وكان في الورع غاية، ولذا لا يرى الطَّاعن للطَّعن(1) فيه شبهة، بحيث قال البخاريُّ: لا أعلم في مالي درهماً فيه شبهة، وذلك له أعظم جاهِ وَوِجْهَه(2).
وامتنع مِن(3) الاستعانة في تخليص حقٍّ كبير له عند إنسان بالأمير ذي الوجهة.
وامتنع مِن تعاطي البيع والشِّراء فيما قلَّ أن يستغني فيه إنسان؛ لما في المعاملة من التَّخليط بالزِّيادة والنُّقصان.
ونوى إعطاء رجل تجارة بسعر معلوم، وما أقبضه(4) إياه فَزِيدَ له بَعْدُ في الثَّمن فما انثنى عن عقده المرقوم.
وقال على سبيل التَّحدُّث بما لله عليه من كامل(5) النِّعمة: إنِّي لأرجو(6) أن ألقى الله ولا يحاسبني أنِّي اغتبت أحداً من هذه الأمة.
ولسَعَهُ زُنْبُور وهو في صلاته(7) سبعَ عشرة مرَّة، فما غيَّر ذلك من خشوعه فيها(8) وما تأوَّه.
ورفعَ رجلٌ من لحيته قذاةً ألقاها في المسجد بين يديه، فلحظها حتَّى غفل القوم فرفعها في كمِّه وأخرجها منه، صوناً للمسجد عما صِيْنَ عنه شعر لحيته أن يكون ذلك عليه.
وكان قليلاً للكلام فيما لا يعنيه، تاركاً للطَّمع رأساً؛ لأنَّه يُذلُّ صاحبه ويدنيه.
وإذا فرغ من التَّحديث والتَّصنيف قام وركع، كما حرض(9) على ذلك في شعر لطيف:
اغتنم في الفراغ فضل ركوعٍ فعسى أن يكون موتك بغتهْ
كم صحيح رأيت من غير سقم(10) ذهبت نفسه الصَّحيحة فلتهْ
ومناقبه: الحفظ والدِّراية والاجتهاد في التَّحصيل(11) والرِّواية، والنُّسك والإفادة، والورع والزّهادة، والتَّحقيق والاتقان، والتَّمكُّن والعرفان، وغيرها من أنواع المكرمات التي أهَّله لها المنَّان، وأوجده مستعداً لذلك الكمال الذي سَطَعَ نوره وبان.
علا عن المدح حتَّى ما يُزان به كأنَّما المدحُ من مقدارِه يضع
له الكتابُ الذي يتلو الكتابَ هُدًى هدي السَّعادة طودٌ ليس ينصدع
الجامع المانع الدِّين القويم وسنته الشَّريفة(12) أن تفتا لها البدع
قاصي(13) المراتب داني(14) الفضل تحسبه كالشَّمس يبدو سناها حين ترتفع
ذلَّت رقاب جماهير الأنام له فكلُّهم وهو عال فيهم خضعوا
لا تسمعنَّ حديث الحاسدين له / فإنَّ ذلك موضوع ومنقطع
وقلْ لمن رام يحكيه اصطبارك لا تعجل فإنَّ الذي تبغيه ممتنع
وهبك تأتي بما يحكى متانته أليس يُحكى محيا الجامعُ البِيَع
وقصَّته في تقليب(15) الحفَّاظ عليه لمَّا وصل لبغداد المائة الحديث(16) مشهورة، فردَّها إلى صوابها وبان بذلك أنَّ الحديث النَّبويَّ كسا ديباجة وجوده نوره، وكيف لا يكون كذلك وقد رُدَّت إليه عينه بعد العمى، وكانت عميت من جدريٍّ أصابه في صغره، فمسحه إبراهيم الخليل ◙ في المقام(17) فأصبح بصيراً مسلّماً.
ورأى(18) البخاريُّ النَّبيَّ صلعم وكأنَّه واقف بين يديه وبيده مروحة يذبُّ بها عنه لديه، فقال له بعض المعبِّرين: أنت تذبُّ الكذب عن سيد المرسلين.
ورأى النَّبيَّ صلعم مناماً خارجاً من قريةٍ، والبخاريُّ يمشي خلفه،(19) إذا خطا خطوة يخطو البخاريُّ فيضع قدمه على خطوة النَّبيِّ صلعم،(20) فقال له: أين تريد؟ قال: أُريد محمَّد بن إسماعيل البخاريِّ، فقال له صلعم: أقرِئه منِّي السَّلام(21).
ورأى في المنام أبو زيد(22) المروزيِّ الفقيه، وكان نائماً بين الرُّكن والمقام النَّبيَّ صلعم سيد الأنام(23) ، فقال له: يا أبا زيد إلى متى تدرس، ولا تدرس كتابي؟ قال: فقلت يا رسول الله وما كتابك؟! قال: جامع محمد بن إسماعيل البخاريِّ(24)
[1] في (ظ): «لا يرى الطاعن للطاعن» والمثبت من (ن).
[2] في (ظ): «للطاعن فيه شبهة، وذلك أعظم جاهِ وِجْهَة» والمثبت من (ن). هذا القول مشتهر عن أبيه إسماعيل، قاله عند موته: لا أعلم من مالي درهماً من حرام، ولا درهماً من شبهة. انظر: «هداية الساري لسيرة البخاري» للحافظ ابن حجر (ص: 63).
[3] في (ظ) «منه» والمثبت من (ن).
[4] في (ظ): «قبضه»، وفي (ن): «أقبضاه».
[5] قوله: «كامل» مثبت من (ن).
[6] في (ظ): «لا أرجوا».
[7] في (ظ): «صلاة» والمثبت من (ن).
[8] قوله: «فيها» مثبت من (ن).
[9] قوله: «كما حرض» مثبت من (ن).
[10] في (ن): «رأيت غير سقيم».
[11] في (ظ): «والاجتهاد والتحصيل» والمثبت من (ن).
[12] في (ن): «وسنة الشريعة».
[13] في (ن): «قاضي».
[14] في (ظ): «دان» والمثبت من (ن).
[15] في (ن): «تغليب» والمثبت من (ظ).
[16] هكذا في (ظ) و(ن) بتعريف طرفي الجملة، وهذا مرذول عند أهل اللغة.
[17] في كتب المصادر أن والدته رأت في المنام إبراهيم الخليل، فقال: يا هذه قد ردَّ الله على ابنك بصره؛ لكثرة دعاءك، أو لكثرة بكاءك. فأصبح وقد ردَّ الله عليه بصره. انظر: «هداية الساري» لابن حجر العسقلاني (ص: 52).
[18] بهامش (ظ): « مطلب رؤية البخاريِّ الرَّسول صلعم».
[19] في (ن): «من خلفه» والمثبت من (ظ).
[20] زاد في (ن) هنا: «في المنام».
[21] دمج المصنف هنا بين منام البخاري، وأنه يمشي خلف النبي صلعم، وبين منام الفربري الذي قال له فيه: أقرأه مني السلام.
[22] قوله: «زيد»، سقط من (ظ) ومثبت في (ن).
[23] قوله: «النبي صلعم سيد الأنام» سقط من (ظ).
[24] قوله: «البخاري» سقط من (ن).