-
مقدمة المؤلف
-
السبب الباعث للبخاري على تصنيف جامعه
-
في بيان موضوعه والكشف عن مغزاه فيه
-
في تقطيعه للحديث واختصاره وإعادته له
-
في سبب في إيراده للمعلقات
-
في سياق الألفاظ الغريبة الواردة على المعجم
-
في المؤتلف والمختلف والكُنَى والألقاب والأنساب
-
في الأسماء المهملة التي يكثر اشتراكها
-
في الأحاديث التي انتقدها الدارقطني وغيره
-
أسماء من طعن فيه مرتباً على المعجم
-
في عد أحاديث الجامع
-
ترجمة الإمام البخاري
الفصلُ التَّاسِعُ: في سياقِ أسماءِ من طُعِنَ فيهِ من رجالِ هذا الكِتَابِ مُرَتِّبَاً لهم على حروفِ المعجمِ.
والجوابُ عن الاعتراضاتِ مَوْضِعَاً مَوْضِعَاً، وتمييزُ مَن أخرجَ لهُ مِنْهُمْ في الأصولِ، أو في المُتَابَعَاتِ، والاسْتِشْهَادَاتِ مُفَصِّلاً لذلكَ جميعهُ.
وقبلَ الخَوْضِ فيهِ يَنْبَغِي لِكُلِّ مُصَنِّفٍ أنْ يَعْلَمَ أنَّ تَخْرِيْجَ صاحبِ الصَّحِيحِ لأيِّ راوٍ كانَ مُقْتَضٍ لِعَدَالَتِهِ عندَهُ، وصحةِ ضَبْطِهِ، وعدمِ غَفْلَتِهِ، ولا سِيَّمَا ما انضافَ إلى ذلكَ من إطلاقِ جمهورِ الأُمَّةِ على تسميةِ الكِتَابينِ بالصحيحينِ، وهذا معنى لم يحصلْ لغيرِ من خَرَجَ عنهُ في الصَّحِيحِ فَهُوَ بمثابةِ [إطباقِ](1) الْجُمْهُوْر على تعديلِ من ذُكِرَ فِيهما هذا إذا خَرَّجَ لهُ في الأصولِ، [235/أ] فأمَّا إنْ خَرَّجَ له في المتابعاتِ، والشواهدِ، والتَّعَالِيْقِ فهذا يتفاوتُ درجاتُ مَن أخرجَ لهُ منهم في الضَّبْطِ وَغَيْرهِ مع حصولِ اسمِ الصِّدْقِ لهم، وحينئذٍ إذا وجدنَا لغيرهِ في أحدٍ منهم طَعْنَاً فذلكَ الطعنُ مقابلٌ لتعديلِ هذا الإمامِ فلا يُقْبَلُ إِلَّا مُبَيَّنَ السَّبَبِ مُفَسَّرَاً بقادحٍ يقدحُ في عدالةِ هذا الرَّاوِي، أو في ضبطِهِ مُطْلَقَاً، أو في ضبطهِ لخبرٍ بعينهِ لأنَّ الأسبابَ الحاملةَ للأئمةِ على الجرحِ مُتَفَاوِتَةٌ، منها ما يقدحُ، ومنها ما لا يقدحُ، وقد كانَ الشَّيْخُ أبو الحَسَنِ الْمَقْدِسِيِّ يقولُ في الرجلِ الذي يُخَرِّجُ عنهُ في الصَّحِيحِ: هذا جازَ القَنْطَرَةَ، يَعْنِي بذلكَ أنَّهُ لا يُلْتَفَتُ إلى ما قيلَ فيهِ، قال الشَّيْخُ أَبُوْ الفَتْحِ القُشَيْرِيِّ في ((مُخْتَصَرِهِ)): وهكذا نعتقدُ، وبهِ نقولُ، ولا نخرجُ عنهُ إِلَّا بِحُجَّةٍ ظَاهِرَةٍ، وبيانٍ شافٍ يَزِيْدُ في غلبةِ الظَّنِّ على المعنى الذي قدمناهُ من اتفاقِ النَّاسِ بعدَ الشَّيْخينِ على تسميةِ كِتَابيهما بالصحيحينِ، ومن لوازمِ ذلكَ تعديلُ رُوَاتِهِمَا.
قلتُ: فلا يُقْبَلُ الطَّعْنُ في أحدٍ مِنْهُمْ إِلَّا بقادحٍ واضحٍ؛ لأنَّ أسبابَ الجرحِ مُخْتَلِفَةٌ، ومَدَارُهَا على خمسةِ أشياءٍ: البِدْعَةُ، أو المُخَالَفَةُ، أو الْغَلَطُ، أو جَهَالَةُ الحَالِ، أو دَعْوَى الانقطاعِ في السَّنَدِ بأنْ يُدْعَى في الرَّاوِي أنهُ كانَ يُدَلِّسُ، أو يُرْسِلُ.
فأمَّا / جهالَةُ الحالِ: فَمُنْدَفِعَةٌ عن جميعِ من أخرجَ لَهُمْ في الصَّحِيْحِ؛ لأنَّ شرطَ الصَّحِيْحِ أَنْ يكونَ رَاوِيْهِ مَعْرُوْفَاً بالعَدَالَةِ، فمَنْ زَعَمَ أنَّ أَحَدَاً منهم مجهولٌ فكأنهُ نَازَعَ الْمُصَنِّفَ في دعواهُ أنهُ معروفٌ، ولا شكَّ أن المُدَّعِي لمعرفتِهِ مُقَدَّمٌ على من يَدِّعِي عدمَ مَعْرِفَتِهِ لِمَا معَ المُثْبِتِ مِنْ زِيَادَةِ العلمِ، ومعَ ذلكَ فلا تجدُ في رجالِ الصَّحِيْحِ أَحَدَاً مِمَّنْ يُسَوَّغُ إِطْلَاقُ اسمِ الجَّهَالَةِ عليهِ أَصْلاً كَمَا سنبينُهُ.
وأَمَّا الْغَلَطُ: فَتَارَةً يكثرُ من الرَّاوِي، وتارةً يَقُلُّ، فحيثُ يوصَفُ بكونِهِ كثيرَ الْغَلَطِ يُنْظَرُ فيما أُخْرِجَ لهُ إن وُجِدَ مَروياً عندَهُ أو عِنْدَ غيرِهِ من روايةِ غيرِ هذا الموصوفِ بالْغَلَطِ علمَ أن المعتمدَ أصلُ الحديثِ لا خصوصَ هذه الطريقُ، وإن لم يوجدْ إِلَّا من طريقِهِ فهذَا قادحٌ يُوْجِبُ التَّوَقُّفَ عن الْحُكْمِ بصحَّةِ ما هذا سَبِيْلُهُ، وليسَ في الصَّحِيْحِ بحمدِ اللهِ مِنْ ذلِكَ شَيءٌ، وحيثُ يُوْصَفُ بِقِلَّةِ الْغَلَطِ كَمَا يُقَالُ: سَيءُّ الْحِفْظِ، أو لهُ أوهامٌ، أو له مَنَاكِيْرُ، وَغَيْرُ ذلك من العِبَارَاتِ فالْحُكْمُ فيهِ كالْحُكْمِ في الذي قَبْلَهُ، إِلَّا أنَّ الروايةَ عَنْ هؤلاءِ في المُتَابَعَاتِ أكثرَ مِنْهَا عِنْدَ الْمُصَنِّفِ من الروايةِ عن أولئكَ.
وأما المُخَالَفَةُ وينشأُ عنها الشُّذُوْذُ والنَّكَارَةُ: فإذا رَوَى الضَّابِطُ والصَّدُوْقُ شَيئاً فرواهُ من هو أحفظُ منهُ أو أكثرُ عَدداً بخلافِ ما رَوَى بحيثُ يَتَعَذَّرُ الجمعُ على قواعدِ المُحَدِّثِيْنَ فهذا شاذٌّ، وقد تشتدُ المُخَالَفَةُ أو يَضْعُفُ الْحِفْظُ فيحكمُ على ما يخالفُ فيهِ بكونهِ مُنْكَرَاً، وهذا ليسَ في الصَّحِيحِ منهُ سِوَى نَزْرٌ يسيرٌ قد تَبَيَّنَ في الفصلَ الذي قبلهُ بحمدِ اللهِ.
وأمَّا دَعْوَى الانقطاعِ: فمدفوعَةٌ عَمَّنْ أخرجَ لَهُمْ البُخَارِيُّ لما عُلِمَ مِنْ شَرْطِهِ، ومعَ ذلك فحكمُ من ذُكِرَ من رِجَالِهِ بتدليسٍ أو إِرْسَالٍ [235/ب] أن تُسْبَرَ أحاديثُهُمْ الموجودةُ عِنْدَهُ بالعنعنةِ، فإنْ وُجِدَ التصريحُ بِالسَّمَاعِ فِيْهَا اندفعَ الاعتراضُ، وإلا فَلَا.
وأمَّا البِدْعَةُ: فالموصوفُ بِهَا إما أن يكونَ مِمَّنْ يَكْفُرُ بِهَا، أو يَفْسُقُ، فالمُكَفَّرُ بِهَا لا بُدَّ أن يكونَ ذلكَ التكفيرُ مُتَّفَقَاً عليهِ من قواعدِ جميعِ الأئمَّةِ كَمَا في غُلَاةِ الرَّوَافِضِ من دَعْوَى بَعْضِهِمْ حلولَ الإلهيةِ في عَلِيٍّ، أو غيرِهِ، أو الإِيْمَانُ برجوعِهِ إلى الدُّنْيَا قبلَ يومِ القِيَامَةِ، أو غيرُ ذلكَ، وليسَ في الصَّحِيحِ من حديثِ هَؤُلَاءِ شيءٌ البَتَّةُ، والمُفَسَّقُ بِهَا كبدعِ الخوارِجِ والرَّوَافِضِ الذين لا يغلونَ ذلكَ الغُلُوَّ، وَغَيْرُ هؤلاءِ من الطوائفِ المُخَالِفِيْنَ لأصولِ السُّنَّةِ خِلَافَاً ظَاهِرَاً لكنَّهُ مستندٌ إلى تأويلٍ ظاهرُهُ سَائِغٌ، فقد اختلفَ أهلُ السنةِ في قبولِ حديثِ مَن هذا سبيلُهُ إذا كانَ مَعروفاً بالتَّحَرُّزِ من الكذبِ، مَشْهُوْرَاً بالسَّلامةِ من خوارِمِ المُرُوْءَةِ، مَوصوفاً بالديانةِ والْعِبَادَةِ، فقيلَ: يُقْبَلُ مُطلقاً، وقيلَ: يُرَدُّ مُطْلَقَاً، والثَّالِثُ: التفصيلُ بينَ أن يكونَ دَاعِيَةً لِبِدْعَتِهِ أو غيرَ داعيةٍ، فيُقْبَلُ غيرُ الدَّاعِيَةِ، ويُرَدُّ حديثُ الدَّاعِيَةِ، وهذا المذهبُ هو الأعدلُ، صارَ إليهِ طوائفُ من الأئمَّةِ، وادَّعَى ابْنُ حِبَّانَ إِجْمَاعَ أَهْلِ النَّقْلِ عَلَيْهِ، لكن في دَعْوَى ذلكَ نَظَرٌ.
ثم اختلفَ القَائلون بهذا التفصيلِ، فَبَعْضُهُمْ أطلقَ ذَلِكَ، وبَعضهم زَادَ تَفْصِيْلَاً، فَقَالَ: إِنْ اشْتَمَلَتْ رِوَايَةُ غيرِ الدَّاعِيَةِ على ما يُشِيْدُ بدعتهُ وَيُزَيِّنُهُ ويُحَسِّنُهُ ظَاهِرَاً فلا تُقْبَلُ، وإن لم تشتملْ فَتُقْبَلُ، وطردَ بَعْضُهُمْ هذا التفصيلَ بِعَيْنِهِ في عكسِهِ في حقِّ الدَّاعِيَةِ، فَقَالَ: إِنْ اشتملتْ روايتُهُ على ما تُرَدُّ بهِ بِدْعَتُهُ قُبِلَ، وإلا فَلَا، وعلى هذا إذا اشْتَمَلَتْ روايةُ المُبْتَدِعِ سَوَاءً كانَ داعيةً أم لم يكن على ما لا تَعَلَّقَ له ببدعَتِهِ أَصلاً، هل تُقْبَلُ مُطْلَقَاً أو تُرَدُّ مُطْلَقَاً؟ مالَ أَبُوْ الفَتْحِ القُشَيْرِيِّ إلى تفصيلٍ آخرَ فيهِ فَقَالَ: إِنْ وَافَقَهُ غيرُهُ فلا / يُلْتَفَتُ إليهِ هو إخْمَادَاً لِبِدْعَتِهِ، وإطفاءً لنارِهِ، وإن لم يُوَافِقْهُ أَحَدٌ، ولم يوجدْ ذلك الحديثُ إِلَّا عِنْدَهُ مع ما وَصَفْنَا من صِدْقِهِ وتَحَرُّزِهِ عن الكَذِبِ، واشْتِهَارِهِ بالتدينِ، وعدمُ تَعَلُّقِ ذلكَ الحديثُ بِبِدْعَتِهِ فَيَنْبَغِي أن تقدمَ مَصْلَحَةُ تحصيلِ ذلك الحديثِ، ونشرُ تلكَ السُّنَّةِ على مصلحَةِ إِهَانَتِهِ، وإطفاءِ بِدْعَتِهِ، واللهُ أعلمُ.
واعلمْ أَنَّهُ قد وقعَ من جَمَاعَةٍ الطَّعْنُ في جَمَاعَةٍ بسببِ اخْتِلافِهِمْ في العقائدِ، فَينبغي التنبهُ لِذلك وعدمُ الاعتدادِ بهِ إِلَّا بِحَقٍّ، وكذا عَابَ جَمَاعَةٌ من الوَرِعِيْنَ جَمَاعَةً دَخَلُوْا في أمرِ الدُّنْيَا فَضَعَّفُوْهُمْ لذلكَ، ولا أثرَ لِذلك التضعيفِ مع الصدقِ والضَّبْطِ، واللهُ المُوَفِّقُ. وأبعدُ ذلكَ [كله](2) من الاعتبارِ تضعيفُ من ضَعَّفَ بعضَ الرُّوَاةِ بأمرٍ يكونُ الحملُ فيهِ على غيرِهِ، أو للتحامُلِ بينَ الأقرانِ، وأشدُّ من ذلكَ تَضْعِيْفُ من ضَعَّفَ من هو أوثقُ منهُ، أو أَعْلَى قَدْرَاً، أو أعرفَ بالحديثِ، فُكُلُّ هذا لا يعتبرُ بِهِ، وقد عَقَدْتُ لهُ فَصْلَاً مُسْتَقِّلَاً سَرَدْتُ فيهِ أَسْمَاءَهُمْ في آخرِ هذا الفصلِ بعونِ اللهِ تَعَالَى. [د 236/أ]
وإذا تَقَرَّرَ جميعُ ذلك فنعودُ إلى سَرْدِ أسماءِ مَن طُعِنَ فيهِ من رِجَالِ البُخَارِيِّ مع حكايةِ ذلكَ الطَّعْنِ، والتَّنْقِيْبِ عن سَبَبِهِ، والقِيَامِ بِجَوَابِهِ، والتنبيهِ على وجهِ رَدِّهِ على النَّعْتِ الذي أسلفناهُ في الأحاديثِ المُعَلَّلَةِ بعونِ اللهِ تَعَالَى وتَوْفِيْقِهِ.
[1] في ت: إطلاق.
[2] سقط من د.