خاتِمةٌ في فَضْلِ التَّسْبيحِ والتَّحْميدِ والتَّهْليلِ وغيرِها:
وقد / جاءت السُّنَّة به على أنواعٍ شَتَّى؛ ففي «مسلم» عن سَمُرةَ مرفوعًا: «أفضلُ الكلام: سبحان الله، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلَّا الله، والله أكبر» أي: أفضلُ الذِّكرِ بعد كتاب الله تعالى، والموجِبُ لفضلِها اشتمالُها على جملةِ أنواع الذِّكر؛ مِنَ التَّنزيهِ والتحميد والتمجيد، ودلالتها على جميع المَطالبِ الإلهيَّة إجمالًا؛ لأنَّ الناظر المتدرِّجَ في المعارف يُعرِّفُه سبحانه أوَّلًا بنُعوتِ الجَلال التي تُنزِّهُ ذاتَه عمَّا يوجِبُ حاجةً أو نقصًا، ثمَّ بِصِفاتِ الإكرام؛ وهي الصفات الثُّبوتيَّة التي يستحقُّ بها الحمد، ثمَّ يُعلم أنَّ مَن هذا شأنُه لا يُماثِلُه غيرُه، ولا يستحقُّ الألوهيَّة سِواه، فيكشف له مِن ذلك أنَّه أكبر؛ إذ {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88].
وفي «التِّرمذيِّ» _وقال: حديثٌ غريبٌ_ عنِ ابنِ عمرَ: أنَّ رسولَ الله صلعم قال: «التَّسبيحُ نصفُ الميزان، والحمدُ لله تملؤُه، ولا إلهَ إلَّا الله ليس لها حجابٌ دون الله حتَّى تخلُصَ إليه» وفيه وجهان:
أحدُهما: أن يُرادَ التَّسوية بين التَّسبيح والتحميد؛ بأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يأخذ نصفَ الميزان، فيملأانِ الميزاَن معًا؛ وذلك لأنَّ الأذكارَ التي هي أمُّ العباداتِ البدنيَّة الغرضُ الأصليُّ مِن شَرعِها ينحصِرُ(1) في نوعين؛ أحدهما: التنزيه، والآخر: التحميد، والتَّسبيحُ يستوعِبُ القسمَ الأوَّل، والتحميد القِسمَ الثاني.
وثانيهما: أن يُرادَ تفضيلُ الحمدِ على التَّسبيح، وأنَّ ثوابَه ضِعفُ ثوابِ التسبيح؛ لأنَّ التسبيح نصفُ الميزان، والتحميدُ وحدَه يملؤه؛ وذلك لأنَّ الحمدَ المُطلَقَ إنَّما يستحقُّه مَن كانَ مبرَّأً عن النقائص، منعوتًا بِنُعوتِ الجلال وصفاتِ الإكرام، فيكونُ الحمدُ شاملًا للأمرين، وأعلى القِسمين.
وإلى الوجهِ / الأوَّل أشارَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ بقوله: «كلمتان خفيفتان على اللِّسان، ثقيلتان في الميزان».
وقوله: (لا إلهَ إلَّا الله ليس لها حجابٌ) لأنَّها اشتملت على التنزيه والتحميد ونفيِ ما سِواهُ تعالى صريحًا، ومِن ثَمَّ جعله مِن جِنسٍ آخَر؛ لأنَّ الأوَّلينِ دخلا في معنى الوزنِ والمقدار في الأعمال، وهذا حصل منه القربُ إلى الله تعالى مِن غير حاجزٍ ولا مانع، ففي «مسلم» من حديث جويرية(2): أنَّه صلعم خرجَ مِن عندِها بُكرةً حين صلَّى الصُّبح، وهي في مسجدها، ثمَّ رجَعَ بعدَ أن أضحى وهي جالسةٌ، قال: «ما زِلتِ على الحالِ التي فارقتُكِ عليها؟» قالت: نعم، قال النبيُّ صلعم: «لقد قلتُ بعدكِ أربعَ كلماتٍ ثلاثَ مرَّاتٍ، لو وُزِنت بما قلتِ مُنذُ اليوم لوزَنتهُنَّ: سبحان الله وبحمدِه، عدَدَ خلقِه، ورِضا نفسِه، وزِنةَ عرشِه، ومِدادَ كلماتِه» صرَّح في القرينة الأولى بالعدد، وفي الثالثةِ بالزِّنة، وترك الثانيةَ والرابعةَ منهما؛ ليؤذِنَ بأنَّهما لا يدخلانِ في جِنسِ المعدود والموزون، ولا يحصُرُهما المقدار، لا حقيقةً ولا مجازًا، فيحصُل الترقِّي حينَئذٍ مِن عدَدِ الخلقِ إلى رضا الحقِّ، ومِن زِنةِ العرشِ إلى مِدادِ الكلمات.
وفي «التِّرمذيِّ» من حديث سعد بن أبي وقَّاص ☺: أنَّه دخل معَ النبيِّ صلعم على امرأةٍ وبين يدَيها نوًى أو حصًى تُسَبِّحُ به، فقال: «ألا أُخبِرُكِ بما هو أيسرُ عليكِ مِن هذا أو أفضل؟ سبحان الله عدَدَ ما خلَقَ في السماء، وسبحان الله عدَدَ ما خلَقَ في الأرض، وسبحان الله عدَدَ ما بين ذلك، وسبحان الله عدَدَ ما هو خالق، والله أكبر مثل ذلك، والحمدُ لله مثل ذلك، ولا إلهَ إلَّا الله مثل ذلك، / ولا حولَ ولا قوَّةَ إلَّا بالله مثل ذلك».
وفي قوله: «عدَدَ ما هو خالق» إجمالٌ بعد تفصيل؛ لأنَّ اسم الفاعل إذا أُسنِد إلى الله يُفيدُ الاستمرار من بَدْء الخلقِ إلى الأبد.
وعن أبي هُريرة ☺ قال: قال رسول الله صلعم: «مَن قال: سبحان الله وبحمدِه في يومٍ مئةَ مرَّةٍ؛ حُطَّت خطاياهُ وإن كانت مثلَ زَبَدِ البحر» رواهُ الشَّيخان.
وهذا وأمثالُه _نحوُ: «ما طلعت عليه الشمس»_ كناياتٌ عُبِّر بها عنِ الكَثرة عُرفًا، فظاهرُ الإطلاق يُشعِرُ بأنَّه يحصُل هذا الأجرُ المذكور لمن قال ذلك مئةَ مرَّةٍ، سواءٌ قالها متواليةً أو مُتفرِّقةً في مجالس، أو بعضها أوَّل النهار وبعضها آخره، لكنَّ الأفضلَ أن يأتيَ بها متواليةً في أوَّل النهار.
وهذه الفضائل الواردة في التسبيح ونَحْوِه _كما قاله ابنُ بطَّالٍ وغيرُه_ إنَّما هي لأهل الشَّرَف في الدِّينِ والكمال؛ كالطهارة مِنَ الحرام، والمعاصي العِظام، فلا يَظُنَّ ظانٌّ أنَّ مَن أدْمَنَ الذِّكرَ، وأصرَّ على ما يشاءُ مِن شهَواتِه، وانتهَكَ دينَ الله وحُرُماتِه؛ أنَّه ملتحِقٌ بالمُطهَّرين المُقدَّسين، ويبلغ منازِلهم بكلامٍ أجراهُ على لسانِه، ليس معه تقوى ولا عملٌ صالح.
وفي «التِّرمذيِّ» _وقال: حديثٌ حسَنٌ غريبٌ_ عنِ ابنِ مسعودٍ ☺ قال: قال رسولُ الله صلعم: «لقيتُ إبراهيمَ ◙ ليلةَ أُسريَ بي، فقال: يا محمَّد؛ أقرِئْ أمَّتَكَ مِنِّي السلام، وأخبِرهم أنَّ الجنَّةَ طيِّبةُ التُّربة، عَذْبةُ الماء، وأنَّها قِيعان، وأنَّ غِراسَها: سبحان الله، والحمدُ لله، ولا إلهَ إلَّا الله، والله أكبر» و(القِيعان) جمعُ (القاع) وهو المُستوي مِنَ الأرض، و(الغِراس) جمعُ (غَرس) وهو / ما يُغرَسُ، والغرسُ إنَّما يصلُحُ في التُّربة الطيِّبة، ويُغمَرُ بالماءِ العَذْب؛ أي: أعلِمْهُم أنَّ هذه الكلماتِ تُورثُ قائلها الجنَّة، وأنَّ الساعيَ في اكتسابها لا يضيعُ سعيُه؛ لأنَّها المَغرسُ الذي لا يُتلِفُ ما استُودِعَ فيه.
وقال الطِّيبيُّ: وههنا إشكالٌ؛ لأنَّ هذا الحديثَ يدلُّ على أنَّ أرض الجنَّة خاليةٌ عن الأشجار والقصور، ويدلُّ قوله تعالى: {جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} [آل عمران:15] وقوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران:133] على أنَّها غيرُ خاليةٍ عنها؛ لأنَّها إنَّما سُمِّيَت جنَّةً لأشجارها المُتكاثِفة المُظِلَّة بالتفافِ أغصانها، وتركيب «الجنَّة» دائرٌ على معنى السَّتر، فإنَّها مخلوقةٌ مُعَدَّة، والجواب: أنَّها كانت قِيعان، ثمَّ إنَّ الله تعالى أوجَدَ بفضلِه وسَعَة رحمتِه فيها أشجارًا وقصورًا على حسَبِ أعمال العاملين، لكلِّ عاملٍ ما يختصُّ به بحسَبِ عمله، ثمَّ إنَّ الله تعالى لمَّا يسَّره لِما خُلِقَ له مِن العمل لِينالَ به ذلك الثواب؛ جعله كالغارسِ لتلك الأشجار على سبيل المجاز؛ إطلاقًا للسَّبب على المُسبَّب، ولمَّا كان سببَ إيجاد الله الأشجارَ عملُ العامِل؛ أسندَ الغِراسَ إليه، والله أعلم بالصواب.
وعن عائشة ♦ قالت: (ما جلس رسولُ الله صلعم مجلسًا ولا تلا قرآنًا ولا صلَّى إلَّا ختَمَ ذلك بكلماتٍ، فقلتُ: يا رسولَ الله؛ أراكَ ما تجلسُ مجلسًا ولا تتلو قرآنًا ولا تُصلِّي صلاةً إلَّا ختمتَ بهؤلاء الكلمات، قال: «نعم؛ مَن قال خيرًا كانت طابَعًا له على ذلك الخير، ومن قال شرًّا كانت كفَّارةً له، سُبحانك اللهمَّ وبحمدك، لا إلهَ إلَّا أنت، أستغفرُكَ وأتوبُ إليك»).
وعن عليٍّ كرَّم الله وجهَه قال: (مَن أحبَّ أن يَكتالَ بالمِكيالِ الأوفى؛ فليقل آخِرَ مجلسِه أو حين يقوم: / {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ. وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ. وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:180-182]).
تمَّ هذا الختمُ المُبارَك بحمدِ الله وعَونِه وحُسنِ توفيقِه، وصَلَّى الله على سيِّدنا محمَّدٍ وعلى آلِه وصحبِه وسلَّمَ. /
[1] في الأصل: (تنحصر).
[2] في الأصل: (جورية).