نجاح القاري لصحيح البخاري

كتاب المساقاة

          ░░42▒▒ (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيْمِ. كِتَابُ الْمُسَاقَاةِ) وهي: المعاملة بلغة أهل المدينة، ومفهومها اللغويُّ هو الشَّرعيُّ، وهي: معاقدة دفع الأشجار والكروم إلى مَنْ يقوم بإصلاحها على أنْ يكون / له سهمٌ معلومٌ من ثمرها، ولأهل المدينة لغاتٌ يختصُّون بها، كما قالوا للمساقاة: معاملة، وللمزارعة: مخابرة، وللإجارة: بيعٌ، وللمضاربة: مقارضةٌ، وللصَّلاة: سجدة.
          فإن قيل: المفاعلة تكون بين اثنين وهنا ليس كذلك.
          فالجواب: أنَّ هذا ليس بلازمٍ؛ كما في قوله: قاتله الله؛ أي: قتله، وسافر فلان بمعنى سفر، على أنَّ العقد المذكور صَدَرَ من اثنين، كما في المزارعة، أو هو من باب التَّغليب، فافهم.
          ولم يقع لفظ: «كتاب المساقاة» في كثيرٍ من النُّسخ وهي رواية أبي ذرٍّ، ورجَّحها الحافظ العسقلانيُّ، بل زيَّف النُّسَخَ التي وُجِدَ فيها بأنَّ التَّراجم التي فيه غالبها يتعلَّق بإحياء الموات. وقد وقع في رواية أبي ذرٍّ بعد التَّسمية: <في الشِّرب، ثمَّ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30]، وقوله جلَّ ذكره: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} إلى قوله: {فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ} [الواقعة:68-70] >.
          ووقع في بعض النُّسخ: <باب في الشِّرب، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ}، وقوله: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ} إلى قوله: {فَلَوْلَا تَشْكُرُون}>.
          ووقع في شرح ابن بَطَّال: «كتاب المياه خاصَّةً»، وأثبت النَّسفي: <باب> خاصَّةً، وساق غير أبي ذرٍّ الآيتين.
          ثمَّ الشِّرب _بكسر الشين المعجمة_: النَّصيب والحظُّ من الماء، يقال: كم شِرب أرضك، وفي المَثَل: آخرها شِرباً أقلُّها شرباً، وأصله في سقي الماء؛ لأنَّ آخر الإبل يرد وقد نزف الحوضُ، وقد سمع الكِسائيُّ عن العرب أقلُّها شرَباً على الوجوه الثَّلاثة _يعني: الفتح والضم والكسر_، وسمعهم أيضاً يقولون: أعذب الله شِربكم _بالكسر_ أي: ماءكم، وقِيلَ: الشرب أيضاً وقت الشرب.
          وقال أبو عُبيدة: الشَّرب _بالفتح_ المصدر، وبالضم والكسر الاسم، وقيل: المصدر مثلث، يُقالُ: شَرب شَرباً وشُرباً وشِرباً، وقُرِئَ في قوله تعالى: {فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} [الواقعة:55] بالوجوه الثَّلاثة، والكسر قراءةٌ شاذَّة.
          وقال القاضي عياضٌ: الشِّرب _بكسر المعجمة_ المراد به الحكم في قسمة الماء، وضبطه الأَصِيليُّ بالضم والأول أولى.
          وقال ابن المُنَيِّر: مَنْ ضبطه بالضَّم أراد المصدر.
          (وَقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى) بالجر / عطفاً على قوله: كتاب المساقاة، أو على قوله: في الشِّرب، أو على قوله: باب الشِّرب، أو على قوله: باب المياه، على اختلاف النُّسخ، وفي بعض النُّسخ: <قال الله ╡>.
          ({وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء:30]) (1) قوله: {جَعَلْنَا} لا يخلو أن يتعدَّى إلى واحدٍ أو اثنين فإن تعدَّى إلى واحدٍ فالمعنى: خلقنا من الماء كلَّ حيوانٍ، كقوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ} [النور:45]، أو كأنَّما خلقناه من الماء لفرط احتياجه إليه وحبِّه له، وقلَّة صبره عنه، كقوله تعالى: {خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء:37] وإن تعدَّى إلى اثنين فالمعنى: صيَّرنا كلَّ شيءٍ حي بسببٍ من الماء لا بدَّ له منه. ومِنْ هذه نحو مِن في قوله صلعم : ((ما أنا من دُرٍّ، ولا الدُّرُّ مني)) أي: ما أنا لِعَبيٌّ ولا اللَّعب نبويٌّ.
          وقال قَتادَة: معناه كل شيء حيٍّ مخلوقٌ من الماء، أخرجه الطَّبري عنه لا يقال: قد رأينا مخلوقاً من الماء غير حيٍّ؛ لأنَّه ليس في الآية: لم يخلق من الماء إلَّا حيٌّ.
          وقال الرَّبيع بن أنس: {مِنَ الْمَاءِ}؛ أي: من النُّطفة، وروى ابن أبي حاتمٍ عن أبي العالية أنَّ المراد بالماء النُّطفة، وروى أحمدُ من طريق أبي مَيمونَة عن أبي هريرة ☺ قلتُ: يا رسول الله، أخبرني عن كلِّ شيءٍ؟ قال: ((كلُّ شيءٍ خلق من الماء)) وإسناده صحيحٌ.
          وقال ابن بَطَّال: قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} المراد به الحيوان الذي يعيشُ بالماء، ومن قرأ: ▬وجعلنا من الماء كلَّ شيءٍ حيًّا↨، كما في الشَّواذ، فيدخل فيه الحيوان والجماد؛ لأنَّ الزَّرع والشَّجر إذا جفَّت ويبستْ فهو موتها، وخضرتها ونضرتها حياتها، فهي لا تكون إلَّا بالماء، أقول: وهذا المعنى يُستفَاد من القراءة المشهورة أيضاً، ويخرج ذلك أيضاً من تفسير قَتادة كلُّ شيء حيٍّ مخلوقٌ من الماء كما لا يخفى.
          ({أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنبياء:30]) أي: مع ظهور الآيات الدَّالة على جوب الإيمان بما يجب به الإيمان.
          (وَقَوْلِهِ جَلَّ ذِكْرُهُ) بالجر عطفاً على قوله الأول، لَـمَّا أنزل الله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} [الواقعة:57] أي: بالخلق متيقنين محقِّقين للتَّصديق بالأعمال الدَّالة عليه، أو بالبعث فإنَّ مَنْ قَدَر على الإبداء قَدَرَ على الإعادة، ثمَّ خاطبهم بقوله: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ} إلى قوله: {وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة:58-73] للدَّلالة على ما يُوجب تصديقهم بذلك وكلُّ هذه الخطابات للمشركين الطَّبيعيين لَمـَّا قالوا نحن / موجودون من نطفةٍ حدثت بحرارةٍ كامنةٍ في طبائعنا ولسنا بمبعوثين بعد أن كنَّا تراباً وعظاماً حيث كانوا يقولون: {أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَ آبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ} [الصافات:16-17] فردَّ الله تعالى عليهم بهذه الخطابات.
          ومن جملتها قوله تعالى: ({أَفَرَأَيْتُمُ}) قد مرَّ أنَّه لَمـَّا كانت مشاهدة الأشياء ورؤيتها طريقاً إلى الإحاطة بها علماً، وصِحَّة الخبرِ عنها، استعملوا أرأيتَ في معنى: أخبر، والفاء جاءت لإفادة التَّعقيب، كأنَّه قيل: فأخبروا أيضاً.
          ({الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ}) أي: العذب الصَّالح للشرب ({أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ}) من السَّحاب واحده: مزنة، وقيل: المزن السَّحاب الأبيض وماؤه أعذبُ.
          ({أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ}) بقدرتنا من جانب السَّحاب ({لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة:68-70]) أي: ملحاً شديد الملوحة زعافاً لا يَقدِرون على شربه، أو هو من الأجيج، فإنَّه يحرق الفم، وإنَّما حذف اللام الفاصلة بين جواب ما يتمحَّض للشَّرط وهو كلمة أنْ وما يتضمَّن معناه، يعني: كلمة لو؛ لعلم السَّامع بمكانه؛ لشهرةِ صيرورتها علماً لذلك، أو للاكتفاء بذكرها فيما سبق في قوله تعالى: {لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً} [الواقعة:65]، أو لأنَّه يختصُّ ما يقصد لذاته وهو المطعوم بمزيد التَّأكيد؛ لكونه أهمَّ وفقدُه أصعبَ، والله أعلم، ({فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ}) أمثالَ هذه النِّعم الضَّرورية، أو على أن جعلناهُ عذباً لا أجاجاً.
          ولمَّا كان من عادة البخاريِّ أنَّه إذا ترجم لبابٍ في شيءٍ يذكر فيه ما يناسبه من الألفاظ التي في القرآن ويفسِّرها تكثيراً للفوائد، قال: (الْأُجَاج: الْمُرُّ) هو من تفسير أبي عُبَيدة في ((معاني القرآن)) قال: إنَّ الأجاج المرُّ. وأخرجه ابن أبي حاتم عن قَتادة مثله، وقيل: هو الشَّديد الملوحة كما ذكرنا، وقيل: شديد المرارة، وقيل: الحارُّ، حكاه ابن فارس، وفي «المنتهى»: وقد أجَّ يَئِجُّ أجوجاً.
          (الْمُزْنُ: السَّحَابُ) المُزْن _بضم الميم وسكون الزاي_ بمعنى: السَّحاب، وفسَّره قَتادة ومجاهد بالسَّحاب الأبيض، ووقع في رواية المُستَمْلي وحده قبل قوله: ((المزن)) <ثجاجاً منصباً> وهو تفسير ابن عبَّاس ☻ ومجاهد وقَتادة هكذا، ويقال: مطر ثجاج، إذا انصب جداً.
          ووقع في رواية المُستَمْلي وحده أيضاً / بعد قوله: السَّحاب <فراتاً عذباً> وهو منتزعٌ من قوله تعالى: {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ} [الفرقان:53] والفرات: أعذبُ العذوبة.
          وروى ابنُ أبي حاتم عن السُّدِّي: العذبُ: الفراتُ الحلو.


[1] في هامش الأصل: {أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أو لم يعلموا {أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً} ذات رتق أو مرتوقتين، وهو الضم والالتحام كانتا شيئاً واحداً وحقيقة متحدةً {فَفَتَقْنَاهُمَا} بالتَّنويع والتَّمييز، أو كانت السماوات واحدة ففتحت بالتحريكات المختلفة، حتى صارت أفلاكاً، وكانت الأرضون واحدة فجعلتْ باختلاف كيفيَّاتها وأحوالها طبقات وأقاليم، وقيل: كانتا بحيث لا فرجة بينهما ففرج، وقيل: كانتا رتقاً لا تمطر ولا تنبت ففتقتا بالمطر والنبات، فيكون المراد بالسماوات السماء الدنيا، وجمعها باعتبار الآفاق، والسماوات بأسرها على أنَّ لها مدخلاً ما في الأمطار، والكفرة وإن لم يعلموا ذلك، فإنهم متمكنون من العلم به نظراً فإن الفتق عارض مفتقر إلى مؤثرٍ واجب ابتداء أو بواسطة أو استفساراً من العلماء أو مطالعة الكتب فنزل التَّمكن من الشيء منزلة الشيء. قاضي.