لا خفاء عند أرباب الصَّفاء أنَّ نصبَ (أوَّل) على الخبريَّة هو المتبادرُ إلى الخواطر الذِّهنيَّة، لكنَّه بالنَّظر إلى الإفادة الحُكْمِيَّة في المقدِّمات الوهميَّة؛ إذ ليس المَرامُ في هذا المقام كونَه صلعم أوَّل ما قدم مدينة الإسلام، ولو تَمحَّلْنا(1) وقلنا(2) أنَّ (ما) بمعنى (من) في مرتبة العامِّ؛ لأنَّ المقصودَ من الكلام أنَّه ◙ _في حالِ قُدومه ووقتِ نزولِه بالمدينة(3) السكنيَّة_ كان نازلًا على أجداده؛ رعايةً لصلة الرَّحِم الكائنِين في بلاده. وهذا الجواب على طريق التَّلويح.
وأمَّا الإطناب على سبيل التَّوضيح فبيانه: أنَّ (أوَّل) إذا كان منصوبًا على الخبريَّة، واسمه الضَّمير الرَّاجع إلى الحضرة المُصطَفَويَّة، وحملنا (ما) على المصدريَّة؛ يصير التَّقدير: كان النبيُّ صاحبُ السَّكينة أوَّلَ قدومِه المدينة...، ولا يخفى عدمُ صحَّة الحمل بين المحكوم به(4) والمحكوم عليه اللَّذَين هما قبل دخول (كان) كانا مبتدأً وخبرًا، ومسندًا ومسندًا إليه، وإن حملنا (ما) على أنَّها موصولةٌ فهي في الأكثر لغير ذوي العقول معمولةٌ، ولو تَمحَّلْنا(5) وقلنا: إنَّها بمعنى (مَنْ) _كما هي في بعض الكتب منقولةٌ_ صحَّ الحُكمُ والحَمْلُ، وأفاد الإسنادَ، إلا أنَّه على خلاف المراد؛ حيث يفيد أنَّه صلعم كان أوَّلَ مَن قدم المدينة، والحالُ أنَّ القادمِين كثيرون من الصَّحابة المهاجرين قبله في تلك البقعة السَكَنيَّة، فإذا كان الأمر / كذلك فتعيَّن كونُ (أوَّل) منصوبًا على الظَّرفيَّة، وتبيَّن جعلُ (ما) للمصدريَّة، على وفق قواعد(6) العربيَّة، وظهر وَهْمُ الزَّركشيِّ، وأما وَهْمُ غيره فلا يظهر وجهُه كما لا يخفى، ثم رأيتُ الدَّمامِينِيَّ أيضًا تَبِعَهُما(7)، واللهُ أعلمُ بحقيقة الوجهَين، وحقيقةِ أمرِهما.
كتبه أفقرُ عبادِ الله البَاريْ عليُّ بنُ سلطانِ محمدٍ القاريْ (الحنفيُّ عاملهما الله بلطفه الخفيِّ وكرمه الوفيِّ)(8).
[1] في الأصل: «تمجلنا».
[2] في (د): «وقولنا».
[3] في (د): «في المدينة».
[4] لفظة: «به» ليست في (د).
[5] في الأصل: «تمجلنا».
[6] في (د): «القواعد».
[7] هذا على المجاز، وإلا فإنَّ الدمامينيَّ توفي قبل القسطلانيِّ، رحم الله الجميع.
[8] ما بين هلالين ليس في (د).