الباب الأول في ترجمة راوي الحديث / ومخرِّجه.
أمَّا راويه؛ فهو أمير المؤمنين (عمر بن الخطَّاب ☺)، القرشيُّ، وُلِد بعد الفيل بثلاث عشرة سنة، أسلم قديمًا وعمره سبعٌ وعشرون سنة، شهد بدرًا والمشاهد كلَّها مع رسول الله صلعم ، وخرج في عدَّة سرايا وكان أميرًا على بعضها، وهو من أجلِّ السَّابقين، وأوَّل من دُعِيَ أميرَ المؤمنين، أوَّل من حيَّاه بها المغيرة بن شعبة، قال له: نحن المؤمنون وأنت أميرُنا، وهو أوَّل من دوَّن الدَّواوين، ووضع التَّاريخ الإسلاميَّ من الهجرة، وأوَّل من عسَّ بالمدينة، وأوَّل من جلد في الخمر ثمانين سَوطًا، فتح الفتوح، ومصَّر الأمصار، وجنَّد الأجناد، ووضع الخَراج، وفرض الأعطية، واستقضى القضاة، وقد قطعتْ جنوده ما وراء النَّهر مرارًا.
كان متواضعًا لله وفي الله، شديدًا في ذات الله، وقد هابته النَّاس هيبةً عظيمةً، حتَّى تركوا الجلوس بالأفنية، فلمَّا بلغته هيبتهم؛ قام فيهم خطيبًا وقال من جملة ما قال: (إنِّي وُلِّيت أموركم، فاعلموا أنَّ تلك الشِّدَّة قد أُضعفت، ولكنَّها إنَّما تكون على أهل الظُّلم والتَّعدِّي على المسلمين، فأمَّا أهل الإسلام والدِّين والفضل؛ فأنا ألينُ لهم من بعضهم لبعض، ولست أدَعُ أحدًا يظلم أحدًا أو يتعدَّى عليه، حتَّى أضع خدَّه على الأرض وأضع قدمي على الخدِّ الآخر حتَّى يُذعِن بالحقِّ، ولكم عليَّ أيُّها النَّاس ألَّا أُلقيَكم في المهالك، وإن غبتم في البعوث؛ فأنا أبو العيال حتَّى ترجعوا).
قال سعيد بن المسيِّب: فوفَّى والله عمرُ في الشِّدَّة واللِّين في مواضعهما، وكان أبا العيال، انتهى.
وكان ☺ / قليل الضَّحك، لا يمازح أحدًا، وكان تهابه ملوك الرُّوم وفارس، وقد بقي على حاله قبل الولاية في ذبِّه وأفعاله وتواضعه، يسير منفردًا في حضَره وسفَره من غير حارس ولا حاجب، ولم يستطل على مسلم بلسانه، ولا حابى أحدًا بالحقِّ أصلًا، الشَّريفُ والوضيع عنده في الحقِّ سواء، لا يخاف في الله لومة لائم، وكان علمه لشدَّة فحصه عن الرَّعيَّة بمن نأى عنه كعلمه بمن بات معه على وِساد واحد، قال مجاهد: كان عمر يقول: (لو مات جَدْيٌ بطرف الفرات؛ لخشيت أن يطالب الله به عمر)، واقتُفيَ أثره في ذلك من بعده، قيل: تعرَّف إلى زيادٍ رجلٌ، فقال: أتتعرَّف إليَّ وأنا أعرف بك من أبيك وأمِّك؟ إنِّي أعرف هذا البُرد الَّذي عليك! ففزع الرَّجل حتَّى ارتعد من كلامه.
وعن بعض العبَّاسيين قال: كلَّمتُ المأمون في امرأةٍ خطبتُها، وسألتُه النَّظر إليها، فقال: يا أبا فلان؛ مِن قصَّتها وحليتها وفعلها وشأنها كيت وكيت، فوالله ما زال يصفها حتَّى أبهتني.
ومن الغريب: أنَّ أزدشير كان متى شاء قال لأرفعِ أهل مملكته أو أوضعهم: كان عندك في هذه الليلة كيت وكيت، حتَّى كان يُقال: يأتيه مَلَكٌ من السَّماء؛ مِن مزيد تتبُّعه وبحثه عن أحوال الرَّعيَّة، وهذا من محاسِن شيَم الأمراء والملوك، فقد قيل: من حقِّ الملك أو الأمير أن يفحصَ عن أسرار الرَّعيَّة فحصَ المرضعة عن ابنها الصَّغير.
ويشير إلى ما ذكرنا ما ورد في الصَّحيح عن النَّبيِّ صلعم أنَّه قال: «الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيَّته»، فمن هنا أنَّ صاحب التَّرجمة لمَّا رجع من الشَّام؛ أخذ / يتعرَّف أخبار النَّاس، فمرَّ بعجوز في خِباء، فقال: يا هذه؛ ما فعل عمر؟ فقالت: أقبل من الشَّام، لا جزاه الله خيرًا، قال: ولمَ؟ قالت: لأنَّه ما نالني منه منذ وُلِّي الخلافة لا دينار ولا درهم، قال: ما يدريه بك وأنتِ في هذا المكان؟ فقالت: سبحان الله! ما ظننتُ أنَّ أحدًا يلي من أمور النَّاس شيئًا ولا يدري ما بين مشرقها ومغربها، فبكى، وقال: بكم تبيعين ظُلامتك من عمر؟ فإنِّي أرحمُه من النَّار، فقالت: لا تهزأ بي. فلم يَزل بها حتَّى اشترى ظُلامتَها بخمسةٍ وعشرين دينارًا.
وحجَّ في سنة ثلاثٍ وعشرين، فلمَّا نزل بالأبطح؛ دعا الله ╡، واشتكى إليه، فقال: اللَّهم كبرت سنِّي، وضعُفت قوَّتي، وانتشرت رعيَّتي، فاقبضني إليك غيرَ مفرِّطٍ ولا مضيِّع، اللَّهم شهادة في سبيلك، وموتًا في بلد نبيِّك؛ فاستجاب الله له ذلك، وجمع له بينهما، فاتَّفق أنْ ضربه أبو لؤلؤة غلام المغيرة وهو قائمٌ يصلِّي الصُّبح، يوم الأربعاء، لأربع بقينَ من ذي الحجَّة، بخنجرٍ ذي طرفين، ثلاث ضربات، وقيل: ستًّا، إحداهنَّ تحت سرَّته، فخرَّ من قامته، واستخلف عبد الرَّحمن بن عوف في الصَّلاة، وحُمِل إلى منزله والدَّم يسيل من جرحه، وذلك قبل طلوع الشَّمس، فجعل يفيق ثمَّ يُغمى عليه، فيُذكِّرونه في الصَّلاة، فيفيق ويقول: نعم؛ لا حظَّ في الإسلام لمن تركها، ثمَّ صلَّى في الوقت، وسألهم: مَن قتلني؟ فقالوا: غلام المغيرة أبو لؤلؤة، فقال: الحمد لله الَّذي لم يجعل ميتتي على يد رجلٍ يدَّعي الإيمان، وبعد ثلاث ليالٍ _وهو يوم الأحد، مستهلَّ المحرَّم_ فارق الدُّنيا وهو ابن ثلاثٍ / وستِّين سنة، ودُفن إلى جانب الصِّدِّيق الأكبر، وكانت خلافته عشر سنين، وخمسة أشهر، وإحدى وعشرين يومًا.
وأمَّا مخرِّج هذا الحديث الشَّريف؛ فهو أحفظُ أهل زمانه، وفارس مَيدانه، كلمة شهِد له بها الموافق والمخالف، وأقرَّ بحقيقتها المعادي والمحالف، جبلٌ في هذا العلم شامخ، وعالمٌ بالصِّناعة راسخ، إمام هذا الشَّأن، قد طاف وجال، ووسَّع ☼ في الطَّلب المجال، فهو إمام المسلمين، وقدوة المؤمنين، وشيخ الموحِّدين، والمعوَّل عليه في أحاديث سيِّد المرسلين، (الإمام أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاريُّ).
وُلِد ببُخارى بعد صلاة الجمعة لثلاثَ عشرة خلت من شوَّال، سنة أربعٍ وتسعين ومئة، ومحاسنُه لا تُحصى، ومناقبُه لا تستقصى، كتب له أهل بغداد كتابًا فيه:
المسلمون بخيرٍ ما بقيتَ لهم وليس بعدك خيرٌ حين تُفتقَد
تُوُفِّيَ ليلة السَّبت، ليلة عيد الفطر، سنة ستٍّ وخمسين ومئتين، وعمره اثنان وستُّون سنة.