ثمَّ إنَّ كتاب البخاريّ أصحُّ الكتابين صحيحًا، وأكثرهما فوائدَ.
وأمَّا ما رُوِي عن أبي عليٍّ النَّيسابُوريِّ أنَّه قال: (ما تحت أديم السَّماء أصحُّ من كتاب مسلم). فإن كان أراد(1) أنَّه لم يمازجه غير الصَّحيح، فإنَّه من بعد الخُطبة لم يذكر إلَّا الحديث مسرودًا غير ممزوج بمثل ما في البخاريِّ فلا بأسَ به، لكن لا يلزم أنَّ كتاب مسلم أرجحُ ممَّا يرجع إلى نفس الصَّحيح.
وإن كان المراد: أنَّه أصحُّ صحيحًا، فهو مردود، والصَّواب ترجيح البخاريِّ، لكن قال الحافظ ابن حَجَرٍ: لم يصرِّح أبو عليٍّ ولا غيره بأنَّ كتاب مسلم أصحُّ من كتاب البخاريِّ، بل المنقول هو(2) الذي قدَّمناه، ولا يلزم منه الأفضليَّة، غايتُه المساواةُ، لكنَّ الظَّاهر أنَّه أراد الاحتمال الثَّاني.
وأكثر ما فُضِّل به كتاب مسلم عليه بأنَّه يجمع المتون في موضع واحد، ولا يفرِّقها في الأبواب، ويسوقها تامَّة، ولا يقطِّعها في التَّراجم، ويحافظ على الإتيان بألفاظها، / ولا يروي بالمعنى، ويُفردها ولا يخلط معها شيئًا من أقوال الصَّحابة ومن بعدهم.
وأمَّا البخاريُّ فإنَّه يفرِّقها في الأبواب اللائقة بها، فإعادته للأحاديث وتقطيعها ممَّا يدلُّ على فضله وفقهه وكثرة حديثه، فإنَّه يستخرج من الحديث الواحد المعاني الكثيرة.
وقال النَّوَويُّ: ليس مقصود البخاريِّ بـ((الجامع الصَّحيح)) الاقتصارَ على الحديث، وتكثير الطُّرُق والمتون، بل مراده الاستنباط منها، والاستدلال للأبواب(3) التي أرادها من الأصول والفروع والزُّهد وغيرها من الفنون. انتهى.
وقلَّ ما يورد البخاريُّ في كتابه حديثًا في موضعين بإسناد واحد بلفظ واحد، وإنَّما يكرِّرها على طريقته، وهو أنَّ كثيرًا من الأحاديث يشتمل(4) على عِدَّة أحكام، فيحتاج أن يذكر في كلِّ باب يليق به حكمٌ من ذلك الحديث بعينه، فإن ساقه بتمامه إسنادًا أو متنًا طال، وإن أهمله فلا يليق به، فتصرَّف فيه بوجوه من التَّصرُّف، وهو أن(5) ينظر الإسناد إلى غاية من يدور عليه الحديث من الرُّواة _أي: يتفرَّد(6) بروايته_ فيخرِّجه في بابٍ عن راوٍ يرويه عن ذلك المتفرِّد(7) [ويخرِّجه] في باب آخر عن راوٍ آخر عن ذلك المتفرد(8)، وهلمَّ جرًّا.
فإن كثُرت الأحكام عن عدد الرُّواة عدل عن(9) سياقه تامَّ الإسناد إلى اختصاره معَلَّقًا، وهذه إحدى النُّكَت في تعليقه ما وصلَه في موضعٍ آخرَ.
وإن ضاق مخرَجُه _كأن يكون فردًا مطلقًا_ تصرَّف حينئذٍ في المتن، / فيسوقه تارةً تامًّا وتارةً مختصَرًا.
ثمَّ إنَّه حالَ تصنيفه كأنه بسط التَّراجم والأحاديث، فجعل لكلِّ ترجمة حديثًا يلائمها، وبقيت(10) عليه(11) تراجم لم يجد في الحالة الرَّاهنة ما يلائمها، فأخلاها عن الحديث، وبقيت(12) عليه أحاديثُ لم يتَّضحْ له ما يرتضيه في التَّرجمة عنها، فجعل لها أبوابًا بلا تراجم، فيوجد فيه أحيانًا باب مترجم وليس فيه سوى آيةٍ أو كلامٍ لصحابيٍّ أو تابعيٍّ، وأحيانًا باب غير مترجم وقد ساق فيه حديثًا أو أكثر.
نقل ذلك أبو ذَرٍّ الهرَوِيُّ عن المُستَمْلِي، وأشار إلى أنَّ بعض مَن نقل الكتاب بعد موت مصنِّفه ربَّما ضمَّ بابًا مترجَمًا إلى حديث غيرِ مترجمٍ، وأخلى البياض الذي بينهما، فيظن بعض الناس(13) أَنَّ هذا الحديث يتعلَّق بالترجمة التي قبلهَ فيتمحل لها وجهًا من المحامل المتكلفة ولا تعلق له به ألبتَّة.
[1] زيد في (ز): (باعتبار).
[2] في (ز): (هذا).
[3] في (ز): (بالأبواب).
[4] في (ز): (تشتمل).
[5] في (ز): (أنه).
[6] في (ز): (ينفرد).
[7] في (ز): (المنفرد).
[8] في (ز): (المنفرد).
[9] (عن): ليس في (ز).
[10] في (ز): (ويثبت).
[11] (عليه): ليس في (ز).
[12] في (ز): (ويثبت).
[13] من هنا في (م) تقديم وتأخير بمقدار ثلاث ورقات.