجَوَّدَ الإِسْنَادَ /
          ثم قال في ((المقدمة)): وقال أبُو الأزهر: كان بسمرقند أربع مئة محدِّث، فتجمَّعوا وأرادوا أن يُغلِّطوا محمد بن إسماعيل، فأدخلوا إسنادَ الشامِ في إسنادِ العراقِ، وإسنادَ العراق في إسنادِ الشَّام، وإسناد الحرمِ في إسناد اليمنِ، فمَا استطاعُوا أنْ يتعلَّقوا عليه بسَقْطة، انتهى.
          وممَّا يناسبُ إيرادَهُ في هذا المقامِ: ما وقعَ لسيِّدي عبد القادر الكيلاني_نفعنا الله ببركاتهِ على الدوام_، قال العارفُ الشَّعراني في ((طبقاته الوسطى)): ولما اشتهرَ الشيخُ عبد القادرِ في الآفاقِ، اجتمعَ له مئة فقيهٍ من علماء بغداد يمتحنونَهُ في العلمِ، فجمعَ كلُّ واحدٍ له عدَّةَ مسائلَ، وجاؤوا إليه، فلما استقرَّ بهم المجلسُ، أطرقَ رأسه الشيخُ، فظهرتْ من صدرهِ بارقةٌ من نور، فمرت على صُدور المئةِ فقيه، فمسحت ما في قلوبهم، وبهتُوا واضطربُوا، وصاحوا صيحةً واحدةً، ومزَّقوا ثيابهم، وكشَفوا رُؤوسهم، ثم صَعِد الشيخُ الكرسيَّ، وأجابَ عن جميعِ مسائلهم، فاعترفُوا بفضلهِ، وخضعوا له من ذلك اليوم، انتهى.
          ثم قال الحافظُ ابن حجر في ((المقدمة)): وقال غُنْجار في ((تاريخه)): سمعتُ أبا القاسم منصور بن إسحاق بن إبراهيم الأسدي يقول: سمعتُ أبا محمد عبد الله بن محمَّد بن إبراهيم يقول: سمعتُ يوسف بن موسَى المروزي يقول: كنتُ بجامع البصرة، فسمعتُ منادياً ينادِي: / يا أهلَ العلم! لقد قدمَ محمَّد بن إسماعيل البُخاري فقاموا في طلبهِ وكنتُ فيهم، فرأيتُ رجلاً ليس في لحيتهِ بياض يصلِّي خلف الأسطوانةِ، فلمَّا فرغَ، أحدقوا به وسألوهُ أن يعقدَ لهم مجلسَ الإملاء، فأجابهم إلى ذلك، فقامَ المنادي ثانياً، فنادَى في جامع البصرةِ، فقال: يا أهلَ العلم! لقد قدم محمَّد بن إسماعيل البُخاري، فسألناهُ أن يعقدَ مجلس الإملاء، فأجابَ بأنه يجلس غداً في موضع كذا، فلمَّا كان الغد، حضرَ المحدِّثون والحفاظ والفقهاء والنُّظار، حتى اجتمعَ أناس قريباً من كذا كذا ألف نفس، فجلس أبو عبد الله للإملاء، وقال قبل أن يأخذَ في الإملاء: يا أهلَ البصرة! أنا شابٌّ، وقد سألتُموني أن أحدِّثكم، وسأحدِّثكم أحاديث عن أهلِ بلدكُم تستفيدُونها_يعني: ليست عندكم_فتعجَّب الناس من قوله، فأخذَ في الإملاء، فقال: حدَّثنا عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد العتكي بلديكم، قال: حدَّثنا أبي، عن شعبة، عن منصور وغيره، عن سالم بن أبي الجعد، عن أنس بنَ مالك ☺ : أنَّ أعرابياً جاء إلى النَّبي صلعم ، فقال: يا رسولَ الله! الرجلُ يحبُّ القوم، الحديث، ثم قالَ: ليس هذا عندكُم عن منصور، إنما عندكُم عن غير منصور.
          قال يوسف بن موسَى: وأملى عليهم على هذا النَّسق مجلساً، يقول في كلِّ حديث: روى فلان هذا / الحديثَ عندكم كذا، فأمَّا رواية فلان_يعني: التي يسوقها_فليستْ عندكم.
          ثم ذكرَ الحافظُ ابن حجر في ((المقدمة)) بسندِهِ إلى أبي حامد الأعمش الحافظ، فقال: كنَّا عند محمَّد بن إسماعيل البُخاري بنيسابور، فجاء مسلم بن الحجَّاج، فسأله عن حديث عُبيد الله بن عمر، عن أبي الزُّبير، عن جابر، قال: بعثنا رسولُ الله صلعم في سريَّة، ومعنا أبو عُبيدة، الحديث بطوله، فقال البُخاري: حدَّثنا ابن أبي أويس، حدَّثني أخي، عن سليمان بن بلال، عن عُبيد الله، فذكر الحديث بتمامهِ، قال: فقرأَ عليه إنسان حديث حجَّاج بن محمد، عن ابن جُريج، عن موسى بن عُقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هُريرة، عن النبي صلعم قال: ((كفَّارة المجلسِ إذا قامَ العبدُ أن يقولَ: سبحانك اللهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنت، أستغفرُك وأتوبُ إليك))، فقال له مسلم: في الدُّنيا أحسن من هذا الحديث، ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سُهيل بن أبي صالح، تعرف بهذا الإسناد في الدنيا حديثاً؟ فقال محمَّد بن إسماعيل: إلا أنه مَعْلول، فقال مسلم: لا إله إلا الله، وارتعدَ، أخبرني به، فقال: استرْ ما سترَ الله، حديث جليلٌ رواه الناس عن حجَّاج بن محمد، عن ابن جُريج، فألحَّ عليه، وقبَّل رأسَه، وكادَ يبكِي، فقال: اكتبْ إن كان ولا بدَّ: حدثنا موسى بن إسماعيل، ثنا وهيب، حدَّثنا موسى / بن عقبة، عن عون بن عبد الله، قال: قال رسول الله صلعم : ((كفَّارة المجلسِ إذا قامَ العبدُ أن يقولَ: سبحانك اللَّهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنت، أستغفرُك وأتوبُ إليك))، فقال له مسلم: والله ما (25) يبغضُك إلا حاسدٌ، وأشهدُ أنه ليسَ في الدنيا مثلك، هكذا روى هذه القصَّة الحاكم في ((تاريخ نيسابور)) عن أبي محمَّد المخلدِي.
          ورواها البيهقي في ((المدخل)) عن الحاكم أبي عبد الله على سياق آخر، قال: سمعت أبا نصر أحمد بن محمد الورَّاق يقول: سمعتُ أحمد بن حمدُون القصَّار، وهو أبو حامد الأعمش يقول: سمعت مسلم بن الحجَّاج، وقد جاء إلى محمَّد بن إسماعيل، فقبَّل بين عينيهِ، وقال: دعنِي أقبِّل رجليكَ يا أستاذَ الأستاذِين، وسيَّد المحدِّثين، وطبيبِ الحديث في عللهِ، حدَّثك محمَّد بن سلام، حدَّثنا مخلد بن يزيد، أخبرنا ابنُ جريج، حدَّثني موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هُريرة، عن النبيِّ صلعم في كفَّارة المجلسِ، فقال(26) محمَّد بن إسماعيل: وحدَّثنا أحمد بنُ حنبل، ويحيى بن معين قالا: حدَّثنا حجَّاج بن محمد، عن ابن جُريج، حدَّثني موسى بن عُقبة، عن سُهيل، عن أبيه، عن أبي هُريرة: أن النبيَّ صلعم قال: ((كفَّارة المجلسِ أن يقولَ إذا قامَ من مجلسهِ: سبحانك ربَّنا / وبحمدِك))، وقال البخاريُّ: هذا حديث مليحٌ، ولا أعلمُ بهذا الإسناد في الدنيا حديثاً غير هذا، إلا أنه معلولٌ، حدَّثنا به موسى بنُ إسماعيل، حدَّثنا وهيب، حدَّثنا سهيل، عن عَون بن عبد الله، قال محمَّد بن إسماعيل: هذا أولى؛ فإنَّا لا نذكرُ لموسى بن عُقبة سماعاً عن سُهيل.
          ورواها الحاكمُ في ((علوم الحديث)) له بهذا الإسناد أخصر من هذا السِّياق، وقال في آخرها كلاماً موهوماً؛ فإنه قال فيه: إن البُخاري قال: لا أعلمُ في هذا الباب غير هذا الحديثِ الواحد، ولم يقل البخاريُّ ذلك، وإنما قالَ ما تقدَّم، ولا يتصوَّر وقوعُ هذا من البُخاري، مع معرفتهِ ما في الباب من الأحاديثِ، انتهى ما في ((المقدمة)).
          وقوله فيها: وإنما قال ما تقدَّم... إلخ، أي: من قوله آنفاً(27) ولا أعلم بهذا الإسناد في الدنيا حديثاً غير هذا، إلا أنه معلولٌ، وقوله: ولا يتصوَّر وقوعُ هذا... إلخ؛ أي: قوله: لا أعلمُ في هذا الباب غير هذا الحديث الواحد، فإن البخاريَّ لا يُتصور أن يقعَ منه هذا الكلام على ما نقلَ الحاكم عنه في ((علوم الحديث))، فإن في الباب عدَّة أحاديث غير هذا:
          منها: ما في أواخر ((فتح الباري))، وسنذكره قريباً.
          ومنها: ما فيه _أيضاً_قبيله؛ وهو ما أخرجَه الترمذيُّ في ((جامعه))، والنَّسائي في ((اليوم والليلة))، وابن حبَّان في ((صحيحه))، والطَّبراني في ((الدعاء))، والحاكم في ((المستدرك))، كلُّهم من رواية حجَّاج بن محمد، عن ابن جُريج، عن موسى بن عُقبة، / عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة، قال: قال رسولُ الله صلعم : ((مَن جلسَ في مجلسٍ، فكثُرَ فيه لغَطُه، فقال قبل أن يقومَ من مجلسِهِ ذلك: سبحانَكَ اللَّهمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنت، أستغفرُكَ وأتوبُ إليك، إلا غُفِرَ له ما كانَ في مجلسِهِ ذلك))، هذا لفظ الترمذيِّ، وقال: حسنٌ صحيحٌ غريبٌ، لا نعرفُه من حديث سُهيل إلا من هذا الوجه، وفي الباب عن أبي بَرْزة وعائشة.
          وقال الحاكمُ: هذا حديثٌ صحيحٌ على شرط مسلم، إلا أنَّ البُخاري أعلَّه برواية وُهيب، عن موسى بن عُقبة، عن سُهيل، عن أبيه، عن كعب الأحبار، كذا قال في ((المستدرك))، ووهمَ في ذلك، فليس في هذا السَّند ذكر لوالد سُهيل، ولا لكعب، والصَّواب: عن سهيل، عن عون، وكذا ذكرهُ على الصواب في ((علوم الحديث))، انتهى ما في ((فتح الباري)).
          والحاصل أنَّ البخاري أعلَّه بقوله: لا نذكرُ لموسى بن عقبةَ سماعاً من سُهيل؛ كما رواهُ ابن جُريج وإنما المعروفُ أنَّ موسى يرويه عن عَون بن عبد الله وهذا من غيرِ رواية ابن جُريج فلمَّا خالفَ ابن جريج قولَ وُهيب الذي هو أكثرُ ملازمة لموسَى من ابن جُريج، رجَّح البخاري روايةَ الأكثرِ الملازمِ، وجعلَها قادحةً في رواية غيره، فهذا وجه إعلالهِ عنده وأمَّا من صحَّحه فإنه لا يرَى هذا الاختلافَ علَّة قادحة، بل يُجَوِّزُ أنه عند موسى / بن عُقبة على وجهين:
          أحدُهما: عن سُهيل، وثانيهما: عن عَون، قاله في ((الفتح)) مع زيادة إيضاحٍ.
          ثم قال فيه: وقد سبقَ البُخاري إلى تعليلِ هذه الرِّواية أحمدُ بن حنبل، فذكرَ الدَّارقطني عنه في ((العلل)) أنه قال: حديث ابنِ جُريج وهمٌ، والصَّحيح قول وهيب، عن سُهيل، عن عون بن عبد الله، قال الدَّارقطني: والقولُ قول أحمد.
          وعلى ذلك جرَى أبو حاتم وأبو زُرعة الرَّازيان.
          ثم ذكرَ أن شيخَه الحافظ العرَاقي ذكر في ((النُّكت)) التي جمعَها على ((علوم الحديث)) لابن الصَّلاح: أنَّ هذا الحديث وردَ من رواية جماعةٍ من الصَّحابة، عدتهم سبعة، زيادةً على مَن ذكره الترمذيُّ، وأحالَ بيانهم على ((تخريج الإحياء)).
          ثم قال في ((الفتح)): وقد تتبعتُ طرقَهُ فوجدته مِنْ روايةِ خمسةٍ آخرين، فكمَّلوا خمسةَ عشر نفساً، ومعهُم صَحابي لم يسم، فلم أضفْه إلى العددِ؛ لاحتمال أن يكون أحدَهم، ثم ذكر الخمسة عشر صحابياً ملخصاً لهم مما كتبه على ((علوم الحديث))، فراجعه.
          ثم ختمَ ((فتح الباري)) بحديث ذكره بسندهِ إلى عائشة ♦ قالت: كانَ رسولُ الله صلعم إذا جلسَ مجلساً، أو صلَّى، تكلَّم بكلماتٍ، فسألته عن ذلك، فقال: ((إنْ تكلَّم بكلامِ خيرٍ، كان طابِعاً عليهِ إلى يوم القيامَةِ، وإنْ تكلَّمَ بغيرِ ذلكَ، كانَ كفَّارةً له: سُبحانَكَ اللَّهمَّ وبحمدِكَ، لا إلهَ إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ)) انتهى.
          وذكرهُ القَسْطَلاني في آخر ((شرحه)) / _أيضاً_بلفظ آخر أخرجَهُ عن النَّسائي في ((اليوم والليلة)) بسندِهِ إلى عائشة: أنها قالت: ما جلسَ رسولُ الله صلعم مجلساً، ولا تلا قرآناً، ولا صلَّى، إلا ختمَ ذلك بكلمَاتٍ، فقلتُ: يا رسول الله! أراكَ مَا تجلِسُ مجلِساً، ولا تتْلُوا قرآناً، ولا تصَلِّي صلاةً، إلا ختمْتَ بهؤلاءِ الكلماتِ؟ قال: ((نعم، مَنْ قالَ خيراً كُنَّ طَابِعاً لهُ على ذلكَ الخيرِ، ومَن قالَ شرًّا، كانتْ كفَّارةً له: سُبْحانَكَ اللَّهمَّ وبحمدِكَ، لا إله إلَّا أنت، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ))، انتهى.
          ثم روى بسندِهِ إلى عليٍّ ☺ : أنَّه قال: مَن أحبَّ أنْ يكتَالَ بالمكيالِ الأوْفى، فليقلْ آخر مجلسِهِ، أو حين يقومُ: { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[الصافات:180-182]، وهوَ وإنْ كانَ موقوفاً على عليٍّ ☺ ، لكن حكمُه الرَّفع، فافهم.
          وقال في ((المقدمة)): قال عليُّ بن الحسن بن عاصم البيكندي: قدمَ علينا محمَّد بنُ إسماعيل، فقال له رجلٌ من أصحابنا: سمعتُ إسحاقَ بن راهويه يقول: كأني أنظرُ إلى سبعين ألفَ حديثٍ في كتابي، فقال محمَّد بنُ إسماعيل _وتعجَّبَ من هذا_: لعلَّ في هذا الزَّمان مَن ينظرُ إلى مئتي ألف حديثٍ من كتابه.
          وقال محمَّد بن حمدويه: سمعتُ البُخاري يقول: أحفظُ مئة ألف حديثٍ صحيحٍ، وأحفظُ مئتي ألف حديثٍ غير صحيحٍ.
          وقال ورَّاقه: سمعتُه يقول: ما نمتُ البارحةَ حتى عددْتُ كمْ أدخلت في تصانيفِي من الحديث، فإذا نحو مئتي ألف.
          وقال أيضاً: لو قيل لي / شيء لما قمْتُ حتى أروي عشرةَ آلاف حديثٍ في الصَّلاة خاصةً.
          وقال أيضاً: قلت له: تحفظُ جميع ما أدخلْتَ في مصنَّفاتك؟ فقال: لا يخفَى عليَّ جميع ما فيها، وصنَّفت جميع كتبي ثلاث مرَّات.
          قال: وبلغني أنه شربَ البلاذر، فقلتُ له مرَّة في خلوةٍ: هل من دواءٍ للحفظِ؟ فقال: لا أعلم، ثم أقبلَ عليَّ، فقال: لا أعلمُ شيئاً أنفع للحفظِ من نَهمَة الرجلِ ومداومته النَّظرَ.
          وقال: أقمتُ بالمدينة بعد أن حججتُ سنةً جرْداً أكتبُ الحديثَ، قال: وأقمتُ بالبصرة خمس سنين معِي كُتبي أصنِّفُ وأحجُّ، وأرجعُ من مكة إلى البصرة، قال: وأنا أرجو أن يبارِكَ الله تعالى للمسلمين في هذه المصنَّفات.
          وقال ورَّاقُه: عملَ كتاباً في الهبة فيه نحو خمس مئة حديثٍ، وقال: ليس في كتاب وكيع في الهبةِ إلا حديثان مسندان أو ثلاثة، وفي كتاب ابن المبارك خمسة أو نحوها.
          وقال البخاريَّ: ما جلستُ للتَّحديث حتى عرفْتُ الصَّحيح من السَّقيم، وحتى نظرتُ في كتب أهل الرأي، وما تركتُ بالبصرة حديثاً إلا كتبته.
          وقال ورَّاقُه: وسمعته يقول: لا أعلم شيئاً يُحتاجُ إليه إلا وهو في الكتابِ والسُّنة، قال: فقلتُ له: يمكن معرفة ذلك؟ قال: نعم.
          وقال فيها أيضاً: قال الخطيبُ: وكتب إليَّ علي بن محمد(28) الجُرْجاني من أصبهان: أنه سمع محمد بن مكي يقول: سمعتُ الفِرَبْري يقول: رأيت النبيَّ صلعم في النوم، فقال لي: / ((أين تريد)) فقلتُ: أريد محمد بنَ إسماعيل، فقال: أقرئه منِّي السلام.
          وقال حاشدُ بن إسماعيل: قال لي أبو مصعب أحمد بن أبي بكر الزُّهري: محمَّد بنُ إسماعيل أفقه عندنا وأبصرُ بالحديث من أحمدَ بنِ حنبل: فقال له رجلٌ من جلسائهِ: جاوزتَ الحدَّ، فقال(29) أبو مصعب: لو أدركت مالكاً، ونظرت إلى وجههِ ووجهِ محمَّد بن إسماعيل، لقلت: كلاهما واحدٌ في الحديث والفقهِ.
          وأراد بقوله: ونظرت إلى وجهه: تأمَّلت في معارفهِ.
          وقد أكثرَ الأئمَّة والعلماء من الثَّناء عليه، ووصفهِ بالعلمِ والحفظِ، والزهدِ والورعِ، وغير ذلك، ذلك فضْلُ الله يؤتيهِ مَن يشاءُ.
          تنبيه: للبخاريِّ ⌂ من الكلامِ المنثورِ والمنظومِ ما يفوقُ عِقْدَ الجواهرِ المعلوم.
          فمِن المنظومِ المشتملِ على مواعظ وحكم: ما أخرجَهُ الحاكمُ في ((تاريخه))، والتَّاج السُّبكي في ((طبقاته الكبرى)) من قوله ⌂ :
اغتَنِمْ فِي الفَرَاغِ فضْلَ رُكُوعٍ                     فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مَوْتُكَ بَغْتَهْ
كَمْ صَحِيحٍ رأَيْتَ مِنْ غَيرِ سُقْمٍ                     ذَهَبَتْ نَفْسُهُ الصَّحِيحَةُ فَلْتَهْ
          قال الحافظ ابن حجر في ((المقدمة)) بعد إيراد هذين البيتين له: وكان من العجائب أنه هو وقع له ذلك، أو قريب منه، كما ذُكر في وفاتهِ، انتهى.
          وقدَّمناهُ أوائل هذه الرِّسالة، فراجعه.
          ومن قوله _أيضاً_لما نُعِيَ إليه الحافظُ عبدُ الله بن عبد الرَّحمنِ الدَّارمي: /
إِنْ عِشْتَ تُفْجَعُ بِالأَحِبَّةِ كُلِّهِمْ                     وفَنَاءُ نَفْسِكَ لَا أبَا لَكَ أَفْجَعُ
          ومن قوله:
خَالِقِ النَّاسَ بخُلْقٍ وَاسِعٍ                     لا تَكُنْ كَلْباً عَلى النَّاسِ يَهِرّ
          ومن قوله:
مثْلُ البَهَائمِ لا تَرَى آجَالَهَا                     حتَّى تُسَاقَ إِلَى المَجَازِرِ تُنْحَرُ
          ولم أقفْ له من الشعر على غير ما ذكر.
          وقال التَّاج السُّبكي في ((الطبقات الكبرى)) بعد إيراد قوله: إن عشت... إلخ، قلت: هذا أحسن وأجمع من قول القائل:
ومَنْ يُعَمَّرْ يَلْقَ فِي نَفْسِهِ                     مَا يَتَمَنَّاهُ لِأَعْدَائهِ
          ومن قول الطَّغرائي:
هذَا جزَاءُ امْرِئ أقرَانُهُ دَرَجُوا                     مِنْ قَبْلِهِ فَتَمَنَّى فُسْحَةَ الأَجَلِ
          انتهى فتأمله.
          ومن المنثورِ الفصيحِ البليغِ المشتمل على فوائد لا يهتدِي إليها إلا الفصيح البليغ:
          ما قاله لأبي العبَّاس الوليد بن إبراهيم الهمَدَاني حين طلبَ منه معرفةَ الحديث، ورواية الأخبار وسماعها، من قوله: يا بُنيَّ! لا تدخلْ في أمرٍ إلا بعد معرفة حدودِهِ، والوقوف على مقاديرِهِ، فقال له أبو العبَّاس: عرِّفْني رحمَكَ الله حدودَ ما قصدْتُه، ومقاديرَ ما سألتُك عنه، فقال له: اعلمْ أن الرجلَ لا يصيرُ محدِّثاً إلا بعد أن يكتبَ أربعاً مع أربع، كأربع مثل أربع، في أربع عند أربع، بأربع على أربع، عن أربع لأربع، وكلُّ هذه الرُّباعيات لا تتم إلا بأربع مع أربعٍ، فإذا تمَّتْ له كلها، هانَ عليه أربع، وابتُلِي بأربع، فإذا صبرَ على ذلك، أكرمَه الله تعالى في الدنيا بأربع، وأثابَهُ في الآخرة بأربعٍ، فقلتُ له: فسِّرْ لي رحمك الله ما ذكرتَ من أحوالِ هذه الرُّباعيات عن قلبٍ صاف، بشرحٍ كاف، وبيانٍ / شاف، طلباً لأجرٍ وافٍ، فقال: نعم، أما الأربعة التي تحتاج إلى كتبها _أي: إلى آخر الأربعات_فهي أخبارُ الرسول صلعم وشرائعه، والصَّحابة ومقاديرهم، والتابعون وأحوالهم، وسائر العلماء وتواريخهم، مع أسماء رجالهم وكنَاهم وأمكنتهم وأزمنتهم، كالتَّحميد مع الخطب، والدَّعاء مع التوسل، والبسملة مع السور، والتَّكبير مع الصَّلوات، مثل المسندات والمرسلات والموقوفات والمقطوعات، في صغره وفي إدراكه وفي شبابه وفي كهولته، عند شغله وعند فراغه وعند فقره وعند غناه، بالجبال والبحار والبلدان والبراري، على الأحجار والأخزاف والجلود والأكتاف، إلى الوقت الذي يمكنه نقلها إلى الأوراق، عمَّن هو فوقه، وعمَّن هو مثله، وعمَّن هو دونه، وعن كتاب أبيهِ يتيقَّن أنه بخطِّ أبيه دون غيره، لوجهِ الله تعالى، طلباً لمرضاتهِ، وللعمل بما وافقَ كتاب الله منها، ولنشرها(30) بين طالبيها ومحبيها، وللتأليف في إحياء ذكره بعدَهُ.
          ثمَّ لا تتمُّ هذه الأشياء إلا بأربع التي هي من كسْبِ العبد؛ أعني: معرفةَ الكتابِ واللُّغة والصَّرف والنحو، مع أربعٍ هي من إعطاءِ الله؛ أعني: الصَّحة والقُدْرة والحرصَ والحفظَ، فإذا تمَّت له هذه الأشياء، هانَ عليه أربع: الأهلُ والمال والولدُ والوطن، وابتليَ بأربع: شماتةِ الأعداءِ، وملامَةِ الأصدقاء، وطعنِ الجهلاء، وحسَدِ العلماء / فإذا صبرَ على هذه المحَنِ، أكرمَهُ الله تعالى في الدُّنيا بأربعٍ: عزِّ القناعةِ، وهيبةِ النَّفس، ولذَّةِ العلمِ، وحياةِ الأبدِ، وأثابَهُ في الآخرةِ بأربَعٍ: بالشَّفاعة لمن أرادَ من إخوانهِ، وبظلِّ العرشِ حيث لا ظلَّ إلَّا ظله، وبسقي من أرادَ من حوضْ نبيِّه صلعم ، وبجوارِ النَّبيين في أعلى علِّيين في الجنة، فقد أعلمْتُك يا بنيَّ مجملاً بجميعِ ما سمعْتُ من مشايخِي متفرِّقاً في(31) الباب، فأقبِلِ الآن على ما قصدتَ إليه، أو دعْ.
          قال: فهالني قولُهُ، وسكَتُّ متفكِّراً، وأطرقْتُ نادماً، فلمَّا رأى ذلك مني، قال: فإن لا تطق احتمالَ المشاقِّ كلها، فعليك بالفقهِ الذي يمكنُك تعلُّمُه، وأنت في بيتِكَ قارٌّ ساكنٌ، لا تحتاج إلى بعدِ الأسفارِ، ووطئ الدِّيار، وركوبِ البحار، وهو مع ذا ثمرةُ الحديث، وليس ثوابُ الفقيهِ بدون ثوابِ المحدِّث في الآخرة، ولا عزُّه بأقل من عزِّ المحدِّث.
          فلمَّا سمعتُ ذلك منه، نقضَ عزمِي في طلبِ الحديث، وأقبلْتُ على دراسةِ الفقه وتعلُّمه إلى أن صرتُ فيه متقدماً، ووقفتُ منه على معرفةِ ما أمكنَنِي من تعلُّمه بتوفيقِ الله تعالى ومنَّتهِ.
          وفَّقنا الله تعالى للاشتغال بالحديث والفقه وغيرهما من العلومِ المطلوبة، ونفعنا بذلك في الدنيا والآخرة المرغوبة، وسيأتي من كلام الشافعي أنه قال:
كلُّ العُلُومِ سِوَى القُرْآنِ مَشْغَلةٌ                     إِلَّا الحَدَيثَ وإِلَّا الفِقْهَ فِي الدِّينِ
          فعليكَ بهذِين العِلْمَين؛ لتَمَيُّزِهما بلا مَيْن.


[1] ((المشايخ و)): ليست في (ص).
[2] في هامش (ع): ((خرج البخاري عن أحمد كما في آخر المغازي لكن بواسطة وليس له عنده في الصَّحيح إلا هذين الموضعين قاله في فتح الباري)).
[3] في (ع): ((العد)).
[4] في (ع): ((عنهم)).
[5] في (ع): ((بأشياخهم)) وفي هامش (ع): ((في نسخة بشيوخهم)).
[6] ((أن)): ليست في (ص).
[7] ((تساعي)): ليست في (ص).
[8] ((في طلب العلم)): ليس في (ع).
[9] ((في شرحه)): ليس في (ص).
[10] ((عن شعبة)): ليس في (ع).
[11] ((ولا بالمال وإن كثر وطال)): ليس في (ص).
[12] من قوله: ((وإني إذا ما فاخروني... إلى قوله: ☺)): ليس في (ص).
[13] من قوله: ((ولبعضهم... إلى قوله: أبي)): ليس في (ص).
[14] من قوله: ((وأقول... إلى قوله: فتأمل)): ليس في (ص).
[15] من قوله: ((وأقول هؤلاء الثلاثة... إلى قوله: البخاري)): ليس في (ص).
[16] ((في المشارق والمغارب فهو أمر مشهور)): ليس في (ص).
[17] ((به)): ليس في (ص).
[18] ((أن)): ليست في (ص).
[19] في (ع): ((الأحاديث)).
[20] في (ص): ((قال فيها)).
[21] ((بعد إيراده جملاً من مناقبه)): ليس في (ص).
[22] ((بعد إيراده جملاً من مناقبه)): ليس في (ص).
[23] ((ترجمته)): ليس في (ص).
[24] ((الحديث)): ليس في (ص).
[25] في هامش (ص): في نسخة: ((لا)).
[26] في (ع): ((وقال)).
[27] ((آنفا)): ليست في (ص).
[28] في (ع) زيادة: ((ابن)).
[29] في (ص): ((فقال له)).
[30] في (ع): ((وبنشرها)).
[31] في (ص): ((في هذا)).