-
نظم مقدمة فتح الباري
-
المقدمة
-
عدالة الصحابة
-
الجرح المردود
-
من رمي ببدعة ممن أخرج لهم البخاري
-
معرفة المدلسين
-
معرفة المبهمات
-
معرفة المتفق والمفترق
-
معرفة المؤتلف والمختلف
-
معرفة التصحيف
-
معرفة الكنى
-
الإرسال
-
التعريف بالإمام البخاري
-
السبب الباعث له على تصنيف جامعه وحسن نيته فيه
-
مرتبة صحيح البخاري
-
أوجه تفضيل البخاري
-
إسناد الصحيح ورواياته
-
التعريف بنسخة ابن سعادة
-
سند المصنف إلى نسخة ابن سعادة من البخاري
-
الخاتمة
وَعِيبَ ذَوُو التَّدلِيسِ لَمْ يَقْبَلُوا لَهُمْ حَدِيثًا وَلَمْ يَثْبُتْ سَمَاعٌ مُحَتَّمُ
أي: موجب قبوله، قال في «الألفيَّة»:
تدليس الإسناد كمن يسقط من حدَّثه ويرتقي بـ(عن) و(أن)
وقال: يُوهم اتِّصالًا واختلف في أهله فالردُّ مطلقًا تقف
والأكثرون قبلوا ما صرَّحا ثقاتهم بوصله وصحَّحا
وفي الصحيح عدَّةٌ كالأعمش وكهُشَيم بعده وفتِّش
أي: في «صحيح البُخاريِّ» و«مسلم» وغيرهما عدَّةٌ من الرواة المدلِّسين خرَّجوا فيها ما صرَّحوا فيه بالتحديث، و(فتِّش)؛ أي: الصحاح تجد فيها التَّخريج لكثيرٍ ممَّا صرَّحوا فيه بالتحديث، بل قد يقع فيها من معنعنهم، لكنَّه محمولٌ كما قال ابن الصلاح وغيره على ثبوت السماع عندهم من جهةٍ أخرى إذا كان في أحاديث الأصول لا المتابعات، وذمَّه شعبة ذو الرسوخ، فروى الشافعيُّ عنه أنَّه قال: التَّدليس أخو الكذب، وقال: لَأَنْ أزني أحبُّ إليَّ من أنْ أدلِّس، ولم ينفرد شعبة بذمِّه بل شاركه فيه غيره، إلَّا أنَّه مع تقدِّمه زاد بالمبالغة فيه.
كَثِيرُونَ ضَاقَ النَّظْمُ عَنْ عِدَّةٍ لَهُمْ وَفِيهِمْ شُمُوسٌ أَوْ بُدُورٌ أَوْ أَنْجُمُ
وَلَكِنَّهُمْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ بَعْضِهِمْ بِذِكْرِهِمْ وُرْقُ الرِّيَاضِ تَرَنَّمُ
أي: تترنَّم، هو كقول الباجيِّ:
عبَّاد استعبد البرايا بأنعُمٍ تبلغ النَّعائم
مديحه خيَّم كلَّ نفسٍ حتَّى تغنَّت به الحمائم
فَمِنْهُمُ ثَوْرِيٌّ هُوَ الْبَدْرُ طَالِعًا بِثَوْرٍ وَزُهْرِيٌّ لَهُ الزُّهْرُ تَخْدُمُ
أمَّا الثوريُّ: فهو كما قال العينيُّ: الإمام الكبير، أحدُ أصحاب المذاهب الستَّة المتبوعة، وهو من تابعي التَّابعين، وقال ابن عاصم: سفيان أمير المؤمنين في الحديث، وتوفِّي بالبصرة متواريًا من سلطانها، ودُفِنَ عشيًّا، وكان يدلِّس.
وفي «طبقات ابن السبكيِّ»: / إمام المسلمين، وحجَّة الله على خلقه، جمع في زمنه بين الفقه والاجتهاد فيه، والحديث، والزُّهد، والعبادة، والورع، والثقة، وهو أحد الأئمَّة المجتهدين، وأحدُ أقطاب الإسلام وأركان الدِّين، أكبر من ابن عُيَيْنَة بعشر سنين.
وفيها: أنَّ أبا جعفر الخليفة توجَّه إلى مكَّة، وقد أرسل النَّجارين إلى مكَّة؛ لينصبوا له خشبًا ليصلبه عليها، وكان سفيان مضطجعًا ورأسه في حجر فضيل بن عياض ورجله في حجر ابن عُيَيْنَة، فقالا له: يا أبا عبد الله؛ اختفِ لا تشمت بنا أعداءنا، فقام ودخل المسجد، وتعلَّق بأستار الكعبة، وقال: أنا بريء منها إنْ دخل أبو جعفر مكَّة، فمات أبو جعفر قبل أن يدخلها.
وفي «ابن خلِّكان»: مات في حال اختفائه من السلطان ولم يعقِّب، وسبب ذلك أنَّ الثوريَّ أتى المهديَّ فسلَّم تسليم العامَّة لا الخلافة، والربيع على رأس المهديِّ متوكِّئٌ على سيفه ينظر أمره، فأقبل المهديُّ عليه بوجهٍ طَلْقٍ، فقال له: يا سفيان؛ تفِّرُ منا ههنا وههنا وتزعم أنَّا إنْ أردناك بسوءٍ لم نقدر عليك، فقدرنا عليك الآن، أفما تخشى منا أن نحكم فيك بهوانا؟ فقال له سفيان: إنْ تحكم فيَّ؛ يحكم فيك ملكٌ قاهرٌ [لا] يفرِّق بين الحقِّ والباطل، فقال له الربيع: يا أمير المؤمنين؛ ألهذا الجاهل أن يقابلك بمثل هذا؟ إئذن لي أن أضرب عنقه، فقال له المهديُّ: أُسكت ويلك! وهل يريد هذا وأمثاله إلَّا أنْ نقتلهم فنشقى بسعادتهم؟! اكتبوا عهده على قضاء الكوفة على ألَّا يُعدَّى عليه في حكمٍ، فكُتِبَ عهده ودُفِعَ إليه، فأخذه وخرج ورمى به في دجلة وهرب، فطُلِبَ في كلِّ أفقٍ فلم يوجد.
أقول: وهذا لا ينافي ما في «الإحياء» من كتابة الرشيد إليه وجوابه.
وعن بعض الصالحين أنَّه رأى سفيان الثوريَّ في النوم بعد موته، قال: قلتُ: كيف هو حالك يا أبا عبد الله؟ فأعرض عني وقال: ليس هذا أوان الكُنَى، فقلت: كيف حالك يا سفيان؟ فأنشد يقول:
نظرت إلى ربِّي عيانًا فقال لي هنيئًا رضائي عنك يا ابن سعيد
فقد كنتَ قوَّامًا إذا الليل قد دجا بعَبرة مشتاقٍ وقلب عميد /
فدونك فاختر أيُّ قصرٍ تريده وزُرْني فإنِّي عنك غير بعيد
وأمَّا الزهريُّ فهو: محمَّد بن مسلم القرشيُّ المدنيُّ، أحد فقهاء محدِّثيها، وأعلام تابعيها، رأى عشرةً من الصَّحابة وليس منهم ابن عمر؛ فإنَّه لم يلقه، ولقيه عمرو بن دينار كما روى عنه، وكان عمرو يقول: ما رأيت مثل هذا القرشيِّ قطُّ، وكتب عمر بن عبد العزيز إلى الآفاق: عليكم بابن شهاب، فإنَّكم لا تجدون أحدًا أعلم بالسُّنَّة الماضية منه، ولم يزل مع عبد الملك ثمَّ مع ولده هشام بن عبد الملك، وحضر يومًا مجلسه مع أبي الزناد فقال له هشام: أيُّ شهرٍ كان يخرج فيه العطاء لأهل المدينة؟ فقال الزهريُّ: لا أدري، فقال أبو الزناد: في المحرَّم، فقال هشام للزهريِّ: يا أبا بكرٍ؛ هذا علمٌ استفدته اليوم، وكان إذا وصل بيته وصل كتبه حوله، يشتغل بها عن كلِّ شيءٍ من أمر الدنيا، فقالت امرأته يومًا: والله لهذه الكتب أشدُّ عليَّ من ثلاث ضرائرَ، واستقضاه يزيد بن عبد الملك، وقد تقدَّم قول الذهبيِّ في شأنه.
وَمِنْهُمْ حَبِيبُ بْنُ قَيْسٍ تَهَذَّلَتْ لَهُ شَجَرُ الفُتْيَا فَيَجْنِي وَيُطْعِمُ
قال الكلاباذيُّ: حبيب بن أبي ثابت واسمه قيس بن دينار أبو يحيى الأسديُّ الكاهليُّ مولاهم الكوفيُّ، تابعيٌّ.
وفي «المقدِّمة»: متَّفقٌ على الاحتجاج به، إنَّما عابوا عليه التَّدليس، وعن أبي بكر بن عيَّاش: كان بالكوفة ثلاثةٌ ليس لهم رابعٌ؛ حبيب بن أبي ثابت، والحكم، وحمَّاد، وكان هؤلاء الثلاثة أصحاب الفُتْيَا، ولم يكن بالكوفة أحدٌ إلَّا يذلُّ لحبيب، وعن أبي يحيى القتَّات: قدمتُ الطائف مع حبيب بن أبي ثابت فكأنَّما قدم عليهم نبيٌّ.
وَمِنْهُمُ حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ الَّذِي بِهِ خُتِمَ الْقَضَاءُ يَنْدَى وَيُكْرِمُ
قال الكلاباذيُّ: حفص بن غياث النخعيُّ الكوفيُّ قاضيها.
وفي «المقدِّمة»: من الأئمَّة الأثبات، أجمعوا على توثيقه والاحتجاج به إلَّا أنَّه في الآخر ساء حفظه، وفي «العينيِّ» كان يقول: مَن لم يأكل من طعامه لا أحدِّثه، وإذا كان له ضيافةٌ لا يبقى رأسٌ في الروايس، وقال العينيُّ: كان الرشيد ولَّاه قضاء بغداد، قال ابن أبي شيبة: وَلِيَ الكوفة ثلاث عشرة سنة، وبغداد سنتين، ومات يوم مات ولم يخلِّف / درهمًا، وخلَّف عليه تسع مئة درهمٍ دَيْنًا، وكان يقال: خُتِمَ القضاءُ بحفص بن غياث، وهو من جملة أصحاب أبي حنيفة، الذي قال له في جماعةٍ: أنتم مسارُّ قلبي، وجلاء حزني، وكان هو يقول: ما ولِّيتُ القضاء حتَّى حُلَّت لي الميتة، ولَأنْ يُدخِل الرجل إصبعه في عينيه فيقلعهما فيرمي بهما؛ خيرٌ من أنْ يكون قاضيًا.
وَمِنْهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ فَاقَهُ بِتَرْكِهِ مَنْصُورٌ فَكَانَ يُقَدَّمُ
أمَّا سُلَيْمَانُ بْنُ مِهْرَانَ فهو: الأعمش الكاهليُّ كاهل أسد بن خزيمة، مولاهم الأسديُّ الكوفيُّ الإمام المشهور، الثقة، العالم، الفاضل، وقال ابن معين: أصحُّ الأسانيد: الأعمش عن النخعيِّ عن علقمة عن ابن مسعود، وهو قوله في «الألفيَّة» في أصحِّ الأسانيد:
أوفى ابن سيرين عن السلمانيِّ عنه أو الأعمش عن ذي الشأن
النخعيُّ عن ابن قيس علقمة عن ابن مسعود ولُمْ من عممه
وظهر للأعمش أربعة آلاف حديثٍ، ولم يكن له كتابٌ، وكان فصيحًا لم يَلْحَن قطُّ، وكان أبوه من سبي الديلم، يقال: إنَّه شهد قتل الحسين يوم عاشوراء سنة 61هـ، قال يحيى القطَّان: الأعمش من النسَّاك المحافظين على الصف الأوَّل، وكان علَّامة الإسلام.
وقال وكيع: بقي الأعمش قريبًا من سبعين سنة لم تَفُتْهُ التَّكبيرة الأولى، وكان شعبة إذا ذكر الأعمش قال: المصحف، سمَّاه المصحف؛ لصدقه، وكان يُسمَّى سيِّد المحدِّثين، وكان صاحب سنَّة، ومع جلالته في الفضل والعلم صاحب مِلَحٍ ومزاحٍ، سأله داود الحائك: ما تقول في الصَّلاة خلف الحائك؟ قال: لا بأس بها على غير وضوءٍ.
وقال: ما تقول في شهادة الحائك؟ قال: تقبل مع عدلين.
وفي «طبقات الشعرانيِّ»: كان الأغنياء والسلاطين في مجلسه أحقر الحاضرين، وهو مع ذلك محتاجٌ إلى رغيفٍ، وكان يقول: أمَا يخشى أحدكم إذا عصى الله أن يثور من تلك المعصية دخانٌ يسوِّد وجهه بين النَّاس؟!.
وفي السخاويِّ: وكذا قال غيره؛ أي: غير ابن معين، ولكن بإبدال منصور بن المعتمر من الأعمش، فقال: حدَّث سفيان عن منصور بهذه التَّرجمة، فقال: هذا الشرف على الكراسيِّ، بل سُئِلَ ابن معين: أيُّهما أحبُّ إليك في إبراهيم؟ الأعمشُ أو منصور؟ فقال: منصور، وقال أبو بكر بن أبي خيثمة: سمعتُ يحيى بن معين وأبي حاضرٌ يقول: إذا اجتمع منصور والأعمش فقدِّم منصورًا، / ووافقه غيره على ذلك، فقال أبو حاتم وقد سُئِلَ عنهما: الأعمش حافظٌ يَخلِط ويُدلِّس، ومنصور أتقنُ، لا يُدلِّس ولا يخلط.
وذكر أبو بكر الباغنديُّ أنَّه رأى النبيَّ صلعم في المنام قال: فقلت: يا رسول الله؛ أيُّما أثبتُ في الحديث منصور أو الأعمش؟ فقال: «منصور منصور».
وهو: منصور بن المعتمر أبو عتَّاب السلميُّ الكوفيُّ، متعبِّدٌ، رجلٌ صالحٌ، وكان فيه تشيُّعٌ قليلٌ، وقد عُمِشَ من البكاء، وصام ستِّين سنة وقامها، كان الثوريُّ يقول: لو رأيت منصورًا وهو واقفٌ يصلي لقلت: إنَّه يموت السَّاعة، وقالت فتاةٌ لأبيها: الأسطوانة التي كانت في دار منصور ما فعلت؟ قال: يا بنيَّة؛ ذلك منصور يصلِّي بالليل، وكانت لا تصعد إلَّا ليلًا.
وأخذه يوسف بن عمر عامل الكوفة، يريده على القضاء، فامتنع وأبى، فقيل له: إنَّك لو نشدت محمَّدًا لم يلِ القضاء، فخلَّى عنه.
وَمِنْهُمْ سُلَيْمَانُ بْنُ طَرْخَانَ قَانِتٌ لِإِكْرَامِ مَوْلَاهُ لَهُ هُوَ مُقْسِمُ
تقدَّم فيمن يقول بالقدر.
وَمِنْهُمُ الْأَوْزَاعِيُّ رَيْحَانةٌ بَدَتْ بِغَرْبٍ وَبَدْرُ الشَّامِ لَمْ يَكُ يُظْلِمُ
قال الكلاباذيُّ: عبد الرحمن بن عمرو أبو عمرو الشاميُّ يقال له: الأوزاعيُّ ولم يكن منهم، وإنما كان نازلًا فيهم، والأوزاعيُّ من حِمْيَر وهي قريةٌ بدمشق، وفي «المقدِّمة» في (الفصل الثامن) في الحديث العشرين بعد كلام: وقد يدلُّ لما قلناه أنَّ رواية الأوزاعيِّ له عن يحيى بن سعيد مدلَّسةً، وعن يحيى بن أبي كثير مسموعةً، انظرها.
وفي «طبقات السبكيِّ»: لم يكن يلي قضاء الشام والخطابة والإمامة بجامع بني أميَّة إلَّا مَن يكون على مذهب الأوزاعيِّ إلى أنِ انتشر مذهب الشافعيِّ فصار لا يلي ذلك إلَّا الشافعيَّة، وفي «وفيَّات تقيِّ الدِّين السبكيِّ»: إمام أهل الشام وفقيههم وعالمهم، سكن بظاهر باب الفراديس بمحلَّة الأوزاع؛ بطنٌ من همدان، قال ابن المنذر عن الأوزاعيِّ: أُريت كأنَّ مَلَكين نزلا فأخذا بضبعي عرجا بي إلى السماء، وأوقفاني بين يديه فقال: أنت عبدي عبد الرحمن الذي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، قال: قلت: بعزَّتك يا ربِّ؛ قال: فردَّاني إلى الأرض.
قال الحاكم بن موسى: حدَّثنا الوليد قال: ما كنت أحرص على السماع من الأوزاعيِّ حتَّى رأيت النبيَّ صلعم / في النوم والأوزاعيُّ إلى جنبه، فقلت: يا رسول الله؛ عمَّن أحمل العلم؟ قال: «عن هذا» وأشار إلى الأوزاعيِّ.
وكانت أمُّه تدخل منزله فتتفقَّد مصلَّاه، فتجده رطبًا من دموعه، وقال: إنا لا ننقم على أبي حنيفة أنَّه رأى، كلُّنا يرى، ولكنَّنا ننقم عليه أنَّه رأى الشيء عن النبيِّ صلعم فخالفه، قال محمَّد بن عبد الله الطنافسيُّ: كنتُ جالسًا عند الثوريِّ فجاءه رجلٌ، فقال: إنِّي رأيت كأنَّ ريحانةً من المغرب قُلِعَتْ، فقلت: إنْ صدقَتْ رؤياكَ مات الأوزاعيُّ، فكتبوا ذلك فوجدوه قد مات في ذلك الوقت، ولقد كان مذهبه ظاهرًا بالأندلس إلى حدود العشرين ومئتين، ثمَّ تناقص، واشتهر مذهب مالك بيحيى بن يحيى الليثيِّ، وكان مذهبه بدمشق مشهورًا إلى حدود الأربعين وثلاث مئة.
وفي الحديث العشرين في (الفصل الثامن) من «المقدِّمة»: وقد يدلُّ لما قلناه أنَّ رواية الأوزاعيِّ له عن يحيى بن سعيد مدلَّسةً، وعن يحيى بن أبي كثير مسموعةً، وانظر الحديث الثالث والتسعين.
كَذَا ابْنُ جُرَيْجٍ إِنْ أَتَى فِي حَدِيثِهِ بِقَالَ فَشِبْهُ الرِّيحِ لَا شَيْءَ يُعْلَمُ
قال الكلاباذيُّ: عبد الملك بن عبد العزيز بن جُرَيج مولى عبد الله بن أميَّة، وأصلُه: روميٌّ، سمع عطاء، وقال عبد الرزَّاق: قدم أبو جعفر ؛ _يعني: الخليفة_ مكَّة، فقال: أُعرضُوا عليَّ أحاديث جريج، فقال: ما أحسنها! لولا هذا الحشو الذي فيها، يعني قوله: بلغني وحدَّثتُ.
وعن يحيى بن سعيد: كان ابن جريج صدوقًا، فإذا قال: حدَّثني؛ فهو سماعٌ، وإذا قال: أخبرنا أو أخبرني؛ فهو قراءةٌ، وإذا قال: قال؛ فهو شبه ريحٍ.
وقال ابن خلِّكان: أحد العلماء المشهورين، وأوَّل من صنَّف في الإسلام الكتب كما يقال، وعنه قال: كنت مع معن بن زائدة باليمن فحضر وقت الحجِّ، ولم تحضر لي نيَّةٌ، فخطر ببالي قول عمر ابن أبي ربيعة:
بالله قولي له من غير معتبةٍ ماذا أردت بطول المكث باليمن
إن كنت حاولت دنيا أو متِّعت بها فما أردت ببذل الحجِّ من ثمن
قال: فدخلت على معن، فأخبرته أنِّي قد عزمت على الحجِّ، فقال لي: ما يدعوك إليه، ولم تذكره قبل؟ فقلت: بيتان لعمر ابن أبي ربيعة، وأنشدته إيَّاهما، فجهَّزني وانطلقت، وفي الحديث الخامس والعشرين من (الفصل الثامن) من «المقدِّمة» قال الدارقطنيُّ، / وأخرج حديث ابن جريج عن الزهريِّ، انظره ولا بُدَّ.
وَعَمْرُو السَّبِيعِيُّ طَالَ عُمْرُهُ فِي تُقًى وَإِبْرَاهِيمُ التَّيْمِي المُهَدَّى المُقَدَّمُ
أمَّا السَّبِيعِيُّ فهو: عمرو بن عبد الله بن عبيد أبو إسحاق الهمدانيُّ السَّبيعيُّ: سمع من هَمَدان، الكوفيِّ التابعيِّ الجليل المتَّفق على جلالته وتوثيقه، وفي «الألفيَّة» في (معرفة مَن اختلط مِن الثقات): وكالجريريِّ سعيد وأبي إسحاق.
قال السخاويُّ: فإنَّه فيما قاله الخليليُّ اختلط، وكذا نقله النسائيُّ عن بعض أهل العلم، وأشار إلى أنَّ سماع ابن عُيَيْنَة منه بعد اختلاطه، ونحوه قول ابن معين: إنَّ ابن عُيَيْنَة سمع منه بعدما تغيَّر، وأنكر الذهبيُّ اختلاطه وقال: بل شَاخَ ونَسِيَ، فإنَّه قارب المئة.
أمَّا إبراهيم التيميُّ فهو: إبراهيم بن يزيد بن شريك أبو أسماء التيميُّ تيمُ الرباب الكوفيِّ العابد، ثقةٌ، إلَّا أنَّه كان يرسل ويدلِّس، سمع أباه.
قال العينيُّ: ولمَّا طلب الإمام إبراهيم النخعيَّ فوقع الرسول بإبراهيم التيميِّ فأخذه وحبسه؛ فقيل له: ليس إيَّاك، فقال: أكره أنْ أدفع عن نفسي، وأكون سببًا لحبس رجلٍ مسلم بريء الساحة، فصبر في السجن، حتَّى مات.
ومن غرائبه ما روي عن الأعمش عن إبراهيم التيميِّ قال: إنِّي لأمكثُ ثلاثين يومًا لا آكل.
وفي «الطبقات»: رأى الحجَّاج في منامه قائلًا يقول: مات اللَّيل في حبسك رجلًا من أهل الجنَّة، فقال: انظروا من مات، فوجدوه إبراهيم، فقال: حُلمٌ من نزغات الشيطان، فأمر به فأُلقِيَ على المزبلة.
وعنه رويت المسبَّعات العشر وهي؛ الفاتحة مع البسملة سبعًا، ثمَّ المعوَّذتان مع البسملة سبعًا، ثمَّ الإخلاص مع البسملة سبعًا، ثمَّ الكافرون مع البسملة سبعًا، ثمَّ آية الكرسيِّ سبعًا، ثمَّ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلَّا الله والله أكبر ولا حول ولا قوَّة إلَّا بالله العليِّ العظيم سبعًا، ثمَّ اللَّهمَّ صلِّ على سيِّدنا محمَّد عبدك ونبيِّك ورسولك النبيِّ الأمِّيِّ وعلى آله وصحبه وسلَّم سبعًا، ثمَّ اللَّهمَّ اغفر لي ولوالديَّ سبعًا، ثمَّ اغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات سبعًا، اللَّهمَّ افعل بنا وبهم عاجلًا وآجلًا في الدنيا والأخرة ما أنت له أهلٌ، ولا تفعل بنا وبهم يا مولانا ما نحن له أهلٌ، إنَّك غفورٌ رحيمٌ، / جوادٌ كريمٌ، رؤوفٌ رحيمٌ سبعًا.
قال أبو عبد الله الخروبيُّ: قد أسند حديثهما أبو طالب المكِّيُّ في «القوت» عن كُرْزِ بن وَبرة قال: وكان من الأبدال عن أخٍ له من أهل الشام عن إبراهيم التيميِّ عن الخضر ◙ عن النبيِّ صلعم.
سِوَى ابْنِ عُيَيْنةٍ لمَّا اسْتَقْرَؤُوا لَهُ وَمِثْلُهُ فِي هَذَا حُمَيْدٌ فَيَلْزَمُ
سفيان بن عيينة أبو محمَّد الهلاليُّ مولاهم مولى امرأةٍ من بني هلال بن عامر رهط ميمون الكوفيُّ، سكن مكَّة، في «طبقات الشعرانيِّ»: حفظ القرآن وهو ابن أربع سنين، وكتب الحديث وهو ابن سبع سنين، وكان يقول: إذا كان نهاري نهارَ سفيهٍ وليلي ليلَ جاهلٍ؛ فماذا أصنع بالعلم الذي كتبتُ؟ وكان يقول: مَن فسَّر حديث «مَن غشَّنا فليس منَّا» ونحوه على أنَّ المراد: ليس على هدينا، وحسن طريقتنا؛ فقد أساء الأدب.
وقال حرملة: أخرج لي سفيان بن عُيَيْنَة رغيف شعير من كمِّه وقال لي: دَعْ ما يقول النَّاس، فإنَّه طعامي منذ ستِّين سنة، وقد حجَّ سبعين حجَّةً، كان يقول ليلة الموقف: اللَّهمَّ لا تجعله آخر العهد منك، فلمَّا كان عام موته لم يقل ذلك، قال: رأيت كأنَّ أسناني سقطت، فذكرت ذلك للزهريِّ فقال: يموت أسنانك وتبقى أنت، فمات أسناني وبقيت أنا، فجعل الله كلَّ عدوي محدثًا عني، كان إمامًا، عالمًا، ثَبْتًا، حجَّةً، زاهدًا، وَرِعًا، مُجمَعًا على صحَّة حديثه وروايته، حتَّى قيل من قصيدة:
ثمَّ إنِّي زهدت في الزهد أيضًا بعد أنْ كنت لاحقًا بالهلالي
وفي «مرقاة الصعود» قال الذهبيُّ: أجمعت الأمَّة على الاحتجاج بابن عُيَيْنَة، وكان يدلِّس، لكنَّ المعروف أنَّه لا يدلِّس إلَّا عن ثقةٍ، وصرَّح أبو بكر البزَّار وابن حبَّان وأبو الفتح الأزديُّ وغيرهم بدعوى الاتِّفاق على قبول الأسانيد التي عنعن فيها وإنْ كان يدلِّس؛ لأنَّه لا يدلِّس إلَّا عن ثقةٍ.
وقالوا: هذا شيءٌ لا يُعرَف في الدنيا إلَّا لسفيان بن عُيَيْنَة، وفي «شرح السخاويِّ» ولذا قيل:
أمَّا الإمام ابن عُيَيْنَة فقد اغتفروا تدليسه من غير ردّ
وممَّا وقع لابن عُيَيْنَة أنَّه روى بالعنعنة عن عمرو بن دينار، ثُمَّ تبيَّن حين سُئِلَ أنَّ بينهما عليُّ بن المدينيِّ عن ابن عاصم عن ابن جُريج، أخرجه / الخطيب.
وفي «ألفيِّة العراقيِّ» في (معرفة من اختلط من الثقات):
وابن عُيَيْنَة كذا المسعوديُّ
قال السخاويُّ: فقد قال يحيى بن سعيد القطَّان فيما حكاه محمَّد بن عبد الله بن عمَّار الموصليُّ عنه: أشهد أنَّه اختلط سنة سبع وتسعين مَن سمع منه فيها، وبعدها فلا شيء، إذا علمت هذا فهمت قولنا:
يا سادة طلعوا طلاع هلال حسنًا وقد طعنوا بحدِّ ملال
طرفي يحدِّث عاذلي عن لوعتي عن ذكركم عن حبِّكم بهلال
مع ما يدلِّس لاح عنعنة له مقبولة تربى على ابن هلال
أي: على عنعنة ابن عُيَيْنَة.
هو باختلاطه زاد تصحيحًا لما يرويه منذ رآكم كهلال
هو أنَّ الطرف باختلاط دمعه بدم.
وحميد؛ عنى به: حميد بن أبي حميد الطويل، ثقةٌ، قيل: إنَّه لم يسمع من أنس إلَّا اليسير، وجُلُّ حديثه إنَّما هو عن ثابتٍ عنه، ولكنَّه يدلِّسه، فقال العلاء ردًّا على مَن قال: إنَّه لا يحتجُّ من حديث حميدٍ إلَّا بما صرَّح به، فقد تبيَّن الواسطة فيها، وهو ثقةٌ محتجٌّ به؛ أي: كما قيل في ابن عُيَيْنَة: إنَّه لا يدلِّس إلَّا عن ثقةٍ، بل هذا أشدُّ لعلم الثقة بعينه.
وَقَامَ مَقَامًا لِلسِّمَاعِ رِوَايَةً لِمَنْ يُشْبِهُ القَطَّانَ يَصْغَى وَيَعْلَمُ
قال في «المقدِّمة»: في (الفصل الثامن) في سياق الأحاديث في الحديث الأول بعد كلامٍ طويلٍ، انظره.
ويتأيَّد ذلك بأنَّ الإسماعيليَّ لما خرَّج هذا الحديث في «مستخرجه» على الصحيح من طريق يحيى بن سعيد القطَّان عن زهير، استدلَّ بذلك على أنَّ هذا ممَّا لم يدلِّس فيه أبو إسحاق، قال: لأنَّ يحيى بن سعيد لا يرضى أنْ يأخذ عن زهير ما ليس بسماعٍ لشيخه، وكان هذا عرف بالاستقراء من حال يحيى، والله أعلم.
وأمَّا القطَّان فهو: يحيى بن فرُّوخ أبو سعيد القطَّان الأحول البصريُّ الحافظ، يقال عن عليِّ بن المدينيِّ: إنَّه تميميٌّ مولاهم، وقال يحيى بن معين عنه: «ليس لأحدٍ عليَّ عقد ولاء» وفي «التَّهذيب»: اختلفوا يومًا عند شعبة فقالوا: اجعل بيننا وبينك حكمًا، فقال: قد رضيت بالأحول، فما برحنا حتَّى جاء فقضى على شعبة، فقال: ومَن يطيق نقدك يا أحول؟! / أثنى عليه الأئمَّة الثناءَ الجليل، قال إسحاق بن إبراهيم الشهيديُّ: كنت أرى يحيى القطَّان يصلِّي العصر، ثُمَّ يستند إلى أصل منارةِ مسجده، فيقف بين يديه عليُّ بن المدينيِّ، والشاذكونيُّ، وعمرو بن عليِّ، وأحمد ابن حنبل، ويحيى بن معين وغيرهم، يسألونه عن الحديث وهُم قيامٌ على أرجلهم إلى أنْ تحين صلاة المغرب، لا يقول لواحدٍ منهم: اجلسْ، ولا يجلسون؛ هيبةً له وإعظامًا.
وقال أبو داود: سمعت يحيى بن معين يقول: أقام يحيى بن سعيد عشرين سنة يختم القرآن في كلِّ ليلةٍ، ولم يَفُتْهُ الزوال في المسجد أربعين سنة، وما رُئِىَ يطلب جماعةً.
وقال بندار: اختلفت إلى يحيى بن سعيد أكثر من عشرين سنة، فما أظنُّ أنَّه عصى الله قطُّ، وعن زهير بن نعيم البابيِّ: رأيت يحيى بن سعيد في المنام عليه قميصٌ بين كتفيه مكتوبٌ: «بسم الله الرحمن الرحيم: كتابٌ من الله العزيز الحكيم براءةٌ ليحيى بن سعيد القطَّان من النار».
قال عليُّ بن المدينيِّ: سنح لي خالد بن الوليد ؛ _أي: في النوم_ فقمت وسلَّمت عليه وعانقته، وقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي على أنَّ الأمر شديدٌ، قلت: أين معاذ؟ قد كان رسيلك في الحديث؟ فقال لي: محبوسٌ، قلت: فما فعل يحيى بن سعيد القطَّان؟ قال: نراه كما نرى الكوكب الدُّرِّيَّ في أُفق السماء.
وفي «الألفيَّة» في (الجرح والتعديل):
ومع ذا فالنصحُ حقٌّ ولقد أحسن يحيى في جوابه وسدّ
لأن يكونوا خصماء لي أحبُّ من كون خصمي المصطفى إذا لم أذبّ