نجاح القاري لصحيح البخاري

أبواب الاعتكاف

          ░░33▒▒ (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابُ الاِعْتِكَافِ) هكذا في رواية النَّسفي. وفي رواية المستملي: <أبواب الاعتكاف، بسم الله الرَّحمن الرَّحيم> بتأخير البسملة عن قوله: أبواب الاعتكاف.
          وأمَّا في رواية غيرهما فقد سقط لفظ: <أبواب الاعتكاف>، وكذا لفظ: <كتاب الاعتكاف> وهو في اللُّغة: اللَّبث مطلقاً، ويقال: الاعتكاف والعكوف: الإقامة على الشَّيء وبالمكان ولزومهما. ومنه يقال لمن لازم المسجد: عاكف ومعتكفٌ، هكذا ذكره ابن الأثير في «النهاية».
          وفي «المغني»: هو لزوم الشَّيء، وحبس النَّفس عليه برًّا كان أو غيره. ومنه قوله تعالى: {مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} [الأنبياء:52]، وقوله تعالى: {يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ} [الأعراف:138]، وقوله تعالى: {وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} [طه:97].
          وفي الشَّرع: هو الإقامةُ في المسجد، واللُّبث فيه على وجه التقرُّب إلى الله تعالى على صفة تأتي ذكرها.
          قال الجوهري: عكفه؛ أي: حبسه، يعكُفه _بضمِّ عينها وكسرها_ عكفاً، وعكف على الشَّيء يعكف عكوفاً؛ أي: أقبل عليه مواظباً، يستعمل لازماً فمصدره عكوف، ومتعدِّياً فمصدره عَكْفٌ.
          والاعتكاف مستحبٌّ، كذا في بعض كتب أصحابنا، وفي «المحيط»: سنَّة مؤكَّدة، وقيل: قربة مشروعة. وفي «منية المفتي»: سنَّة. وفي «التوضيح»: قام الإجماع على أنَّه لا يجب إلَّا بالنَّذر، وكذا يجب على من شرع فيه فقطعه عمداً عند قوم، وهو مرويٌّ عن مالك.
          فإن قيل: كان الزُّهري يقول: عجباً من النَّاس كيف تركوا الاعتكاف ورسول الله صلعم كان يفعل الشَّيء ويتركه، وما ترك الاعتكاف حتَّى قبضَ.
          فالجواب: أنَّ أصحابنا قالوا: إنَّ أكثر الصَّحابة ♥ لم يعتكفوا. وقال مالك: لم يبلغني / أنَّ أبا بكرٍ وعمرَ وعثمانَ ♥ ، وابن المسيَّب ولا أحداً من السَّلف اعتكف إلاَّ أبا بكر بن عبد الرَّحمن، وأراهم تركوه لشدَّته؛ لأنَّ ليله ونهاره سواء، فكأنَّه أراد بصفة مخصوصة، وإلَّا فقد حكي عن غير واحدٍ من الصَّحابة. ومن كلام مالك أخذ بعض أصحابه أنَّ الاعتكاف جائزٌ، وأنكر ذلك عليهم ابن العربي وقال: إنَّه سنَّة مؤكَّدة.
          وقال ابن بطَّال: في مواظبة النَّبي صلعم ما يدلُّ على تأكيده. وقال أبو داود عن أحمد: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أنَّه مسنون. وفي «المجموعة» للمالكيَّة: تركوه؛ لأنَّه مكروه في حقِّهم؛ إذ هو كالوصالِ المنهيِّ.
          وأقلُّ الاعتكاف نفلاً يوم عند أبي حنيفة ☼ ، وبه قال مالك. وعند أبي يوسف: أكثر اليوم. وعند محمَّد: ساعة، وبه قال الشَّافعي وأحمد في رواية، وحكى أبو بكر الرَّازي عن مالك: أنَّ مدَّة الاعتكاف عشرة أيَّام فيلزم بالشُّروع في ذلك. وفي الجلابي: أقلُّه يوم والاختيار عشرة أيَّام.
          وفي «الإكمال»: استحبَّ مالك أن يكون أكثره عشرة أيَّام، وهذا يردُّ نقل الرَّازي. وقال أبو البركات ابن تيمية الحنبلي: وقالت الأئمَّة الأربعة وأتباعهم: الصَّوم من شرط الاعتكاف الواجب، وهو مذهب عليٍّ وابن عمر وابن عبَّاس وعائشة ♥ والشَّعبي والنَّخعي ومجاهد والقاسم بن محمَّد ونافع وابن المسيَّب والأوزاعي والزُّهري والثَّوري والحسن بن حيٍّ.
          وقال عبد الله بن مسعود ☺ وطاوس وعمر بن عبد العزيز وأبو ثور وداود وإسحاق وأحمد في رواية: إنَّ الصَّوم ليس بشرط في الواجب والنَّفل، وبه قال الشَّافعي وأحمد. وما ذكره أبو البركات قولٌ قديم للشَّافعيِّ، واحتجُّوا بما روي عن ابن عبَّاس ☻ أنَّه قال: ((ليس على المعتكف صوم إلَّا أن يجعلَه على نفسه)). ورواه الدَّارقطني قال: ورفعه أبو بكر محمَّد بن إسحاق السُّوسي، وهو شيخُ الدَّارقطني، وقد خالف الجماعة في رفعه مع أنَّ النَّافي لا يحتاج إلى دليل.
          واحتجَّت الطَّائفة الأولى بحديث عائشة ♦ الذي رواه أبو داود فيه: ((ولا اعتكاف إلَّا بصوم)) والمراد به الاعتكاف الواجب، وعند الحنفيَّة الصَّوم شرط لصحَّة الواجب منه رواية واحدة، ولصحَّة التطوُّع فيما روى الحسن عن أبي حنيفة ☼ ، فلذلك أقلَّه يوم.
          فإن قيل: روى البخاري على ما سيأتي أنَّ عمر ☺ سأل النَّبي صلعم قال: كنت نذرت في الجاهليَّة أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. قال: ((فأَوْفِ بنذرك)) [خ¦2032]. فهذا يدلُّ على جواز الاعتكاف بغير صوم؛ لأنَّ اللَّيل لا يصلح للصَّوم.
          فالجواب: أنَّه وقع عند مسلم: ((يوماً)) بدل: ((ليلة)). وأيضاً روى النَّسائي: أنَّ عمر ☺ قال: يا رسول الله إنِّي نذرت أن أعتكف في الجاهليَّة / فأمره رسول الله صلعم أن يعتكفَ ويصوم.
          وهذا محمولٌ على أنَّه كان نذرَ يوماً وليلة بدليل أنَّ في لفظ مسلم: عن ابنِ عمر ☻ أنَّه جعل على نفسه يوماً يعكفه، فقال صلعم : ((أوفِ بنذرك)).
          وقال ابن بطَّال: أصل الحديث: قال عمر ☺: إنِّي نذرتُ أن أعتكفَ يوماً وليلةً في الجاهليَّة. فنقل بعض الرُّواة ذكر اللَّيلة وحدها، ويجوز للرَّاوي أن ينقلَ بعض ما سمع.
          وفي «الذَّخيرة»: أنَّ الصَّوم كان في أوَّل الإسلام باللَّيل، ولعلَّ ذلك كان قبل نسخهِ.
          وقال النَّووي: قد تقرَّر أنَّ النَّذر الجاري في الكفر لا ينعقدُ على الصَّحيح، فلم يكن ذلك شيئاً واجباً عليه.
          وقال المهلَّب: كلُّ ما كان في الجاهليَّة من الأيمان والطَّلاق، وجميع العقود يهدمُها الإسلام، ويسقط حرمتَها، فيكون الأمر بذلك أمر استحباب كيلا يكون خُلفاً في الوعد.
          وقال ابن بطَّال: هو محمولٌ على الحضِّ والنَّدب؛ لأنَّ الإسلام يجُبُّ ما قبله، ومن لم يشترطْ الصَّوم، قال: أقلُّه ما ينطلقُ عليه اسم اللبث، ولا يشترط القعود. وقيل: يكفي المرور مع النيَّة كوقوف عرفة.
          وروى عبد الرَّزَّاق عن يعلى بن أميَّة الصَّحابي ☺: إنِّي لأمكث في المسجد السَّاعة وما أمكث إلَّا لأعتكف. وأمَّا أكثره فلا حدَّ له بالاتِّفاق، والله أعلم.