التلويح شرح الجامع الصحيح

باب من رأى العدو فنادى بأعلى صوته يا صباحاه حتى يسمع الناس

          ░166▒ بَابُ مَنْ رَأَى العَدُوَّ فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا صَبَاحَاهْ، حَتَّى يُسْمِعَ النَّاسَ
          ال ابن المنير: موضعها من الفقه أنَّ هذه الدعوة ليست من دعوى الجاهلية المنهي عنها، إما لأنها استغاثة على الكفار، وإما لأنها استغاثة عامة لا / يُنتدب فيها قبيلة مخصوصة.
          وذَكَرَ البخاري ثلاثيًا قصة ابن الأكوع في الغابة [خ¦3041]، وهي غزوة ذي قَرَد؛ بفتح القاف والرَّاء والدال المهملة، ويقال بضمتين، قال السهيلي: كذا ألفيته مقيدًا عن أبي علي، والقَرَد في اللغة الصوف الرديء، على نحو يوم من المدينة.
          قال ابن سعد: والغابة على بريد من المدينة في طريق الشام، كانت في شهر ربيع الأول سنة ست.
          وقال ابن إسحاق: حدثني عاصم بن عمر، وعبد الله بن أبي بكر ابن حَزم، وغيرهما، قالوا: لما قدم النبي صلعم من بني لحيان لم يُقم بعد قدومه إلا الليالي حتى أغار عُيينة، وكان خرج صلعم إلى بني لحيان في جمادى الأولى، وزعم البخاري أنها قبل خيبر بثلاثة أيام، وفي مسلم نحوه. وكأنه خلاف ما عند البصريين.
          وعند ابن سعد: كانت لقاح سيدنا رسول الله صلعم عشرين لقحة ترعى بالغابة، وكان أبو ذر فيها، فأغار عليهم عيينة بن حصن ليلة الأربعاء في أربعين فارسًا فاستاقوها وقتلوا ابن أبي ذر، وجاء الصَّريخ فنودي: يا خيل الله اركبي، وكان أولَ ما نودي بها، وركب رسول الله صلعم، وخرج غداة الأربعاء في الحديد مُقنعًا فوقف، فكان أول من أقبل إليه المقداد بن عمرو عليه الدرع والمغفر شاهرًا سيفه، فعقد له رسول الله صلعم لواءً في رمحه وقال: «امض حتى تلحقك الخيول، وأنا في أثرك»، واستخلف على المدينة ابن أم مكتوم، وخلَّف سعد بن عبادة في ثلاث مئة من قومه يحرسون المدينة.
          قال المقداد: فادركت أخريات العدو، وقد قتل أبو قتادة مسعدة، وقتل عكاشة أبان بن عمرو، وقتل المقداد حبيب بن عيينة، وقرفة بن مالك بن حذيفة بن بدر، وأدرك سلمة بن الأكوع القوم وهو على رجليه فجعل يراميهم بالنبل ويقول:
خذوها وأنا ابن الأكوع                     اليوم يوم الرُّضَّع
          حتى انتهى بهم إلى ذي قَرَد، وهي ناحية خيبر مما يلي المستناخ، قال سلمة / : فلحقنا رسول الله صلعم والنَّاس عشيًّا، فقلت: يا رسول الله إن القوم عطاش، فلو بعثتني في مئة رجل استنقذنا ما بأيديهم من السرح، وأخذت بأعناق القوم، فقال: «مَلَكْتَ فَأَسْجِحْ». ثم قال: «إِنَّهُم الآنَ لَيُقْرَوْنَ فِيْ غَطَفَانَ».
          ولم تزل الخيل تأتي، والرجال على أقدامهم حتى انتهوا إلى رسول الله صلعم بذي قرد، فاستنقذوا عشر لقاح، وأفلت القوم بما بقي وهي عشر، وصلَّى رسول الله صلعم بذي قرد صلاة الخوف، وأقام بها يومًا وليلة، والثبت عندنا أن النبي صلعم أمَّر على هذه السرية سعد بن زيد الأشهلي، ولكن الناس نسبوها إلى المقداد لقول حسان:
. . . . . . . . . . . . . . .                     غداة فوارس المقداد
          فعاتبه سعد بن زيد فقال: اضطرني الروي إلى المقداد.
          ورجع رسول الله صلعم إلى المدينة يوم الاثنين وقد غاب خمس ليال. وقال: «خَيرُ فُرسَانِنَا اليَومَ أَبُو قَتَادَة، وَخَيرُ رِجَالِنَا اليَومَ سَلَمَة»، قال سلمة: وأعطاني سهم الفارس والراجل.
          وفي «الدلائل» للبيهقي: أوفى سلمة على سلع، ثم صرخ: وا صباحاه الفزع الفزع. فبلغ ذلك رسول الله صلعم.
          وفي «الإكليل» للحاكم: باب غزوة ذي قرد، قال أبو عبد الله: هذه الغزوة هي الثالثة لذي قرد، فإن الأولى: سرية زيد بن حارثة في جمادى الآخرة على رأس ثمانية وعشرين شهرًا من الهجرة، والثانية: خرج فيها سيدنا رسول الله صلعم بنفسه إلى بني فزارة، وهي على تسعة وأربعين شهرًا من الهجرة، وهذه الثالثة: التي أغار عبد الرحمن ابن عيينة على إبل رسول الله صلعم، فخرج أبو قتادة وابن الأكوع في طلبها، وذلك في سنة ست من الهجرة.
          وقوله: (اليَومُ يَومُ الرُّضَّع) ذكر ابن الأنباري في «الزاهر» أنه هو الذي رضع اللؤم من ثدي أمه؛ أي: غُذي به، وقيل: هو الذي يرضع ما بين أسنانه يستكثر من الجشع بذلك، قالت امرأة من العرب تذم رجلًا:
إنه لأُ كُلة ثُكُلة                     يأكل من جشعه خُلَله
          أي: ما يتخلل بين أسنانه.
          وقال أبو عمر: وهو الذي / يرضع الشاة أو الناقة من قبل أن يحلبها من شدة الشَّره.
          وقال قوم: الراضع الراعي لا يمسك معه محلبًا، فإذا جاءه إنسان فسأله أن يسقيه احتج أنه لا محلب معه، وإذا أراد هو أن يشرب رضع الناقة أو الشاة.
          وقيل: هو رجل كان يرضع الغنم ولا يحلبها لئلا يسمع صوت الحلب فيطلب منه.
          وفي «الموعب»: رضع الرجل رضاعة مثل كرم، وهو رضيع وراضع للئيم، وجمعه: راضعون.
          وقال ابن دريد: أصل الحديث أن رجلًا من العماليق طرقه ضيف ليلًا فمصَّ ضرع شاته لئلا يسمع الضيف صوت الشخب، فكثر حتى صار كل لئيم راضعًا، فعل ذلك أو لم يفعله.
          وقال إبراهيم: من عيوب الشاة أن ترتضع لبن نفسها.
          وقيل: هو الذي يرضع طرف الخلال التي يخلل بها أسنانه ويمص ما يتعلق به.
          وقيل أيضًا في قوله: (اليَومُ يَومُ الرُّضَّع) يعني: اليوم يظهر من أرضعته كريمة أو لئيمة.
          وقيل: اليوم يظهر من أرضعته الحرَّة من صغره.
          وقيل: اليوم هلاك اللئام.
          وقيل: يوم تفارق المرضعة رضيعها.
          قال السهيلي: (اليَومُ يَومُ الرُّضَّع) برفعهما، وبنصب الأول ورفع الثاني.
          وقوله: (يَا صَبَاحَاهُ) قال القرطبي: معناه الإعلام بهذا الأمر المهم الذي دهمهم في الصباح.
          وقال ابن المنير: الهاء للندبة، وهي تسقط في الوصل، والرواية إثباتها فيقِفُ على الهاء، وقيل: لأنهم كانوا يغزون وقت الصباح.
          وقيل: جاء وقت الصباح فتأهبوا للقاء، فإن الأعداء يتراجعون عن القتال في الليل فإذا جاء النهار عاودوه.
          وقوله: (فَأَسْجِح) أي: سهِّل ولا تأخذ بالشدة؛ بل ارفق فقد حصلت النكاية فيهم.
          وقوله: (يُقرَون) من القِرى، وهو الضيافة، والمعنى أنهم قد وصلوا إلى قومهم، وقيل: أنهم يضيفون الأضياف، فراعى صلعم ذلك لهم، رجاء توبتهم وإنابتهم.
          وقال بعضهم: «يغزون» بغين معجمة، وهو تصحيف.
          قال ابن الجوزي: وقال بعضهم: «يُقرُون» بضم الياء والرَّاء، وفسَّره بعضهم بأنهم يجمعون الماء واللبن، وهو تصحيف. انتهى.
          لو نظر هؤلاء ما في كتاب «الدلائل» للبيهقي وغيره / من قوله: «إِنَّهُم لَيَغبِقُونَ الآنَ فِي غَطَفَانَ» فجاء رجل من غطفان فقال: مَرُّوا على فلان الغطفاني فنحر لهم جزورًا، فلما أخذوا يكشطون جلدها رأوا غبرة فتركوها وخرجوا هرابًا، لما احتاجوا إلى هذا التخرُّص.
          وفي «الدلائل» أيضًا: أن امرأة الغفاري ركبت العضباء ناقة سيدنا رسول الله صلعم ونذرت إن الله أنجاها عليها لتنحرنها، فلما قدمت المدينة أخبرت سيدنا رسول الله بنذرها فقال: «بِئسَ مَا جَزَيتِهَا، لَا وَفَاءَ لِنَذرٍ فِي مَعصِيَةِ اللهِ، وَلَا فِيمَا لَا يَملِكُ ابنُ آدَمَ».
          قال السهيلي: اسمها ليلى، ويقال: كانت امرأة أبي ذر، وزعم المبرد أن المرأة كانت أنصارية، وكانت بمكة، وكأنه غير جيد؛ لتوارد الرواة على القول الأول وأنه بالمدينة.
          وكان الشماخ، واسمه الهيثم، فقال معقل الصحابي: أقتدي بهذه المرأة في قوله لعرابة بن أوس الأوسي، وقول إسحاق بن إبراهيم: هو من الخزرج غير جيد، يخاطب ناقته:
إذا بلغتني وحملتِ رحلي                     وعرابة فاشرقي بدم الوتين
          واقتدى بقوله هذا جماعة من الشعراء، قال ذو الرِّمَّة يخاطب ناقته:
إذا ابن أبي موسى بلالًا بلغتهِ                     فقام بفأسٍ بين وصليكِ جازرُ
          قال أبو دهبل الجمحي:
يا ناق سيري واشرقي                     بِدَم إِذا جِئْت المُغيرَه
سيثيبني أُخْرَى سوا                     ك وَتلك لي مِنْهُ يسيرَه
          وقال ابن أبي عاصية لمعن بن زائدة:
نذر عليّ لَئِن لقيتُكَ سالمًا                     أَن يسْتَمر بها شفار الجازر
          ثم نحرها عند دخوله إليه، فتطير معن، فلما أخبره بنذره قال: اطعمونا من كبد هذه المظلومة.
          وقال محمد بن علي الهَمْذَاني يخاطب عبيد الله بن خاقان:
إلى الوزير عبيد الله مقصدها                     أعني ابن يحيى حياة الدين والكرم
إذا رميت برحلي في ذراه فلا                     نلتُ الأماني إن لم تَشْـرقِي بدم
وليس ذاك لذنب منكِ أعرفه                     ولا لجهل بما أوليتِ من نعم
لكنه فعل شماخ بناقته                     لدى عرابة إذ أدّته /
          وقول البخاري: وقال به سلمة: خذها وأنا ابن الأكوع، ذكره مسندًا قبل، وكذا قوله: «أَنَا النَّبِيُّ لَا كَذِب» تقدم قريبًا.