ومع ما اشتمل عليه الإمام البخاري ☺ من الحفظ الغزير، وما يعجز عنه الواصف من معرفة الفن القاضي بأنَّه ليس له فيه نظير، فكتابه يشهد له بالتقدُّم أيضًا في استنباط المسائل الدقيقة، وإزاحات الإشكالات بالكلمات اليسيرة الأنيقة؛ كقوله: (باب قول النَّبيِّ صلعم: «يعذب الميت ببعض بكاء أهله عليه» إذا كان النوح من سنته)، وقوله: (باب تسمية المولود غداة يولد لمن لم يَعُقَّ عنه)، / كلُّ هذا مع الاطلاع على اللغة والتوسُّع فيها، وإتقان العربية والصرف إيضاحًا وتنبيهًا، ومَن تأمَّل اختياراته الفقهية في «جامعه»؛ علم أنَّه كان مجتهدًا موفَّقًا مسدَّدًا، وإن كان كثير الموافقة للإمام الشافعي ☺، بل واستشهد بقوله في موضعين من كتابه؛ أحدهما في «الزكاة» عقب قوله: (باب: في الرِّكاز الخمس، وقال مالك وابن إدريس: الرِّكاز دَفينُ الجاهلية، في قليله وكثيره الزكاة، وليس المعدِن برِكاز)، وقال في (باب تفسير العرايا) من «البيوع»: (وقال ابنُ إدريس(1): لا تكون إلَّا بالكيل من التمر يدًا بيد، لا تكون إلَّا بالجُزاف).
قال البخاري ⌂ (2) ورضي عنه: وممَّا يقويه قول سهل بن أبي حَثْمة(3): (بالأوسق الموسقة).
قال حافظ العصر ابن حَجَر تغمده الله تعالى برحمته: وقد أخطأ مَن زعم أنَّه أراد بذلك عبد الله بن إدريس الأودي الكوفي؛ فإنَّ هاتين المسألتين منصوصتان للشافعي ☺ بلفظهما في كتبه.
وقد عدَّ الشيخ تاج الدين السُّبكيُّ البخاريَّ ⌐ في الشافعيَّة، وقال: ((إنَّه تفقَّه على الحُميدي صاحب الشافعي، ونقل عن أبي عاصم (العبادي: أنَّه ذكر البخاري في «طبقاته»، وقال: إنَّه سمع من)(4) الكرابيسي، وأبي ثور، والزعفراني؛ يعني(5): أصحاب الشافعي، ورُوي عنِ الأخيرين مسائل عن الشافعي، ولم يرو حديثًا عن الشافعي في «الصحيح»؛ لأنَّه أدرك أقرانه، والشافعي ☺ مات متكهِّلًا، فلا يَروي عنه بواسطة؛ لئلَّا يكون نازلًا))(6) انتهى.
والميل لما تقدَّم من كونه مجتهدًا أكثر.
قال عبد القدوس بن عبد الجبار السمرقندي: جاء البخاري إلى بعض أقربائه بخرتنك، فسمعتُه يدعو ليلة إذ فرغ من ورده: (اللَّهُمَّ؛ إنَّه قد ضاقت عليَّ الأرض بما رحُبت فاقبضني إليك)، فما تمَّ الشهر حتى مات ⌂ ورضي عنه في ليلة عيد الفطر، / سنة ست وخمسين ومئتين، وقد بلغ اثنتين وستين سنة إلَّا ثلاثة عشر يومًا، ودفن يوم الفطر.
وكان ☺ (7) شيخًا نحيف الجسم، ليس بالطويل ولا بالقصير.
فهذه أحرف من عيون مناقبه أو(8) صفاته، ودُرَرُ شمائله وحالاته، أشرت إليها إشارات؛ لكونها من المعروفات الواضحات، وهي غير منحصرة فيما ذكرته، وفيما أشرت إليه أبلغُ كفايةٍ للمستبصرين، فرضي الله عنه وأرضاه، وجمع بيننا وبينه وجميع أحبابنا في دار كرامته مع مَنِ اصطفاه، وجزاه عنَّا وعن سائر المسلمين أكمل الجزاء، وحباه من فضله أبلغ الحِباء بمنِّه وجوده، آمين.
[1] زيد في (ب): (العرية).
[2] (تعالى) ليست في (أ).
[3] في النسختين: (خيثمة).
[4] ما بين قوسين زيادة من (ب).
[5] في (أ): (نعني).
[6] «طبقات الشافعية الكبرى» ░4: 73▒.
[7] (عنه): ليست في (ب).
[8] في (ب): (و).