-
المقدمة
-
باب: كيف كان بدء الوحي إلى رسول الله
-
كتاب الإيمان
-
كتاب العلم
-
كتاب الوضوء
-
كتاب الغسل
-
كتاب الحيض
-
كتاب التيمم
-
كتاب الصلاة
-
كتاب مواقيت الصلاة
-
كتاب الأذان
-
كتاب الجمعة
-
أبواب صلاة الخوف
-
كتاب العيدين
-
كتاب الوتر
-
كتاب الاستسقاء
-
كتاب الكسوف
-
أبواب سجود القرآن
-
أبواب تقصير الصلاة
-
أبواب التهجد
-
كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة
-
أبواب العمل في الصلاة
-
أبواب السهو
-
كتاب الجنائز
-
كتاب الزكاة
-
أبواب صدقة الفطر
-
كتاب الحج
-
أبواب العمرة
-
أبواب المحصر
-
كتاب جزاء الصيد
-
أبواب فضائل المدينة
-
كتاب الصوم
-
كتاب صلاة التراويح
-
باب فضل ليلة القدر
-
أبواب الاعتكاف
-
كتاب البيوع
-
كتاب السلم
-
كتاب الإجارة
-
كتاب الحوالة
-
كتاب الكفالة
-
كتاب الوكالة
-
كتاب المزارعة
-
كتاب المساقاة
-
كتاب الديون و الحجر و التفليس
-
كتاب الخصومات
-
كتاب في اللقطة
-
كتاب المظالم
-
كتاب الشركة
-
كتاب الرهن
-
كتاب العتق و فضله
-
كتاب المكاتب
-
كتاب الهبة وفضلها والتحريض فيها
-
كتاب الشهادات
-
كتاب الصلح
-
كتاب الشروط
-
كتاب الوصايا
-
كتاب الجهاد والسير
-
كتاب فرض الخمس
-
كتاب الجزية والموادعة
-
كتاب بدء الخلق
-
كتاب أحاديث الأنبياء
-
كتاب المناقب
-
كتاب فضائل الصحابة
-
كتاب مناقب الأنصار
-
كتاب المغازي
-
كتاب التفسير
-
كتاب فضائل القرآن
-
كتاب النكاح
-
كتاب الطلاق
-
كتاب النفقات
-
كتاب الأطعمة
-
كتاب العقيقة
-
كتاب الذبائح والصيد
-
كتاب الأضاحي
-
كتاب الأشربة
-
كتاب المرضى
-
كتاب الطب
-
كتاب اللباس
-
كتاب الأدب
-
كتاب الاستئذان
-
كتاب الدعوات
-
كتاب الرقاق
-
كتاب القدر
-
باب كفارات الأيمان
-
كتاب الفرائض
-
كتاب الحدود
-
كتاب المحاربين
-
كتاب الديات
-
كتاب استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم
-
كتاب الإكراه
-
كتاب الحيل
-
كتاب التعبير
-
كتاب الفتن
-
كتاب الأحكام
-
كتاب التمني
-
كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة
-
كتاب التوحيد
-
الخاتمة
(♫)(1)
رب يسر وتمم بخير، أنت حسبي ونعم الوكيل، يا كريم.
الحمد(2) لله(3) منوِّر البصائر بحقائق مَعارفه، ومصوِّر الخواطر لدقائقِ لطائفهِ، الَّذي أودعَ القلوبَ من حكمهِ جواهِرَ، وجعلَ نجومَ الهدايةِ بذكرِهِ زَواهِر، وأنعمَ علينا بجلائلِ النِّعَم ودقائقِها، وأعظمها هو نعمَة الإسلامِ، وجعلَ ديننا أشرفَ الأديان، وملَّتنا خير الملل، وأمَّتنا أوسَط الأمَم، ونبيُّنا هو أفضلُ الأنام، بيَّن الحلالَ والحرامَ، وشرَّعَ الشَّرائعَ، وسنَّن السُّنن، وعلَّم بالقلم، وقد أحكمَ الأحكام، وأَتْبع الأديان بالسُّنَّة لتفصيلِ مجملاتهِ، وتجربةِ كُلِّياته، وتشريح مُشْكِلاته، فاتحُ المغالِق، ودافعُ العَوائق فكلُّ عَسير إذا يسَّر يهون {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:82].
أحمدُهُ ولا مُستحق الحَمْد على الحقيقَةِ سِواه، وأعتقدُ التَّقصير في كلِّ ما يفعلهُ العبدُ من شكرٍ ونواه، وأشكرُهُ شكرَ من علمَ أنَّ الشُّكر نعمةٌ منه وتوفيق.
وأشهدُ أن لا إلهَ إلَّا الله وحدَهُ لا شريكَ له شهادَةَ من انشرَحَ صدرُهُ بمعارفِهَا، واتَّسَع لقبُولها من غير ضيق، وأشهدُ أن محمَّدًا رسولٌ خُصَّ من الرِّسالة الإلهيَّة بالركنِ الوثيقِ، ومن الملَّة الحنيفيَّة بالمنهجِ الواضحِ الأنيق، ومن الرِّئاسة الإنسانيَّة بالشَّرف الشَّامخ والكرمِ العَرِيق، فشيَّد ﷺ مَعَالمها ما عَفَا، وشَفَى من الغليلِ في تأييدِ كلمةِ التَّوحيد ما كان على شَفَا، وأوضَحَ سُبُل الهدايةِ لمن أرادَ أن يسلكهَا، وأظهر كنوز السَّعادة لمن قَصَد أن يملكَهَا، وميَّز شَرَف الحقِّ بعدَ أن كان مُبْهمًا، وأقامَ ميزان الشَّرع باتِّباع الأمْرِ والنَّهي بعدَ أن كان الوجود قد خَلا منها.
وصلى الله على سيِّدنا محمَّد المصطفى الَّذي مِن مشْكَاة ميامِن وجودِهِ تتوقَّد جميع أنوارِ الكمالاتِ والسَّعادات.
وعلى آله وأصحابهِ أهل المجد والعُلَى، والذين تحلَّوا من المحاسنِ بأحسنِ الحُلا، بشير الرَّحمة والثَّواب، ونذير السَّطوة والعقاب، المبعوثُ بالصِّراط المستقيم، والدِّين القويم، المؤيَّد بواضِحِ الحُجج والبَرَاهين، سيِّد الأنبياء والمرسلين(4) ، النَّبي الأمِّي القُرَشي محمَّد صلى الله عليه أزكى صلاة وأعظمها، وأوفاهَا وأكرمهَا، وعلى آله(5) الطَّيبين الأبرار، وأصحابِهِ المُنْتَخبين الأخيَار، أعوانِ الدِّين وأعلام المسلمين، وعلى التَّابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ: فإنَّ علم الحديث(6) بعد القرآنِ هو أفضلُ العلومِ وأعلاهَا، وأجلُّ المعارف وأسناهَا، وأشرفُ ما خلقَ في الوجود، وأعزُّ ما ينعمُ الله به على عبادِهِ ويجود، وأن سَعَادة الدَّارَين لا تنالُ إلَّا بمتابَعَة هذا الرَّسول، وأنَّ الهداية الحقيقيَّة باقتفاءِ سَنَنه وسُنَنه واجِبَة الحُصُول، وليس شيءٌ أفضلُ عند الله تعالى من طلبِ العلم قال الله تعالى: {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ} [آل عمران:18]، فجعل العلماءُ في الدَّرجة الثَّالثة في الشَّهادة على وحدانيَّته.
وروي عن النَّبي ﷺ بأنَّه قال: «مَن أحبَّ العلمَ والعلماءَ لم تُكتب عليه خطيئةٌ أيَّام حياتهِ»، وعنه ﷺ أنه قال: «مَن أكرمَ عالمًا فكأنَّما أكرمَ سبعينَ نبيًا، ومن أكرمَ متعلِّمًا فكأنَّما أكرمَ سبعينَ شهيدًا» وعنه ◙ أنه قال: «من صلَّى خلفَ عالم فكأنَّما صلَّى خلفَ نبيٍّ، ومن صلَّى خلف نبيٍّ غفرَ له ما تقدَّم من ذنبهِ»، وعنه ﷺ أنه سألَ جبريل: «أيُّ الجهادِ أفضلُ؟» قال: طلبُ العلم، قال: «ثمَّ بعدُ» قال: زيارة العلماءِ، قال: «ثمَّ بعدُ»، قال: النَّظر إلى وجهِ العالم.
وعنه ﷺ أنَّه قال: «النَّاس اثنان: عالمٌ ومتعلِّمٌ وبقيَّة النَّاس همجٌ لا خيرَ فيهم»، والهمج: دويبةٌ تطيرُ على رأس الحش.
وروي أنَّ عبدَ الله بن المبارك قيل له: أوحى الله إليكَ أنَّه لم يبقَ من عمرك إلَّا هذا العشر مَا كنت صَانعًا فيه قال: كنتُ أطلبُ العلم.
وحكي عن سفيان الثَّوري أنَّه قال: ليس شيءٌ أفضل من العلم(7) إذا صحَّت النِّيَّة، فقيل: وما صحَّة النِّية؟ قال: أن يُراد به وجهُ الله تعالى والدَّار الآخرة.
وسفيان رجلٌ كثير العلمِ حتى أنَّه ذكر أنَّه حُبِس بين يديهِ أربعة آلاف مَحْبرة يكتبونَ الحديث منهُ(8) .
وقال الشَّافعي رحمه الله: طالبُ العلمِ عبدٌ والعلم حرٌّ فمن خدمَهُ ملكَه(9) ، ومن تجبَّر عليه هجرَهُ، والعلمُ أشدُّ تجبُّرًا من أن يخضعَ لمن لا يخضَع لهُ، وقال ﷺ: / «بين العالم والعابد مائةُ درجةٍ بين كلِّ درجةٍ خطو الجَوَاد المُضَمَّر سبعين سنةً».
ولا أريدُ بذلك إلَّا العلم النَّافع الَّذي يبلُغُ من رضا الله الأمَل، والذي ينفعُ معهُ القَليلُ من العمَلِ، ولمَّا عرفْتُ هذهِ الحالةِ علمْتُ أنِّي في الإعراضِ عن ذلكَ على غرَرٍ من أَمْري، وقلتُ: إنَّ الخُسران موجودٌ في ليالٍ تمرُّ بلا نفعٍ، وتَحتسِب من عُمري، فآثرتُ أن أتمسَّك من أخبارِ الرَّسول ﷺ بما أرجو بهِ النَّجاة من هذا الخطَر، وأبلغ من اتِّباع الشَّريعة المطهَّرة وأحكامهَا الغُرر .
ولنَذكر من فضائلِ الإمامِ العالِم الحافظِ أبي عبد اللَّه محمَّد بن إسماعيلَ بن إبراهيم البخاريِّ ☺ ما قالهُ أبو بكرٍ محمَّد بنُ إسحاقَ بن خُزيمة: مَا تحتَ أديمِ السَّماء أعلمُ من البُخاري بالحديثِ .
اتفاق الأئمة على أن البخاري كان أجل من مسلم في الحديث، وأن مسلمًا تلميذه وخريجه ولم يزل يستفيد منه ويتتبع آثاره حتى قال مسلمُ بنُ الحجَّاج للبخاريِّ وقد سألَهُ عن علَّةِ حديثٍ خفِيتْ على مسلمٍ فأجابَهُ عن ذلك بما أعجبَهُ فقال لهُ: لا يبغضُكَ إلَّا حاسدٌ، وأشهدُ أن ليسَ في الدُّنيا مثلك.
وقالَ أبو بكرٍ الجوزقيُّ: سمعتُ أبا حامدٍ الشرقي يقول: رأيتُ مسلم بن الحجَّاج بين يدي البُخاري كالصَّبيِّ بين يَدي معلِّمه(10) .
قال الدَّارقطني: لولا البُخاري ما ذهب مسلمٌ ولا جاء. قال محمَّد بن محمَّد الكرابيسيُّ: رحمَ الله الإمام أبا عبدِ اللهِ البُخاريَّ فإنَّه الذي ألَّف الأصولَ وبيَّن للنَّاس، وكلُّ من عملَ بعدَهُ فإنَّه أخذَ من كتابِهِ كمسلم بن الحجَّاج فرَّق كتابهُ في كتابهِ، وتجلَّد فيه حقَّ الجلادةِ حيثُ لم ينسبهُ إلى قائلهِ، ومنهم مَن أخَذَ كتابَهُ فنَقلهُ بعينِه كأبي زُرْعة وأبي حاتمٍ.
وقالَ أبو المصعبِ: محمَّد بنُ إسماعيل عندنا أفقَه من أحمدِ بن حنبَل ولو أدركتَ مالِكًا ونظرتَ إلى وجههِ ووجه محمَّد بن إسماعيل لقلْتُ كلاهُما في الفقهِ والحديثِ واحدٌ.
وقالَ أبو يعقوب الدَّورقي: محمَّد بن إسماعيل فقيه هذهِ الأمَّة.
وذكر أبو أحمد بن عديٍّ أنَّ البخاريَّ لمَّا قدمَ بغداد امتحنَهُ المحدِّثون بأن قلبُوا أسانِيد مائة حديثٍ فخالفُوا بين أسانيدِهَا ومتونِهَا، ثمَّ فرقوهَا على عشرةٍ من طلبةِ الحديثِ لكلِّ واحدٍ منهُم عَشَرة، فلمَّا استقرَّ بالبُخاريِّ المجلس قام إليه واحدٌ من العشرةِ، فذكرَ له حديثًا من عشرته، وسألهُ عنه فقالَ: لا أعرفُ هذا، ثمَّ سألَهُ عن بقيَّة العَشَرة واحدًا واحدًا، والبخاريُّ في كلِّ ذلك يقول: لا أعرفُ، ثمَّ قامَ بعدهُ ثانٍ ففعل مثل ذلكَ، فأجابهُ البخاريُّ بلا أعرفُ، ثمَّ قامَ ثالثٌ كذلك إلى أن أكملَ العشرة المائة الحديث المقلُوبة، فظنَّ كلُّ من في المَجْلس عجزَ البخاريِّ وانقطاعهِ، فعندَ ذلكَ دعا البخاريُّ بالأوَّل فردَّ متون أحاديثهِ إلى أسانيدهَا، وكذلك فعلَ بجميعِهِم فبُهِت السَّائلون، وأعجبَ بذلكَ الحاضرونَ والسَّامعون(11) .
وقال محمَّد بن حَمْدويه: سمعتُ البخاري يقولُ: أحفظُ مائة ألفِ حديثٍ صحيحٍ، وأعرفُ مائتي ألف حديثٍ غير صحيحٍ. وقال جعفر بنُ محمَّد القطَّان: سمعت محمَّد بن إسماعيل يقول: كتبتُ عن أكثر من ألفِ شيخٍ ما عندي حديثٌ إلَّا أذكرُ سندهُ.
ونقل أبو الفرج الجوزي عن البُخاري أنَّه قال: صنَّف كتاب الصَّحيح في ست عشرة سنة من ستمائة ألف حديث، وجعلتُه حجَّة بيني وبين اللَّه.
وقال إبراهيمُ بن مَعْقل: سمعتُ البخاري يقول: ما أدخلْتُ في كتابي الجامع إلَّا ما صحَّ، وقد تركتُ من الصَّحيح، وقال محمد بن يوسف بن مطر: قال لي محمدُ بن إسماعيل: ما وضعْتُ في كتاب الصَّحيح حديث إلَّا اغتسلْتُ قبل ذلك وصلَّيت ركعتين.
وقال عبدُ القدُّوس بنُ همَّام: سمعتُ عدَّة من المشايخ يقولون: دوَّنَ البُخاري تراجم كتابه بين قبْرِ النَّبي ﷺ ومنبرهِ، وكان يصلِّي لكلِّ ترجمةٍ ركعتين، ولمَّا علم أهل زمانهِ فضلَهُ على أقرانِهِ وتقدُّمه على علماءِ أوانِهِ(12) أصفَقُوا على الأخذِ عنهُ والسَّمَاع منه(13) .
قال عليُّ بنُ صالح مستملي البخاري: كان يجتمعُ عليهِ في مجلسِهِ أكثرَ من عشرين ألفًا.
وقال الفربريُّ: سمع كتابَ البخاريِّ عليه تسعون ألفًا فما بقيَ أحدٌ يرويه غيري، هذا مع علوِّ إسنادِهِ فقد أدرك جماعةً ممِّن أدركُوا متأخِّري التَّابعين كمكِّي بن إبراهيم البلخي، وأبي عاصمٍ النبيل، ومحمَّد بن عبد الله الأنصاري، وعصام بن خالدٍ الحمصي.
وقد روى عنه جماعَةٌ من الأئمة كمسلم بن الحجَّاج، وأبي حاتم الرَّازي، ومحمَّد بن إسحاق بن خُزَيمة، وأبي حامدٍ بن الشَّرقي، وأبي عيسى التِّرمذي، وإبراهيم بن إسحاق الحَرْبي في آخرين يَطُول ذكرُهُم، وحينئذٍ فقد حصَلَ بالنَّقل المتواتر والإصفاق أنَّ البُخَاري حاز قصبَ السباق / وشهدَ له بالبراعَةِ والتَّقدم الصَّناديد العِظَام والأفاضل الكرام، فجزاهُ الله عن الإسلام والمسلمين خيرًا.
أجلُّ الكتب الصَّحيحة نقلًا وروايةً وفهمًا ودرايةً، وأكثرها تعديلًا وتصحيحًا وضبطًا وتنقيحًا واستنباطًا واحتياطًا، وقد صرح الجمهور بتقديم صحيح البخاري في الصحة، ولم يوجد عن أحد التصريح بنقيضه، وفي الجملةِ هو أصحُّ الكُتُب المؤلَّفة فيه على الإطلاق، والمقبل عليه بالفُنُون من أئمَّة الآفاق.
وقد أفاقَ أمثالهُ في جميع الفُنُون والأقسام، وفوائد هذا الكتاب العظيم الشَّأن، الرَّفيع المقدار الَّذي يُسْتقى ببركاتهِ ويُسْتشفى بختامِهِ، الَّذي عدَّة أحاديثهِ سبعة آلافٍ ومائتان وخمسة وسبعون حديثًا؛ لأنَّ كلامَهُ ﷺ بحرٌ يغاصُ فيه على جَواهر المعاني فلا يسْتَخرج حكمه إلَّا الراسخون في العلم الذين أصبحت خواطرهم به أهل المعاني، وفيما ذكرناهُ كفاية، والله الموفق للهداية.
وأما والد الإمام البخاري أبو الحسن إسماعيل سمع مالكًا وكان دهقانًا؛ أي: رئيسًا سمي بذلك لسعة عيشه من الدهقنة، وهي تبيين العظام قال عند موته: لا أعلم في مالي درهم من حرام ولا شبهة، ثم قال: أصدق ما يكون الرجل عند موته.
ولدَ البخاريُّ يوم الجمعة بعدَ صلاةِ الجمعةِ لثلاث عشرة ليلة خلَتْ من شوَّال سنة أربع وتسعين ومائة، ومات بخرتَنْك قريبًا من سمرقند ليلة عيد الفطر سنة ست وخمسين ومائتين، وكان عُمُره اثنتي وستين سنةً إلا ثلاثة عشر يومًا(14) .
وكانت رواية الفِرَبري عنه لكتابه سنة ثلاث وخمسين ومائتين.
غيرَ أنَّ هذا الكتاب وإن كان على ما وصف وفوق ما ذُكِر عسيرٌ حفظُه ومتعذِّرٌ ضبطُهُ لما اشتملَ عليه من التِّكرار وكثرَة التراجم والآثار فاستخرتُ الله تعالى إلى أنَّني أختَصِرُ أسانيده، وأحذف تكراره وأقتَصِرُ من تراجمه على ما لا غنى عنها، ومن الآثار على الأنفَعِ منها فبادرْتُ إلى الإشارة بعدَ أنْ قدَّمْتُ في ذلك دُعَاء النَّفع به والاستخارة موجزًا في العبارة مكتفيًا بالإيماء والإشارة غير ملتزمٍ ترتيب أحاديث الأصلِ على مساقهَا، بل أضمُّ الحديث إلى مشاكله ليقرب على حافظِهِ ومتناوله، وأسوقُ الحديث بطوله في أولى المواضعِ بمساقهِ، وربَّما أقتصرُ على بعضِهِ في غيرِ بابهِ، وربَّما أجمع تراجم أبواب في بابٍ واحدٍ لما اجتمعَ فيه من الأحاديثِ المختلِفَة الفوائد، ولعلِّي أبدل بعضَ التراجم بما هو أولى حسبَما يشهدُ له المعنى، فأذكُر أول الحديث واقتصرُ من السَّند على ذكرِ الصَّاحب، وأقول... إلى آخره(15)، فذكر إلى أن تدعو الحاجة إلى ذكر غيره، وكلما أذكره بعد ذكر الصَّاحب فهو منسوبٌ إليه إلى أنْ أذكُر غيره.
ولا أذكر من المتكرارات إلَّا ما اختلفَتْ ألفاظُهُ، وتباينَتْ معانيهِ بحيث لا يستغنَى بواحدٍ منها عن غيرهِ، وإلَّا ما لا يوجدُ للترجمة الحسنة غيره، وربما نبَّهتُ على من شُهر بكنيتِهِ من الصَّحابة فأذكر اسمه.
والمقصود إن شاء الله تعالى استيعابُ مهمات فوائد الأصل وحذف ما يكون مصعِّبًا للحفظ، وحذفت أكثر غريب القرآن الذي لم يذكر آياته اكتفاءً بما اشتهر عندَ أكثر النَّاس في ذلك، وهو ما ذكرَهُ الإمام البخاري رحمه الله العالم بعلمهِ المحقَّق في إفهامِهِ وفهمهِ، المتبع ما أمرهُ الله به من حكمهِ الذي فاقَ النظر والأمثال، واتَّصف من المحاسنِ بما تضربُ به الأمثال، فوجَّهتُ وجه آمالي إليه، وعوَّلت في فهم معاني هذا الكتاب عليه، وعرفته القصدَ بما أريد، وأصغيتُ لما بيدَيَّ فيه من القولِ وما يعيد فأملي عليَّ من معانيهِ كلُّ فنٍّ غريبٍ، وكلُّ معنًا بعيد على غيرهِ أن يخطُر ببالِهِ وهو عليه قريب، فعلَّقتُ ما أوردَهُ وحمتُ على منهل فضله رجاء أن أحذف ما ورده الإمام البخاري من تكرار الأحاديث ╩ فإنه لما كان طلبُ العلم على كل مسلم واجبًا اخترتُ أن أكون من طلبتهِ، فإن لم أمتْ عالمًا وإلَّا متُّ طالبًا، وتأمَّلت قوله ﷺ: «مَن سلكَ طريقًا يطلبُ فيه علمًا، سهَّل الله له طريقًا إلى الجنة»؛ لأنَّ العلم ليعتق صاحبه لخشية الله فإن أجابه قرَّ عنده وإن لم بجبه فرَّ، فليلتقطها أينما وجدها فلا يدعها من الصغير لصغره، ومن الكبير لكبره، وقال ◙: «من ترك العلم من الصغير لصغره، ومن الكبير لكبره فليتبوأ مقعده من النار».
والعلماء خواصُّ عباد الله الذين اجتباهُم وإلى معالم دينِهِ هداهُمْ، ولمزيَّة الفضلِ آثرهُم واصطفاهُم، هم ورثةُ الأنبياء وخلفاؤهم، وسادات المسلمين وعرفاؤهم، وقال رسولُ الله ﷺ: «ورثةُ الأنبياء يحبُّهم أهل السماء، وتستغفر لهم الحيتانُ في البحرِ إلى يوم القيامةِ»، وقال رسول الله ﷺ: «يبعثُ الله العبادُ يوم القيامةِ ثمَّ يميِّز العلماء فيقول: يا معشَرَ معاشِرَ العلماء إنِّي لم أضعْ علمي فيكم إلَّا لعلمي بكم، ولم أضعْهُ فيكم لأعذِّبَكم انطلقُوا فقد غفرتُ لكم».
وقد اجتهدتُ فيما رويتُ ورأيتُ واختصرت جميع«الجامع الصحيح» للإمام البُخاري في جزء لطيف غير مدَّع عصمة ولا متبرئ من غفلةٍ، أسلك فيه إن شاء الله تعالى طريقة / متوسِّطة بين الاختصارِ والإطناب، قاضيًا بذلك، جعلَ الله تعالى ذلك خالصًا لوجههِ الكريم، ونعم المعين توفيق الله سبحانه لإتمام ما نويت، وتيسيرهِ لإحكام ما إليه تصدَّيت، أسألُ الله التَّوفيق لصالح القولِ والعمل، والعصمَةِ من الزَّيغ والزَّلل، والتجاوز عمَّا يقعُ من الخطأ والخللِ إنَّه على كلِّ شيءٍ قدير، وبالإجابة جدير، وأن يحشرنا في زمرةِ سيِّد المرسلين، وخاتم النَّبيين صلى الله عليه وعلى آله الطَّيبين، وعلى جميع النَّبيين والمرسلين، والحمد لله رب العالمين.
ولنذكر شيء من السند ذكره الإمامُ أبو الوقت تبركًا به.
قال: أخبرنا أبو الوقت عبد الأول بن عيسى بن شعيب بن إسحاق بن إبراهيم السجزي الهروي الصوفي قراءة عليه وأنا أسمع وذلك في ذي القعدة وذي الحجة من سنة اثنتين وخمسين وخمس مائة فأقرَّ به، وقال: نعم.
قيل له: أخبركم الشيخ الإمام جمال الإسلام أبو الحسن عبد الرحمن بن محمد بن المظفر بن داود بن أحمد بن معاذ بن سهل الحكم بن شيراز الداودي البوسنجي بها قراءة عليه بمنزله في ذي القعدة سنة خمس وستين وأربع مائة.
قال: أخبرنا الإمام أبو محمد عبد الله بن أحمد بن حمُّويه الحموي السرخسي في سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة.
قال: أخبرنا الإمام أبو عبد الله محمد بن يوسف بن مطر بن صالح بن بشر الفربري بفربر في سنة ست عشرة وثلاثمائة.
قال: حدثنا الإمام أبو عبد الله محمد بن إسماعيل بن إبراهيم الجعفي البخاري مرتين مرة بفربر سنة ثمان وأربعين ومائتين، ومرَّة ببخارى في سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
[1] في هامش الأصل: الله اسم أعجمي لا اشتقاق له إنما عربته العرب إلى لغاتها، والصحيح اسم مشتق من آله بالمد وهو العبادة ألف الأول وحدانية الله، ولام الأول لطفه، والثاني عطفه، والهاء تمام اسمه.
الرحمن: لفظه خاص ومعناه عام وهما اسمان لطيفان، أحدهما ألطف من الآخر، الرحيم: يختص برحمته في الآخرة للمؤمنين ....بالعبادة والموصوف ... .
[2] في هامش الأصل: الحمد هو الإخبار عن أوصاف الكمال، والوصف بما هو أهله، وبهذا المعنى فرق بين الحمد والشكر، الحمد هو الثناء على المحمود بما له من صفات الذات أو من صفات الفعل، والشكر هو الثناء على المشكور بما له من أفعال الحميدة دون صفات الذات؛ لأن الشكر هو إظهار النعمة وهذا لا يتحقق إلا في صفات الأفعال.
[3] في هامش الأصل: اختلف في الاسم الكريم وهو الله هل هو جامد أو مشتق فقال سيبويه والشافعي والخليل في أحد قوليه والمحققون: أنه جامد، وقال قوم: أنه مشتق وعلى هذا فاختلف الحمد والثناء على المحمود لما له من صفات الحسنة سواء كان من صفات الذات أو من صفات الفعل، والشكر هو الثناء على المشكور من صفات الأفعال الحسنة دون صفات الذات، والألف واللام في الحمد للاستغراق عند الجمهور بمعنى أن كل فرد من الحمد ثابت لله تعالى، واللام في لله للاختصاص؛ أي: الحمد مختص بالله.
[4] في هامش الأصل: قوله: وسيد المرسلين: السيد هو الذي يستغني عن كل شيء، ويحتاج إليه كل شيء وهذا لا يجوز على الإطلاق إلا لله تعالى.
[5] في هامش الأصل زيادة: (قال: «العهن»: الصوف: ه سـ س 5 ).
[6] في هامش الأصل: كان كُتَّاب الوحي أحد عشر رجلًا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي وزيد ومعاوية وحنظلة بن الربيع وخالد بن سعيد بن العاص وأبان بن مسعود والعلاء بن الحضرمي. وغير المداوم على الكتابة: زيد ومعاوية.
وكان يفتي في حياة رسول الله صلى الله عليه و سلم أربعة عشر رجلًا: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف وابن مسعود وعمار وأبي ومعاذ وسليمان وأبو موسى وحذيفة وأبو الدرداء وزيد، وما أفتى منهم بحضرة الرسول صلى الله عليه و سلم إلا أبو بكر.
في هامش الأصل: واعلم أن علم الحديث موضوعه ذات رسول الله من حيث أنه رسول الله صلى الله عليه و سلم وأفعاله وأحواله، وغايته هو الفوز بسعادة الدارين، وأن عدد كتب الجامع مائة وشيء، وعدد الأبواب ثلاثة آلاف وأربعمائة وخمسون بابًا مع اختلاف قليل في نسخ الأصول، والمكررات منه قريب النصف بأحاديث بدون التكرار تقارب أربعة آلاف وعدد مشايخه الذين خرج عنهم فيه مائتان وتسعة وثمانون، وعدد من تفرد بالرواية عنهم دون مسلم مائة وأربعة وثلاثون، وتفرد أيضًا بمشايخ لم تقع الرواية عنهم كبقية أصحاب الكتب الخمسة إلا بالواسطة، ووقع له اثنان وعشرون حديثًا عاليًا رفيعًا ثلاثي الإسناد، أعلى الله درجته يوم التناد على رؤوس الأشهاد.
[7] في هامش الأصل: قال يوسف بن أسباط: باب من العلم أفضل من سبعين غزوة، وقال المعافى بن عمران: كتابة حديث واحد أحب إلي من صلاة ليلة. المعافى بن عمران رجلان أحدهما هذا وهو صاحب الثوري والثاني روى عن مالك.
[8] في هامش الأصل: جملة حديث البخاري مكررة سبعة آلاف ومائتين وخمسون حديثا، عدة أحاديث الألفين من الصحيحين ... سبعة ...، جملة حديث مسلم القشيري أربعة آلاف حديث.
[9] في هامش الأصل: قال الصوفيون: إن طريق التوصل إلى الله تعالى أربعة: الجوع والسهر والصمت والعزل عن الناس، والجوع بالعلم والصمت بالعلم، والسهر بالعلم والعزل بالعلم عن الناس، ومخالطتهم ظاهرًا والناس يجلسون في هذه الرتبة على قدر أحوالهم.
[10] في هامش الأصل: عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: افتخرت السماء على الأرض فقالت: أنا أفضل فيَّ العرش والكرسي وفيَّ اللوح والقلم وفيَّ الجنة المأوى وجنة عدن وفيَّ الشمس والقمر والنجوم ومني ينزل أرزاق الخلق وفيَّ الرحمة، فقالت الأرض: وأنا فيَّ الأنبياء والأولياء وفيَّ بيت الله تعالى وفيَّ تنقلب أضلاع حملة القرآن في بطني، قال الله تعالى: صدقت الأرض.
[11] في هامش الأصل: فائدة: فإن قلت: شرفه صلى الله عليه و سلم في حد ذاته كامل فما معنى قول الداعي: زيادة في شرفه صلى الله عليه و سلم، ومن المعلوم أن الزيادة لا تليق إلا بالناقص ؟ أجاب بعض المحققين: بأنا سلمنا أن شرفه صلى الله عليه و سلم في حد ذاته كامل لكن بالنظر إلى ما عند الله يقبل الزيادة ؛لأن درجات الفضل عند الله لا تتناهى، ثم حرر الجواب بأن قولكم الزيادة لا تليق إلا بالناقص، وإلا لكانت تتمة لا زيادة فالسؤال ساقط من أصله؛ فليتأمل فإنه موضع نظر دقيق.
[12] في هامش الأصل: منهم أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم القشيري النيسابوري رضي الله عنهما.
[13] وقد اختلف في صدروه من النبي صلى الله عليه وسلم، فقيل: البيت الواحد ليس بشعر، وقيل: الرجز ليس بشعر، وقيل: شرطه القصد ولهذا يقع في القرآن بعض الموزون كقوله تعالى: {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} [سبأ: 13]، ولا شك أنه ليس بشعر، وإن كان على زنته.
[14] واعلم أن العمدة في ذلك صدق النية وخلوص الطوية وحضور القلب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب الدعاء من قلب غافل لاه»، واختلف في أنه هل يجوز أن يقال: يستجاب دعاء الكافر؟ فمنعه الجمهور لقوله تعالى: {وما دعاء الكافرين إلا في ضلال} [الرعد: 14]؛ ولأنه لا يدعو الله تعالى؛ لأنه لا يعرفه؛ لأنه وإن أقر به فلما وصفه بما لا يليق به فقد نقض إقراراه، وما روي في الحديث: أن دعوة المظلوم مستجابة وإن كان كافرًا تستجاب في حموله على كفران النعمة هذه إجابة.
[15] في هامش الأصل: أي: إلى آخر السند أو القول.