قال البخاريُّ: ما كتبت في «الصَّحيح» حديثاً إلَّا اغتسلتُ قبل ذلك، وصلَّيت ركعتين، وكان ذلك بمكَّة المكرَّمة، والغُسل من مَشْرعة زمزم المعظَّمة، والصَّلاة خلف المقام، وذلك كان في مسودَّته، فلا ينافي أنَّه(1) حوَّل تراجمه عند ضريح سيِّد الأنام، فلذا كان به النَّفع التَّامُّ دنيا وأخرى، بطناً وظهراً.
صحيح البخاريِّ داوم عليه بحفظه(2) واروه في المشاهد
فذاك المجرَّب درياقه لدفع سموم أفاعي الشَّدائد
وهو أصحُّ كتابٍ بعد كتاب الله تعالى، وأوَّل ما صُنِّف في ذلك بغير اشتباهٍ، وكلام إمامنا الشَّافعيِّ في «الموطَّأ» كان قبل ظهور هذا «الصَّحيح»، فمذ ظهرَ نوره كان له كمال التَّقدُّم في ذلك، وشرف(3) علوِّ التَّقدُّم والتَّرجيح، وإن كان للكتاب في تلك الأيام فضلُ فتح السَّبق على تعاقب اللَّيالي والأيام.
ولو قبل مبكاها بكيت صبابةً بسُعدى شفيت النَّفس قبل التَّندُّم
ولكن بكتْ قبلي فهَيَّج لي البكاء بكاها فقلت: الفضل للمتقدِّم
فكتابه أصحُّ كتاب بعد كتاب الله تعالى، ولا ينافيه قول أبي عليٍّ النَّيسابوريِّ ما تحت أديم السَّماء في الحديث أصحُّ من كتاب مسلم؛ لأنَّه إنَّما نفى وجود أصحّ من مسلم، وأمَّا وجود مثله فلا.
قال النَّوويُّ ⌂: اتَّفق الجمهور على أنَّ «صحيح البخاريِّ» أصحُّهما(4) تصحيحاً وأكثرهما فوائد.
قال الأستاذ(5) الحافظ ابن حجر: ما يترجَّح به كتاب البخاريِّ اشتراطه في الإسناد المعنعن ثبوت اللِّقاء، وهو رأي شيخه عليِّ ابن المدينيِّ(6) ، وعليه استقرَّ عمل المحدِّثين والمحقِّقين منهم، وزعم مسلمٌ أنَّ الذي اشترطه قولٌ مخترعٌ، مخالف للإجماع، وليس كما قال، بل هو القول المتعيِّن، ومنه يظهر أنَّ شرطَ أبي عبد الله البخاريِّ أضيقُ من شرط أبي الحسين مسلم، فلذا كان كتابه / أقوى(7) تحرِّياً، وأشدَّ اتِّصالاً.
وتكفيه شهادة أبي الحسن الدَّارقطنيِّ أحدِ أئمة الحفظ والحجَّة، وقوله: لولا البخاريُّ لما راح مسلمٌ ولا جاء.
والمتكلَّم فيه من رجال البخاريِّ أقلُّ منهم من رجال مسلم، مع أنَّهم أشياخ البخاريِّ وهو أدرى بهم من كلِّ قادحٍ ومتكلِّم، فصحيحهُ أصحُّ كُتب الحديث، وسَيره فيه سير الأئمة المتبحِّرين في الحديث، الكُمَّل المجتهدين، والفضلاء المدقِّقين بالسَّير الحثيث.
أصحُّ كتابٍ بعد تنزيل ربنا صحيح البخاريِّ الذي جمع الأشيا
عليك به(8) حفظاً ودرساً تنل به حياتك في الأخرى وما شئت(9) في الدُّنيا
وفي المعنى:
إنَّ البخاريَّ صحيح لستُ أنكره قد لذَّ لي وحلا عندي(10) مكرَّره
فيه لروحي انشراحٌ لا أزال مدا عمري أردِّده درساً وأذكره
وفيه:
قلت للقلب حين ياب(11) من الهم كذي(12) الكسر في بطون البحار(13)
أيُّها القلب إن أصابك كسر فلك الجبرُ في صحيح البخاريِّ
وفيه:
إن روحي وراحتي وافتخاري حين أقرأ ما في صحيح البخاري(14)
لي به نشوة تزيد على ما ينتشي شاربٌ شرب العقارِ
وفي المعنى لمؤلِّفه(15) :
صحيح البخاريِّ كتاب الرسول فلازمه تظفر بنيل المرام
وكرِّر على القلب ألفاظه فلفظ الحبيب ضياء الظَّلام
وفيه له أيضاً:
صحيح البخاري حوى كلَّ فنٍّ به الفقه والنَّحو أي والسُّنن
فطوبى لمن عزَّ ألفاظه فأحيى به دَارِسَاتِ السُّنن
وعِدَّة أحاديثه على التَّحرير، نظمها المحدِّث الكبير، العالم اليماني، عبد الرَّحمن الديبع(16) الشيباني، فقال:
عداد(17) أحاديث البخاريِّ خالصاً من العودِ والتَّكرار ألفان مع نصف
وزد عشرة من بعدها وثلاثة أضفها إليها تنج من شبه الخُلفِ
على أنَّك إذا حقَّقت تجد ليس فيه(18) شيءٌ من التَّكرار، وكلّ ما(19) فيه على أشرف سَننٍ ومقدار(20)
قالوا: لمسلم فضلٌ قلتُ: البخاريّ أعلا
قالوا: يكرِّر فيه قلتُ: المكرر أحلا
وفي المعنى لمؤلِّفه:
قالوا: لمسلم فضل قلتُ: البخاريُّ أستاذٌ
قالوا: يكرِّر فيه قلتُ المكرر منعاد
وبالجملة فكتابه يشهد له بكمال التَّقدُّم، ويغني عن إطلاق ألسنة الأقلام وأفواه المحابر عن نشر بعض شذا عرف نعوته:
وليس بثابت في الذِّهن شيءٌ إذا احتاج(21) النَّهار إلى دليل
[1] قوله: «أنه» سقط من (ظ).
[2] في (ظ): «على تحفظه».
[3] في (ظ): «بشرف».
[4] في (ظ): «أصحها».
[5] قوله: «الأستاذ» مثبت من (ظ).
[6] في (ظ) و(ن): «أبي علي المديني»، وهو سبق قلم لأن ابن المديني هو أبو الحسن كما في التقريب.
[7] في (ظ): «أقويا».
[8] في (ظ): «بها».
[9] في (ظ): «تمنيت».
[10] في (ن): «عند».
[11] في (ظ): «باب».
[12] في (ظ): «كذا».
[13] في (ظ): «وفيه» فجعل البيت الثاني بيتاً من قصيدة أخرى، وهو وهم.
[14] سقط هذا البيت كاملاً في (ظ).
[15] في (ن): «ولمؤلفه فيه».
[16] قوله «الديبع» مثبت في (ن).
[17] في (ظ): «عدة».
[18] في (ن): «منه».
[19] في (ن) و(ظ): «كلما».
[20] في (ن): «وبمقدار».
[21] في (ظ): «احتياج».