نجاح القاري لصحيح البخاري

حديث ابن جبير: كنت مع ابن عمر حين أصابه سنان الرمح

          966- (حَدَّثَنَا زَكَرِيَّاءُ بْنُ يَحْيَى) بن عمر الطائي الكوفي وكنيته (أَبُو السُّكَيْنِ) بضم السين المهملة وفتح الكاف وسكون المثناة التحتية وفي آخره نون، وقد مرَّ في أوَّل كتاب «التيمُّم» [خ¦336].
          (قَالَ: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ) بضم الميم وبالحاء المهملة وكسر الراء وبالموحدة، هو: عبد الرحمن بن محمد، يكنى أبا محمَّد، مات سنة خمس وتسعين ومائة.
          (قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سُوقَةَ) بضم السين المهملة وسكون الواو وفتح القاف، أبو بكر الغنوي الكوفي التابعي الصغير العابد، أنفق مائة ألف درهم على إخوانه على ما ذكره الكرماني.
          (عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ ابْنِ عُمَرَ) بن الخطَّاب ☻ (حِينَ أَصَابَهُ سِنَانُ الرُّمْحِ فِي أَخْمَصِ قَدَمِهِ) بإسكان الخاء المعجمة وفتح الميم وبالصاد المهملة.
          قال ثابت في كتاب «خلق الإنسان»: وفي القدم الأخمصُ وهو خَصر باطنها الذي يتجافى عن الأرض لا يُصيبها إذا مشى الإنسان.
          وفي «المـُحكم»: هو باطن القدم، وما رقَّ من أسفلها.
          (فَلَزِقَتْ) بكسر الزاي (قَدَمُهُ بِالرِّكَابِ فَنَزَعْتُهَا) أي: السنان، وأنَّث الضمير إمَّا باعتبار السَّلاح؛ لأنَّه مؤنث، وإمَّا باعتبار أنَّها حديدة، أو الضَّمير راجعٌ إلى القدم، فيكون من باب القلب كما يقال: أدخلت الخفَّ في الرجل.
          (وَذَلِكَ) أي: وقوع الإصابة (بِمِنى) وهو يُصرف ويُمنع، سُمِّي بها؛ لأنَّ الدِّماء تُمنى فيها؛ أي: تُراق، أو لأنَّ جبريل ◙ لمـَّا أراد مفارقة آدم ◙ قال له: ((تمنَّ، فقال: أتمنَّى الجنة)) أو لتقدير الله تعالى فيها الشَّعائر، مِن مَنَى اللهُ؛ أي: قدَّره.
          (فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ) أي: ابن يوسف الثَّقفي، وكان إذ ذاك أميراً على الحجاز، وذلك بعد قتل عبد الله بن الزبير بسنة، وكان عامل العراق عشرين سنة، وفعل فيها ما فعل من سفك الدِّماء، والإلحاد في حرم الله وغير ذلك من المفاسد، مات بواسط سنة خمس وتسعين، ودُفن بها وعُفي قبره وأُجري عليه الماء.
          (فجاء يَعُودُهُ) أي: يعود عبد الله بن عمر، وفي رواية: <فجاء يعوده>، وهو من أفعال المقاربة التي وضعت للدَّلالة على الشُّروع في العمل و«يعوده» خبره، ويؤيِّد الرِّواية الأولى رواية الإسماعيليِّ: ((فأتاه يعوده)).
          (فَقَالَ الْحَجَّاجُ) له: (لَوْ نَعْلَمُ) بنون التكلم (مَا أَصَابَكَ) وفي رواية: <من أصابك>، وجواب «لو» محذوف / تقديره: لجازيناه أو عزَّرناه، ويدلُّ عليه ما جاء في رواية ابن سعد عن أبي نُعيم عن إسحاق بن سعيد فقال فيه: لو نعلم من أصابك عاقبناه، وله من وجهٍ آخر قال: لو أعلم الذي أصابك لضربت عنقه، ويجوز أن تكون كلمة «لو» للتَّمني فلا يحتاج إلى جواب.
          واعلم أنَّ الإصابة تستعمل متعديةً إلى مفعول واحدٍ نحو: أصابه سنان الرُّمح، وإلى مفعول نحو: أصبنني سنانه.
          (فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ) ☻ للحجَّاج (أَنْتَ أَصَبْتَنِي) نسب الفعل إليه؛ لأنَّه آمِرُهُ حكى الزُّبير في «الأنساب»: أنَّ عبد الملك لمـَّا كتب إلى الحجَّاج أن لا يخالف ابن عمر ☻ شقَّ عليه ذلك، فأمر رجلاً معه حربة يُقال: إنَّها كانت مسمومة فلصق ذلك الرجل به فأمرَّ الحربة على قدمه، فمرض منها أيَّاماً، ثم مات وذلك في سنة أربع وسبعين.
          وفي «كتاب الصريفيني»: لما أنكر عبد الله على الحجَّاج نصب المنجنيق؛ يعني: على الكعبة، وقتل عبد الله بن الزبير أمر الحجَّاج بقتله، فضربه رجلٌ من أهل الشَّام ضربةً، فلمَّا أتاه الحجَّاج يعوده قال له عبد الله: تقتلني ثمَّ تعودني كفى الله حَكَماً بيني وبينك، وهذا صريحٌ بأنَّه أمر بقتله وهو قاتله، ولهذا قال عبد الله: تقتلني ثمَّ تعودني، وفيما حكاه الزُّبير في «الأنساب» الأمر بالقتل غير صريح.
          وروى ابن سعد من وجهٍ آخر: أنَّ الحجَّاج دخل على ابن عمر ☻ يعوده لمـَّا أُصيبت رجله فقال له: يا أبا عبد الرَّحمن هل تدري من أصاب رجلك؟، قال: لا، قال: أما والله لو علمتُ من أصابك لقتلته، قال: فأطرق ابن عمر ☻ فجعل لا يكلِّمه ولا يلتفت إليه، فوثب كالمغضَب، فيحتمل تعدُّد الواقعة وتعدد السؤال، فعبد الله عرَّض به أولاً وصرَّح به ثانياً، وأعرض عنه ولم يتكلَّم بشيءٍ ثالثاً.
          (قَالَ) أي: الحجَّاج (وَكَيْفَ) أصبتك؟ (قَالَ) ابن عمر ☻ له (حَمَلْتَ السِّلاَحَ) أي: أمرت بحمله (فِي يَوْمٍ لَمْ يَكُنْ يُحْمَلُ فِيهِ) وهو يوم العيد.
          (وَأَدْخَلْتَ السِّلاَحَ الْحَرَمَ) المكِّيُّ، وفي رواية: <في الحرم> (وَلَمْ يَكُنِ السِّلاَحُ يُدْخَلُ الْحَرَمَ) بضم المثناة التحتية على البناء للمفعول.
          وحاصله: أنَّك حملت السِّلاح في غير زمانه ومكانه، فخالفت السنَّة من وجهين.
          وفي الحديث: أنَّ منى من الحرم.
          وفيه: المنع من حمل السِّلاح في الحرم للأمن الذي جعله الله لجماعة المسلمين فيه بقوله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آَمِناً} [آل عمران:97]، وحمل السِّلاح في المشاهد التي لا يحتاج إلى الحرب فيها مكروه؛ لما يخشى فيها من الأذى والعقر عند تزاحم النَّاس.
          وقد قال صلعم للذي رآه يحمل: ((أمسك بنصالها لا تعقرنَّ بها مسلماً)) [خ¦7073]، فإن خافوا عدوًّا فمباحٌ حملها / كما قال الحسين: وقد أباح الله تعالى حمل السِّلاح في الصَّلاة في الخوف.
          وفيه أيضاً: أنَّ قول الصحابيِّ: كان يُفعل كذا، على صيغة المجهول حكمٌ عنه منه، ورجال إسناد الحديث كوفيون، وفيه رواية تابعيٍّ عن تابعي، وشيخ المؤلف من أفراده.