أصل الزراري شرح صحيح البخاري

باب ما يذكر في المناولة وكتاب أهل العلم بالعلم إلى البلدان

          ░7▒ هذا (باب ما يُذكَر)؛ بضم المثناة التحتية وفتح الكاف، (في المناولة) من النوال وهو العطاء، وهي نوعان:
          أحدهما: المقرونة بالإجازة؛ وهي أن يرفع الشيخ إلى الطالب أصل سماعه مثلًا ويقول: هذا سماعي وأجزت لك روايته عني، وهذه حالة محل السماع عند مالك والزهري وغيرهما، فيجوز إطلاق (حدثنا) و (أخبرنا) فيها، والصحيح: أنَّه منحطٌّ عن درجته، وعليه الأكثر.
          والآخر: المناولة المجرَّدة عن الإجازة، وهي بأنْ يُناوله أصل السماع كما علمت، ولا يقول له: أجزت لك الرواية عني، وهذه لا تجوز الرواية بها على الصحيح، ومراد المؤلف القسم الأول، وهو غير العرض السابق؛ فافهم.
          (وكتابِ أهل العلم بالعلم) بجرِّ (كتاب) عطفًا على قوله: (في المناولة)، (إلى) أهل (البُلْدان)؛ بضمِّ الموحدة وسكون اللام، جمع بلد، وأهل القرى وغيرهما، وهي أن يكتب الشيخ إلى الطالب شيئًا من حديثه، وهي نوعان؛ أحدهما: المقرونة بالإجازة، وثانيهما: الخالية عنها، والصحيح في الثانية: أنَّه يجوز الرواية بها؛ بأن يقول: كتب إليَّ فلان قال: حدثنا بكذا.
          وقد سوَّى المؤلف الكتابة المقرونة بالإجازة بالمناولة، ورجَّح قوم المناولة عليها؛ لحصول المشافهة بها بالإذن دون المكاتبة، وجوَّز جماعة الإخبار فيهما، والأَولى ما عليه المحقِّقون من اشتراط بيان ذلك.
          (وقال أنس) وفي رواية: (أنس بن مالك)، كما وصله المؤلف في (فضائل القرآن) : (نسخ عثمان) وفي رواية: (عثمان بن عفان) أحد الخلفاء والعشرة، المتوفى شهيد الدار يوم الجمعة لثمان عشرة خلت من ذي الحجة، سنة خمس وثلاثين، عن تسعين سنة، ومدَّةُ خلافته ثنتي عشرة سنة ☺ (المصاحف)؛ بفتح الميم جمع مصحف، ويجوز في ميمه الحركات الثلاث، مأخوذة من أصحف؛ أي: جمعت فيه الصُّحُف؛ بضمتين جمع صحيفة؛ وهي الكتابة، قال المؤلف في (فضائل القرآن) : إنَّ حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية، وفيه: ففزع(1) حذيفةُ من اختلافهم في القراءة، فقال لعثمان: أدركْ هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلافَ اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة بنت عمر ☻أنْ أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردُّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت، وعبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص، وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في المصاحف، وفيه: حتى إذا نسخوها ردَّ عثمان الصحف إلى حفصة (فبعث بها)؛ أي: أرسل عثمان بالمصاحف (إلى الآفاق)؛ بمدِّ الهمزة، جمع أفق؛ أي: أرسل إلى كلِّ أُفق بمصحف ممَّا نسخوا، وفي غير «البخاري»: أنَّ عثمان أرسل مصحفًا إلى الشام، ومصحفًا إلى الحجاز، ومصحفًا إلى اليمن، ومصحفًا إلى البحرين، وأبقى عنده مصحفًا؛ لتجتمع الناس على قراءة ما يُعلم ويُتقن.
          وقيل: هي أربعة، بعث واحدًا إلى البصرة، وآخر إلى الكوفة، وآخر إلى الشام، وحبس عنده آخر، وعليه الأكثر، وقيل: إنها سبعة، ودلالة هذا على تجويز الرواية بالمكاتبة ظاهرة، فإنَّ عثمان أمرهم بالاعتماد على ما في تلك المصاحف ومخالفة ما عداها، والمستفاد من بعثه المصاحف إنَّما هو قبول إسنادِ صورة المكتوب بها، لا أصل ثبوت القرآن؛ فإنَّه متواتر عندهم؛ فافهم.
          (ورأى عبد الله بن عمر) هو ابن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبو عبد الرحمن القرشي العدوي المدني، المتوفى سنة إحدى وسبعين ومئة، وقال ابن حجر العسقلاني: عبد الله هذا هو ابن عَمرو ابن العاص، مستدلًا بكلامٍ أوهنَ من العنكبوت، ولا يقوله من سكن البيوت، فلا يعول عليه، وقد ردَّه الشيخ الإمام بدر الدين العيني بما يطول، ونقله عنه القسطلاني وأقرَّه، والصواب: ما قلناه، وبه جزم الكرماني وقطب الدين وغيرهما؛ فليحفظ.
          (و) كذا رأى (يحيى بن سعيد) الأنصاري المدني (ومالك)، وللأصيلي: (مالك بن أنس) الإمام، (ذلك جائزًا) إشارة إلى كل واحد من المناولة والكتابة باعتبار ووردت الإشارة بذلك إلى المثنى كما في قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ} [البقرة:68]؛ أي: ما ذكر من الفارض والبكر، فأشار بذلك إلى المثنى، أفاده في «عمدة القاري»، وفيه كلام يتعلَّق بالمناولة، وأنَّها ثمانية أقسام؛ فراجِعْها فإنَّها مفيدة، ولولا الإطالة لذكرتها؛ فافهم.
          (واحتج بعض أهل الحجاز) هو الحُميدي شيخ المؤلف، وإنَّما سُمِّيتْ بذلك؛ لأنَّها حجزت بين نجد والغور، وقيل: هي مكة والمدينة ويمامة وقراها (في) صحة (المناولة بحديث النبي) الأعظم (صلعم؛ حيث كتب)؛ أي: أمر بالكتابة (لأمير) وفي رواية: (إلى أمير)، (السَّرِيَّة)؛ بفتح السين المهملة وتشديد المثناة التحتية؛ قطعة من الجيش، وهو عبد الله بن جحش المجدع، أخ زينب أم المؤمنين (كتابًا وقال: لا تقرأه حتى تبلغ مكان كذا وكذا) وفي رواية عروة: أنه قال: (إذا سرت يومين فافتح الكتاب)، وفي أخرى: (لا نقرأ) بنون الجمع مع حذف الضمير، ويلزم منه كون (نبلغ) بالنون أيضًا؛ كذا قيل.
          (فلما بلغ ذلك المكان) وهو نخلة بين مكة والطائف، (قرأه على الناس وأخبرهم بأمر النبي) الأعظم (صلعم)، ولم يذكره المؤلف موصولًا في كتابه هذا، لكن وصله الطبراني بإسنادٍ حسن، وذكره ابن إسحاق في «المغازي» مرسلًا، وساقه إمامنا بدر الدين العيني في «شرحه»؛ فيراجع، والدلالة منه ظاهرة، فإنه جاز له الإخبار بما في الكتاب بمجرد المناولة، ففيه المناولة ومعنى الكتابة.


[1] في الأصل: (ففرغ) .