الطَّرف الأول: في وجهِ تخصيصِه هذا الحديثَ دون غيرِه:
وبيانُه: أنَّه لمَّا ابتدأ المصنِّف كتابَه بـ(بَدْء الوَحْي) وكان منه {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ} [النصر:1] إعلامًا بانقضاء أجلِه صلعم، ومِن جملتها قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [النصر:3] ناسَبَ الختم بحديثه، وأيضًا فإنَّه لمَّا كان الحمدُ بعد التَّسبيح آخِرَ دعوى أهل الجنَّة؛ كما قال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ} الآية [يونس:10] ووقع في هذا الحديثِ كذلك؛ ناسَبَ أن يجعل المصنِّف هذا الحديثَ آخِرَ كتابِه في فضل التَّسبيح والتَّحميد، وأيضًا لمَّا كان آخِرَ الأمور الَّتي يظهر بها المفلِحُ مِنَ الخاسر ثقلُ الموازين وخفَّتُها؛ جعله آخِرَ تراجِمِ كتابه، فبَدَأ بحديث: «إنَّما الأعمال بالنِّيَّات» وذلك في الدُّنيا، وخَتَم بأنَّ أعمال بني آدم توزَنُ، وذلك في القيامة، فناسَبَ أن يذكُرَ ما يحصل به ثقلُ الميزان، ويوجِب محبَّة الرَّحمَن؛ وهو التَّسبيح والتَّحميد.
وفي هذا الابتداءِ والختام إشارةٌ إلى أنَّه إنَّما يثقُلُ مِنَ الأعمال ما كان مصحوبًا بالنِّيَّة الخالصة له تعالى، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:5] وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف:110] فمن داخَلَه في عمله إعجابٌ أو رياءٌ أو حبُّ مَحمَدةٍ أو كراهيَةُ ذمٍّ؛ فليس بمُخلِصٍ في عمله، / والله تعالى لا يقبل مِنَ العمل إلَّا ما كان خالِصًا، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «يقول الله تعالى يوم القيامة: مَن عمِلَ عملًا أشرَكَ فيه غيري؛ فأنا منه بريءٌ، وهو للَّذي أشرك»، وما أحسَنَ قولَ الإمامِ العارف أبي الفضل ابن عطاء الله السَّكندريِّ: (الأعمال صُوَرٌ قائمة، وأرواحُها وجودُ سرِّ الإخلاص فيها).
وأيضًا في الختم بهذا الحديث مراعاةٌ لحديث: «من كان آخِرَ كلامِه لا إله إلَّا الله» وذلك لأنَّ حقيقةَ التَّسبيح هو التَّنزيه عمَّا لا يليق بجلاله وكبريائه مِنَ الشِّريك والولد وغيرهما كُلِّيَّةً، فصار التَّسبيحُ مؤدِّيًا للتَّوحيد بأتمِّ وجهٍ وآكَدِه، ففيه تنبيهٌ على أنَّ المراد بحديث: «مَن كان آخِرَ كلامه لا إله إلَّا الله» هو أن يكون كلامه يدلُّ على التَّوحيد بأيِّ عبارةٍ كانت، لا أن يكون آخر كلامه (لا إله إلَّا الله) بعينه؛ لأنَّ المَرعيَّ في هذا الباب المعاني لا الألفاظ، ويؤيِّده في الجملةِ أنَّ آخر كلامِ رسول الله صلعم كان غير هذه الكلمة؛ وهو قوله: «الرفيق الأعلى» لكن لكونِه من ثمراتِ كمالِ التوحيد كان دالًّا على التوجيه بأتمِّ وجه وآكَدِه، ففي هذا الختمِ المبارك تفاؤلٌ بالختمِ لمن يعتني بهذا الكتابِ على التَّوحيد إن شاء الله تعالى، اللَّهُمَّ ارزُقْنا ذلك مع الأحبَّاء.