الخاتمة: في بيان اتِّصال سند هذا الحقير الوضيع برجال هذا الحديث الرَّفيع:
قد أخذت «صحيح البخاريِّ» _ومن ضمنِه هذا الحديثَ الشَّريف_ كبقيَّة الكتب السِّتَّة، وغيرها من كتب السُّنَّة، وتفاسير، وعلوم عقليَّة وشرعيَّة، وفنون حكميَّة، عن أئمَّةٍ كرامٍ جهابذةٍ أعلام، أخذتُ «صحيح البخاريِّ» عن أُستاذي بقيَّة الفُضلاء في إقليم الصَّعيد الشَّيخ محمَّد الجرجاويُّ المصريُّ، قراءةً عليه وهو يسمع.
وعن المولى الهُمام مفتي الأنام بمكَّة المشرَّفة في هذا الأوان السَّيِّد محمَّد الكتبيُّ أصلح الله لنا وله الحال والشَّان.
وعن العمدة المحقِّق والقدوة المدقِّق السَّيِّد محمَّد الدَّمنهوريُّ الحدَّيْني كذلك.
وعن سيِّد العلماء والفُضلاء صاحب التَّآليف الشَّهيرة والعلوم الغزيرة، شيخ الإسلام، ذي الفضل الأبهى الأبهر: الشَّيخ إبراهيم الباجوريِّ شيخ الأزهر الأنور، سماعًا منه.
وعن بدر العلماء وسراج الأُدباء، نتيجة الدَّهر ويتيمة العصر، من فاق بعلومه الأوائل، وسحب بفصاحته ذَيل النِّسيان على سحبان وائل: السَّيِّد محمَّد الأشمونيِّ، وعمِّه المرحوم الشَّيخ عليٍّ ذي المقام العليِّ، قراءةً عليهما.
وعن الشَّيخ عبدة البلقانيِّ.
وعن الشَّيخ يوسف الغزِّيِّ الأصل، وأمين(1) الفتوى بالمدينة المنوَّرة، وعن الشَّيخ محمَّد جمال، شيخ العلماء بمكَّة المشرَّفة، قراءةً عليهم.
وعن الشَّيخ أحمد المصريِّ، نزيل مكَّة المشرَّفة، سماعًا منه ودراية.
وغيرهم ممَّن يطول ذكرهم.
أمَّا أُستاذي الأوَّل؛ فله طرقٌ كثيرةٌ، منها روايته عن شيخ أهل العرفان / والرِّحلة في هذا الشَّان، السَّيِّد أحمد الدَّردير، عليه رضوان الملك القدير، عن شيخ الشُّيوخ السَّيِّد أحمد العدويِّ، وسنذكر سنده، وشيخنا المذكور رواية عن خاتمة المحقِّقين: السَّيِّد محمَّد الأمير عن الشَّيخ العدويِّ وغيره ممَّا هو موضَّح في سنده المشهور.
وأمَّا أُستاذي الثَّاني؛ فعن مجدِّد الطَّريقة الخلوتيَّة السَّيِّد أحمد الصَّاوي، عن الشَّيخ الدَّردير والشَّيخ الأمير، عن العدويِّ، ويروي شيخنا هذا عن الشَّيخ القوينيِّ، عن السَّيِّد داود القلعيِّ، عن الشَّيخ حسن محمَّد الأشمونيِّ، عن شيخ الإسلام السَّيِّد عبد الله الشبراويِّ، وسنذكر سنده أيضًا وبقيَّة مشايخي ما عدا الشَّيخ محمَّد جمال، فعن الشَّيخ القوينيِّ بالسَّنَد المذكور، وأمَّا السَّيِّد جمال؛ فعن أُستاذه الشَّيخ عبد الله سراج، عن السَّيِّد محمَّد الفلانيِّ، وسنده مشهور بالحجاز.
ثمَّ سند الشَّيخ العدوي فهو _كما ذكر في ثَبْتِه_ على أنحاء متعدِّدة، فقد روى «البخاريَّ» مسلسلًا بالحنفيَّة، وبالشَّافعيَّة، وبالمالكيَّة، وبالمحمَّديِّين، وبدون تسلسل بطرقٍ بعضُها أقرب من بعض، ولنقتصر على القريب منها، فنقول: قال ☼ تعالى: فأرويه عن شيخنا الشَّيخ محمَّد عقيلة، قال: أرويه بأعلى سندٍ يوجد في الدُّنيا، عن الشَّيخ حسن بن علي العجميِّ، عن الشَّيخ أحمد بن محمَّد العجل اليمنيِّ، عن الإمام يحيى بن مكرم الطبريِّ قال: أخبرنا البرهان إبراهيم بن محمَّد بن صدقة الدِّمشقيُّ وغيره برواياتهم، عن الشَّيخ عبد الرَّحمن بن عبد الأوَّل الفرغانيِّ، وكان عمره مئةً وأربعين سنةً، وهو ممَّن يجتمع بالخضر ◙، وقد قرأ «البخاريَّ» على أبي عبد الرَّحمن محمَّد بن شاذبخت الفارسينيِّ الفرغانيِّ، بسماعه جميعَه على الشَّيخ أحمد الأبدال بسمرقند، عن أبي لقمان يحيى بن عمَّار بن مقبل شاهمان الخثلانيِّ، وكان عمره مئةً وثلاثًا(2) وأربعين سنةً، وقد سمعه جميعَه عن محمَّد بن يوسف الفِرَبريِّ، على جامعه / الإمام محمَّد بن إسماعيل البخاريِّ.
هذا، وأمَّا الشَّيخ الشبراويِّ؛ فقد ذكر في ثَبْتِه عدَّة طرقٍ في أخذه «البخاريَّ»:
منها: روايته عن الشَّيخ خليل بن إبراهيم اللَّقَّانيِّ، عن والده، عن محمَّد الرَّمليِّ، عن زكريَّا الأنصاريِّ، عن الحافظ أحمد ابن حجر العسقلانيِّ قال: أخبرنا الشَّيخ أبو إسحاق إبراهيم بن أحمد التَّنوخيُّ قال: أخبرنا محمَّد الزبيديُّ قال: أخبرنا أبو الوقت عبد الأوَّل بن عيسى السِّجْزيُّ قراءةً عليه وأنا أسمع، عن جمال الإسلام أبي(3) الحسن عبد الرَّحمن المُظفَّر قال: أخبرنا الإمام أبو محمَّد عبد الله بن أحمد حَمُّويه قال: أخبرنا أبو عبد الله محمَّد الفِرَبريُّ قال: حدَّثنا أبو عبد الله محمَّد بن إسماعيل البخاريُّ، انتهى.
أقول: قال الإمام البخاريُّ في «صحيحه»: حدَّثنا الحُميديُّ قال: حدَّثنا سفيان قال: حدَّثنا يحيى بن سعيد الأنصاريُّ قال(4): أخبرني محمَّد بن إبراهيم التَّيميُّ: أنَّه سمع علقمة بن وقَّاص اللَّيثيَّ يقول: سمعت عمر بن الخطَّاب على المِنبر قال _أو: يقول_: سمعت رسول الله صلعم يقول: «إنَّما الأعمال بالنِّيَّات...» الحديث.
هذا ولنمسِكْ جَوادَ اليَراع عن الطِّراد في حَلبة الفكر والرَّويَّة، في شرح حديث «إنَّما الأعمال بالنِّيَّة»، فقد جاء بحمد الله شرحًا يُظهِر مَن وقف عليه على كنوزِ حقائقَ عَظُمَ شأنُها، ويكشف له عن رموز دقائقَ خفيَ مكانُها، ويُفصِح بلطائف دررٍ دقَّ سلكُها، ويوضِّح شرائف غُررٍ عسُر سَلكها، لا يتنبَّه لها إلَّا كلُّ ملهَمٍ ماهر، ولا يهتدي إليها كلُّ ذي فهم فاتِر، وما ذاك إلَّا مِن صفاء خلوص مَن أَلَّف هذا السِّراج على اسمه الشَّريف، وخدمةً لسُدَّة مقامه المنيف، من لو أعارتني خُطَباء إياد ألسِنَتَها، وكُتَّاب العراق أيديَها، في وصف أياديه الَّتي اتَّصلت عند الجميع كاتِّصال السُّعود، / وانتظمت لديهم كانتظام العقود، فقلت في ذكرها طالبًا أمر الائتهاب، وكنت في عسكرها مادًّا أطناب الإطناب؛ لمَا كنت بعد الإجهاد إلَّا مائلًا في جانب القصور، بعيدًا عن الغرض المقصودِ وعنه عنه مقصور.
فما بقي إلَّا الرُّغبى إليه تعالى في أن يجعل أيَّامه المسعودة أعظمَ الأيَّام السَّالفة يُمنًا عليه، ودون الأيَّام المستقبِلة فيما يُحبُّ ويميل إليه، وله أن يُديم إمتاعَه بظلِّ النِّعمة، ولباس العافية، وفراش السَّلامة، ومركب الغِبطة، ويُطيل بقاءه مصونًا في نفسِه وعِترته، متمكِّنًا ممَّا يقتضيه عالي همَّته، وأن يجمعَ له المدَّ في العمر؛ إلى النَّفاذ في الأمر، والفوز بالمثوبة من الخالق والشُّكر من المخلوقين، ويمنحه آماله من الدُّنيا والدِّين، وأن يجعل هذا المؤلَّف خالصًا لوجهه الكريم، ويوجِّه إليه رغبةَ كلِّ ذي قلبٍ سليم، وأن يُدخِلنا في سعة رحمته، مع مَن أنعم عليهم من النَّبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداء والصَّالحين، وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد النَّبيِّ الأُمِّيِّ وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكان الفراغ من نسخ هذا الشَّرح يوم الخميس، الموافق لأحد عشر يومًا خلون من شهر ربيعٍ الأوَّل، سنة سبعٍ وسبعين ومئتين وألف من هجرة مَن له كمال الشَّرف، على يد مؤلِّفه الفقير عبدٍ الصَّبَّاغ الطَّرابلسيِّ الحنفيِّ المدرِّس في جامع الأمير منذر في مدينة بيروت، غفر الله له ذنوبه وستر عيوبه، ورحم الله المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، إنَّه سميع قريب مُجيب الدَّعوات، وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّد وعلى آله وصحبه وسلَّم.
[1] في الأصل: (والأمين)
[2] في الأصل: (وثلاثة).
[3] في الأصل: (أبو).
[4] زيد في الأصل: (قال).