دراسة حديث
وبعد أن ذكرنا فهرسًا لكتب «الجامع الصحيح» وسردنا الأبواب المنضوية تحت باب العلم ليس كثيرًا علينا إذا درسنا بابًا واحدًا من أبواب «كتاب العلم»، وأظن أننا إن فعلنا ذلك زادت معرفتنا للجامع الصحيح وضوحاً، وأصبحت فكرتنا التي أخذناها عنه أبعد عن الغموض، ومن المناسب هنا أن ندرس «باب فضل من علم وعلّم». /
باب فضل من علم وعلّم:
إن هذا الباب قد أورده الإمام البخاري في «جامعه الصحيح» في الجزء الأول، في «كتاب العلم» وجعل مكانه الباب الحادي والعشرين، وقد أورد فيه حديثًا واحداً، ويفع هذا الحديث في الصفحة الثامنة والعشرين من المجلد المذكور، السطر السادس، وها هو ذا نص الحديث:
حدَّثنا: محمد بن العلاء قال: حدَّثنا حماد بن أسامة، عن بريد بن عبد الله عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلعم قال:
«مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكان منها نقية قبلت الماء، فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله به الناس، فشربوا، وسقوا وزرعوا، وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به». قال أبو عبد الله: قال إسحاق: «وكان منها طائفة قيلت الماء، قاع يعلوه الماء والصفصف المستوى من الأرض»
♫.
لقد قسم النبي صلعم في هذا الحديث مخاطبيه إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: من علم ما جاء به النبي صلعم ، وعمل به وعلّمه الناس. وقد شبّه هذا القسم بالأرض الخصبة التي جادتها السماء بغيث كثير، فأنبتت الكلأ والزرع فانتفعت ونفعت الناس.
القسم الثاني: علم ما جاء به النبي صلعم ، ولكنه لم يعمل بها، وإنما وعاه وعلّمه الناس، وجعل هذا القسم كالأرض التي تمسك الماء وتحفظه للعطاش دون أن تضيعه، إلا أنها لم تنب كلأ ولا عشباً، وقد أثنى النبي صلعم على هذين القسمين مع ما بينهما من تفاوت. /
القسم الثالث: وهو من لم يتعلم شيئًا من رسالة النبي صلعم ولم يعمل بتعاليمها ولم يعلمها الناس، وجعل مثله كمثل الأرض القيعان التي لا تمسك ماء فيشرب منه الناس، ولا تنبت الكلأ فينتفعون به.
بهذه اللغة البسيطة السهلة نفذ محمد صلعم إلى نفوس مخاطبيه، بل إلى قلوبهم وعرَّفهم فضل من علم وعلّم دونما تكلف في العبارة، ولا تعقيد، بل بأسلوب سهل جذاب، خال من الغموض يستحق تمامًا أن نسميه: السهل الممتنع.
فانساب إلى نفوسهم انسياب الماء إلى باطن الأرض النقية، وعقد لهم موازنة بين ما جاء به من الهدى والعلم وبين الغيث الكثير من جهة، وبين الأرض بأقسامها، النقية، والأجادب، والقيعان، وبين النفوس المخاطبة على اختلاف أنوعها من جهة ثانية.
بهذه الكلمات البسيطة السهلة تجلت بلاغة النبي صلعم ، في مخاطبة الناس على قدر عقولهم وفي اللغة التي يفهمونها، فلا إيغال، ولا تعقيد ولا لف ولا دوران، ولا إطناب، وإنما ألفاظ على قدور المعاني وافية بالغرض المطلوب.
وإذا تتبعنا كل ما في هذا الحديث من كلمات لما وجدنا فيه كلمة غريبة بعيدة عن بيئة المخاطبين.
ومن تأمل معي الكلمات التالية: «الغيث، الكثير، أرضاً، نقية، الماء، الكلأ، العشب، أجادب، شربوا، سقوا، زرعوا، قيعان» وجد أن كل هذه الكلمات قد عبرت عن معناها أفضل تعبير، مع خلوِّها من أي غموض، وأدرك أيضًا إنها تعيش في أذهانهم، ويعرفونها دون شرح أو تفسير، وكلها كلمات حية عاشت عصرهم وأذهانهم، ولا تزال حية إلى اليوم تتجدد على مر الدهور، وقد سبكها صلعم جملًا سهلة، واضحة التركيب قصيرة في بنيانها، مفيدة في معناها معبرة عن المقصود منها دون أن يشعر قارئها بسآمة أو ملل.
بمثل هذه الصورة عبر صلعم عن المعنى المجرَّد، وأظهره بقالب حسِّي ليزداد للناس وضوحًا وفي النفوس رسوخاً. /
وهنا يدعو النبي صلعم أمته دعوة عامة للعلم، والعمل والتعليم، فجعل فضل العلم ومنزلته كالغيث الكثير الذي أصاب أرضًا نقية.
فكما أن الماء سبب الحياة كما قال تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ }[الأنبياء:30]، فلا حياة إلا إذا وجد الماء، وحيث يوجد الماء، كذلك فإنَّ العلم هو أساس الحياة الكريمة التي يرفع فسها عن البشر كابوس الظلم والاستعباد من أي نوع كان، ويستطيع فيها العالم أن يضمن سعادتيه الأخروية والدنيوية، فيحظى برضاء الله من جهة. ويستثمر قوى الطبيعة ويستخرج كنوز الأرض ويسخر ذلك كله لخدمة الإنسانية من جهة ثانية.
لذلك بيَّن صلعم فضل من علم وعلّم؛ ليكون جميع أفراد أمته من هذا النوع، وبذلك تضمن لهم الحياة الكريمة من سائر نواحيها، ويصبحون قادة العالم، وكفى برسول الله صلعم هاديًا ومرشداً.
هذا حديث واحد من ░9909▒(1) حديثًا وردت في صحيح البخاري، أوردته لقراء رسالتي الكرام متبعًا بهذا الشرح البسيط المتواضع؛ ليكون حافزًا لهم على قراءة كتاب الجامع الصحيح بكامله؛ ليظفروا بما فيه من خير كثير، وحكمة بالغة، والله من وراء القصد.
عدد أحاديث الجامع الصحيح
لقد بلغ عدد ما فيه من الأحاديث سبعة آلاف ومئتين وخمسة وسبعين حديثا(2)، وبإسقاط المكرر أربعة آلاف(3). هذا هو المشهور المتداول بعدد ما في صحيح البخاري من أحاديث، إلا أن ابن حجر صاحب «هدى الساري لشرح صحيح البخاري». /
ولم يرضَ أن يأخذ بعدد من سبق، ولكنه قام بالعملية الحسابية بنفسه فتبين له أن جميع أحاديث الجامع الصحيح بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات سبعة آلاف وثلاث مئة وسبعة وتسعون حديثاً، فقد زاد على ما ذكروه مئة واثنين وعشرين حديثًا، ويختم كلامه بقوله: إنني لا أدعي العصمة ولا السلامة من السهو، ولكن هذا جهد من جهد له، والله الموفق.
وبعد أن أحصى أحاديثه بالمكرر سوى المعلقات والمتابعات، أحصى المعلقات والمتابعات كل نوع على حدة، ثم جمعها فنتج معه أن جملة ما في الكتاب من التعليقات ألف وثلاثمئة وواحد وأربعون حديثًا وأكثرها مكرر، مخرَّج في الكتاب أصول متنه، وليس فيها من المتون التي لم تخرج في الكتاب ولو من طريق أخرى إلا مئة وستون حديثاً، ثم يقول: قد أفردتها في كتاب مفرد لطيف متصلة الأسانيد إلى من علق عليه.
وبعد ذلك يقول: وجملة ما فيه من المتابعات والتنبيه على اختلاف الروايات ثلاث مئة وواحد وأربعون حديثًا، فجميع ما في الكتاب على هذا بالمكرر تسعة آلاف واثنان وثمانون حديثاً.
وهذه العدة خارج عن الموقوفات على الصحابة والمقطوعات عن التابعين فمن بعدهم.
وقد استوعبت وصل جميع ذلك في كتاب «تغليق التعليق». وينهي كلامه قائلاً: وهذا الذي حررته من عِدَة ما في صحيح البخاري تحرير بالغ فتح الله به، لا أعلم من تقدمني إليه، وأنا مقرٌّ بعدم العصمة من السهو والخطأ والله المستعان(4).
ولما لم يكن لديَّ متسع من الوقت، ومقدرة لأفعل ما فعل ابن حجر من إحصاء أحاديث الجامع الصحيح بنفسي اعتمدته، ولكنني جمعت الأقسام الثلاثة التي نتجت معه فنقصت عن حسابه ثلاثة أحاديث إذ بلغت تسعة آلاف وتسعًا وسبعين حديثًا والله أعلم. /
[1] سيذكر بعد قليل أنها 9079، والذي في ترقيم فؤاد 7563 حديثًا.
[2] «كشف الظنون» جـ1 ص 362، وينسب ذلك لابن الصلاح أيضاً في ص 15.
[3] هكذا أطلق ابن الصلاح وتبعه النووي في مختصره ولكنه خالفه في الشرح فقيدها بالمسندة.
[4] نقلاً عن «مقدمة ابن حجر» ص470 س 5 أسفل الصفحة.
