فلمَّا انتشر الإسلام، واتَّسعت الأمصار، وتفرَّقت الصَّحابة في الأقطار، وكثُرت الفتوحات، ومات معظم الصحابة، وتفرَّق أصحابهم وأتباعهم، وقلَّ الضَّبط، واتَّسع الخرق، وكاد الباطل أن يُلَبَّس(1) بالحقِّ؛ احتاج العلماء إلى تدوين الحديث وتقييده بالكتابة، فكان أوَّلَ من أمر بتدوين الحديث النَّبويِّ وجمعِه بالكتابة عمرُ بن عبد العزيز رضي الله(2) عنه خوفَ اندراسه.
وكان أوَّلَ من جمع في ذلك الرَّبيعُ بن صُبَيح وسعيد ابن أبي عُروبة وغيرهما، وكانوا يصنِّفون كلَّ بابٍ على حِدَةٍ، إلى أن انتهى الأمر إلى كبار الطَّبقة الثَّالثة كالإمام مالك بن أنس؛ فصنَّف ((المُوَطَّأ)) بالمدينة، وعبد المَلِك بن جُرَيج بمكَّة، وعبد الرَّحمن الأوزاعي بالشَّام، وسُفيان الثَّورِيِّ بالكُوفة، وحمَّاد بن سلَمة(3) بن دينار بالبَصْرة.
ثمَّ تلاهم كثير من الأئمَّة في التَّصنيف، كلٌّ على حسب ما سنح له وانتهى إليه علمه، فمنهم من رتَّب على المسانيد كالإمام أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهَوَيهِ وأبي بكر بن / أبي شَيبةَ وغيرهم، ومنهم من رتَّب على العِلَل(4) بأن يجمع في كلِّ متن طُرُقَه واختلاف الرُّواة فيه؛ بحيث يتَّضح إرسال ما يكون متَّصلًا، أو وقف ما يكون مرفوعًا، أو غير ذلك.
ومنهم من رتَّب على الأبواب الفقهية وغيرها، ونوَّعه أنواعًا، وجمع ما ورد في كلِّ نوع وكلِّ حكم إثباتًا ونفيًا، في باب فبابٍ، بحيث يتميَّز ما يدخل في الصَّوم مثلاً عمَّا يتعلَّق بالصَّلاة.
وأهل هذه الطَّريقة: منهم من يتقيَّد(5) بالصَّحيح كالشَّيخَين وغيرهما، ومنهم من لم يتقيَّد بذلك كباقي الكتب السِّتَّة، فجزاهم الله عن سعيهم الحميد أحسنَ ما جزى أحبارَ(6) مِلَّةٍ وعلماءَ أمَّة.
[1] في (ز): (يلتبس).
[2] زيد في (ز): (تعالى).
[3] زيد في (ز) خطأ: (ومالك بن).
[4] في (ز): (المعلل).
[5] في (ز): (تقيد).
[6] في (ز): (أخيار).