-
مقدمة الكتاب
-
الشروع في ترجمة الإمام البخاري
-
نسب البخاري
-
ولادته
-
مبدأ طلبه الحديث
-
رحلته وتنقله في البلاد
-
عدة مشايخه
-
سنه أول ما كتب عنه
-
سعة حفظه
-
سيرته وأخلاقه
-
شعره
-
بيان أنه أول من صنف الصحيح المجرَّد
-
كون جامعه أصح الكتب بعد القرآن الكريم
-
سبب تجريده الصحيح
-
مقدار الأحاديث التي جرد منها الصحيح
-
تلقيبه بأمير المؤمنين
-
تسميته لكتابه
-
عنايته بجامعه ووصفه له
-
عرضه جامعه على أئمة السنة وانتقادهم
-
شرط البخاري في جامعه
-
معنى قوله: تركت من الصحيح
-
سر إيراده المعلقات
-
عثور المستملي على أصل البُخَاري
-
عدة أحاديث الجامع
-
عدة الأحاديث التي انتقدها عليه الحُفَّاظ
-
الموازنة بين الذين أخرج لهم وتكلم فيهم وبين ما انفرد بهم مسلم
-
تخريجه عمن رمي بالابتداع
-
فقه البخاري واجتهاده المطلق
-
شذرة من اختيارات البخاري الدالة على اجتهاده
-
عدة تلامذته الذين رووا عنه جامعه
-
من روى عنه من مشاهير أرباب الصِّحاح
-
ما قاله الإمام ابن خلدون في جامع البخاري
-
رد فرية على البخاري
-
ما حصل له من المحنة من كيد حساده
-
رجوعه إلى بخارى ونفي أميرها له ووفاته
-
ذكر وفاته
-
ثناء الأئمة على البُخاري
-
عدد مصنفاته
-
التغالي في رفع الأسانيد إلى جامعه
-
ما نظم في مدح البخاري وكتابه الجامع الصحيح
ما حصل له من المحنة من كيد حُسَّاده
قال أبو أحمد ابن عَدي: ذكر لي جماعة من المشايخ أنَّ محمَّد بن إسماعيل لما ورد نيسابور واجتمع النَّاس عنده، حَسَدَه بعض شيوخ الوقت، فقالَ لأصحاب الحديث: إنَّ محمَّد بن إسماعيل يقول: لفظي بالقرآن مخلوق. فلمَّا حضر المجلس قام إليه رجل فقال: يا أبا عبد الله ما تقول في اللفظ بالقرآن مخلوق هو أو غير مخلوق؟ فأعرض عنه البخاريُّ ولم يجبه ثلاثًا، فألحَّ عليه، فقال البخاريُّ: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة، والامتحان بدعة. فَشَغَّب الرجلُ وقال: قد قال: لفظي بالقرآن مخلوق.
وقال البخاري: سمعتُ عبيد الله بن سعيد _يعنى أبا قدامة السَّرَخسيَ_ يقول: ما زلتُ أسمع أصحابنا يقولون: إن أفعال العباد مخلوقة.
قال محمَّد بن إسماعيل: حركاتهم، وأصواتهم، وأكسابهم، وكتابتهم مخلوقة، فأمَّا القرآنُ المُبين المثبت في المصاحف، المُوعى في القلوب، فهو كلام الله غير مخلوق، قال الله تعالى: {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} [العنكبوت:49].
وكان من أعظم مَن أثار عليه الفتنة في نيسابور محمَّد بن يحيى الذُّهلي، رفيقه في الطلب وأستاذه.
قال مسلم: لمَّا قَدِم البخاريُّ نيسابور ما رأيتُ واليًا ولا عالمًا فعل به أهل نيسابور ما فعلوا به، استقبلوه من مرحلتين من البلد أو ثلاث، وقال محمَّد بن يحيى / الذُّهلي في مجلسه: مَن أراد أن يستقبل محمَّد بن إسماعيل غدًا فليستقبله، فإنِّي أستقبله. فاستقبله محمَّد بن يحيى وعامة علماء نيسابور، فدخل البلد، فنزل دار البخاريين، فقال لنا محمَّد بن يحيى: لا تسألوه عن شيءٍ من الكلام؛ فإنَّه إن أجاب بخلاف ما نحن عليه وقع بيننا وبينه، وشَمِتَ بنا كل ناصبيٍّ ورافضيٍّ وجَهْميٍّ ومرجئ بخُراسان. قال: فازدحم النَّاس على محمَّد بن إسماعيل حتَّى امتلأت الدَّار والسُّطوح، فلمَّا كان اليوم الثاني أو الثالث من يوم قدومه، قام إليه رجل فسأله عن اللفظ بالقرآن. فقال: أفعالنا مخلوقة، وألفاظنا من أفعالنا. قال: فوقع بين النَّاس اختلاف، فقال بعضهم: قال: لفظي بالقرآن مخلوق، وقال بعضهم: لم يقل، فوقع بينهم في ذلك اختلاف حتى قام بعضهم إلى بعض، قال: فاجتمع أهل الدار فأخرجوهم. انتهى.
قلت: إنَّ نهي الذُّهلي عن سؤال البخاري عن شيءٍ من الكلام، فيه تلقين للفتنة، وتعليم لمثارها، وفتح لبابها، ولذا قال أبو حامد ابن الشَّرْقي: سمعت محمَّد بن يحيى الذُّهْلي يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، ومَن زعم لفظي بالقرآن مخلوق فهو مبتدع ولا يُجالَسُ ولا يُكَلَّم، ومن ذهب بعد هذا إلى محمَّد بن إسماعيل فاتهموه أنَّه لا يحضر مجلسه إلَّا مَن كان على مذهبه.
فمن هنا يظهر أنَّ الذَّهلي كاد للبخاري في مسألة يعسر اتقاء العثور فيها، وهي المسألة التي كانت حديث القوم وسَمَرهم؛ لقرب العهد من الفتنة بها، واستطارة شررها في البلاد، وغليان الصُّدور بالبغضاء والعَدَاوة والمقت لمن لا يتعصب فيها.
قال الحاكم: ولمَّا وقع بين البخاريُّ وبين الذُّهْليِّ في مسألة اللفظ انقطع النَّاس عن البخاريِّ إلَّا مسلم بن الحَجَّاج، وأحمد بن سلَمة، قال الذُّهلي: أَلَا مَن قال باللفظ فلا يَحِلُّ له أن يحضر مجلسنا. فأخذ مسلم رداءه فوق عمامته وقام على رؤوس النَّاس، فبعث إلى الذُّهليِّ جميع ما كان كتبه عنه على ظهر جمال.
وعن أحمد بن سَلَمة النيسابوريِّ قال: دخلت على البخاريِّ فقلت: يا أبا عبد الله إنَّ هذا رجل مقبول بخراسان، خصوصًا في هذه المدينة، وقد لجَّ في هذا الأمر حتَّى لا يقدر أحدٌ منَّا أن يكلِّمه فيه فما ترى؟ قال: فقبض على لحيته ثمَّ قال: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} [غافر:44] اللهمَّ إنَّك تعلم أنِّي لم أرد المقام بنيسابور أشرًا، ولا بطرًا، ولا طلبًا للرئاسة، وإنَّما أبت عليَّ نفسي الرجوع إلى الوطن لغلبة المخالفين، وقد قصدني هذا الرجل حسدًا لما آتاني الله لا غير، ثمَّ قال لي: يا أحمد إني خارجٌ غدًا لتخلصوا من حديثه لأجلي. /
وقال الحافظ ابنُ الأَخْرَم: لما قام مسلم بن الحَجَّاج وأحمد بن سَلَمة من مجلس محمَّد بن يحيى بسبب البخاريِّ، قال الذُّهليُّ: لا يُساكنني هذا الرجل في البلد. فخشي البخاريُّ وسافر.
وقال الإمام ابن السيد البَطَلْيَوْسي الأندلسي في كتابه (الإنصاف) في الباب الخامس في الخلاف العارض من جهة الرواية: وللبخاريِّ أبي عبد الله ☼في هذا الباب _باب نقد الرجال_ عناء مشكور، وسعي مبرور، وكذلك لمسلم وابن مَعِين، فإنَّهم انتقدوا الحديث وحرَّروه، ونبهوا على ضعفاء المُحَدِّثين، والمتهمين بالكذب، حتّى ضجَّ مِن ذلك مَن كان في عصرهم، وكان ذلك أحد الأسباب التي أوغرت صدور الفقهاء على البخاريِّ، فلم يزالوا يرصدون له المكاره، حتى أمكنتهم فيه فرصة بكلمةٍ قالها، فكَفَّروه بها، وامتحنوه، وطردوه من موضع إلى موضع، وحتى حمل بعض النَّاس قَلقَه من ذلك على أنَّ قال:
ولابنِ مَعينٍِ في الرِّجالِ مقالةٌ سَيُسْأَلُ عنها والمليكُ شَهيدُ
فإنْ يَكُ حقًا قولُه فهو غيبةٌ وإنْ يَكُ زُورًا فالعِقَابُ شَديدُ
وما أخلق قائلَ هذا الشعر بأن يكون دفع مَغْرَمًا، وأَسرَّ حَسْوًا في ارتغاءٍ؛ لأنَّ ابن مَعِين فيما فعل أجدرُ بأن يكون مأجورًا من أن يكون مأزورًا، وأن لا يكون في ذلك ملومًا بل مشكورًا. انتهى.