نجاح القاري لصحيح البخاري

باب: {وعلى الذين يطيقونه فدية}

          ░39▒ (باب {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ}) أي: على الأصحَّاء المقيمين المطيقين للصَّوم إن أفطروا بلا عذر ({فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}) نصف صاع من برٍّ أو صاع من غيره عند أهل العراق، ومد عند أهل الحجاز عن كلِّ يوم، وكان ذلك في ابتداء الإسلام فرض عليهم الصَّوم فاشتدَّ عليهم، فرخَّص لهم في الإفطار والفدية.
          قال معاذ: كان في ابتداء الأمر من شاء صام، ومن شاء أفطر وأطعم في كلِّ يوم مسكيناً حتَّى نزلت الآية التي بعدها فنسختها، وارتفاع ((فدية)) على الابتداء وخبره مقدماً عليه، وهو قوله: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} وقراءة العامة {فِدْيَةٌ} بالتنوين، وقوله: {طَعَامُ} بالرفع بيان لفدية أو بدل منها، وفي قراءة نافع من روايتيه، وقراءة ابن عامر من رواية ابن ذكوان بإضافة فدية إلى طعام. وقرأ نافع وابن عامر: ({مَسَاكِينَ}) بالجمع، والباقون {مِسْكِينٍ} بالإفراد، وجمع مساكين؛ لمقابلة الجمع بالجمع، وتوحيده لمراعاة إفراد العموم؛ أي: وعلى كلِّ واحد واحد منهم لكلِّ يوم يفطره إطعام مسكين.
          والفدية الجزاء والبدل من قولك: فديت الشيء بالشيء؛ أي: هذا بهذا. وقرأ ابن عبَّاس ☻ : (▬يطوَّقُونه↨) على البناء للمفعول من الطوق إما بمعنى الطاقة أو القلادة؛ أي: يكلفونه أو يقلدونه.
          وعنه ☺: (▬يتطوَّقونه↨) أي: يتكلَّفونه أو يتقلَّدونه، وعنه ☺: و(▬يطَّوقونه↨) بإدغام التاء في الطاء، و(▬يُطَيَّقونه↨) و(▬يَطَّيَّقونه↨) على أن أصلهما يُطَيْوَقونه ويَتَطَيْوَقونه / من فيعل وتفيعل بمعنى يتطيَّقونه، وعلى هذه القراءات يحتمل معنىً ثانياً وهو الرُّخصة لمن يتعبه الصَّوم ويجهده وهم الشُّيوخ والعجائز في الإفطار والفدية.
          فعلى هذا لا نسخ كما قال به طائفة على ما سيجيء إن شاء الله تعالى، وقد أوَّل به القراءة المشهورة؛ أي: يصومونه جهدهم وطاقتهم.
          (قَالَ ابْنُ عُمَرَ) عبد الله ☻ : وقد وصله في آخر الباب [خ¦1949]، وقد أخرجه عنه أيضاً في التفسير [خ¦4506] (وَسَلَمَةُ بْنُ الأَكْوَعِ) هو سلمةُ بن عمرو الأكوع، أبو إياس الأسلمي المدني ☺، وقد وصله في تفسير سورة البقرة [خ¦4507] بلفظ: لمَّا نزلت: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] كان من أراد أن يفطرَ أفطر وافتدى حتَّى نزلت الآية التي بعدها فنسختها.
          (نَسَخَتْهَا) أي: آية {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} الآية التي أولها ({شَهْرُ رَمَضَانَ}) مبتدأ خبره ما بعده أو ما بعده، صفته، والخبر {فَمَن شَهِدْ}، والفاء لوصف المبتدأ بما تضمن معنى الشَّرط.
          وفيه إشعار بأنَّ الإنزال فيه سبب اختصاصه بوجوب الصَّوم فيه، أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: ذلكم الصِّيام المكتوب عليكم صيام شهر رمضان، أو بدل من الصِّيام على حذف المضاف؛ أي: كتب عليكم الصِّيام صيام شهر رمضان.
          ({الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}) أي: ابتدأ فيه إنزاله، وكان ذلك ليلة القدر، أو أنزل فيه جملة إلى السَّماء الدُّنيا، ثم نزل منجماً إلى الأرض، أو أنزل في شأنه القرآن وهو قوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة:183].
          وقد أخرج أحمد والبيهقي في «الشُّعب» عن واثلة بن الأسقع ☺: أنَّ النَّبي صلعم قال: ((أنزلت التَّوراة لستٍّ مضين من رمضان، والإنجيل لثلاث عشرة خلت منه، والزَّبور لثمان عشرة خلت منه، والقرآن لأربع وعشرين خلت من شهر رمضان)). وفي رواية: ((نزلت صحف إبراهيم ◙ أوَّل ليلة من رمضان)).
          ({هُدًى لِلنَّاسِ}) أي: حال كونه هداية لهم بإعجازه ({وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى}) أي: وحال كونه آيات واضحات من جملة ما يهدي إلى الحقِّ (وَالْفُرْقَانِ) وممَّا يفرق بين الحقِّ والباطل بما فيه من الحكم والأحكام والأمثال.
          ({فَمَنْ شَهِدَ}) أي: حضر ولم يكن مسافراً ({مِنْكُمُ الشَّهْرَ}) أي: فيه ({فَلْيَصُمْهُ}) أي: فليصم فيه، والأصل فمن شهد فيه فليصم فيه، لكن وضع المظهر موضع المضمر الأوَّل للتعظيم، ونصب على الظَّرف وحذف الجار ونصب الضمير الثَّاني على الاتساع.
          وقيل: فمن شهد منكم هلال الشَّهر فليصمه؛ على أنَّه مفعول به، كقولك: شهدت الجمعة؛ / أي: صلاتها.
          ({وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً}) مرضاً يشق عليه الصِّيام ({أَوْ عَلَى سَفَرٍ}) أي: أو راكب سفر، وفيه إيماء بأنَّ من سافر في أثناء اليوم لم يفطر ({فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}) أي: فعليه صوم عدة أيَّام المرض أو السَّفر من أيَّام أخر إن أفطر، فحذف الشَّرط والمضاف والمضاف إليه؛ للعلم بهما، ولعلَّ تكريره بعد ما ذكر أولاً في الآية الأولى لبيان تخصيص وجوب الصَّوم على من شهد الشَّهر صوماً بمن لم يكن مريضاً أو على سفر، أو لئلَّا يتوهَّم نسخه لمَّا نسخ قرينه.
          ({يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}) أي: يريد أن ييسر عليكم ولا يعسِّر، فلذلك أباح الفطر للسَّفر والمرض ({وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}) علَّة لفعل محذوفٍ دلَّ عليه ما سبق؛ أي: وشرع جملة ما ذكر من أمر الشَّاهد بصوم الشَّهر والمرخَّص بالقضاء ومراعاة عدَّة ما أفطر فيه، والترخيص لتكملوا العدة؛ أي: عدد أيَّام الشَّهر بقضاء ما أفطرتم فيه للمرض أو السَّفر فهو علَّة الأمر بمراعاة العدد.
          وقوله: ({وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ}) أي: ولتعظِّموه بالحمد والثَّناء عليه ({عَلَى مَا هَدَاكُمْ}) أي: أرشدكم إليه من القضاء، وبيان كيفيَّته علة الأمر بالقضاء وبيان كيفيَّته وقوله: ({وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}) [البقرة:185] علَّة للتَّرخيص.
          والحاصل أنَّه تعالى رخَّص في الإفطار، لتشكروا عليه، وبيَّن كيفية القضاء لتعظِّموه على ذلك، وأمر بمراعاة العدد لتكملوا العدَّة، وفي رواية ابن عساكر: <{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ} إلى قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}>، وزاد أبو ذرٍّ: <{عَلَى مَا هَدَاكُمْ}>.
          واعلم أنَّه قد اختلف في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} الآية فقال قوم: إنَّها منسوخة، واستدلُّوا على ذلك بحديث سلمة [خ¦4507] وابن عمر [خ¦1949] ♥ ، وهو قول علقمة والنَّخعي والحسن والشَّعبي وابن شهاب، وعلى هذا تكون قراءتهم {يُطِيقُونَهُ} _بضم الياء وكسر الطاء_ وهي القراءة المتواترة.
          وعند ابن عبَّاس ☻ هي محكمة، وعليه قراءته: ((يطوِّقونه)) بالواو المشددة على ما مرَّ. ثمَّ إنَّ الشَّيخ الكبير والعجوز إذا كان الصَّوم يجهدهما ويشقُّ عليهما مشقَّة شديدة فلهما أن يفطرا ويطعما لكلِّ يوم مسكيناً، وهذا قول علي وابن عبَّاس وأبي هريرة وأنس ♥ ، وسعد بن جبير وطاوس وأبي حنيفة والثَّوري والأوزاعي وأحمد بن حنبل.
          وقال مالك: لا يجب عليه شيء؛ لأنَّه لو ترك الصَّلاة / لعجزه لم تجب فدية؛ كما لو تركه لمرض اتَّصل به الموت، وهو مرويٌ عن ربيعة وأبي ثور وداود، واختاره الطَّحاوي وابن المنذر.
          وللشَّافعي قولان: أحدهما: لا تجب الفدية عليهما لعدم وجوب الصَّوم عليهما.
          والثَّاني: وهو الجديد: تجب الفدية لكلِّ يوم مد من طعام. وقال البويطي: هي مستحبَّة، ولو أحدث الله تعالى للشَّيخ الفاني قوَّة حتَّى قدر على الصَّوم بعد الفدية يبطل حكم الفدية.
          وقال القاضي عياض: اختلف السَّلف في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} هل هي محكمة أو مخصوصة أو منسوخة كلها أو بعضها؟ فقال الجمهور: إنَّها منسوخة.
          ثمَّ اختلفوا هل بقي منها ما لم ينسخ؟ فروي عن ابن عمر أنَّ حكم الإطعام باقٍ على من لم يطقِ الصَّوم لكبره.
          وقال جماعة من السَّلف ومالك وأبو ثور وداود: جميع الإطعام منسوخ، وليس على الكبير إذا لم يطق الصَّوم إطعام، واستحبَّه له مالك. وقال قتادة: كانت الرُّخصة لمن يقدر على الصَّوم، ثمَّ نسخ فيه وبقي فيمن لا يطيق.
          وقال ابن عبَّاس ☻ وغيره: نزلت في الكبير والمريض اللَّذين لا يقدران على الصَّوم فهي عنده محكمة، لكن المريض يقضي إذا برأ. وأكثر العلماء على أنَّه لا إطعام على المريض.
          وقال زيد بن أسلم والزُّهري ومالك: هي محكمة، ونزلت في المريض يفطر ثمَّ يبرأ فلا يقضي حتَّى يدخل رمضان آخر، فليس عليه إطعام بل عليه القضاء فقط.
          وقال الحسن وغيره: الضَّمير في {يُطِيقُونَهُ} عائد إلى الإطعام لا على الصَّوم، ثمَّ نسخ ذلك، والله أعلم.
          -(وَقَالَ ابْنُ نُمَيْرٍ) بضم النون وفتح الميم على صيغة التصغير، عبد الله، وقد مرَّ في باب ما ينهى من الكلام في الصَّلاة [خ¦1199] (حَدَّثَنَا) وفي رواية ابن عساكر: <أخبرنا> (الأَعْمَشُ) هو سليمان بن مهران، قال: (حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ مُرَّةَ) بضم الميم وتشديد الراء، قال: (حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي لَيْلَى) هو عبد الرَّحمن، رأى كثيراً من الصَّحابة مثل: عمر وعثمان وعلي وغيرهم ♥ قال: (حَدَّثَنَا أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلعم ) ورضي عنهم، ولا يقال لمثل هذا رواية عن مجهول؛ لأنَّ الصَّحابة ♥ كلُّهم عدول (نَزَلَ رَمَضَانُ) أي: صومه (فَشَقَّ عَلَيْهِمْ) / صومه (فَكَانَ مَنْ أَطْعَمَ كُلَّ يَوْمٍ مِسْكِيناً تَرَكَ الصَّوْمَ مِمَّنْ يُطِيقُهُ، وَرُخِّصَ) على البناء للمفعول (لَهُمْ فِي ذَلِكَ، فَنَسَخَتْهَا) أي: آية الفدية قوله تعالى: ({وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:184]) (فَأُمِرُوا بِالصَّوْمِ) وأمر التَّأنيث في ((نَسخَتْها)) سهل.
          قال الكرماني: فإن قلت: كيف نسختها والخيريَّة لا تقتضي الوجوب؟.
          فالجواب: أنَّ معناه الصَّوم خير من التطوُّع بالفدية، والتطوُّع بها سنَّة بدليل أنَّه خير، والخير من السنَّة لا يكون إلا واجباً. انتهى.
          وتعقَّبه العيني: بأنَّه إن كان المراد من السنَّة سنة النَّبي صلعم فسنة النَّبي صلعم كلها خير، فيلزم أن تكون كل سنة واجباً وليس كذلك.
          هذا؛ وأنت خبير بأن هذا الكلام لا طائل تحته. نعم؛ في كلام الكرماني أيضاً شيء، فافهم. وقال السُّدي عن مرَّة، عن عبد الله: لمَّا نزلت هذه الآية: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة:184] فكان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً، وقال في قوله تعالى: {فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً} [البقرة:184]. أي: أطعم مسكيناً آخر {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة:184] فكانوا كذلك حتَّى نسختها {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة:185].
          وهذا التَّعليق وصله البيهقي من طريق أبي نُعيم في «المستخرج»: قدم النَّبي صلعم المدينة ولا عهد لهم بالصِّيام، فكانوا يصومون ثلاثة أيَّام من كلِّ شهر حتَّى نزل رمضان، فاستكثروا ذلك وشقَّ عليهم، فكان من أطعم مسكيناً كل يوم ترك الصِّيام ممَّن يطيقه رخَّص لهم في ذلك، ثمَّ نسخه {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} فأمروا بالصِّيام.
          وهذا الحديث أخرجه أبو داود من طريق شعبة، والمسعودي من طريق الأعمش مطوَّلاً في الأذان والقبلة والصِّيام. واختلف في إسنادهِ اختلافاً كثيراً، وطريق ابن نمير هذا أرجحها.