ولْنشرع في المقصود مستمدِّين من الله المَدَدَ في جميع المُدَدِ فنقول:
إنَّ البخاريَّ ☼ لم يفتتح كتابه ((الجامع)) بخُطبة تنبئ عن مقصوده(1)، مفتَتَحَةً بالحمد والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا محمد رسول الله صلعم كما فعل غيره، اقتداءً بالكتاب العزيز وحديثِ: « كُلُّ أمرٍ ذي بالٍ لا يُبدَأُ فيه بالحمد لله فهو أقطعُ»، المَرويِّ في ((سُنَن ابن ماجه)) وغيره، لأنَّه قصد هضم نفسه ومؤلَّفه، فأجراه مُجرَى الرِّسالة لأهل العلم لينتفعوا به، وتأسَّى بكتبه صلعم إلى المُلوك، فإنَّها مفتتحة بالبسملة دون حمدلة وغيرها. /
وأمَّا الحديث فليس على شرطه، وعلى سبيل التنزُّل فلا يتعيَّن النُّطق والكتابة معًا، فيُحتَمَل أنَّه فعل ذلك نُطقًا عند تأليفه، اكتفاءًا بكتابة البسملة، لا سيَّما وأوَّل ما نزل من القرآن: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، فطريق التَّأسِّي به الافتتاحُ بالبسملة والاقتصار، ويَعضِدُه ما تقدَّم من فعله صلعم في كتبه.
أو أنَّه ذكر الحمد بعد التَّسمية _كما هو دأب المصنِّفين_ في مُسوَدَّته كما ذكره في بقيَّة مصنَّفاته، وإنَّما سقط من بعض الرُّواة المُبيِّضين(2) لها(3)، واستمرَّ(4) الأمر على ذلك.
[قال بعضهم: فيها حمد وتشهُّد](5)، ورُدَّ هذا بأنَّ قائله ما رأى تصانيف الأئمَّة كمالك في ((المُوَطَّأ)) وأحمد في ((المسند)) وأبي داود في ((السُّنَن)) وغيرهم من شيوخ البخاريِّ وشيوخ شيوخه وأهل عصره، فإنَّ(6) الأكثر منهم لم يفتتح تصنيفه بخطبة فيها حمد وتشهد كما تقدَّم(7)، ولم يزد على التَّسمية، فلا يقال في كلٍّ من هؤلاء: إنَّ الرُّواة عنهم حذفوا ذلك؟ بل يُحمل على أنَّهم حمدوا لفظًا(8)، أو أنَّهم رأوا ذلك مختصًّا بالخُطَب دون الكتب.
وأمَّا من افتتح منهم كتابه بخطبة فيها حمد وتشهُّد _وهم القليل(9) _ فلم يرَ الاختصاص(10).
وعلى كلِّ حال: فالحمد هو الثَّناء، والبسملة(11) من أبلغ الثَّناء، ففيها معنى الحمد وزيادة.
وممَّا يقوِّي ابتداءَ البخاريِّ بالبسملة قبل ذِكر الوحي وكيف كان ابتداؤه: ما رُوِيَ أنَّ رسول الله صلعم كان إذا جاءه بالوحي(12) جبريلُ ◙ أوَّلُ ما يبتدئ به(13): { بسم الله الرَّحمن الرَّحيم } [الفاتحة: 1]. قاله الحافظ ابن ناصر الدِّين الدِّمَشْقيُّ.
[1] في (ز): (مقصود).
[2] في (ز): (المصنفين).
[3] (لها): ليس في (ز).
[4] في (ز): (وأبقى).
[5] في (ز): (قاله بعضهم)، دون قوله (فيها حمد وتشهد).
[6] في (ز): (وأن).
[7] (كما تقدم): ليس في (ز).
[8] زيد في (ز): (كما تقدم).
[9] في (ز): (قليل).
[10] في (ز): (الاختصار).
[11] في (م): (والحمد).
[12] في (ز): (الوحي).
[13] في (ز): (يلقي عليه).