التنقيح لألفاظ الجامع الصحيح

حديث: إنما الأعمال بالنيات

          1- (سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلعم يَقُولُ) هذا مما يتكرَّر كثيرًا، وقد اختلف هل يتعدى (سَمِعْتُ) إلى مفعولين؟ فجوَّزه الفارسي، لكن لا بد أن يكون الثاني مما يسمع، نحو: سمعت زيدًا يقول كذا، فلو قلت: سمعتُ زيدًا أخاك؛ لم يجز.
          والصحيح: تعديتها إلى واحد، وما وقع بعده منصوبًا فعلى الحال، والأول على تقدير مضاف، أي: سمعت كلام رسول الله صلعم ؛ لأن السمع لا يقع على الذوات، ثم بيَّن هذا المحذوف بالحال المذكورة وهي (يَقُولُ): وهي حال مُبَيَّنة ولا يجوز حذفها.
          (إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ) فيه إضمار، ويَحتمل وجوهًا: تعتبر بالنيات، تصح، تُجتَلب، والثاني: وهو المشهور، والثالث: أقلُّ تخصيصًا، والأول أعم فائدة؛ لأن العمل إذا لم يكن معتبرًا إلا بالنية لا يكون صحيحًا، ولا يتعلق به حكم.
          واللام في (الأَعْمَالُ) للجنس على المشهور؛ أي: كل عمل.
          ومقابلة الأعمال بالنيات مقابلة الآحاد بالآحاد؛ أي: لكل عمل نية، أو إشارة إلى تنوع النيات. يعني: إن كان القصد رضا الله فله مزية، وإن كان القصد دخول الجنة فله مزية، وإن كان القصد الدنيا فهو بقدْرَها يتشرَّف الفعل، ذكره الخويي (1) .
          و (النِّيَّاتِ) جمع نيَّة بالتشديد والتخفيف، والتشديد من: نوى ينوي: قصد، وأصله: نوية، قُلِبت الواو ياء ثم أدغمت في الياء بعدها لتقاربهما، ومن خفَّف فمن وَنَى يَنِي: أبطأ وتأخر؛ لأن النية تحتاج في تصحيحها إلى إبطاء.
          والباء في (بالنيات) تحتمل السببية والمصاحبة. (2)
          (وَإِنَّمَا لِكُلِّ [امْرِئٍ] مَا نَوَى) هذه الجملة غير الأولى، فإن الأولى نبهت على أن الأعمال لاتصير حاملة لثوابٍ وعقابٍ إلا بالنية، والثانية: أن العامل يكون له من العمل على قدر نيته؛ ولهذا أُخِّرت عن الأولى لترتبها عليها.
          وقال الخطابي: أفادت الثانية تعيين العمل بالنية؛ لأنَّه لو نوى صلاة إن كانت فائتة وإلا فهي تطوع لم تجزئه عن فرضه؛ لأنَّه لم يمحِّض النية ولم يعيَّن بها.
          (فَمَنْ كَاْنَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللهِ وَرَسُولِه) هذا سقط هنا في رواية البخاري من جهة سفيان، فيشبه أن يكون هذا من صنيع البخاري واختصاره، وإلا فقد أثبتها من جهة سفيان الإسماعيلي في «مستخرجه».
          ولا بدَّ فيه من تقدير؛ لأنَّ الشرط والجزاء والمبتدأ والخبر لا بد من تغايرهما وهنا قد اتحدا، فالتقدير: فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله نيةً وقصدًا فهجرته إلى الله ورسوله حكمًا وشرعًا. قاله ابن دقيق العيد في «شرح العمدة»، وفيه نظر؛ فإن المقدَّر حينئذٍ حال مبينة فكيف تحذف!
          ولهذا منع الرُّنْدي في «شرح الجمل» جعل «بسم الله» متعلقًا بحال محذوفة، أي أبتدئ متبرِّكًا، قال: لأن حذف الحال لا يجوز، فالأولى أن تكون «نية» و«قصدًا» نصبًا على التمييز، ويجوز حذفه إذا دل عليه / دليل كقوله تعالى:{إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ}[الأنفال:65] أي: رجلًا.
          ويمكن تأويله على إرادة المعهود المستقر في النفوس من غير ملاحظة حذف، كقولك: أنت أنت، أي: الصديق الذي لم يتغير، وقول الشاعر:
أنا أبو النجم وشعري شِعري
          أو أنَّه مؤول على إقامة السبب مقام المسبَّب لاشتهار السبب، أي: فقد استحق الثواب العظيم المستقر للمهاجرين.
          وفيه: وضع الظاهر موضع المضمر، فإن الأصل فهجرته إليهما، وفيه وجهان: أحدهما: قصد الاستلذاذ بذكره؛ ولهذا لم يُعَد في الجملة الثانية، وهي قوله: (وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا) إعراضًا عن تكرير لفظ الدنيا، وثانيهما: عدل عن ذلك؛ لئلا يجمع بينهما في ضمير واحد، وفيه بحث.
          (دُنْيَا) بضم الدال، وحكى ابن قتيبة كسرَها، وهو مقصور غير منون على المشهور، وحُكِيَ تنوينها، قال ابن جني: وهي نادرة.
          وأورد ابن مالك أنَّها في الأصل مؤنث أدنى، وأدنى أفعل تفضيل، وأفعل التفضيل إذا نُكِّرَ لزم الإفراد والتذكير فامتنع تأنيثه، ففي استعمال دنيا بتأنيث مع كونه منكَّرًا إشكال، وكان حقه أن لا يستعمل كما لا يستعمل قصوى ولا كبرى، وأجاب بأنه خُلعت عنها الوصفية غالبًا، وأجريت مُجرى ما لم يكن قط وصفًا كـ «رُجعى».


[1] قال محب الدين البغدادي: لم قال الأعمال دون الأفعال؟ وهل بين العمل والفعل فرق أو هما مترادفان؟ قلت: الأظهر أنهما متباينان، وأن الفعل أعم، فالعمل هو الحدث الصادر عن الجوارح، والفعل هو الصادر عنها بقصد أو بغير قصد، فكل عمل فعل ولا عكس.
[2] جاءت في غير (ق) ونسخة دار الكتب المصرية (639 حديث) خطأً: الجويني، وهو محمد بن أحمد المهلبي الخويي، صاحب «أقاليم التعاليم».