الباب الثَّاني: في فضائل الإخلاص وحسن النِّيَّة
قال الله تعالى: {وما أُمِرُوا إلَّا ليَعبُدوا اللهَ مُخلِصينَ لهُ الدِّين} [البيِّنة:5]؛ أي: موحِّدين، لا يعبدون سواه، قال: الإخلاص تصفية العمل من شوائب الكدَر، وقال الرَّاغب: هو التَّعرِّي عمَّا سوى الله، وقال القُشيريُّ: هو إفراد الحقِّ سبحانه بالطَّاعات بالقصد، وعن عائشة ♦قالت: قال رسول الله صلعم: «يغزو جيشٌ الكعبة، فإذا كانوا ببيداءَ / من الأرض يُخسَف بأوَّلهم وآخِرهم»، قالت: قلتُ: يا رسول الله؛ كيف يُخسف بأوَّلهم وآخرهم وفيهم أسواقهم _أي: أهل أسواقهم_ وفيهم من ليس منهم؟ قال: «يُخسَف بأوَّلهم وآخِرهم، ثمَّ يُبعثون على نيَّاتهم»؛ أي: فيُعامل كلٌّ بقصده من الخير والشَّرِّ، على حسب ما حضَره من الإخلاص وعدمه.
وعن أبي هريرة عن النَّبيِّ صلعم: «إنَّ الله لا ينظُر إلى صوَركم ولا إلى أجسامكم، وإنَّما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم»؛ والمعنى: أنَّه لا يُثيبُكم على الأجسام والصُّوَر.
وفيه الاعتناء بحال القلب وصفاتِه، بتحقيق علومه، وتصحيح مقاصِده، وتطهيره من كلِّ وصفٍ مذموم، وتحليتِه بكلِّ نعتٍ محمود، فإنَّه لمَّا كان القلب محلَّ نظر الرَّبِّ؛ حقَّ على العالم بقدر اطِّلاع الله تعالى على قلبه أن يُفتِّش عن صفات قلبه وأحواله؛ لإمكان أن يكون فيه وصف مذموم يمقتُه الله تعالى بسببه.
وفيه أنَّ الاعتناء بإصلاح القلب وصفاته مقدَّمٌ على عمل الجوارح؛ لأنَّ عمل القلب هو المصحِّح للأعمال الشَّرعيَّة، فلا يُقبَل عملٌ إلَّا مِن مؤمن عالم بما كلَّفه الله به، مخلص له فيما يعمله، ثمَّ لا يكمل إلَّا بمراقبته تعالى فيه، المعبَّر عنها بالإحسان: أن تعبد الله كأنَّك تراه.
فعُلِمَ من مجموع ما ذكرنا أنَّ المدار على خلوص النِّيَّة؛ ولذا وَرَدَ: «نيَّة المؤمن خيرٌ من عمله»، وقد ذكروا في معناه وجوهًا، قال الفخر الرَّازي في «التَّفسير الكبير»: غالبها ضعيف، وأحسنُ ما يُقال: إنَّ المقصود من الطَّاعات تنويرُ القلب، وتنويره بها أكثر وأتمُّ.
أقول كما أفاده / بعض المحقِّقين: إنَّ ضمير (عمله) لا يرجع إلى المؤمن، بل إلى المنافق، حين نوى مسلمٌ بناء قنطرةٍ فسبقه منافق، وفي الإسرائيليَّات: أنَّ رجلًا مرَّ بكثبان رملٍ في مجاعة، فقال في نفسه: لو كان هذا الرَّمل طعامًا لي لقسمته بين النَّاس، فأوحى الله إلى نبيِّهم: أن قل له: أن قبِل الله صدقتك، وشكر حسن نيَّتك، وأعطاك ثوابَ ما لو كان طعامًا وتصدَّقت به.
وحكى القشيريُّ: أنَّ بعضهم رُئِيَ في المنام بعد موته، فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي، ورفع درجاتي، فقيل له: بماذا؟ قال: ههنا يُعامَلون بالجود، لا بالرُّكوع والسُّجود، ويُعطَون بالنِّيَّة، لا بالخدمة، ويُغفَر لهم بالفضل، لا بالفعل.
وحكيَ: أنَّه يؤتى بالعبد يوم القيامة، فيُدفع له كتابٌ، فيأخذه بيمينه، فيجد فيه حجًّا وجهادًا وصدقةً ما فعلها، فيقول: ليس هذا كتابي! فأنا ما فعلت شيئًا من ذلك، فيقول الله تعالى: هذا كتابك؛ لأنَّك عشتَ عمرًا طويلًا وأنت تقول: لو كان لي مالٌ؛ تصدَّقت منه، فعرفت ذلك من صدق نيَّتك، وأعطيتك ثواب ذلك كلِّه.
هذا وفضائل النِّيَّة كثيرة، ومحاسنها شهيرة.