-
مقدمة المؤلف
-
السبب الباعث للبخاري على تصنيف جامعه
-
في بيان موضوعه والكشف عن مغزاه فيه
-
في تقطيعه للحديث واختصاره وإعادته له
-
في سبب في إيراده للمعلقات
-
في سياق الألفاظ الغريبة الواردة على المعجم
-
في المؤتلف والمختلف والكُنَى والألقاب والأنساب
-
في الأسماء المهملة التي يكثر اشتراكها
-
في الأحاديث التي انتقدها الدارقطني وغيره
-
أسماء من طعن فيه مرتباً على المعجم
-
في عد أحاديث الجامع
-
ترجمة الإمام البخاري
الفصلُ الرَّابِعُ:
في بيانِ السَّبَبِ في إِيْرَادِهِ للأحاديثِ المعلَّقَةِ: مرفوعةً وموقوفةً، وشرحٍ أحكامٍ ذلكَ
والمرادُ بالتعليقِ: ما حُذِفَ مِن مُبْتَدَأ إِسْنَادِهِ وَاحِدٌ فَأَكْثَرَ، وَلَوْ إِلَى آخِرِ الإِسْنَادِ، وَتَارَةً يِجْزمُ بِهِ كـ: قالَ، وتارةً لا يجزمُ بهِ كـ: يذكرُ.
فأمَّا المعلَّقُ من المرفوعاتِ فعلى قسمينِ:
أَحَدِهِمَا: ما يوجدُ في موضعٍ آخرَ من كتابِهِ هذا مَوْصُوْلَاً.
وثانيهما: مَا لا يوجدُ فيهِ إلَّا مُعَلَّقَاً.
فالأوَّلُ: قدْ بَيَّنَا السببَ فيهِ في الفصلِ الذي قبلَ هَذَا، وأنه يُوردُهُ مُعَلَّقَاً حيثُ يضيقُ مَخْرَجُ الحديثِ؛ إذ من قاعِدَتِهِ أنه لا يُكررُ إلَّا لفائدةٍ، فمتى ضَاقَ المخرجُ، واشتملَ المتنُ على أحكامٍ فاحتاجَ إلى تكريرِهِ، فإنَّهُ يتصرفُ في الإسنادِ بالاختصارِ خشيةَ التَّطويلِ.
والثَّاني: وهو ما لا يوجدُ فيهِ إلَّا مُعَلَّقَاً، فإنَّهُ على صُوْرَتَيْنِ:
إما أن يُوردهُ بصيغةِ الجَزْمِ، وإما أن يُوردُهُ بصيغةِ التَّمريضِ؛ فالصيغةُ الأُولى يُستفادُ منها الصِّحَّةُ إلى من علَّقَ عنهُ، لكن يَبْقَى النَّظرُ فيمَنْ أبرزَ من رِجَالِ ذلكَ الحديثِ، فمنهُ ما يلتحقُ بشرطِهِ، ومنهُ ما لا يلتحقُ؛ أمَّا ما يلتحقُ فالسببُ في كونِهِ لم يوصِلْ إسنادَهُ، إمَّا لكونِهِ أخرجَ ما يقومُ مَقَامَهُ فاسْتَغْنَى عن إيرادِ هذا مُسْتَوْفَى السِّيَاقِ، ولم يُهْمِلْهُ بل أوردَهُ بصيغةِ التَّعْليقِ طلباً للاختصارِ، وإمَّا لكونِهِ لم يحصلْ عندَهُ مَسْمُوْعَاً، أو سَمِعَهُ وشكَّ في سماعِهِ له من شَيخِهِ، أو سَمِعَهُ من شَيْخِهِ مُذَاكَرَةً فما رأى أنَّهُ يَسوقُهُ مساقَ الأَصْلِ، وغالبُ هذا فيما أوردَهُ عن مشايخِهِ، فمنْ ذلكَ أنهُ قال في كتابِ الوكالَةِ: قَالَ عُثْمَانُ بْنُ الهَيْثَمِ: حَدَّثَنَا عَوْفٌ، حَدَّثَنَا محمَّد بْنُ سِيرِينَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلعم بِزَكَاةِ رَمَضَانَ»، الحديثُ بطولهِ. [خ¦2311]
وأوردَهُ في مواضعَ أُخَرَ منها في فضائلِ القُرآنِ [خ¦5010]، وفي ذكرِ إبليسَ [خ¦3275]، ولم يقلْ في موضعٍ منها: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ، فالظاهرُ أنه لم يَسمعهُ منهُ، وقد استعملَ المصنِّفُ هذه الصيغةَ فيما لم يَسْمَعْهُ من مشايخِهِ في عِدَّةِ أحاديثَ فيُوردها عنهم بصيغةِ: قالَ فُلَانٌ، ثم يُوردهَا في موضعٍ آخرَ بواسطةٍ بَيْنَهُ وبَيْنَهُمْ، وسيأتي لذلكَ أمثلةٌ كثيرةٌ في مواضِعِهَا:
فقالَ في ((التَّاريخِ)): قَالَ إِبْرَاهِيْمُ بنُ مُوْسَى: حَدَّثَنَا هِشَامُ بنُ يُوْسُفَ... فذكرَ حَدِيثاً، ثم قال: حَدَّثُوْنِي بهذا عَنْ إِبْرَاهِيْمَ، ولكن ليسَ ذلِكَ مُطَّرداً في كلِّ ما أوردَهُ بهذهِ الصيغةِ لكن مع هذا الاحتمالِ لا يُجْمُلُ حَمْلُ جميعِ ما أوردَهُ بهذهِ الصيغةِ على أنَّهُ سمعَ ذلكَ من شيوخِهِ، ولا يلزمُ / من ذلكَ أن يكونَ مُدَلِّسَاً عنهم؛ فقد صرَّحَ الخطيبُ وغيرُهُ بأنَّ لفظَ: قَالَ، لا يُحملُ على السَّمَاعِ إلَّا مِمَّنْ عُرِفَ من عَادَتِهِ أنه لا يُطلقُ ذلكَ إلَّا فيما سَمِعَ، فاقْتَضَى ذلكَ أنَّ من لم يُعرفْ ذلكَ من عادَتِهِ كانَ الأمرُ فيهِ على الاحتمالِ، واللهُ أعلم.
وأمَّا ما لا يلتحقُ بشرطهِ فقدْ يكونُ صَحيحاً على شرطِ غيرِهِ، وقد يكونُ حَسَنَاً صَالِحَاً للحجَّةِ، وقد يكونُ ضَعيفاً لا من جهةِ قَدْحٍ في رجالِهِ بلْ من جهةِ انقطاعٍ يسيرٍ في إسنادِهِ.
قالَ الإِسْمَاعِيْلِيُّ: قد يصنعُ البخاريُّ ذلكَ إما لأنَّهُ سَمِعَهُ عن ذلكَ الشَّيخِ بواسطةِ من يثقُ بهِ عَنْهُ، وهو معروفٌ مشهورٌ عن ذلِكَ الشَّيخِ، أو لأنَّهُ سَمِعَهُ مِمَّنْ ليسَ من شرطِ الكتابِ، فيُنبِّهُ على ذلِكَ الحديثِ بتسميةِ مَنْ حدَّثَ بهِ لا على جهةِ التَّحديثِ بهِ عنهُ.
قلتُ: والسَّبَبُ فيهِ أنَّهُ أرادَ أن لا يَسُوْقَهُ مَسَاقَ الأصلِ.
فمثالُ ما هو صحيحٌ على شرطِ غَيْرِهِ قولُهُ في الطَّهارةِ: وقَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ النَّبيُّ صلعم يَذْكُرُ الله عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهِ». [خ¦10/19-1013]
وهو حديثٌ صحيحٌ على شرطِ مُسْلِمٍ، وقد أخرجَهُ في ((صحيحهِ)) كما سيأتِي بَيَانُهُ، ومثالُ ما هو حَسَنٌ صالحٌ للحُجَّةِ قولُهُ فيه:
(وَقَالَ بَهْزُ بنُ حَكِيْمٍ عَنْ أَبِيْهِ عَنْ جَدِّهِ [عن النَّبيِّ صلعم](1)) : «اللهُ أَحَقُّ أَنْ يُسْتَحْيَى مِنْهُ مِنَ النَّاسِ»، [خ¦5/20-469] وهو حديثٌ حسنٌ مشهورٌ عَنْ بَهْزٍ، أخرجَهُ أصحابُ السُّنَنِ كما سَيَأتِي.
ومثالُ ما هو ضعيفٌ بِسَبَبِ الانقطاعِ، لكنهُ مُنْجَبِرٌ بِأَمرٍ آخرَ، قولُهُ في كتابِ الزَّكاةِ: (وَقَالَ طَاوُسٌ: قَالَ مُعَاذُ بنُ جَبَلٍ لأَهْلِ اليَمَنِ: ائتُوْنِي بِعَرْضِ ثِيَابٍ خَمِيْصٍ أَوْ لَبِيْسٍ فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيْرِ وَالذُّرَةِ، أَهْوَنُ عَلَيْكُم، وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ محمَّد صلعم): فإسنادهُ إلى طَاوُسٍ صحيحٌ إلَّا أن طَاوُسَاً لم يَسْمَعْ مِنْ مُعَاذٍ. [خ¦24/33-2279]
فأمَّا مَا اعترَضَ بهِ بعضُ المتأخرينَ بِنَقْضِهِ هذا الحكمِ في صيغةِ الجَزْمِ، وأنَّها لا تُفيدُ الصِّحةَ إلى من عَلَّقَ عنهُ بأنَّ المصنِّفَ أخرجَ حَديثاً قال فيه(2) : قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْفَضْلِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبيِّ صلعم: قَالَ: «لَا تُفَاضِلُوْا بَيْنَ الْأَنْبِيَاء» الحديثُ [خ¦7428]، فإنَّ أبا مسعودٍ الدِّمشقيَّ جزمَ بأنَّ هذا ليسَ بصحيحٍ؛ لأن عبدَ اللهِ بْنَ الفَضْلِ إنَّمَا رواهُ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ لا عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، ثم قوَّى ذلِكَ بأنَّ المصنِّفَ أخرجَهُ في موضعٍ آخرَ مَوْصُوْلَاً، فقالَ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ الأَعْرَجِ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ [خ¦3414]، انتهى.
فهوَ اعتراضٌ مردودٌ، والقاعدةُ صحيحةٌ لا تنتقضُ بهذا الإيرادِ الواهِي، وقد رَوَى الحديثَ المذْكُورَ أَبُوْ دَاوُّد الطَّيالسِيُّ في ((مُسندِهِ)) عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، كما عَلَّقَهُ البخاريُّ سواءً، فبَطَلَ ما ادَّعاهُ أَبُوْ مسعودٍ مِنْ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الْفَضْلِ لم يَرْوِهِ إلَّا عَنْ الأَعْرَجِ، وثبتَ أنَّ لعِبَدِ اللهِ بْنِ الفَضْلِ فِيْهِ شيخينِ، وسنزيدُ ذلِكَ بَيَانَاً في موضِعُهُ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.
والصيغةُ الثَّانيةُ: وهي صيغةُ التَّمْرِيْضِ لا يستفادُ منها الصحةُ إلى من عَلَّقَ عنهُ، لكنَّ فيهِ ما هو صحيحٌ، وفيه ما ليسَ بصحيحٍ على ما سَنُبَيِّنُهُ؛
فأمَّا ما هو صَحِيْحٌ فلم نجدْ فيهِ ما هو على شرطِهِ إلَّا مواضعَ يسيرةً جِدَّاً، ووجدنَاهُ لا يستعملُ ذلكَ إلَّا حيثُ يُوْرِدُ ذلكَ المعلَّق بالمعنى كقولهِ في الطِّبِّ [خ¦7/131-3550] : (ويُذْكَرُ عَنْ ابْن ِعَبَّاسٍ عَنْ النَّبيِّ صلعم في الرُّقَى بَفَاتِحَةِ الكِتَابِ): فإنَّهُ أسندَهُ في موضعٍ آخرَ من طريقِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ الأَخْنَسِ عَنْ ابِنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ☻ أَنَّ نَفَرَاً مِنْ أَصْحَابِ النَّبيِّ صلعم مُرُّوْا بحَيٍّ فِيْهِ لَدِيْغٌ، فذكرَ الحديثَ في رُقْيَتِهِم لِلرَّجُلِ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ، وفيهِ قولُ النَّبيِّ صلعم لَمَّا أَخْبَرُوْهُ بذلِكَ: «إِنَّ أَحَقُّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّه». [خ¦5737]
فَهَذَا كما تَرى لما أَوردَهُ بالمعنى لم يجزمْ بِهِ؛ إذ ليسَ في / الموصولِ أنَّهُ صلعم ذكرَ الرُّقْيَةَ بِفَاتِحَةِ الكتابِ، إنَّما فيهِ أنَّهُ لم يَنْهَهُمْ عن فِعْلِهِمْ فاستفيدُ ذلكَ من تَقْرِيْرِهِ.
وأما ما لم يُوردْهُ في موضعٍ آخَرَ مِمَّا أَوردَهُ بهذهِ الصِّيْغَةِ، فمنهُ ما هو صحيحٌ إلَّا أنهُ ليسَ على شرطِهِ، ومنهُ ما هو حَسَنٌ، ومنه ما هو ضَعِيْفٌ فَرْدٌ إلَّا أنَّ العملَ على مُوَافَقَتِهِ، ومنهُ ما هو ضعيفٌ فَرْدٌ لا جَابِرَ لهُ:
فمثالُ الأوَّلِ: أنَّهُ قالَ في الصَّلاةِ: (وَيُذْكَرُ عَنْ عَبْدِ الله بنِ السَّائِبِ قَالَ: قَرَأَ النَّبيُّ صلعم الْمُؤْمِنُونَ فِي صَلَاة الصُّبْح حَتَّى إِذَا جَاءَ ذِكْرُ مُوْسَى وَهَارُوْنَ أَوْ ذِكْرُ عِيْسَى أَخَذَتْهُ سَعْلَةٌ فَرَكَعَ) [خ¦10/106-1232] : وهو حديثٌ صحيحٌ على شرطِ مُسلمٍ أخرجَهُ في ((صحيحهِ)) إلَّا أنَّ البُخَارِيَّ لم يُخَرِّجْ لِبَعْضِ رُوَاتِهِ، وقال في الصِّيَامِ: (وَيُذْكَرُ عَنْ أَبِي خَالِدٍ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ الحَكَمِ وَمُسْلِمٍ البَطِيْنِ وَسَلَمَة بنِ كُهَيْلٍ عَن سَعِيْد ِبنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ وَمُجَاهِدٍ عَنْ بنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَتِ امْرَأَةٌ لِلنَّبِيِّ صلعم «إِن أُخْتِي مَاتَتْ وَعَلَيْهَا صَوْمُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ»: الحديثُ [خ¦1953])، ورجالُ هذا الإسنادِ رجالُ الصَّحيحِ، إلَّا أنَّ فيهِ اخْتِلافَاً كَثيراً في إسنادِهِ، وقد تفرَّدَ أَبُوْ خَالِدٍ سُلَيْمَانُ بْنُ حَيَّانَ الأَحْمَرُ بهذا السِّياقِ، وخالفَ فيهِ الحُفَّاظُ من أصحابِ الأَعْمَشِ كما سيأتي بيانُهُ إن شاءَ اللهُ تَعَالَى.
ومثالُ الثَّانِي: وهو الحسنُ قولُهُ في البيوعِ: و يُذْكَرُ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ: أَنَّ النَّبيَّ صلعم قَالَ لَهُ: «إِذَا بِعْتَ فَكِلْ وَإِذَا ابْتَعْتَ فَاكْتَلْ». [خ¦34/51-3325]
وهذا الحديثُ قد رواهُ الدَّارَقُطْنِيُّ من طريقِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ الْمُغِيْرَةِ، وهو صدوقٌ، عن مُنْقِذٍ مولى عُثْمَانَ، وقد وُثِّقَ عَنْ عُثْمَانَ بِهِ. وتَابَعَهُ عليهِ سَعِيْدُ بْنُ الْمسَيَّبِ، ومن طَرِيْقِهِ أخرجهُ أحمدُ في ((المسندِ)) إلَّا أنَّ في إِسْنَادِهِ ابْنَ لَهِيْعَةَ، ورواهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ في ((مُصَنَّفِهِ)) من حديثِ عَطَاءٍ عَنْ عُثْمَانَ، وفيهِ انقطاعٌ، فالحديثُ حسنٌ لِمَا عَضَدَهُ من ذَلِكَ.
ومثالُ الثَّالِثِ: وهو الضَّعيفُ الذي لا عَاضِدَ لَهُ، إلَّا أنَّهُ على وِفْقِ العملِ قولُهُ في الوَصَايَا: (وَيُذْكَرُ عَنْ النَّبِيِّ صلعم أَنَّهُ قَضَى بِالدَّيْنِ قَبْلَ الوَصِيَّةِ): [خ¦55/9-4298] وقد رواهُ التِّرمذيُّ مَوْصُولاً من حديثِ أَبِي إَسْحَاقَ السَّبِيْعِيِّ عَنْ الحَارِثِ الأَعْوَرِ عَنْ عَلِيٍّ. والحَارِثُ ضعيفٌ، وقد استغرَبَهُ التِّرمذيُّ، ثمَّ حَكَى إجماعَ أَهْلِ العلمِ على القولِ بهِ.
ومثالُ الرَّابعِ: وهو الضَّعيفُ الذي لا عَاضِدَ لَهُ، وهو في الكتابِ قليلٌ جِدَّاً، وحيثُ يقعُ ذلكَ فيهِ يَتَعَقَّبُهُ المصنِّفُ بالتَّضعيفِ بخلافِ ما قبلهُ، فمنْ أَمْثِلَتِهِ قولُهُ في كِتَابِ الصَّلَاةِ: (ويُذْكَرُ عن أَبي هُرَيْرَةَ رَفْعُهُ: «لَا يتَطَوَّع الإِمَامُ فِي مَكَانَه» [خ¦848] ولم يصحَّ، وهو حديثٌ أخرجه أَبُوْ دَاوُد مِنْ طَرِيقِ [10/أ] لَيْثِ بْنِ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ الْحجَّاج بن عُبَيْدٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بنِ إِسْمَاعِيلَ عَن أَبي هُرَيْرَة).
وَلَيْثُ بنُ أَبِي سُلَيْمٍ ضَعِيْفٌ، وَشَيخ شَيْخه لَا يُعرفُ، وَقد اخْتُلِفَ عَلَيْهِ فِيهِ فَهَذَا حكمُ جَمِيعِ مَا فِي الْكتابِ من التَّعَالِيقِ المرفوعةِ بِصِيْغَتَيِّ الْجَزْمِ والتَّمْرِيْضِ، وَهَاتَانِ الصِّيْغَتَانِ قد نقلَ النَّوويُّ اتفاقَ مُحَقِّقِي المحدثينَ وغيرِهِم على اعْتِبَارِهِمَا، وأنه لا ينبغِي الجزمُ بشيءٍ ضَعيفٍ؛ لأنها صيغةٌ تَقتضي صِحَّتَهُ عَنْ الْمُضَافِ إِلَيْهِ فلا ينبغي أنْ تُطلقَ إلَّا فيما صَحَّ، قال: وقد أهملَ ذلكَ كثيرٌ من المصنِّفينَ من الفُقَهَاءِ وغيرِهِمْ، واشتدَّ إنكارُ البَيْهَقِيِّ على مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ، وهو تَسَاهُلٌ قَبِيْحٌ جِدَّاً من فَاعِلِهِ؛ إذ يقولُ في الصَّحيحِ: يُذْكَرُ ويُرْوَى، وفي الضَّعيفِ: قالَ ورُوِيَ. وهذا قلبٌ للمَعَاني، وَحَيْدٌ عن الصَّواب، قال: وقد اعْتنَى البخاريُّ ☼ باعتبارِ هاتَيْنِ الصِّيغتينِ، وإعطائِهِمَا حُكمهُمَا في ((صحيحهِ))، فيقولُ في الترجمةِ الواحدةِ بعضَ كلامِهِ / بتمريضٍ، وَبَعْضَهُ بِجَزْمٍ مُراعِيَاً ما ذَكَرْنَا، وهذا مُشعرٌ بتحريِّهِ وورعِهِ، وعلى هذا فيُحملُ قولُهُ: ما أدخلتُ في الجامعِ إلَّا مَا صَحَّ؛ أي: مِمَّا سُقْتُ إِسْنَادَهُ، واللهُ أعلمُ، انتهى كلامُهُ.
وقد تبينَ ممَّا فصَّلَّنَا به أقسامَ تعاليقِهِ أنَّهُ لا يفتقرُ إلى هذا الحملِ، وأنَّ جميعَ ما فيهِ صَحِيْحٌ باعتبارِ أنَّهُ كُلَّهُ مَقْبُوْلٌ ليسَ فيهِ ما يُرَدُّ مُطْلَقَاً إلَّا النَّادرُ، فهذا حكمُ المرفوعاتِ.
وأما الموقوفاتُ فإنَّه يجزمُ منها بما صحَّ عندَهُ، ولو لم يكنْ على شَرْطِهِ، ولا يجزمُ بما كانَ في إسنادِهِ ضَعْفٌ أو انقطاعٌ، إلَّا حيثُ يكونُ مُنْجَبِرَاً، إما بمجيئِهِ من وَجْهٍ آخَرَ، وإما بشهرتِهِ عمَّنْ قَالَهُ، وإنما يُوردُ ما يُوردُ من الموقوفَاتِ مِنْ فَتَاوَى الصَّحابةِ والتَّابعينَ، ومِنْ تَفَاسِيْرِهِمْ لكثيرٍ من الآياتِ على طريقِ الاسْتئناسِ والتَّقويَةِ لما يختارُهُ من المذاهبِ في المسائلِ الَّتي فيها الخلافُ بَيْنَ الأئمَّةِ، فحينئذٍ ينبغي أنْ يُقَالَ: جميعُ ما يوردُ فيهِ إمَّا أن يكونَ ممَّا تَرْجَمَ بهِ، أو ممَّا تَرجَمَ لهُ، فالمقصودُ في هذا التصنيفِ بالذاتِ هو الأحاديثُ الصحيحةُ المُسْنَدةُ، وهي الَّتي ترجَمَ لَهَا، والمذكورُ بالعَرَضِ والتَّبَعِ الآثارُ الموقوفَةُ والآثارُ المعلَّقةُ، نعمْ والآياتُ المكرَّمَةُ، فجميعُ ذلكَ مُترجمٌ بِهِ إلَّا أنَّها إذا اعْتُبرْت بَعْضُهَا مع بَعْضٍ، واعتُبرْتَ أيضاً بالنِّسبةِ إلى الحديثِ يكونُ بَعْضُهَا معَ بَعْضٍ منها مُفسِّرٌ ومِنها مفسَّرٌ، فيكونُ بعضها كالمترجمِ لهُ باعتبارٍ، ولكن المقصودَ بالذاتِ هو الأصلُ.
فافهمْ هذا فإنَّهُ مَخْلَصٌ حَسَنٌ يندفعُ بهِ اعتراضُ كثيرٍ عمَّا أوردَهُ المؤلِّفُ مِنْ هذا القبيلِ، واللهُ الموفِّقُ.
[1] سقط من ت و ط و د.
[2] لم أجد الحديث بهذا اللفظ في البخاري، ولكن بنفس السند قال: «فأكون أول من بُعِثَ، فإذا مُوْسَى آخذٌ بالعرشِ».