غاية المرام في رجال البخاري إلى سيد الأنام

أحنف بن قيس التميمي

          62 # أَحْنف بن قَيْس بن مُعاوية بن حُصين التَّميميُّ أبو بَحْر، والأَحْنف لقبٌ له، اسمه: الضَّحَّاك، وقيل: صَخْر.
          وأدرك(1) النَّبيَّ صلعم ولم يَرَه، ودعا له النَّبيُّ صلعم ؛ قال الأَحْنف: بينا أنا أطوف بالبيت في زمن(2) عثمان؛ إذ أخذ رجل من بني لَيْث بيدي، فقال: أَلَا أُبشِّرك؟ قلت: بلى، قال: أتذكُرُ إذْ بعثني رسول الله صلعم إلى قومك، فجعلتُ أَعْرِض عليهم الإسلامَ، وأدعوهم إليه، فقلتَ أنت: إنَّك لَتَدْعُو إلى خير، وتأمر به. فبَلَغ ذلك النَّبيَّ صلعم فقال: «اللَّهمَّ اغفرْ للأحنفِ». فكان الأحنفُ يقول: فما شيء مِن عملي أَرْجَى عندي من ذلك الدُّعاء(3)
          وكان أحدَ الحكماء الدُّهَاة العقلاء الحلماء، وهو ممَّن يُضْرَب المثل به في الحِلْم.
          حُكي(4) أنَّه لقيه رجل سفيه خارج البلد، فتسفَّه على الأحنف، وسبَّه وبالغ، وتبعه، فلم يكُ يردُّ عليه، حتَّى انتهى إلى العمارة، فالتفت إليه الأحنف، وقال: يا ابن أخي، انتهى كلامُكَ أو بقي؟ حتَّى أقِفَ لينهيَ(5) قال: لِمَ؟ قال: لأنِّي كنتُ وحيداً، وأعفو وأحلم، وإذا دخلتُ البلد لم يسكت لك النَّاس فتتأذَّى. فخجل الرَّجل، ودعا له.
          وكان يقول: النَّاس ثلاث: أعلى مِنِّي، وأسفل مِنِّي، وفي رُتبتي؛ فأمَّا الأعلى، فأعرف له منزلتَه، فلا أردُّ عليه قبيحاً، وأمَّا الأسفل، فأصون رتبتي منه، ولا أتنزَّل فأردُّ عليه قبيحاً، وأمَّا المُسَاوي، فأتفضَّل عليه بذلك، ولا أُسمِعه قبيحاً.
          قال الغَزاليُّ: امتُثِل بين يدي الأحنف بابن أخٍ له مربوط اليدين، فقال: ما لكم وله؟ قالوا: إنَّه قتل ابنَك السَّاعةَ. قال: بئسما فعلتَ، قطَعت يَدك، وكسَرتَ ظهرَك، وقلَّلت عشيرتَك، وأطعتَ شيطانَك، وعصيتَ ربَّك، خلُّوا عنه؛ فإنِّي عفوتُ عنه، وخُذْ هذا المالَ، وأتِ إلى أمِّ القتيل، وادفعه إليها عمَّا تستحق من الدِّيَة. فرحمه الله تعالى.
          وقال حجَّة الإسلام(6) نزَل بالأحنف ضيف، فاستعجل الجارية في إصلاح الطَّعام، فأَتَت بالطَّعام سَخِيناً، فتعثَّرت وصبَّت الطَّعام على رأسه، فاحترق عنقُه، فغضب، فقالت: { وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ } يا سيِّدي. قال: كظمتُ نفسي. قالت: { وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ }. قال: أعتقتُكِ لوجه الله. قالت: { وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } [آل عمران:134] . قال: لك ألف درهم.
          قال ابن الأثير(7) وَفَد على عمر بن الخطَّاب في وفد البصرة، فرأى منه عقلاً، وديناً، / وحسن سَمْت، فتركه عنده سنة، ثمَّ أحضره، وقال: أَيْ أَحْنَفُ! أتدري لم حَبَسْتُك عندي(8) قال: لا يا أمير المؤمنين! قال: إنَّ رسولَ الله صلعم حذَّرنا كلَّ منافقٍ عليمٍ، فرأيتُك عَليماً(9) وخشيتُ أنْ تكون منهم. ثمَّ كَتَب كتاباً إلى أمير البصرة، يقول له: الأحنف سيِّد أهل البصرة. فما زال يعلو من يومئذ.
          وهو الذي افتتح مَرْوَ الرُّوذ(10) وكان الإمامان الحسنُ البصريُّ وابن سِيْرين في جيشه، واعتزل الحربَ بين عليٍّ وعائشةَ يومَ الجمل، وحضر صِفِّين مع عليٍّ، ولمَّا استقر الأمرُ لمعاوية دخل [الأحنف] عليه يوماً، فقال له: يا أحنف! ما أذكُرُ يومَ صِفِّين إلَّا كانت حَزَازة في قلبي(11) إلى يوم القيامة. فقال له الأحنف: والله إنَّ القلوب التي أبغضناكَ بها لفي صدورها(12) وإنَّ السُّيوف التي قاتلناكَ بها لفي أغمادها، وإنَّ تَدْنُ من الحرب فِتْراً نَدْنُ منها شِبْراً، وإنْ تَمشِ إليها نُهرولْ. ثم قام وخرج، وكانت أختُ معاوية من وراء السِّتر تسمع كلامه، فقالت: يا أمير المؤمنين! مَنْ هذا الذي يتهدَّد ويتوعَّد؟ فقال: هذا الذي إذا غضب، غضب لغضبه مئة ألف من بني تميم، لا يَدرُون فِيمَ غضب.
          حكى ابنُ خَلِّكان(13) أنَّ معاوية لما نصَّب ولدَه يزيدَ لولاية (العهد)، أقعده في قُبَّة حمراء، فجعل النَّاس يسلِّمون على معاوية، ثمَّ يميلون على يزيد، فجاء رجل، فقال: يا أمير المؤمنين، اعلم أنَّك لو لم تُوَلِّ هذا أمورَ المسلمين لأضعتَها. والأحنف ساكت، فقال: ما بالُكَ لا تتكلَّم أبا بحر؟ قال: أخشى الله إنْ كذبتُ، وأخشاكم إنْ صدقتُ. قال معاوية: جزاكَ الله عن الطَّاعة خيراً. وأمر له بأُلُوفٍ، فلمَّا خرج لقيه ذاك(14) الرَّجل، فقال: يا أبا بحر! إنِّي لأعلم أنَّ شرَّ خلق الله هذا وابنه، ولكنَّهم قد استوثقوا هذا المال بالأبواب والغَلَق والأقفال، وليس يُطمَع في استخراجها إلَّا بما سمعتَ. فقال له الأحنف: أمسِكْ عليكَ، فإنَّ ذا الوَجهين خَلِيق أن لا يكون عند الله وجيهاً.
          قال معاوية بن هشام لخالد(15) بن صَفْوان: بمَ بلغ فيكم الأحنف ما بلغ؟ قال: إنْ شئتَ (حدَّثتكَ ألفاً، وإنْ شئتَ) حَذَفتُ لكَ الحديثَ حذفاً. قال: احذُفْه لي حذفاً. قال: إنْ شئتَ فثلاثاً، وإن شئتَ فاثنتين، وإن شئتَ فواحدةً(16) قال: ما الثَّلاث؟ قال: كان لا يَشْرَهْ، ولا يَحْسد، ولا يَمْنع حقًّا. قال: ما الاثنتان؟ قال: كان موفَّقاً للخير، معصوماً من الشَّر. قال: فما الواحدة؟ قال: كان أشدَّ النَّاس على / نفسه سلطاناً.
          قال الأحنف: فيَّ ثلاثُ خصال، ما أقولهنَّ إلَّا ليعتبر مُعْتَبِرٌ: ما دخلتُ بين اثنين قطٌّ حتَّى يُدخِلاني بينهما، ولا أتيتُ بابَ أحدٍ مِن هؤلاء _يعني الملوك_ ما لم أُدْعَ، وما حَلَلْتُ حَبْوتي(17) إلى ما تقوم النَّاس إليه.
          وقال عبد الملك بن عُمير: وفَد علينا الأحنفُ مع مُصْعَب بن الزُّبير الكوفةَ، فما رأيتُ منظراً يُذَمُّ إلَّا رأيُته فيه، كان ضئيلاً(18) صَعْل الرَّأس، متراكبَ الأسنان، باخق العَينين، إذا تكلَّم جلَّا عن نفسه(19)
          وقال الشَّعْبيُّ: أَوفَد أبو موسى (الأَشْعريُّ) وفْدَ البصرة إلى عمر بن الخطَّاب، وفيهم الأحنف، فلمَّا قدموا تكلَّم كلُّ رجل في حاجةِ نفسِه، وكان الأحنف في آخر القوم، فحمِد الله تعالى، وصلَّى على رسوله(20) ثمَّ قال: أمَّا بعدُ، يا أمير المؤمنين! فإنَّ أهلُ مصرَ نزلوا مَنازلَ فرعونَ وأصحابِه، وأهلُ الشَّام نزلوا منازلَ قَيصرَ، وأهلُ الكوفة نزلوا منازلَ كِسْرى ومصانعِه، في الأنهار العذبة والجنَّات المُخْصِبَة(21) يأتيهم(22) ثمارُهم قبل أنْ تتغيَّر، وأهلُ البصرة نزلوا في أرضٍ سَبْخة نشَّاشة، طَرَفُها(23) في مِلْحٍ أُجاجٍ، والطَّرَف الآخر في الفَلَاة، لا يأتي الجَلَبُ إلَّا في مثل حُلْقوم النَّعام، فارفع خَسِيْستَنا، وأنعِش وَكِيْسَتنا(24) واعدل لنا قَفِيزَنا ودرهمنا، ومُرْ لنا بنهرٍ نستعذب(25) منه الماءَ. فقال عمر: أعجَزتُم أنْ تكونوا مثلَ هذا السيِّد؛ هذا والله السيِّد. فما زلتُ أسمعها منه، ثمَّ حبسه عنده سنة، ثمَّ قال: يا أحنف! إنِّي قد بلوتُكَ، فأعجبتني، وإنَّما حبستك لأعلم عِلْمك؛ فإنِّي سِمعتُ رسولَ الله صلعم يقول: «احذَروا المنافقَ العَالِم»، وأَشفقتُ عليكَ منه، فوجدتُك بريئاً ممَّا تخوَّفتُ عليك. فسرَّحه، وأحسن جائزته، ولم يزل بشَرَفِ(26) جائزته حتَّى مات.
          وساد بعقله وحِلْمه، حتَّى كان يتجرَّد لأمره مئة ألف سيف، وكانت أمراء الأمصار يلتجئون إليه في المهمَّات، وكان إذا أراد حرباً قال النَّاس: قد غضبتْ زَبْراء. فصار مثلاً(27) وزَبْراء جاريتُه، كان مطيعاً لها، فكانوا(28) يَكْنُون عن غضبه في الحرب بغضبها، وكان يقول لمَّا يُسأَل عن طاعته لجاريته زَبْراء: كيف لا أُطيع مَن لي إليه كلَّ يومٍ حاجةٌ؟!
          وكان يقول: (كنَّا) نختلف إلى قيس بن عاصم نتعلَّم منه الحِلْمَ كما نختلف إلى العالم نتعلَّم منه العِلم.
          حَكَى(29) خالدُ بن صَفْوان، قال: قدم الرُّصَافةَ العبَّاسُ بن الوليد، فغشيه النَّاس، فدخلتُ عليه، فقال: حدِّثني عن تسويدِكم الأحنفَ وانقيادِكم له. /
          فقلتُ(30) إن شئتَ حدَّثتك عنه بواحدةٍ تُسَوِّدُ، وإن شئتَ باثنتين، وإن شئتَ بثلاثٍ، وإن شئتَ حدَّثتك إلى عشيَّتِك ولم تشعُر بصومك. وكان صائماً يوم خميس، فقال: الأُولى. فقلتُ: كان أعظمَ مَن رَأَيْنا _أو سَمِعْنا_ سلطاناً على نفسه، فيما أرادَ حمْلَها عليه أو دفْعَها عنه(31) ثمَّ أدركني ذِهني، فقلت: غيرَ الخلفاء. فقال: لقد ذَكرتَه بجُلَّى كافية(32) فما الثَّانية؟ قلت: يكون الرَّجل عظيمَ السُّلطان على نفسه، ولا يكون بصيراً بالمحاسن والمساوىء، ولم نسمَع(33) بأحدٍ أبصر منه بالمحاسن والمساوىء، فلا يحمل السَّلطنة إلَّا على حَسَن، ولا يكفُّها إلَّا عن قبيح. فقال: قد جئتَ بصِلة الأُولى، لا يصلح إلَّا بها، فما الثَّالثة؟ قلت: يكون الرَّجل عظيم السُّلطان على نفسه، بصيراً بالمحاسن والمساوىء، ولا يكون حظيظاً؛ فلا يُنشر له ذِكْر، وكان الأحنف عند النَّاس مشهوراً. قال: وأَبيكَ(34) لقد وَصَلْتَ الاثنتين، [فلا تقطع](35) عنِّي اليوم؟ قلتُ: أيَّامه السَّالفة، مثلَ فتح خراسان، اجتَمَعتْ عليه الأعاجم بمرو الرُّوذ(36) فجاءه (ما لا قِبَلَ له به)، وهو في مَضْيَعَة، قد بلغ به الأمر، فصلَّى العشاء، ودعا وتضرَّع إلى الله تعالى أن يوفِّقه، ثمَّ خرج يمشي في العسكر مثل المكروب، متنكِّراً؛ يسمع(37) ما يقول النَّاس، فمرَّ بعبد يَعجِن، وهو يقول لصاحب له: العَجَب لأميرنا؛ يُقيم بالمسلمين بمَضْيَعة، وقد أطاف بهم العدوُّ، وأخذهم عرضاً، وله متحوَّل! فجعل الأحنف يقول: اللَّهمَّ وفِّق، اللَّهمَّ سدِّد. فقال العبدُ للعبد: فما الحِيلة؟ قال: أن يناديَ السَّاعة بالرَّحيل، وإنَّما بينه وبين الغَيْضَة فرسخ، فيجعلَها خلف ظهره، فيمنعه الله تعالى (بها)، ويلقى عدوَّه في جانب واحد. فسجد الأحنفُ [لله] ، ثمَّ نادى بالرَّحيل من مكانه، حتَّى أتى الغَيْضَة، فنزل في قِبْلِيِّها، فأتاه العدوُّ، فلم يجد سبيلاً إلَّا من وجه واحد، وهوَّلوا بطبول أربعة، وركب الأحنف، وأخذ اللِّواء، وحمل بنفسه على طَبْل فشقَّه، وقتل صاحبَه، وهو يقول _من البحر الرَّجز_:(38)
إنَّ على كلِّ رئيسٍ حقَّا                     أنْ يخضِبَ الصَّعْدَةَ أو تَنْشَقَّا
          وشقَّ بقيَّة الطُّبول، فلمَّا فَقَدَ الأعاجم أصوات طبولهم انهزموا، وركب المسلمون أكتافَهم، وكان الفتحُ. (ثمَّ عدَّد حالَه بقيَّةَ أيَّامِه، إلى) انقضاء(39) النَّهار.
          وللأحنف حكايات حسنة، وألفاظ محكَمة، ومؤاخذات معدودة عليه.
          فمن حكاياته: ما حدَّث بعضُ / غلمانه، قال: كان الأحنفُ يُكثر الصَّلاة باللَّيل، وكان يجيء إلى المصباح، فيضع أصبعه فيه، ثمَّ يقول(40) حسِّ، ويقول: ما حملكَ على أن صنعتَ كذا يوم كذا. [يعدِّد ذنوبه]
          وشكى إليه رجلٌ وجعَ ضِرْسه، قال: لقد ذهب نور عيني منذ ثلاثين(41) سنة، ما علم بذلك أحد.
          وقال له عمر: أيُّ الطَّعام أحبُّ إليك؟ فقال: الزُّبْد والكَمْأَة. (فقال عمر: ما هما بأحبِّ الطَّعام إليه، ولكنَّه يحبُّ الخِصْبَ للمسلمين. يعني أنَّ الزُّبد والكمأة) لا يكونان إلَّا في الخِصْب.
          وقال له رجل: بم سُدْتَ قومك، ولست بأشرفهم؟ قال: بتركي من أمرك ما لا يَعنيني، كما لا تترُكُ من أمري ما لا يَعنيك.
          وقيل له: بم سُدْتَ؟ قال: لو أنَّ النَّاس كرهوا الماء ما شربته.
          ومما عِيْبَ على الأحنف قصَّةُ الزُّبير بن العوَّام، وذلك أنَّ الزُّبير نزل للقتال يوم الجمل، ثمَّ رجع [من الحرب] ، فمرَّ يبني(42) تميم ذاهباً إلى دياره، ولم يحضر الأحنف، فأتى رجلٌ الأحنفَ [فقال: هذا الزُّبير](43) قدم آنفاً. فقال: ما أصنَعُ به؟ جَمَع بينَ غازيين يقتل بعضهم بعضاً، ويُريد أن ينجوَ إلى أهله؟! فتبعه ابن جُرْموز(44) فقتل الزبير غدراً(45) فقال النَّاس: إنَّما قتله الأحنفُ بكلامه. كما سيأتي في ترجمته إن شاء الله تعالى.
          [حكي أنَّ] حين أتى الأحنفَ كتابُ الحسن بن عليٍّ يستنصره، فقال: بلونا حَسَناً وآل حسن، فلم نجد عندهم إِيَالَة(46) الملك، (ولا صيانة المال)، ولا مكيدة الحرب. ولم يُجِبْه.
          وقوله للحُتَاتِ بن يزيد: اسْكُتْ يا آدَرُ. وكان الحُتَاتُ آدر(47)
          وطاعته لجاريته زَبْراء، وقوله: كيف لا أُطيع مَن لي إليه كلَّ يوم حاجة؟!
          وأتاه رجلٌ فلطَمه، فقال: لِمَ لطمتني؟ قال: [جُعل] لي جُعْلٌ على أن أَلطُمُ سيِّد بني تميم. فقال(48) لستُ سيِّدهم، إنَّما سيِّدهم جَارِيِةُ بنُ قُدَامة(49) فمضى الرَّجل إليه فَلَطمه، فقطع يده، فقال النَّاس: إنَّما قطَع يدَه الأحنف.
          وأرسل إليه عمرو بن الأهتم رجلاً يكايده، فقال: ما كان مالُ أبيك؟ ففطن له الأحنف، فقال(50) (صَرِيمة يَقْرِي منها ضيفَه، ويكفي عياله، ولم يكن أَهتَمَ سَلَّاحاً).
          فهذا المذكور ممَّا عِيْبَ [به] عليه، وعُدَّ من سقطاته.
          وكان يقول: لا خير في لذَّة تعقب ندماً. لن يَفتفر مَنْ زَهِد. اقْبَلوا عُذْرَ مَن اعتذر. ما أقبحَ القطيعةَ بعد الصِّلة. أَنْصِفْ من نفسك قبل أن يُنْتَصف منك. لا تكوننَّ على الإساءة أقوى منك على الإحسان. اعلم أنَّ لك من دنياك ما صَحِبَك إلى مَثْواك. فأنفق(51) في حقٍّ ولا تكونن خازناً لغيرك. لا راحة لحسود. ولا(52) مروءة لكذوب. عجبت لمن يتكبَّر، وقد خرج من مسلك البول مرَّتين.
          وقال يوماً: ما رُددت عن حاجة قطٍّ. /
          فقيل له: ولم؟ قال: لأنِّي ما طلبتُ مُحَالاً.
          قال له رجل: دُلَّني على المروءة. فقال: عليك بالخُلُق الفَسِيح، والكَفِّ عن القبيح. ثمَّ قال: ألا أدلُّك على أَدْوى الدَّاء(53) قال: بلى. قال: اكتساب الذَّمِّ بلا منفعة.
          وقال يوماً: كانت المودَّة مَحْضَاً، فليتها اليوم مَذْقاً.
          وكان يجلس إليه رجل كثير الصَّمت، فأعجب به الأحنف، ثمَّ تكلَّم يوماً، فقال: يا أبا بحر! تَقْدِرُ تمشي على شَرَفِ المسجد؟ فقال: يا أخي! إنِّي قد كَبِرْتُ، ولا أقدر على ذلك. ثمَّ أنشد _من البحر الطَّويل_:
لسان الفتى نِصفٌ ونِصفٌ فؤادُه                     فلم يبقَ إلَّا صورةُ اللَّحمِ والدَّمِ
          (فروى البيتَ قومٌ له، وقومٌ لغيره)(54)
          ولمَّا وُضعِ في قبره قامت امرأته، فقالت: لله درُّك مِنْ مُدْرَجٍ في كَفَن، نسأل الله الذي ابتلانا بفَقْدك أن يوسع لَحْدَك، ويكون لك يوم حَشْرك، أمَا والذي نفسي بيده لقد عِشْتَ حميداً مودوداً، ومتَّ شهيداً مفقوداً، ولقد كنت من النَّاس قريباً، وفي النَّاس غريباً، رحمنا الله تعالى وإيَّاك. (قاله ابنُ نُبَاتةَ في «سَرْح العُيون»)(55)
          قال ابنُ خَلِّكان(56) كان زيادُ ابن أبيه في مدَّة ولايته العراقَين للأحنف بن قيس، فلمَّا تولَّى ولدُه عبيدُ الله (بعدَه) تغيَّرت منزلةُ الأحنف عنده، فقدَّم عليه مَن لا يساويه ولا يقارنه، ثمَّ إنَّ عُبيد الله جمع أعيان العراق، وفيهم(57) الأحنف، وتوجَّه بهم إلى الشَّام للسَّلام على معاوية، [فلمَّا وصلوا دخل عبيد الله على معاوية] وأعلمه بوصول رؤساء العراق، فقال له: أدخلهم عليَّ الأوَّل فالأوَّل، على قدر مراتبهم عندك. فخرج إليهم، وأدخلهم على التَّرتيب، كما قال [له] معاوية، و [كان] آخِر مَن دخل الأحنف [بن قيس] ، فلمَّا رآه(58) معاوية، وكان يعرف منزلته(59) ويبالغ في إكرامه لسيادته قال: إليَّ(60) أبا بحر. فتقدَّم إليه، فأجلسه معه على مرتبته، وأدناه، وأقبل عليه يسأل(61) عن حاله، وأعرض عن الباقين، ثمَّ إنَّهم أخذوا في الشُّكر من عُبيد الله والثَّناء عليه، والأحنف ساكت، فقال له معاوية: لِمَ لا تتكلَّم يا أبا بحر؟ فقال: إنْ تكلَّمتُ خالفتُهم. فقال معاوية: اشهدوا أنَّي عزلت عُبيد الله، قوموا وانظروا في أميرٍ أُوَلِّيه، وارجعوا إليَّ (بعد) ثلاثة أيام. فلمَّا خرجوا من عنده كان فيهم جماعة يطلبون الإمارة لأنفسهم(62) وفيهم من عَيَّنَ غيره، وسَعَوا في السِّرِّ مع خواصِّ معاوية أن يفعل لهم ذلك، ثمَّ اجتمعوا بعد الثَّلاثة، والأحنف معهم، ودخلوا فأجلسهم / على التَّرتيب الأوَّل، وحادَثَ الأحنف ساعة، ثمَّ قال: ما فعلتم فيما انفصلتم عليه؟ فجعل كلُّ واحد يذكر شخصاً، وأفضى إلى منازعة وجدال، والأحنف ساكت، ولم يكن في الأيام الثَّلاث تكلَّم مع أحد في شيء، فقال معاوية: لم لا تتكلَّم أبا بحر؟ فقال الأحنف: إن ولَّيت أحداً من أهلِك لم نجد من(63) يعدل عُبيد الله، ولا يسدُّ مَسَدَّه، وإن ولَّيت من غيرهم، فذلك إلى أمير المؤمنين. ولم يك أحد ممَّن أثنى على عبيد الله في المجلس الأوَّل ذَكَر عبيد الله في هذا المجلس، فقال معاوية لمَّا سمع كلام الأحنف: اشهدوا أنَّي قد ولَّيت عليكم عُبيد الله. فكلٌّ(64) منهم ندم على عدم تعيينه، وعلم معاوية أن شُكرَهم لعُبيد الله لم يكن لرغبتهم، بل كما جرت [به] العادة في حقِّ المتولِّي، فلمَّا فَصَل الجماعةُ عن مجلس معاوية خلا بعبيد الله، وقال: كيف ضيَّعت مثل هذا الرَّجل؟! فإنَّه عَزَلك، وأعادك إلى الولاية، وهو ساكت، فمثْل الأحنف مَن يتَّخذه النَّاس عوناً وذخراً. فلمَّا عادوا إلى العراق أقبل عليه عُبيد الله، وجعله بِطَانته.
          قال في «أسد الغابة» في ترجمة صخر(65) أنَّ الأحنف كان حليماً كريماً، ذا دين، وعقل كثير، وذكاء، وفصاحة، وحياء عريض، ولمَّا قدمت عائشةُ البصرةَ أرسلت إليه تدعوه ليقاتل معها، فحضر، فقالت له: بم تعتذر إلى الله تعالى من جهاد قتلة عثمان؟ قال: يا أمَّ المؤمنين! تقولين فيه، وتنالين منه؟! قالت: ويحك! إنَّهم ماصُوه مَوْصَ الإناء ثمَّ قتلوه. قال: يا أمَّ المؤمنين! أنَّي آخذ بقولك وأنت راضية، وأدعه وأنت ساخطة.
          قال ابن الأثير في غريب الحديث(66) المَوْصُ الغَسل بالأصابع. أرادت أنَّهم استتابوا عثمانَ عمَّا نَقِمُوا منه، فلمَّا أعطاهم ما طلبوا قتلوه. انتهى.
          ولما وصل عليٌّ إلى البصرة دعاه إلى القتال معه. قال: إن شئتَ حضرتُ بنفسي وحدي، وإن شئتَ قعدتُ وكففتُ عنك عشرة آلاف [سيف] . فقال: بل اقعد. فلم يشهد الجمل هو ولا أحد أطاعه.
          وعاش إلى زمن مُصعب بن الزُّبير لمَّا تولَّى العراقَ لأخيه عبد الله بن الزُّبير، فسار معه إلى الكوفة من البصرة، فتوفِّي بها، ومشى مُصعب ماشياً بين رِجلَي نعشه بغير رداء، وهو أوَّل أمير(67) صنع ذلك في جنازةِ كبيرٍ(68) وقال: هذا سيِّد أهل العراق.
          قال ابن خَلِّكان(69) وكان قد كبر جدًّا، ودفن بظاهر الكوفة.
          قال عبد الرَّحمن بن عمارة(70) حضرتُ جنازة الأحنف، / وكنتُ ممَّن دخل قبرَه، فرأيتُ لمَّا سوَّيْتُه قد فُسح القبرُ له مدى بصري.
          وهو أحد الطُّلْس الذي(71) لا شعر على وجهه، كعبد الله بن الزُّبير، وقيس بن سعد بن عُبَادة، والقاضي شُريح.
          ووُلِدَ [له ولد] ملتزق الأَليتَين فشقَّ (باثنين).
          وخلَّف ولده بحراً، وبه يُكنى، [ثمَّ توفي] ، وانقرضت(72) ذرِّيَّتُه من الذُّكور(73)
          وذهبت عينه في فتح سَمَرْقَنْد، وقيل: بل ذهبت بالجُدَرِيِّ.
          كان صغير الرَّأس، متراكب الأسنان، مائل الذَّقِن، ناتئ الوجه، منخسف العينين، نحيف الجسم قصيراً، له بيضة واحدة، كابن الحدَّاد الفقيه، وإنَّما لقِّب بأحنف؛ لأن الحَنَف(74) في الرِّجْلَين أن تُقْبِلَ كلُّ واحدة منها على صاحبتها(75) بإبهامها، وهو كان كذلك، واشتهر به.
          سمع: أبا ذرٍّ الغِفَاريَّ، وأبا بَكْرَةَ.
          هو تابعيٌّ كبير.
          وروى عنه: الحسنُ البصريُّ، كما روى عنه البخاريُّ [بالواسطة] ، في باب { وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا } [الحجرات:9] ، من كتاب الإيمان [خ¦31] .
          وروى البخاريُّ عنه أيضاً بالواسطة، عن أبي العَلَاء يزيد بن الشِّخِّير(76) في الزَّكاة [خ¦1407] .
          مات سنة سبع وستين، بالكوفة، ☺.


[1] في غير (ن): (أدرك).
[2] في غير (ن): (زمان).
[3] الإصابة في معرفة الصحابة:1/64 وأسد الغابة:1/34 والحديث في مسند أحمد برقم (22079).
[4] جاء في هامش (ه): (مطلب في حلم الأحنف).
[5] في غير (ن): (لتنتهي).
[6] إحياء علوم الدين:2/220، ولكن القصة محكية فيه عن ميمون بن مهران، وقبله ذكرٌ للأحنف بن قيس، فلعلَّه سبقُ نظرٍ للمؤلف أداه لهذا الوهم.
[7] في أسد الغابة:1/34.
[8] جاء في هامش (س): أي عوَّقه عن السفر إلى البصرة لا أنه أدخله السجن.
[9] في (ن) تصحيفاً: (حليماً).
[10] في (ن): (مرو والروذ).
[11] في غير (ن): (في قلبي حزازة).
[12] في غير (ن): (في صدورنا).
[13] في وفيات الأعيان:2/500، مع الخبر الذي قبله.
[14] في غير (ن): (ذلك).
[15] في (ن) تصحيفاً: (خالد).
[16] في (ن): (واحدة).
[17] في (ن) تصحيفاً: (حياتي).
[18] في (ن): (خشناً) والمثبت موافق للمصادر.
[19] الصَّعل: صغر الرأس، والبَخَق: انخساف العين. والخبر في سير أعلام النبلاء:4/94. وفي (ن): (باحق) بالمهلمة.
[20] في غير (ن): (نبيِّه).
[21] في (ه): (المُنصبة) والمثبت موافق لما في سرح العيون لابن نُباتة: ص105.
[22] في غير (ن): (تأتيهم) وكذلك قوله في (الفلاة) تصحف فيها إلى (الغلاء). وقوله (الجلب) تصحف إلى (نطلب)
[23] في (ن) تصحيفاً: (طرقها).
[24] في غير (ن): (فارفع خسيسنا وأنعش وكيسنا).
[25] في (ن): (يستعذب).
[26] في (ن): (يشرف).
[27] المثل مشهورٌ بلفظ: (هاجَتْ زَبراء)، انظر مجمع الأمثال:2/ 384.
[28] في غير (ن): (وكانوا).
[29] في غير (ن): (وحكى).
[30] في (ن): (فقال) وكذلك التي تليها والمثبت مناسب للسياق.
[31] في (ن): (منه).
[32] في غير (ن) و(س): (بحلىً). وجاء في هامش (س): أي صفة عظيمة.
[33] في غير (ن): (يُسمع).
[34] في (ن) تصحيفاً: (وابتلي) مع إهمال النقط.
[35] في غير (ن): (فما بقيَّة ما يقطَع).
[36] في (ن): (بمرو والروذ).
[37] في غير (ن): (ليسمع).
[38] ذكر هذا الرجز والقصة قبله ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق:24/319. ولكن فيه (أو تندقا) بدل (أو تنشقا)، ونسبه الفاكهي إلى حصين بن زيد بن صباح الضبي في أخبار مكة:5/138.
[39] في غير (ن): (أن انقضى).
[40] سقطت (يقول) من (ه) و(س)، وحسِّ: كلمة توجُّع.
[41] في الأصول كلها: (ثلاثون) والمثبت الوجه.
[42] في غير (ن): (على بني).
[43] ما بين حاصرتين اضطرب (ه) و(س).
[44] في (ن) تصحيفاً: (جرمون).
[45] في غير (ن): (فقتله غدراً).
[46] في غير (ن): (إنالةً). وقال في اللسان: «وآلَ مالَه يَؤُولُه إِيَالَة إِذا أَصلحه وَسَاسَه» مادة «أول»
[47] الأُدرة: نفخة في الخصية من غير فتق، وفي جميع النسخ (الحباب بن المنذر) وهو تصحيف.
[48] في (ن): (فقلت) والمثبت مناسب للسياق والعبارة في غير (ن): (لست بسيِّدهم وإنَّما).
[49] في (ه) و(س): (حارثة) والمثبت من (ن) وكذلك هو في سرح العيون لابن نُباتة: ص110، و تهذيب الكمال:4/483 وترجمته مع القصَّة فيه.
[50] في غير (ن): (قال).
[51] في غير (ن): (أنفق).
[52] في غير (ن): (لا).
[53] في (ن) تحريفاً: (أخس الدواء).
[54] البيت منسوبٌ لزُهير بن أبي سُلمى في معلَّقته الشَّهيرة، كما في جمهرة أشعار العرب: ص95، والعقد الفريد:2/ 96، وشرح المعلَّقات للزَّوزنيِّ: ص84، وهو منسوبٌ للأعور الشَّنِّيِّ في البيان والتبيين للجاحظ:1/ 170-171، والحماسة البصريَّة: ص2/ 82.
[55] ص112.
[56] وفيات الأعيان:2/503.
[57] في غير (ن) و(ف): (ومنهم)
[58] في (ن): (رآى) والمثبت أليق بالسياق.
[59] في غير (ن) هنا زيادة: (من أبيه) ولا أظنها إلا خطأ.
[60] في (ن) زيادة: (يا) والسياق يأباها.
[61] في غير (ن): (يسأله).
[62] في (ن) تصحيفاً: (لنفسهم).
[63] في غير (ن) بدل (من): (أحداً).
[64] في غير (ن): (وكلٌّ).
[65] 3/15.
[66] النهاية:4/121، وفيه: مُصْتُموه كما يُماص الثَّوب.
[67] في (ن) تصحيفاً: (أجر).
[68] في (ن) تصحيفاً: (كبيرة).
[69] وفيات الأعيان:2/504.
[70] في غير (ن) تصحيفاً: (عمار).
[71] في (ن): (الذين) والمثبت مناسب للسياق.
[72] في (ن): (وانقرض) والمثبت أولى، وكذلك قوله (وذهب عينه)
[73] في (ن) تصحيفاً: (المذكور).
[74] في غير (ن): (للحنف).
[75] في (ن) تصحيفاً: (صاحبها).
[76] انقلب اسمه على المصنف في الأصول جميعها (أبي يزيد العلاء بن الشخير) والمثبت من الصحيح.