مقدمة البحث
لم تدوَّن آثار النبي صلعم في عصر الصحابة وكبار من تبعهم في الجوامع(1)، كما أنها [لم] ترتب لأمرين: /
الأول: نهيهم عن ذلك أول الأمر من قِبَل النبي صلعم ، كما ثبت في «صحيح مسلم» خشية أن يختلط ذلك بالقرآن الكريم.
والأمر الثاني: سعة حفظهم وسيلان أنفسهم، ولأن أكثرهم كانوا لا يعرفون الكتابة، ولما انتشر العلماء في الأمصار وكثر الابتداع وظهرت الفرق المختلفة سياسيًا وفكريًا بدأ تدوين الحديث الشريف وتبويب الأخبار في أواخر عصر التابعين.
وأوَّل من جمع ذلك كما في «مقدمة فتح الباري» لابن حجر(2) هو الربيع بن صُبيح وسعيد بن أبي عروبة وغيرهما. وكانوا يصنِّفون كل بابٍ على حدة إلى أن قام كبار أهل الطبقة الثالثة فدوَّنوا الأحكام، فصنَّف الإمام مالك (الموطأ) وتوخَّى فيه القوي من حديث أهل الحجاز، ومزجه بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين ومن بعدهم، وصنَّف أبو محمد عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج بمكة، وأبو عمرو عبد الرحمن الأوزاعي بالشام، وأبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري بالكوفة، وأبو سلمة حماد ابن سلمة بن دينار بالبصرة، ثم تلاهم كثير من أهل عصرهم في النسخ على منوالهم إلى أن رأى بعض الأئمة منهم أن يفرد حديث الرسول صلعم خاصة، وذلك على رأس المئتين، فصنَّف عبيد الله بن موسى العبسي الكوفي مسنداً، وصنَّف مسدد بن مسرهد البصري مسنداً، وصنَّف أسد بن موسى الأموي مسنَداً، وصنف نعيم بن حماد الخزاعي نزيل مصر مسنَداً، ثم اقتفى الأئمة بعد ذلك آثرهم فَقَلَّ إمامٌ من الحفَّاظ إلا وصنَّف أحاديثه على المسانيد؛ كالإمام أحمد بن حنبل، وإسحق بن راهويه، وعثمان بن أبي شيبة وغيرهم من النبلاء، ومنهم من صنَّف على المسانيد والأبواب معًا كأبي بكر بن أبي شيبة(3). /
كل تلك الأعمال كانت قبل مجيء البخاري، وممهِّدة لجامعه الصَّحيح، فلما اطَّلع على هذه المؤلفات وأشبعها درسًا ورواها وانتشق رياها واستجلى محياها، وَجَدَها جامعة بين ما يدخل تحت التصحيح والتحسين، والكثير منها يشمله الضعيف، فلا يقال لغثه: سمين، فعقد العزمة وشحذ الهمة لجمع الحديث الصحيح الذي لا يرتاب فيه أمين، ولتمييزه عن غيره من الأحاديث، فأتت جهوده أُكُلها ثمرة طيبة، فأتحفنا بكيانه الذي سماه: (الجامع الصحيح)، وهذا التعريف يدلّنا على أنه لم يدخل في كتابه إلا الأحاديث الصحيحة.
السبب الباعث له على جمع كتاب (الجامع الصحيح)
يتجلى لنا من البحث أن لجمعه هذا الكتاب أسبابًا عدة نجملها بما يلي:
السبب الأول: تلبية لرغبة أستاذه في الحديث إسحاق بن إبراهيم الحنظلي المعروف (بابن راهويه) عندما قال: لو جمعتم كتابًا مختصرًا لصحيح سنة رسول الله صلعم ، قال البخاري: فوقع ذلك في قلبي فأخذت في جميع الجامع الصحيح(4).
السبب الثاني: أن الإمام البخاري ☺ رأى النبي صلعم في منامه وكأنه (أي البخاري) واقف بين يديه وبيده مروحة يذبُّ بها عنه، فسأل بعض المعبِّرين، فقال له: أنت تذبُّ عنه الكذب، فهو الذي حملني على إخراج الجامع الصحيح(5).
كذلك لا نستطيع أن نسقط من حسابنا روحه الطيبة ونفسه المؤمنة التي تريد إتقان كل عمل في الحياة يبدأه الإنسان، وما دام قد سار في جمع الحديث وتعلُّمه، فلا يريد إلا أن يبلغ به الذروة في الكمال.
فنتيجة لذلك كله طلع علينا بكتابه الثمين، الذي قضى في جمعه وتأليفه ستة عشر عاماً، وكان أول مصنَّف في الحديث الصحيح كما أورد ذلك ابن الصلاح(6). /
ثم تلاه بعد ذلك أبو الحسين مسلم بن الحجاج القشيري الذي أخذ عنه واستفاد منه، وشاركه في كثير من شيوخه، وإنَّ هذين الكتابين أصح الكتب بعد القرآن الكريم، وإنَّ كتاب البخاري يسبق كتاب مسلم في الصِّحة، وإنَّ أصحَّ الأحاديث ما اتفق عليه البخاري ومسلم، ثم ما انفرد به البخاري، ثم ما انفرد به مسلم.
ولما كان كتاب الجامع الصحيح لا يحوي إلا الأحاديث الصحيحة، وجب علينا أن نعرف ما هو الحديث الصحيح؟
تعريف الحديث الصحيح:
عرَّف العلماء الحديث الصحيح بأنه الحديث الذي يتصل إسناده بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط حتى ينتهي إلى رسول الله صلعم ، أو إلي منتهاه من صحابي أو من دونه، ولا يكون شاذًا ولا معلًا(7).
ويوصف الحديث الصحيح أيضًا بأنه متواتر أو آحادي، ويجوز وصفه بأنه غريب أو مشهور.
هذا هو الحديث الصحيح الذي تضمَّنه صحيح البخاري، وقد شارك الجامع الصحيح بالصحة كتب أخرى على المشهور إنها خمسة:
1- صحيح مسلم.
2- سنن أبي داوود.
3- سنن الترمذي.
4- النسائي.
5- ابن ماجه، وفي هذا الأخير خلاف، فجعل العلماء الكتاب السادس للصحاح هو الموطأ للإمام مالك كما قال رَزين وابن الأثير أو سنن الدارقطني كما قال ابن حجر العسقلاني، يتبين من هذا أن عبارة الكتب الخمسة تصدق على كتب الأئمة الذي ذكروا قبل ابن ماجه، وإن عبارة الصحيحين تطلق على البخاري ومسلم، ويقال في الحديث الذي روياه رواه الشيخان أو متفق عليه.
وإنما سميت الكتب الستة بالصحاح على سبيل التغليب، وإلا فإن الكتب الأربعة الباقية هي دون الصحيحين منزلة، وأقل منهما ضبطًا، وأن الذي جعل صحيح البخاري / يتقدم على صحيح مسلم بالصحة هو أن البخاري لم يكتف بشروط الحديث الصحيح عند مسلم وغيره من قبول رواية من تثبتت معاصرته لشيخه، وإنما أضاف إلى ذلك شرطًا آخر انفرد به دون غيره من المحدثين، وهو أن يثبت سماع راوي الحديث من شيخه، وهذا كله زيادة في الحيطة وتمكّن في الاحتراس حرصًا على ألا يدخل في الحديث الصحيح حديث غير صحيح، وهذا إن دلّ على شيء إنما يدلُّ على إخلاص لمهنته من جهة، وعلى حرصه التام لتمييز الصحيح عن غيره من جهة ثانية، كما أنه يلقي أضواء كاشفة تنير لنا الطريق وتدلنا على عبقرية ذلك الرجل وعقليته الفذة وتفكيره السليم المبدع؛ لأن ذلك أجلى للحقيقة وأبعد للشك عن النفوس، فلا يسع القارئ بعد هذه الشروط القوية للحديث الصحيح إلا أن يتقبل أحاديث البخاري بيقين تام جازمًا بصحتها، لا يزيد عليها القرآن الكريم إلاّ بأنه وحي من الله تبارك وتعالى، وثبت جميعه بالتواتر.
و ينهي ابن حجر بحثه في تفضيل صحيح البخاري على غيره ببحث عقلي يستند إلى حقائق واقعة رأيت من الخير أن أذكرها هنا.
فيقول: عند التأمل يظهر أن كتاب البخاري أتقن رجالًا وأشدَّ اتصالًا، وبيان ذلك من أوجه:
أحدها: أن الذين انفرد البخاري بالإخراج لهم دون مسلم أربعمئة وبضعة وثلاثون رجلاً، المتكلم فيه بالضعف منهم ثمانون رجلاً. والذين انفرد مسلم بالإخراج لهم دون البخاري ستمئة وعشرون رجلًا المتكلم فيه بالضعف منهم مئة وستون رجلاً، ولا شكَّ أن التخريج عمن لم يُتكلَّم فيه أصلًا أولى من التخريج عمّن تُكلِّم فيه، وإن لم يكن ذلك الكلام قادحاً.
الثاني: إن الذين انفرد بهم البخاري ممن تُكلِّم فيه لم يكثر من تخريج أحاديثهم، وليس لواحد منهم نسخة كبيرة أخرجها كلها أو أكثرها، إلاّ ترجمة عكرمة عن ابن عباس. بخلاف مسلم فإنه أخرج أكثر تلك النُّسَخ كأبي الزبير عن جابر وسُهيل عن أبيه، والعلاء بن عبد الرحمن عن أبيه، وحماد بن سلمة عن ثابت وغير ذلك. /
الثالث: إن الذين انفرد بهم البخاري ممن تُكلِّم فيه أكثرهم من شيوخه الذين لقيهم وجالسهم وعرف أحوالهم، واطلع على أحاديثهم، وميَّز جيدها من موهومها، بخلاف مسلم فإنَّ أكثر من تفرَّد بتخريج حديثه تُكلِّم فيه، ممن تقدَّم عن عصره من التابعين ومن بعدهم، ولا شكَّ أن المحدِّث أعرف بحديث شيوخه ممن تقدَّم منهم.
الرابع: أن البخاري يخرِّج من أحاديث أهل الطبقة الثانية انتقاءً، ومسلم يخرجها أصولاً.
ثم يقول (ابن حجر): وهذه الأوجه الأربعة تتعلق بإتقان الرواة، وبقي ما يتعلق بالاتصال وهو الوجه الخامس: وذلك أن مسلمًا كان مذهبه على ما صرَّح به في مقدمة صحيحه، وبالغ في الرّد على من خالف، أنَّ الإسناد المعنعن له حكم الاتصال إذا تعاصر المعنعِن ومن عنعن عنه، وإن لم يثبت اجتماعهما، إلاّ إذا كان المعنعن مدلسًا، والبخاري لا يحمل ذلك على الاتصال حتى يثبت اجتماعهما ولو مرة(8).
[1] أي الكتب التي جمعت الأحاديث الصحيحة لكتاب البخاري الجامع الصحيح.
[2] المقدمة ص4 س 7 من أسفل الصفحة.
[3] «مقدمة ابن حجر» ص 5 س 5.
[4] «مقدمة ابن حجر» ص 5 س 14 ينظر أيضاً «تهذيب التهذيب» لابن حجر جـ 9 ص 49.
[5] «مقدمة ابن حجر» س5 ص 16.
[6] «مقدمة ابن حجر» ص 8 ص 3 وكذلك «مقدمة علوم الحديث» لابن الصلاح ص13 س1-2.
[7] ولا معلا أتت هذه الأوصاف احترازاً عن المرسل والمنقطع والمعضل والشاذ وما فيه علة قادحة وما في رواية نوع جرح ويحسن الرجوع إلى هذه الأنواع في محالها ولمراجعة هذا التعريف «علوم الحديث» لابن الصلاح ص8.
[8] انظر «مقدمة فتح الباري» لابن حجر ص9 – 10.
