الطَّرف الثَّالث: في تفسيره:
قوله (حَبِيبَتَانِ) فيه إشارةٌ إلى أنَّه تعالى يُوصَف بمحبَّة عبده كما يُوصَف عبدُه بمحبَّته؛ لأنَّ معنى (حبيبتان) محبوبتان عنده ويُحبُّ قائلهما؛ لأنَّهما مِنَ النَّوافل الَّتي يُتقرَّب بها إلى الله تعالى.
واختُلِف في معنى محبَّته تعالى لعبده؛ فقيل: إرادته له خصوص الإنعام مِنَ القربى والزُّلفى، وقيل: مدحه وثناؤه عليه، فعلى هذا تكون محبَّتُه قديمةً؛ لأنَّ مدحه وثناءه كلامُه، وكلامُه قديمٌ كعِلمه وقدرته تعالى، فكأنَّه أثنى عليه ومدحه في القِدَم بكلامه القديم، وقيل: إحسانه إليه وإنعامه عليه، فعلى هذا تكون مُحدَثةً؛ لأنَّ إحسانه إليه وإنعامه عليه محدثٌ كالخلق، ومنهم مَن كفَّ عن تفسيرها وقال: هي مِن صفات الأخبار؛ لأنَّه تعالى أخبر بذلك، فلا نَعلَم ما هي.
وأمَّا محبَّة العبد له تعالى فهي حالةٌ يجدُها العبد في قلبه، وهي ألطفُ مِن أن يُعبَّر عنها بلسانٍ، وأشرفُ مِن أن يُشار إليها بِبَنانٍ أو بيانٍ، وكيف يعبَّر عن حالةٍ قتيلُها لا يُودَى، وجريحُها لا يُفدَى، فتحملُ العبدَ تلك الحالةُ اللَّطيفة والمنزلة الشَّريفة على تعظيم محبوبه، وكثرة الشَّوق إليه، وقلَّة الصبر عنه، وعدم القرار دونه، ودوام الاستئناس بدوام ذكره بالقلب واللِّسان، والمواظبة على ائتمار أوامره، وطلب مرضاتِه(1) بالخضوع تارةً وبالدموع أخرى، ويستحيل أن تكون محبَّةُ العبد إدراكَه لله تعالى بالكيفيَّة، والإحاطة بالأَينيَّة؛ لأنَّ حقيقة الحقائق العليَّة منزَّهةٌ عن هذه الأوصاف الدنيَّة، وقال الجنيد: مَن أثبتَ محبَّته لله مِن غير محبَّة الله له كان في دعواه مُبطلًا؛ لأنَّه تعالى قدَّم محبَّتَه على محبَّتهم، وجعل / محبَّته شرطًا، وبيَّن أنَّ ذلك تفضُّلٌ منه سبحانه، فقال: {ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة:54] وهذا يشبه قولَ الواسطيِّ: بفضلِه أحبَّهم وأحبُّوه؛ كما أنَّه بفضله ذَكَرَهم وذَكَروه، وليعلم أنَّ حبَّه تعالى إذا دخل قلبَ امرئٍ أخرج ما سواه.
قيل: أوحى الله إلى داوُد ◙: يا داودُ؛ إنِّي حرَّمتُ على القلوب أن يدخلها حبِّي وحبُّ غيري، وأوحى إليه أيضًا: يا داودُ؛ مَن أحبَّني يتهجَّد بين يديَّ إذا نام البطَّالون، ويذكرني في خلوتِه إذا لها عن ذِكري الغافلون.
وليُعلَم أنَّ المحبَّة والحبَّ بمعنًى واحدٍ، اسمٌ لصفاء الحال بين المحبِّين، مشتقٌّ مِن قولهم: حباب الأسنان؛ لبياضها وصفائها.
وقيل: المحبَّة اسمٌ لغليان ما في القلب مِنَ الأَحزان، والهيَمان والاهتياج إلى لقاء المحبوب، مشتقٌّ مِن قولهم: حباب القدر؛ لرغوتها حين غليانها وثورانها.
وقيل: اسمٌ للزوم ذكر الحبيب في القلب، مِن قولهم: أحبَّ البعيرُ؛ إذا برك ولزِمَ المَبرَك والمَناخ، قال تعالى: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} [ص:32] قال أبو عبيدة: معناه: إنِّي لزمت.
وقيل: المحبَّة اسمٌ لحبَّة القلب؛ وهي موضع سويدائه، وبه قوام القلب، وسُمِّيت المحبَّة به لأنَّها تسكن في حبَّة القلب؛ كـ(الراويَة) جُعِلَت اسمًا للمَزادة الَّتي فيها الماءُ للمجاورة؛ لأنَّ العرب تُسمِّي الشَّيء باسمِ الآخَر إذا كان قريبًا مِنه.
وقيل: أن تغارَ على محبوبك أن يحبَّه غيرُك.
وليُعلَم أنَّ المحبَّة عشرةُ أقسامٍ، فروعُها مختلفةٌ وإن كانت أصولها متَّفقةً مؤتلفةً:
أَوَّلها: المِقَةُ؛ وهي أشدُّ الملاحظة، قال بعضهم: الحبُّ أوَّله سهلُ المَرام، وآخِرُه هَول الحِمام، ابتداؤه ممزوجٌ بالمُزاح، وانتهاؤه خروجُ الأرواح، فاتحتُه نطقٌ بالحُجج، وخاتمته غرقٌ في اللُّجَج.
ثانيها: المودَّة؛ وهي ميلُ الطبع بالبعضيَّة، / قال تعالى في وصف عَبَدة الأوثان: {إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} [العنكبوت:25] ومع البعضيَّة فالحُرقة بِها ظاهرةٌ، وشدَّة الشَّوق في أحوالها قاهرةٌ؛ ولهذا قيل: استحكامُ المودَّة زراعة المحبَّة.
ثالثها: الخلَّة، وسمِّيت بذلك لأَنَّها دخلت في خِلال القلب، سُئِل ذو النون المصريُّ: ما معنى الخلَّة؟ قال: الاشتغال بالخليل دون ما سواه، وكانت رابعة العدويَّة تقول: الخلَّة انزعاجٌ يتخلَّل الأنفاس والأرواح، والشِّفاه والأشباح.
ثمَّ ينتهي هذا المقام إلى مقام المحبَّة _وهي القسم الرَّابع_ وهي أَن يعبد محبوبه لا خوفًا مِن النَّار، ولا رغبةً في الجنَّة، بل يعبده خالصًا لوجهه، فإن شاء أدخله النَّار، وإن شاء أدخله الجنَّة، إذا عُلِم هذا فليُعلَم أَنَّ منزلة المحبَّة أشرفُ وأكملُ مِن منزلة الخلَّة بدرجاتٍ كثيرةٍ:
منها: أنَّ الخلَّة لا تكون إلَّا عن مكافأةٍ، فإنَّ الخليل إبراهيم ◙ بذلَ مالَه للضِّيفان، وولدَه للقُربان، وبدنَه للنِّيران، حتَّى اتَّخذه خليلًا، فقال: {وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [النساء:125] والمحبَّة ربَّما لا تكون عن مكافأةٍ، بل قد تكون بالعناية السَّابقة، قال في حقِّ محمَّدٍ صلعم الحبيب: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ} [آل عمران:31].
ومنها: أنَّ اسم الخلَّة خاصٌّ للخلَّة، فإنَّ الخليل إبراهيم ◙ لم يبلغ إلى منازل الحبيب محمَّدٍ، لا في الملكوت الأعلى، ولا جُعل شاهدًا على محمَّدٍ وأمَّته، واسم المحبَّة عامٌّ للخلَّة والمحبَّة، فإنَّ الحبيب محمَّدًا بلغ إلى منازل الخليل إبراهيم ◙ مِنَ الملكوت وغيرِها، وجاوَزَها وارتفَعَ عنها، وجُعِل شاهدًا على سائر الأنبياء والأُمَم، فكلُّ حبيبٍ خليلٌ، وليس كلُّ خليلٍ حبيبًا.
ومنها: أَنَّ منازلَ الخلَّة ومِعراجَها إلى الملكوت، فيكون الخطاب برسالةٍ أو وحيٍ أو / مِن وراء حجابٍ، ولا يسوغ له مجاوزتُها، قال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الأنعام:75] ومنازلُ المحبَّة ومعراجُها إلى مالكِ الملكوت بالمجاوزة على الكلِّ، وسماع الخطاب وتشريف التَّحيَّة والسَّلام، فقال تعالى: {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى. فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم:9-10].
ومنها: أَنَّ الخليلَ لا يجسُرُ أَن يتمنَّى لقاءَ خليله؛ ولذا لمَّا احتُضر إبراهيمُ الخليل ◙ قال لملَك الموت: هل رأيتَ خليلًا يقبضُ روحَ خليله؟ فقال الله تعالى: قل له: وهل رأيتَ خليلًا يَكره لقاءَ خليله؟ والحبيبُ يتمنَّى لقاءَ حبيبه؛ ولذا لمَّا احتُضِر الحبيبُ محمَّدٌ صلعم، وخُيِّر بين المقام والانتقال؛ كان يقول: «الرَّفيق الأعلى، {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55]».
وقد بالغ بعضُهم في ذكر الفرق بينهما، وفيما ذكرتُه كفايةٌ، وبالله التَّوفيق.
خامسها: التَّوق؛ وهو توق النَّفس إلى المحبوب، وهو يتولَّد مِنَ امتلاء القلب، وامتزاج الكرب، فإنَّ القلب يمتلئُ إذا شِيبَ الحبَّ بالأحزان، فيمتلئ القلبُ مِن حبِّ حبيبه، فيلجأُ إلى الذلِّ والخضوع.
سادسها: الشَّوق؛ وهو إرادة رؤية الحبيبِ على قلَّة الصَّبر؛ ولهذا قيل: الشَّوق يقع على الرُّؤية، والمحبَّة تقع على الذَّات.
سابعها: العِشق؛ وهو مجاوزة الحدِّ في المحبَّة، ولا يجوز أن يقال: إنَّ الله تعالى يُوصَف بأنَّه تجاوَز الحدَّ؛ لاستحالة أن يكون فوقَه آمرٌ أو حادٌّ له فيما يفعله، بل هو الآمِرُ الحادُّ لخلقه؛ ولهذا يستحيل أن يُوصَف بالعِشق، وأمَّا مِن جهة العبد فلا يجوز أيضًا؛ لأنَّه لو جُمِع محابُّ الخلائق كلُّهم في شخصٍ واحدٍ؛ لم يبلغ ذلك قدرَ استحقاق محبَّة الله سبحانه وتعالى، فلَأَن لا يبلغ مجاوزتَه أَولى، فيستحيلُ أن يُقَال أيضًا: إنَّ عبدًا جاوز الحدَّ في محبَّة ربِّه تعالى؛ / فلذا لا يجوز أن يقال: إنَّ العبد يعشقُ ربَّه تعالى، ويجوز ذلك لأحدِ المخلوقينَ في الآخر، وقيل: إنَّ سبب العشق أنَّ القلب إذا غفل عن الملك الجبَّار؛ شغله بمحبَّة الأغيار.
ثامنها: الرِّمْق؛ وهو ميل القلب كما أنَّ الرَّمَق ميل العين، وسُئل الشَّبليُّ عن نظر العين ونظر القلب، فقال: العين ترمق إلى الملَكوت، والقلب يرمق إلى مالكِ الملَكوت، ثمَّ شهق شهقةً وغاب ساعةً في وَجْدِه، فلمَّا أفاق قال: مساكينُ هؤلاء المماليكُ الَّذين رمقوا بعيونهم إلى الملَكوت المخلوق، ورضُوا بالجِنان المخلوقة، وأمَّا الملوكُ فعُرِضَت عليهم هذه كلُّها، فلم يرضَوا بها، ولم ينظروا إليها، {مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى. لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم:17-18] فرمقوا بقلوبهم مالكَ الملَكوت القديمَ الأزليَّ، فبقوا {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} [القمر:55].
تاسعها: النِّزاع؛ وهو قلع الشَّيء مِن موضعه، مِنَ المنازعة الَّتي تُنَازِع قلبَ الحبيب في صفات المحبوبِ شوقًا إليه، قال سُحنون لبعضِ أصحابه: كيف بِتَّ البارحة؟ فقال: أمسيتُ مع المنازعة، وأصبحت مع المخادعة، أمسيتُ والهوى والمحبَّةُ يُنازِعاني، وأصبحتُ والمقام والحال يُخادِعاني.
عاشرها: الصَّبابة؛ وهي ذهابُ الشَّيء مِن محلِّه؛ لأنَّه يَذهَب بالقلب مِن حال الصَّلاح والانتفاع، إلى حال الفسادِ والضَّياع.
وأمَّا (الهوى) فهو اسمٌ يجمعُ هذه الأنواع كلَّها، سُمِّي به لطلبه العلوَّ والشَّرف؛ لأنَّ الهوى مِن أعلى الدَّرجات وأشرف المنازل، والَّذي في قلبه الهوى يعلو مِن قلبه لهيبُ الزفرات، ويرتفع منه نَفَسُ التَّأوُّهات، وسُئِل بعضهم: ما معنى الهوى؟ فقال: هو الهوانُ بعينه، وإنَّما حُذِفَت منه النُّون.
وقوله: (إِلَى الرَّحْمَنِ) إنَّما خصَّ اسمه (الرَّحمن) دون غيره مِنَ الأسماء الحسنى؛ لأنَّ كلَّ اسمٍ منها إنَّما يُذكَر في المكانِ اللَّائق به وهذا مِن / محاسِن البديع الواقع في الكتاب العزيز وغيره مِنَ الفَصيح؛ كقوله تعالى: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح:10] وكذلك لمَّا كان جزاءُ مَن يُسبِّحُ بحمدِه الرحمةَ؛ ذُكِرَ في سياقِها الاسمُ المناسبُ لذلك؛ وهو (الرحمن)، وأيضًا خصَّه لأنَّ المرادَ مِن هذا الحديث بيانُ سَعةِ رحمة الله تعالى على عباده، ولأنَّه ليس في الأسماء الحُسنى أخصُّ بالذاتِ المقدَّسةِ بعد الجلالةِ الشريفة مِن اسمِه (الرحمن)، ويؤيِّد هذا قولُه تعالى: {قُلِ ادْعُوا اللهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ} [الإسراء:110] ففيها إشارةٌ إلى أنَّ اسمه (الرحمن) عدْلٌ للجلالة الشريفة.
و(الرحمة) إرادةُ الله الخيرَ بأهلِه، وعلى هذا القولِ تكونُ الرحمةُ صفةَ ذاتٍ، وقيل: هي تركُ عقوبةِ مَن يستحقُّ العقوبةَ، وإسداءُ الخير لمَن لا يستحقُّه، وعلى هذا تكونُ صفةَ فعلٍ، و(الرحمن) هو الشاملُ بالرحمة لكافَّة ما تناولتْه الرُّبوبيَّة، قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف:156] فهو خاصُّ اللفظ، عامُّ المعنى، فخُصوصيَّتُه مِن حيثُ إنَّه لا يجوز أن(2) يُسمَّى به أحدٌ غير الله تعالى، عامٌّ مِن حيثُ شمولُه جميعَ الموجودات، وقد ورَدَ في سَعة رحمتِه تعالى أحاديثُ كثيرةٌ:
منها: ما رُويَ عنهُ صلعم أنَّه قال: «إنَّ الله جعل الرحمةَ في مئة جزءٍ، فأمسَكَ عندَه تسعًا وتسعين جزءًا، وأنزل في الأرض جزءًا واحدًا، فمِن ذلك الجزء يتراحمُ الخلق، حتى ترفعَ الفرَسُ حافِرَها عن ولدِها؛ خشيةَ أن تُصيبَه» وهذا حديثٌ جليلٌ، فيه بشارةٌ عظيمةٌ للمسلمين؛ لأنَّه إذا حصَل للإنسانِ رحمةٌ واحدةٌ في هذه الدار المَبنيَّة على الأكدار؛ فكيفَ الظنُّ بما ادَّخرهُ الله في الدار الآخِرة التي هي دارُ القَرار؟!
ومِنها: ما في «صحيح مسلمٍ» عنه صلعم أنَّه قال: «قال / الله تعالى: إنَّ رحمتي غلَبتْ غَضَبي» وفي روايةٍ: «سبَقت غضبي»، والمراد بالسبق والغلَبةِ هنا: كثرةُ الرحمة وشمولُها؛ كما يقال: (غلَبَ على فلانٍ الكرمُ والشجاعة) إذا كثُرَ ذلك منه.
وقوله: (خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ) أي: للِينِ حُروفِهما، وسُهولة خُروجِهما، فالنطقُ بهما سَريعٌ؛ وذلك لأنَّه ليس فيهما شيءٌ مِن حروفِ الشِّدَّة المعروفة عند أهلِ العربيَّة؛ وهي: الهمزة، والباء الموحَّدة، والتاء المثنَّاة الفوقيَّة، والجيم، والدال والطاء المهملتان، والقاف، والكاف، ولا مِن حروف الاستعلاء أيضًا؛ وهي: الخاء المعجَمة، والصاد والضاد، والطاء والظاء، والغين المعجَمة، والقاف، سِوى حرفين؛ الباء الموحَّدة والظاء المعجَمة، وممَّا يُستَثقَلُ أيضًا مِنَ الحُروف: الثاء المثلَّثة والشين المعجَمة، وليس فيهما.
ثمَّ إنَّ الأفعالَ أثقلُ مِنَ الأسماء، وليس فيهما فعلٌ، وفي الأسماء أيضًا ما يُستَثقَل؛ كالذي لا ينصرف، وليس فيهما شيءٌ مِن ذلك، وقدِ اجتمعت فيهما حروفُ اللِّينِ الثلاثة؛ الألف والواو والياء، وبالجملة فالحروفُ السَّهلةُ الخفيفة فيهما أكثرُ مِنَ العكس، فالحاصلُ أنَّ المرادَ بخِفَّتِهما سهولةُ النطقِ بهما.
وقوله: (ثَقِيلَتانِ) أي: حقيقةً؛ بناءً على أنَّ الأعمالَ توزَنُ وتوضَعُ في الميزان، أو المرادُ بثِقَلِهما كثرةُ الأجور المُدَّخَرة لقائلِهما، والحسَنات المُضاعَفة للذاكِر بهما.
وقوله: (فِي المِيزَانِ) أصلُه: (مِوْزان) بكسرِ الميم وسُكونِ الواو والزاي وألفٍ بعدها نونٌ، فقُلِبتِ الواوُ ياءً؛ لسكونِها وانكسارِ ما قبلَها، فصار (مِيزان).
وقد أجمَعَ أهلُ السُّنَّة على الإيمانِ بالميزان، وأنَّ أعمالَ بني آدمَ تُوزَنُ يومَ القيامة، قاله الزجَّاجُ وغيرُه، والدلائل على هذا كثيرةٌ، لكن لم يثبُت نصٌّ في تعيينِ جوهرِه، ولا في أنَّه موجودٌ اليومَ أو سيُوجَد / في يوم القيامة؛ كما في «شرح اللقَّانيِّ على الجوهرة».
واعلم أنَّ وزن الأعمال لا يكون إلَّا بعد انقضاء الحساب؛ لأنَّ المحاسبة لتقرير الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها؛ ليكون الجزاءُ بحسبها.
وخُصَّ مِن عموم وزن الأعمال طائفتان:
الأولى: مَن ليس له سيِّئاتٌ أصلًا، قال الشيخ أبو حامدٍ الغزاليُّ: والسبعون ألفًا الذين يدخلون بغير حسابٍ لا يُرفَع لهم ميزانٌ ولا يأخذون صُحفًا، وإنَّما هي براءةٌ مكتوبةٌ: «لا إله إلَّا الله، محمَّدٌ رسول الله، هذه براءة فلان بن فلان، قد غُفِر له، وسعِدَ سعادةً لا شقاءَ بعدها»، فما مرَّ عليه شيءٌ أسرَّ مِن ذلك المقام، وذكر ابن الجوزيِّ في كتابه «روضة المُشتاق» عن الحُسَين بن عليٍّ ☻ أنَّه قال: قال رسول الله صلعم: «إذا كان يوم القيامة جاء أقوامٌ والناسُ في الحساب، قد أنبت اللهُ لهم أجنحةً خُضرًا، فتساقطوا على حيطان الجنَّة، فيقول لهم خَزَنة الجنَّة: مَن أنتم؟ فيقولون: نحن مِن ولد آدم، فيقولون: هل حوسِبتم؟ قالوا: لا، قالوا: فعبرتُم الصراط؟ قالوا: ما الصراط؟ فيُقال لهم: بِمَ نِلتم هذه المنزلة؟ قالوا: كنَّا نعبد الله سرًّا، فأدخَلَنا الجنَّة سرًّا» رواه أبو منصورٍ الديلميُّ.
الثانية: مَن لا ذنبَ له إلَّا الكفر فقط، ولم يعمل حسنةً قطُّ، فإنَّه يقع في النار مِن غير حسابٍ ولا ميزانٍ.
وأنكرت المعتزلة الميزانَ محتجِّين بأنَّ الأعراض يستحيل وزنُها؛ إذ لا تقوم بأنفُسِها، والحقُّ عند أهل السُّنَّة: أنَّ الأعمال تُجَسَّم أو تُجعَل في أجسامٍ، وروى بعض المتكلِّمين عن ابن عبَّاسٍ ☻: أنَّ الله تعالى يُقلِّب الأعراض أجسامًا فيزِنُها، وقال الطيبيُّ: إنَّما تُوزَن الصحفُ، وأمَّا الأعمال فأعراضٌ لا تُوصَف بثقلٍ ولا بخفَّةٍ، / ورجَّحه القرطبيُّ، ويؤيِّده ما رويناه في «كتاب الترمذيِّ» و«ابن ماجه» وابن حبَّان في «صحيحه» والحاكم والبيهقيِّ مِن حديث عبد الله بن عمرو بن العاص: أنَّ رسول الله صلعم قال: «إنَّ الله يستخلصُ رجلًا مِن أمَّتي على رؤوس الخلائق يومَ القيامة، فينشر عليه تسعةً وتسعين سِجِلًّا، كلُّ سِجِلٍّ مثلُ مَدِّ البصر، ثمَّ يقول: أتُنكِر مِن هذا شيئًا؟ أظَلمَك الكتَبةُ الحافظون؟ فيقول: لا يا ربِّ، فيقول: أفَلَكَ عذرٌ؟ فيقول: لا يا ربِّ، فيقول الله تعالى: بلى؛ إنَّ لك عندنا حسنةً، فإنَّه لا ظلمَ عليك اليوم، فيُخرِج له بطاقةً _أي رقعةً_ فيها: أشهدُ أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أنَّ محمَّدًا عبده ورسوله، فيقول: احضُر وزنَ ذلك، فيقول: يا ربِّ؛ ما هذه البطاقة مع هذه السِّجِلَّات؟ فيقول: فإنَّك لا تُظلَم، فتوضَع السِّجلَّات في كفَّةٍ، والبطاقة في كفَّةٍ، فطاشت السِّجلَّات وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيءٌ».
وحكى القرطبيُّ في «تذكرته» عن القشيريِّ في «تفسيره»: إذا خفَّت حسناتُ العبد المؤمن أخرج رسول الله صلعم بطاقةً كالأنملة، فيُلقيها في كفَّة الميزان التي فيها حسناتُه، فترجح الحسنات، فيقول ذلك العبدُ المؤمن للنبيِّ صلعم: بأبي أنت وأمِّي، ما أحسنَ وجهَك وأحسن خلقك مَن أنت؟ فيقول: أنا نبيُّك محمَّدٌ، وهذه صلاتُك التي كنتَ تصلِّيها عليَّ، وقد وفيتك بها أحوجَ ما تكون إليها.
وذكر الغزاليُّ: أنَّه يُؤتى برجلٍ يوم القيامة، فما يجد حسنةً ترجح بها ميزانه، وقد اعتدلت بالتسوية، فيقول الله تعالى له رحمةً منه: اذهب في الناس، فالتمِس مَن يعطيك حسنةً أُدخِلك بها الجنَّة، فيجول خِلال العالمين، فما يجد أحدًا يكلِّمه في ذلك الأمر إلَّا يقول له: خفتُ أن تَخفَّ ميزاني، فأنا أحوجُ منك إليها، فيقول له رجلٌ: ما الذي / تطلبُ؟ فيقول: حسنةً واحدةً، فلقد مررتُ بقومٍ لهم آلافُ حسناتٍ فبخلوا عليَّ، فيقول له الرجل: لقد لقيتُ الله، فما وجدتُ في صحيفتي إلَّا حسنةً واحدةً، وما أظنُّها تُغني عنِّي شيئًا، فخُذها هِبةً منِّي إليك، فينطلق بها فرِحًا مسرورًا، فيقول الله: ما شأنُك؟ _وهو أعلم_ فيقول: يا ربِّ؛ اتَّفق مِن أمري كيتَ وكيت، ثمَّ ينادي الله سبحانه وتعالى لصاحبِه الذي وَهَبه الحسنةَ، فيقول له سبحانه: كَرَمي أوسعُ مِن كرمك، خُذ بيدِ أخيك وانطلقا إلى الجنَّة.
وروى البيهقيُّ عن أنسٍ مرفوعًا قال: «مَلَكٌ موكَّلٌ بالميزان، فيؤتى بابن آدم، فيُوقَف بين كفَّتي الميزان، فإن ثقُل ميزانُه نادى ملَكٌ موكَّلٌ بصوتٍ يُسمِع الخلائق: سعِدَ فلانٌ سعادةً لا يشقى بعدها أبدًا، وإن خفَّت موازينُه نادى ملكٌ موكَّلٌ بصوتٍ يُسمِع الخلائق: شقيَ فلانٌ شقاوةً لا يسعد بعدها أبدًا».
وقيل: سأل داودُ ربَّه أن يُريَه الميزانَ، فلمَّا رآه أُغمِيَ عليه مِن هولِه، ثمَّ أفاق فقال: إلهي؛ مَن يقدر يملأ كفَّة هذا الميزان حسناتٍ؟ فقال: يا داود؛ إذا رضيتُ على عبدي ملأتُه بتمرةٍ واحدةٍ.
وليُعلَم أنَّ الناس في الآخرة على ثلاث طبقاتٍ: متَّقون لا كبائرَ لهم، ومُخلِّطون وهم الذين يأتون بالكبائر والفواحش، والثالثة: الكفَّار.
فأمَّا المتَّقون فإنَّ حسناتِهم تُوضَع في الكفَّة النيِّرة، وصغائرهم _إن كانت لهم_ تُوضَع في الكفَّة الأخرى، فلا يجعل الله لتلك الصغائر وزنًا، وتثقل الكفَّة النيِّرة، وترتفع المظلمةُ ارتفاعَ الفارغ الخالي.
وأمَّا المُخلِّطون فحسناتُهم تُوضَع في الكفَّة النيِّرة، وسيِّئاتهم في الكفَّة المظلمة، فيكون لكبائرهم ثِقلٌ، فإن كانت الحسناتُ أثقلَ ولو بخردلةٍ؛ دخل الجنَّة، وإن كانت السيِّئاتُ أثقلَ ولو بخردلةٍ؛ دخل النار إلَّا أن / يعفوَ الله عنه، هذا إن كانت فيما بينه وبين الله تعالى، وأمَّا إذا كانت عليه تبِعاتٌ، وكانت له حسناتٌ كثيرةٌ؛ فإنَّه ينقص مِن حسناته بقدر جزاء السيِّئات، فإن لم تفِ حسناتُه بما عليه مِنَ التبِعات؛ فيُحمَل عليه مِن أوزارِ مَن ظلمه، ثمَّ يُعذَّب على الجميع إلَّا أن يعفوَ الله عنه، حكاه في «التذكرة» بمعناه.
وذكر فيها أيضًا في صفة وزن أعمال الكفَّار وجهين:
أحدهما: أنَّ الكافر يُخصُّ له ميزانٌ، يُوضَع كفرُه وسيِّئاتُه في إحدى كفَّتيه، ثمَّ يقال له: هل لك مِن طاعةٍ تضعُها في الكفَّة الأخرى؟ فلا يجدها، فتُشالُ الميزان، فترتفع الكفَّة الفارغة، وتقع الكفَّة المشغولة، فذلك خفَّة الميزان، وهذا ظاهر الآية؛ لأنَّ الله تعالى وصف الميزان بالخفَّة، لا الموزون، وإذا كان فارغًا فهو خفيفٌ.
ثانيهما: أنَّ الكافر تكون فيه صلةُ الأرحام ومواساة الناس وعتق المملوك، ونحو ذلك ممَّا لو كان في المسلم لكان قربةً وطاعةً، فمَن كانت له هذه الخيرات مِنَ الكفَّار؛ فإنَّها تُجمَع وتُوضَع في ميزانه، غير أنَّ الكفر إذا قابَلَها رَجَح بها، ولم يخلُ مِن أن يكون الجانب الذي فيه الخيراتُ خفيفًا، أو لم يكن له إلَّا خيرٌ واحدٌ أو حسنةٌ واحدةٌ.
فإن قيل: لو وُزِنت خيراتُه لجُوزِي عليها جزاءَ مثلها، وليس له فيها جزاءٌ؛ لأنَّ رسول الله صلعم سُئل عن عبد الله بن جُدْعان، وقيل له: إنَّه كان يقرِي الضيفَ، ويصِلُ الرحم، فهل ينفعُه ذلك؟ قال: «لا؛ لأنَّه لم يقل يومًا: ربِّ اغفِر لي خطيئتي»، فدلَّ أنَّ الخيراتِ مِنَ الكافر ليست بخيراتٍ، وأنَّ وجودَها وعدمَها بمنزلةٍ واحدةٍ.
فالجواب: أنَّ الله تعالى قال: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} [الأنبياء:47] ولم يفرِّق بين نفسٍ ونفسٍ، فخيراتُ الكافر تُوزَن ويُجازى بها، إلَّا أنَّ / الله تعالى حرَّم عليه الجنَّة، فجزاؤه أن يُخفَّف عنه بها عذابُ معاصيه غير الكفر؛ بدليل حديث أبي طالبٍ، فإنَّه قيل له: يا رسول الله؛ إنَّ أبا طالبٍ كان يحفظُك وينصرُك، فهل نفعه ذلك؟ قال: «نعم؛ وجدتُه في غمراتٍ مِنَ النار، فأخرجتُه إلى ضَحضاحٍ، ولولا أنا لكان في الدَّرك الأسفل مِنَ النار»، وأمَّا ما قاله عليه الصلاة والسلام في ابن جُدعان؛ فمفهومُه أنَّه لا يدخل الجنَّةَ ولا ينعم بشيءٍ مِن نعيمها، نسألُ اللهَ العافيةَ.
وليُعلَم أنَّ الجنَّ مُحاسَبون مسؤولون، وتُوزَن أعمالُهم؛ كالإنس، والدليل على ذلك قوله تعالى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام:130] وهذا سؤالٌ، وإذا ثبت بعضُ السؤال ثبت كلُّه، وقال تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} الآية [الأحقاف:29] ففي هذه الآية دليلٌ على أنَّ حكمهم في الآخرة كالإنس، والله أعلم.
وقوله: (سُبْحَانَ اللهِ) يطلق التسبيح ويُراد به جميعُ ألفاظ الذكر، ويُطلَق ويراد به رفعُ الصوت، ويُطلَق ويراد به الخضوعُ والتذلُّل، ويُطلَق ويراد به صلاةُ الفريضة، ويُطلَق ويراد به صلاةُ النافلة، ويُطلق ويُراد به التعجُّب، ومنه قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر:3] أي: فتعجَّب لتيسيرِ ربِّك تعالى لِما لم يخطر ببالِ أحدٍ، والسرُّ في استعماله بمعنى التعجُّب أنَّ التنزيه البليغ يستلزم التعجُّبَ مِن بُعْد ما نُزِّه عنه المُنزَّه، فكأنَّه قيل: ما أبعَدَه عن هذا! ويُطلَق ويُراد به الاستثناء، قال تعالى: {أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} [القلم:28] أي: تستثنون، وتأويله يعود إلى تعظيم الله في الاستثناء بمشيئة الله تعالى، ويُطلَق ويُراد به التباعُد، قال تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا} [المزَّمِّل:7] أي: تباعدًا طويلًا.
وأصله: التنزيه والبراءة مِنَ النقائص، وهو مختصٌّ بالباري، وقيل: أصل التسبيح مِنَ السبح والسِّباحة؛ وهو الجري في طاعة الله، / فكأنَّ المسبِّح يسبِّح بقلبِه في مَجاري ملكوته، فأصحابُ التسبيح مختلفون، فالطالبُ يسبِّح بقلبه في بِحار الفكرة، والعارف يسبِّح بروحه في بِحار التعظيم.
واعلم أنَّ تنزيه الله تعالى يكون بالقول واللسان مرَّةً، وبالاعتقاد أخرى، وأنَّه ينبغي للعاقل أن يقدِّس أعماله مِنَ الرياء والمصانَعات، والتزيُّن للمخلوقين بإظهار الطاعات، فإنَّ الله لا يَقبل مِنَ الأعمال إلَّا ما كان يُوصَف بوصفِ الإخلاص.
وقد وقع في الحديث نكتةٌ لطيفةٌ؛ وهي أنَّ صفاتِ الله تعالى وجوديَّةٌ وعَدَميَّةٌ، فالأولى كالعلم والقدرة ونحوهما مِن صفات الإكرام، والثانية كنفيِ الألوهيَّة عن غير الله تعالى، وأنَّه تعالى لا شريكَ له، ولا ضدَّ له، وهي مِن صفات الجلال، فالتسبيح يُشير إلى صفات الجلال، والتحميد إلى صفات الإكرام.
واعلم أنَّه إذا حصل الاعتراف والاعتقاد بأنَّه مُنزَّهٌ عن جميع النقائص وما لا ينبغي أن يُنسَب إليه؛ ثبتت الكمالاتُ ضرورةً التزامًا، وحصل توحيدُ الربوبيَّة، وثبت التقدُّس في كلِّ كمالٍ عن المشابهة والمماثلة والشركة وكلِّ ما لا يليق، فثبت أنَّه الربُّ على الإطلاق، للأنفس والآفاق، فهو المُستحِقُّ لِأَن يُشكَر ويُعبَد، فتتضمَّن هذه الكلمةُ إثباتَ التوحيدَين؛ كما تتضمَّن إثباتَ الكمالين، وهذانِ الإثباتان في ضمنِهما كلُّ مدحٍ ممكنٍ فيما يَرجع إلى الله تعالى.
ولمَّا كان الاتِّصاف بالكمال الوجوديِّ مشروطًا بخلوِّه عمَّا ينافيه؛ قدَّم التسبيحَ على التحميد في الذكر كما تُقدَّمُ التخلية على التحلية، ومِن هذا القبيلِ تقديمُ النفي على الإثبات في (لا إلا إلَّا الله) انتهى.
واعلم أنَّه إنَّما أضاف التسبيحَ إلى الجلالة الشريفة لكونِها أخصَّ الأسماء الحسنى؛ لأنَّها اسم الذات المقدَّسة الجامعة لجميع الصفات والأسماء الحسنى، قال بعض العارفين: ما دعا اللهَ تعالى أحدٌ باسمٍ مِن أسمائه الحسنى / إلَّا ولنفسِ الداعي حظًّا في ذلك الاسمِ المدعوِّ به، إلَّا قول الداعي: يا أَلله، فإنَّه دليل الوحدانيَّة الخالصة، ومثله قولُ القشيريِّ: كلُّ اسمٍ مِن أسمائه تعالى يَصلح للتخلُّق به إلَّا هذا الاسم، فإنَّه للتعلُّق دون التخلُّق، وقد قال جماعةٌ مِن أرباب القلوب وغيرِهم: إنَّ هذا الاسم هو الاسمُ الأعظم، واستدلُّوا لذلك بأدلَّةٍ كثيرةٍ.
واختُلِفَ في لفظه؛ هل هو مُشتقٌّ أو مُرتجَلٌ؟ فذهب جمهور النحويِّين وغيرُهم إلى أنَّه مُشتقٌّ، وذهب الباقون إلى عدم اشتقاقه، وقالوا: إنَّه اسمٌ تفرَّد به الباري سبحانه وتعالى، وهو اسمٌ خاصٌّ؛ كما يكون لغيره أسماءُ الأعلام والألقاب، إلَّا أنَّه لم يُطلَق في وصفه تعالى اسمُ اللقب والعَلَم، وهذا أحدُ قولَي الخليل بن أحمد، وإليه ذهب الحسن بن الفضل وكثيرٌ مِن أهل الحقِّ ممَّن سلك هذه الطريقة، قالوا: ولم نرَ أهلَ اللغة تصرَّفوا في اشتقاقه، وما كانوا يستعملونه في غير الله تعالى، بل قلَّما يوجد في كلامهم استعمالُ لفظ (الله) قبل الشرع في صفتِه تعالى فضلًا عن صفة غيره، قال الله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}؟! [مريم:65] جاء في التفسير: هل تعلم أحدًا تَسمَّى (الله) غير اللهِ؟! وهذا مِن معجزات رسول الله صلعم الدالَّة على صدقه في هذا الخبر؛ حيث أخبر أنَّه لا سَميَّ له، قبض الله القلوبَ عن التجاسُرِ على إطلاق هذه التسمية في صفة غيره مع كثرة أعداءِ الدين، وشدَّة حرصهم، وتوفُّر دواعيهم على تكذيبه صلعم في أخباره، وقيل: معنى الآية: هل تعلم أحدًا يستحقُّ مِنَ الصفات ما يستحقُّه الله تعالى؟!
واختلف القائلون بالاشتقاق على أقوال:
الأوَّل: أنَّ أصله: (إِلَه) و(الإِلَه) مَن يُؤلَه إليه في الحوائج؛ أي: يُفزَع إليه في النوائب، كـ(إِكاف) اسمٌ لما يُؤتَكَف به، و(لِحاف) / اسمٌ لما يُلتَحف به، وإلى هذا القول ذهب جماعةٌ، وهو عند أهل التحقيق لا يصحُّ على وجه التحديد؛ لأنَّه لم يزل إلهًا، ولأنَّ هذا الوصفَ ليس ممَّا استحقَّه لفعلٍ أظهره، ولا لمعنًى حصل، ولم يكن في الأزل مَن يصحُّ مِنه الفزعُ إليه، ولأنَّه إلهُ مَن يصحُّ منه الفزع ومَن لا يصحُّ؛ كالجمادات والأعراض، ومَن لا عقل له ولا تمييز، ومَن أخذ بهذا القول _على الذي تقرَّر_ وعرَّف معبودَه بأنَّه هو الذي يُفزَع إليه في الحوائج؛ أعرض عمَّا سواه، ولم يسكن إلى أحدٍ مِنَ المخلوقين، ولا يستعين بغير ربِّ العالمين.
الثاني: أنَّه مشتقٌّ مِنَ (الوَلَهِ) وهو الطَّرَب؛ وهو خفَّةٌ تُصيب الرجل لسرورٍ أو حزنٍ، قال الشيخ أبو عليٍّ الدقَّاق: سماعُ اسمه يُوجِب الوَلَهَ؛ لأنَّ المسمَّى به هو اسمه، وهذا القول أيضًا لا يصحُّ على طريق التحديد؛ لاستحالة تقرير وجود الطرب في الأزل، ولكونه تعالى إلهَ مَن لا يصحُّ منه الطربُ ممَّا ذُكِر مِنَ الجمادات، لكنَّه يصحُّ في وصفِه على غير وجه التحديد كما تقدَّم.
الثالث: أنَّه مشتقٌّ مِن قولهم: (لاهَ)، وفُسِّر بمعنيين:
أحدهما: أنَّه احتجب، وهذا القول خطأٌ؛ لأنَّ الاحتجاب لا يجوز في وصفه تعالى؛ لأنَّه مِن صفات الأجسام والجواهر؛ لأنَّ المحجوبَ لا يخلو إمَّا أن يكون مثلَ الحجاب في القَدْر أو أصغرَ منه أو أكبر، وكلُّ ذلك مُحالٌ في وصفه؛ فإنَّه لم يزَل إلهًا، والاحتجابُ في الأزل مُحالٌ؛ لأنَّه لم يكن معه غيره فيحتجب منه، ولأنَّه إلهُ الجمادات والأعراض، ولا يجوز أن يكون محجوبًا إلَّا عمَّن يكون رائيًا.
ثانيهما مِن معنى (لاه): قال بعضهم: معناه: علا، يقال: لاهَتِ الشمسُ؛ إذا علت، وهذا إن أُرِيد به علوُّ المكان والمنزل فمُحالٌ في وصفه؛ لقيام الدليل على استحالة كونه في المكان، وإن أُرِيد به علوُّ الصفة فذلك واجبٌ في حقِّه تعالى.
الرابع: أنَّه مشتقٌّ مِن قولهم: (أَلِهَ بالمكان) إذا / أقام به؛ أي: أنَّه إنَّما كان إلهًا لقِدَمه ودوام وجوده، وهذا يُشبه قولَ بعضهم: إنَّ معنى (الإله) هو القديم، وهو باطلٌ؛ لأنَّه لو كان كما ذكر لَوجَب أن يكون كلُّ مَن له إقامةٌ بمكانٍ، أو تقدُّمٌ بزمانٍ، أو دوامٌ بوجودٍ؛ كان له قسطٌ مِنَ الإلهيَّة، وهذا باطلٌ، وأمَّا دوام الوجود وتقدُّم الكون؛ فمُستحقٌّ للقديم سبحانه.
الخامس: أنَّه مشتقٌّ مِن (أَلِهَ) إذا تحيَّر، وهذا أيضًا لا يصحُّ على طريق التحديدِ وإن صحَّ مِن طريق المعنى على معنى تحيُّر العقول في جلال سلطانه، وذلك مِن أوصاف التعظيم، وقد قال يحيى بن معاذٍ: لو دارت ألسنةُ العارفين معَ الناس كما تدورُ قلوبُهم مع الله؛ لقال الناس: إنَّهم مجانين، وعلامة صحَّة هذه الحالة ألَّا يقع منه في أحكام الشريعة تقصيرٌ، فإن لم تُحفَظ عليه أوقاتُه في أداء ما كُلِّف به وإن كان مغلوبًا؛ فلِنقصِ حاله، وقيل للشِّبليِّ: ما علامةُ صحَّة ذلك؟ فقال: ألَّا يجريَ على أوقات الغلَبة ما يخالف حالة الصحَّة.
السادس: أنَّه مِنَ التألُّه الذي هو التعبُّد؛ لأنَّ العرب سمَّت الأصنامَ آلهةً لمَّا عبدوها، وهذا أيضًا لا يصحُّ لوجوهٍ؛ منها: أنَّه لم يزَل إلهًا، ولا يقال: كان في الأزل معبودًا؛ لأنَّ المعبود مَن له عابدٌ وله عبادةٌ، وتقدير ذلك في الأزَل محالٌ، ولأنَّ العبادة إنَّما تجب لأمر الله تعالى، ولأنَّه إلهُ مَن لا تصحُّ منه العبادةُ مِنَ الجمادات والأعراض وغير ذلك، وبالجملة فهذا المعنى صحيحٌ لا على سبيل التحديد.
السابع: أنَّه مَن لَهُ الإلهيَّة؛ وهي القدرة على الاختراع، ومنهم مَن قال: هو مَن له الخلقُ والأمر؛ وذلك لأنَّا وجدنا أهلَ اللغة أطلقوا هذه اللفظةَ على مَنِ اعتقدوا فيه استحقاقَ التعظيم، فعلِمْنا بإطلاقِهم أنَّها لفظةٌ موضوعةٌ لمن يستحقُّ التعظيمَ.
وهذه الأقاويل وإن اختلف لفظُها فمعناها متقاربٌ يرجع إلى / معنًى واحدٍ، وهذا هو القول الصحيح في هذا الاسم:
الثامن: ذهب الكوفيُّون إلى أنَّ أصل هذه الكلمة (إلاه) ثمَّ أُدخِل عليه الألف واللام، فصار (الإله) فاجتمع فيه همزتان بينهما حرفٌ ساكنٌ، والساكن لا يَحجُزُ حَجزًا حصينًا، فصار كأنَّه اجتمع همزتان، ومِن شأن العرب إذا اجتمع همزتانِ حُذِفَت إحداهما، ولم يمكن حذفُ الأولى؛ لأنَّها مُجتَلَبةٌ لساكنٍ وهو اللام، فحُذِفت الثانية، فاجتمع لامان؛ فأُدغِمت إحداهما بالأخرى، ثمَّ فُخِّم فصار (الله).
وقوله: (وَبِحَمْدِه) الواو فيه للحال؛ أي: أسبِّحه مُلتبِسًا بحمدي له مِن أجل توفيقِه لي للتسبيح ونحوه، وقيل: عاطفةٌ؛ أي: أسبِّح وألتبسُ بحمده.
وأمَّا الباء فيحتمل أن تكون سببيَّةً؛ أي: أُسبِّح الله وأُثني عليه بحمده، وقال ابن هشامٍ في «مُغنيه»: اختُلِفَ في الباء مِن قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} [الحجر:98] فقيل: إنَّها للمصاحَبة، و«الحمد» مضافٌ للمفعول؛ أي: سَبِّحه حامِدًا له؛ أي: نزِّهه عمَّا لا يليق به، وأثبِتْ له ما يليقُ به، وقيل: الباء للاستعانة، و«الحمد» مضافٌ للفاعل؛ أي: سبِّحه بما حمِدَ به نفسَه؛ إذ ليس كلُّ تنزيهٍ محمودًا، ألا ترى أنَّ تسبيحَ المعتزلة اقتضى تعطيلَ كثيرٍ مِنَ الصفات.
ثمَّ إنَّ جنس الحمد _كما قاله بعضُ العلماء_ لمَّا وقع ذكرُه بعد التقديس عن كلِّ ما لا يليق به تعالى بغير تخصيص بعض المحامد؛ تضمَّن الكلامُ واستلزَمَ إثباتَ جميعِ الكمالات الوجوديَّة الجائزة له مطابقةً، ولزم منه التقديسُ عن كلِّ ما لا يليق؛ وهو كلُّ ما ينافيها ولا يجامعها.
هذا مع أنَّ كلمة الجلالة تدلُّ على الذات المقدَّسة المُستجمِعة للكمالات أجمع؛ فهذه الكلمة اشتملت على اسمَي الذات اللَّذَين لا أجمعَ منهما؛ أحدهما فيه اعتبار علِّيَّة أحكام الشهادة والغيب، والآخر فيه / عليَّة أحكام الغيب وغيب الغيب، وأيضًا تشتمل على جميع التقديسات والتنزيهات، وعلى جميع الأسماء والصفات، وعلى كلِّ توحيدٍ.
وقوله: (سُبْحَانَ اللهِ الْعَظِيمِ) فيه اعتناءٌ بشأن التسبيح أكثر مِنَ التحميد، وذلك مِن جهة تكرير التسبيح لكثرة المخالفين فيه، وختم باسمه (العظيم) للجمع بين مقامَي الرجاء والخوف، فإنَّ معنى (الرحمن) يَرجِع إلى الإنعام والإحسان، ومعنى التعظيم يرجع إلى الخوف مِن هيبته تعالى؛ لأنَّ معناه عند أهل الحقِّ يرجع إلى استحقاقه صفات العلوِّ والمجد ورفعة القَدر، فهو سبحانه وتعالى رفيع القَدر عظيمُ النعت.
وأمَّا معناه عند أهل اللُّغة فلا يكون إلَّا بأحد أمرين؛ إمَّا لعِظَم الذات، ويعود ذلك إلى كثرة الأجزاء، وإمَّا لعِظَم القَدر، وكثرةُ الأجزاء في صفته تعالى محالٌ، فيجب أن يكون بمعنى استحقاقِ علوِّ الوصف وأوصاف التعالي، ووجوب الوحدانيَّة، والانفراد بالقدرة على الإيجاد، وشمول العلم بجميع المقدورات، ونفوذ الإرادة، وإدراك السمع والبصر لجميع المسموعات والمرئيَّات، واستغنائه(3) عن الأنصار والأعوان، وتقدُّسه عن الأقطار والأزمان.
رُويَ عن الأوزاعيِّ أنَّه قال: بلغني أنَّ الله يقول: وعزَّتي؛ لو يعلم العباد قدرَ عَظَمتي ما عبدوا غيري، وسُئلَ بعضُهم عن عظمة الله تعالى، فقال: ما تقول فيمن له عبدٌ واحدٌ له ستُّ مئة ألف جناحٍ، لو نَشَر منها جناحًا سدَّ الخافِقَين؟! وقال كعب الأحبار: ميكائيل لا يعرف أحدٌ صفتَه، ولا عدد أجنحته، ولا يقدر أحدٌ على وصفه إلَّا الله تعالى، ولو أنَّ هذا المَلَك فتح فاهُ لم تكن السماوات والأرض في فيه إلَّا كالخردلة / في البحر العظيم، قال كعبٌ أيضًا: وإسرافيل له أربعة أجنحةٍ؛ جناحٌ سدَّ به المشرق، وجناحٌ سدَّ به المغرب، والثالث قد نزل به من السماء إلى الأرض، والرابع قد التثَمَ به من عظمة الله تعالى، فرِجلاه في الأرض السابعة السفلى، ورأسه قد انتهى إلى أركان قوائم العرش، وبين عينيهِ لوحٌ مِن جوهرٍ، فإذا أراد الله تعالى أن يُحدِث أمرًا في عباده؛ أمر القلم حتى يكتب في اللوح، ثمَّ أدلَى اللوح إلى إسرافيل، فيكون بين عينيه، فينتهي الوحي إلى جبريل، وهو أقربُ من إسرافيل.
وقال ابن الجوزيِّ في «المبتدأ»: أعطى الله إسرافيلَ قوَّة سبعِ سماوات وقوَّة سبعِ أرضين، وقوَّة الريح والجبال، وهو مِن رأسه إلى بطون قدميه أفواهٌ وألسنة، وهي مُغطَّاة بأجنحةٍ وريشٍ، وكلُّ ريشٍ منه وجناحٍ يُقدِّس الله تعالى ويمجِّده، وينظر كلَّ يومٍ إلى جهنَّم نظرةً، فيذوب خوفًا من الله تعالى حتَّى يصير كوَتَر القَوس، ثمَّ يبكي كلَّ ساعةٍ بدمعٍ لو انسكبَ مِنَ السماء؛ لطبَّق به الأرض، ولكن يخلق الله تعالى منه مِن كلِّ قطرةٍ ملَكًا.
ورُويَ: أنَّ الله تعالى خلق العرش مِن جوهرةٍ خضراء، وخلق الله له ألفَ ألف رأس وستَّ مئة ألف رأسٍ، في كلِّ رأسٍ ألف ألف وجهٍ وستُّ مئة ألف وجهٍ، كلُّ وجهٍ منها كطباق الدنيا ألفَ ألفِ مرَّة وستَّ مئة ألف مرَّة، في كلِّ وجهٍ ألفُ ألف لسانٍ وستُّ مئة ألف لسان، كلُّ لسانٍ منها يسبِّح الله تعالى بألف ألف لغةٍ وستِّ مئة ألف لغة، يخلق الله تعالى مِن كلِّ لغةٍ خلقًا مِن ملَكوته يُسبِّحه ويُقدِّسه بتلك اللغة.
وروَى وَهْبٌ قال: إنَّ حَمَلة العرش يحملونه، لكلِّ ملك منهم أربعةُ وجوهٍ وأربعة أجنحةٍ؛ جناحان على وجهه يستُرانه مِن أن / ينظر إلى العرش فيصعق، وجناحان يطير بهما، أقدامهم في الثَّرى، والعَرش على أكتافهم، لكلِّ واحدٍ منهم وجهُ ثورٍ، ووجه أسَد، ووجه إنسان، ووجهُ نَسْرٍ، ليس لهم كلامٌ إلَّا أن يقولوا: قدِّسوا الله القويَّ، ملأتْ عظَمتُه السماواتِ والأرض.
وجاء في بعض الأخبار أيضًا: أنَّ ملَكًا مِن الملائكة قال: يا ربِّ؛ إنِّي أريد أن أرى العرش، فزِدْ في قوَّتي وفي طيراني؛ لعلِّي أدركُه، فخلق الله له ثلاثين ألفَ جناح، فطار ثلاثين ألفَ سنةٍ، فقال الله تعالى له: هل بلغتَ إلى أعلى العرش؟ فقال: يا ربِّ؛ لم أقطَع بعدُ قائمةَ العرش، واستأذن أن يعودَ إلى مكانه.
ورُويَ: أنَّ لله ملَكًا له أربعةُ أوجُه، وملَكًا له ألف رأس، في كلِّ رأسٍ ألف ألف وجه، وملَك له أربعة أجنحة؛ جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، وجناح في السماء السابعة، وجناح في الأرض السابعة، وأنَّ هؤلاء الملائكة يبكون ليلًا ونهارًا على المُذنِبين مِن أمَّة محمَّد صلعم، فيقول الله تعالى لهم: ولمَ تبكونَ عليهم وهم يعملونَ كذا وكذا... يُعدِّد ذنوبَهم، فيقولون: أليس نبيُّهم محمَّدًا صلعم؟ فيقول الله لهم: صدَقتُم، فيقولون: وقد أَعطيتَهم شهرَ رمضان؟ فيقول الله ╡ : اشهدوا أنِّي قد غفرتُ لهم.
وقيل: إنَّ موسى ◙ أراد أن يرى السَّمكَ الذي عليه العالَم، فأمره الله تعالى أن يأتيَ شاطئَ البحر، فأتى ◙ شاطئ البحر، فصعِد حوت سمك مِن البحر، فأخذ يصعد نَحْوَ السماء، فلم يَزَلْ يصعد ثلاثةَ أيَّام متَّصِلًا، فصادَ قلبَ موسى ◙ ، فقال: إلهي؛ أهوَ مثلُ هذا؟ فأوحى الله تعالى إليه: / إنَّه يأكلُ كلَّ يومٍ ألفَ سمكٍ مثلَ هذا.
ويقال: لمَّا خلق الله الأرضَ وفَتَقَها؛ بعَث مِن تحتِ العرشِ ملَكًا، فهبطَ إلى الأرض حتَّى دخلَ تحت الأرضِ السابعة، فوضعها على عاتِقِه؛ إحدى يدَيهِ بالمَشرِق، والأخرى بالمغرِب، فلم يَكن لِقدَميهِ قرارٌ، فأهبطَ الله تعالى مِنَ الفِردَوسِ ثَورًا له أربعونَ ألف قرنٍ مِن ياقوت، وبينَ عينَيهِ أحَدَ عشَرَ بحرًا، في كلِّ بحرٍ ما لا يوصَفُ مِنَ العجائب، وهو يأكلُ كلَّ يومٍ مئتَي ألف حوتٍ، وقرونُ هذا الثَّور خارجةٌ عن أقطار الأرض، ومنخراهُ في البحر، وجعل قرار قدَم الملَك على سَنامِه، فلم تستقرَّ قدماهُ، فأنزل الله ياقوتةً خضراء مِن أعلى درجةٍ في الفِردَوس، غِلَظُها خمسُ مئة عام، فوضعها فما استقرَّت قدَماه عليها، فلم يكن له قرارٌ، فخلق الله صخرةً خضراء كغِلَظِ سبعِ سماوات، فاستقرَّت عليها، ولم يكن للصخرة قرارٌ، فخلق الله تعالى حوتًا بين عينَيه سبعةُ أبحُر، في كلِّ بحرٍ تسعونَ ألف مدينة، في كلِّ مدينةٍ تسعونَ ألفًا من الملائكة، وتحت الحوتِ بحرٌ يقال له: قمقام، وتحت البحر ريحٌ، وتحت الرِّيح جبلٌ، وتحته رعدٌ، وتحته برقٌ، وتحته بحرٌ من دمٍ، وتحته بحرٌ من حديد، وتحته جهنَّم، أعاذنا الله منها ومِن سائر المكروهات.
فمَن علِمَ أنَّ مقدوراتِه تعالى لا نهايةَ لها؛ علِمَ أنَّه لو أراد أن يخلقَ في لحظةٍ ألفَ ألف عالَم؛ لم يكن ذلك عليه بأشقَّ مِن خلق نملة، ولا خلقُ نملة بأهونَ عليه من خلقِ ألف ألف عالَم؛ لأنَّه سبحانه وتعالى مُنزَّهٌ عن لُحوقِ مشقَّةٍ وراحة، تعالى الله العظيمُ عن ذلك.
[1] في الأصل: (مرضاه).
[2] في الأصل: (أنه).
[3] في الأصل: (واستغناؤه).